أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - ماجد رشيد العويد - حوار مع القاص والروائي المصري سمير الفيل















المزيد.....



حوار مع القاص والروائي المصري سمير الفيل


ماجد رشيد العويد

الحوار المتمدن-العدد: 1645 - 2006 / 8 / 17 - 10:55
المحور: مقابلات و حوارات
    


أجراه: ماجد رشيد العويد
* في المواقع الأمامية للكتيبة تيسر لي أن ألتقي مع محاربين أشداء ، وأبطال يقضون أيامهم فى صمت مطبق !
* اللحظة الفارقة التي زلزلت الفؤاد وحولتني من نطاق الشعر بكل ما يحمله من صور وأخيلة إلى الأرض بواقعيتها وعنفوانها !
* لم أقف عند حدود الكتابة التسجيلية بل قدمت ما يشبه الرؤية المتكاملة للرجال في أوقات المحنة !
* الثقافة في كل أشكالها محاولة لفهم الحياة بصورة أفضل ، ولجعل تلك الحياة مع الآخرين أكثر تفهما وتناغما !
القاص والشاعر والروائي والمسرحي سمير الفيل طاقة إبداعية لا يمكن العبور من فوقها . من أعماله "رجال وشظايا" رواية، "ظل الحجرة" رواية،" خوذة ونورس وحيد " مجموعة قصصية " ، "انتصاف ليل مدينة" مجموعة قصصية، " شمال يمين" مجموعة قصصية، " أرجوحة " مجموعة قصصية ، " كيف يحارب الجندي بلا خوذة ؟ " مجموعة قصصية ، إلى جانب عدد من الأعمال الشعرية والمسرحية. فاز بعدد من الجوائز من أهمها جائزة مجلة صباح الخير 1974 ، وجائزة القوات المسلحة المصرية 1985، وجائزة أبها الثقافية 1992 . قصصه المنشورة على موقع القصة العربية وفي عدد من المنتديات الإلكترونية تشهد له بالبراعة، على هذا كان لي معه هذا الحوار:
* في مجموعتك "شمال يمين" نرى أدباً في الحرب، ناجزاً ومكتملاً، بل ونجد أن شخصياتها تحملنا على القول أننا نعرفها وأننا عشنا معها. هل يستطيع الأدب المساعدة على إنتاج علاقة صحيحة بين الضباط والجنود، وبالتالي أن يكون مساهماً في إنتاج حرب رابحة؟
** يبدو لي أن تجربتي في الجندية والتي استمرت حوالي سنتين من خريف سنة 1974 وحتى منتصف سنة 1976 قد تركت أثرا كبيرا في تجربتي السردية ، فقد انخرطت في سلك الجندية ، وبالتحديد في الكتيبة 16 مشاة والتي كانت ترابط على امتداد قناة السويس في منطقة " سرابيوم " و" الدفرسوار " الملاصقين بامتدادهما المتعرج على طريق المعاهدة ، وتسنى لي أن أشهد كل المناورات والتحركات العسكرية خلال تلك الفترة ، كما صاحبت طاقم الهاون 82 مم الذي أبلى بلاء حسنا في الحرب ، وكان بعضه ما زال يعاني من جراح العمليات الحربية وينتظر إجراءات التسريح .
لقد تنبهت إلى طبيعة العلاقات التي تسود بين المقاتلين ، وكنت واحدا ممن رصدوا مثل هذه العلاقات في تحولاتها أحيانا ، وثباتها أحيانا أخرى ، وأمكنني أيضا أن أقدم شهادة عن طبيعة الحرب وكيف يمكنها أن تطبع بميسمها كافة التصورات الإنسانية بين القادة والجنود ، وبصورة أكثر وضوحا بين صف الضباط الأقل رتبة والعساكر الذين جاءوا للميدان تلبية لنداء الواجب ، ولم يكن من السهل أن يمروا من عنق الزجاجة ، أو من المجتمع المدني الخالص بزخارفه وانطلاقاته إلى سلك العسكرية بكل قسوته وانضباطه .
في المواقع الأمامية للكتيبة تيسر لي أن ألتقي مع محاربين أشداء ، وأبطال يقضون أيامهم في صمت مطبق ، فيما تجرجر الأيام بقايا حواف محترقة لنخيل ذهب بهاؤه ، وهواء يتخلص رويدا رويدا من آخر النسائم التي تعبق برائحة بارود يتغلغل في الحفر البرميلية ،وخنادق المواصلات التبادلية . كان المشهد الأول الذي أدمى قلبي، وترك في حنايا الصدر جروحاً لا تندمل حين هبت رياح الخماسين فجأة، وكشفت عن أجساد شهداء في آخر حرب مضت، كانوا على هيئتهم الأخيرة، قابضين على دباشك بنادقهم، وفي انتظار فرصة للضرب، فإذا بالشظية تقبرهم في تلك الحفر البعيدة داخل سيناء، فيدفنهم الرفاق، ويمضون نحو الشرق ليكملوا مهمتهم القتالية في تحرير الأرض. لقد تولى رجال السرية الطبية إعادة دفنهم، وقرأ العسكري بشندى ما تيسر من القرآن الكريم فوق الحفرة التي ثبتنا عليها خوذة وعصا ..!
تلك هي اللحظة الفارقة التي زلزلت الفؤاد وعصفت بالقلب. كيف كانت الشهادة، وما الكلمة الأخيرة التي نطقوا بها، وكيف يمكن أن تعبر عن لحظة الفراق العاصفة، والمميتة وسط ضجيج دبابات "الباتون " العملاقة التي تزحف لتبيد كل شيء ؟ كان هذا المشهد هو الذي حولني من نطاق الشعر بكل ما يحمله من صور وأخيلة وتحليق نحو المطلق إلى الأرض بصخبها وعنفوانها وواقعيتها المحضة، وصورة الدم المجمد منذ سنوات.
فهاهم الرجال الذين أبلوا بلاء حسنا في حرب لم يكد يمر عليها عام، والألسنة مازالت تحكي عن " فزاع " الصعيدي المجدع الذي اصطاد المجنزرة بقذيفة على الكتف، وهاهو "سيد جابر" الذى لطم العسكري الإسرائيلي على وجهه حين صادفه يقضي حاجته في الخلاء بمنطقة الدفرسوار، مازال يراجع أوراق رفته، وسأخرج من الخدمة وهو مازال ساخطا على كل شيء، فالإصابة واضحة، لكن الأوراق غير مكتملة والتقارير المكتبية! والعريف "الجنزورى" الذي حصل على وسام الواجب، في أول إجازة ينزلها تطيح به "يايات الإكصدام " بقطار الدلتا المكدس بالركاب لأنه لم يكن يملك ثمن تذكرة القطار، وفريد البخيل الذي اكتشفوا كرمه الباذخ أيام الحصار، حين كشف عن أسرار مخلته المليئة بكل المعلبات في أيام السلم، فإذا بها تنقذهم في الشدة زمن الحرب!
هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون لقصصى الأولى التي كتبتها من واقع خبرتى في ظلال الجندية حيث ابتعدت الحرب قليلا، لكنها مازالت مخبأة في قلوب الرجال المكلومين بالفقد والشهادة. وهي قصص تمتح من الواقع دون أن تقع في أسره تماما .
لكنني بعد أكثر من ربع قرن من خروجي من الخدمة، وبعد أن دخل شادي ابني الأكبر الجيش، وفيما كنت أجيل البصر في المنطقة الممتدة من بورسعيد وحتى السويس في إحدى سفرياتي لمع في ذهني بسرعة البرق فكرة أن أخلد أيام الجندية الأولى. تلك المنطقة المسكوت عنها في أدبنا العربي، ومن خلال الحفر الحثيث في الذاكرة كتبت 21 قصة هي مجمل قصص المجموعة، وما أردته من هذه الكتابة أن أعيد التذكير بما شاب تلك العلاقات من إشكاليات، خاصة أنني حاولت من خلال هذه الشهادة التي أضفيت عليها قدرا كبيرا من الموضوعية أن أضع يدي بكل حزم على بعض مظاهر القهر والعسف التي يمكن أن يتعرض لها المقاتل العادي، لكنني وقبل كل شيء كنت أقدم تحية لذكرى هؤلاء المجندين الذين ساهموا بشكل أو آخر في استرجاع الحق السليب من قبضة الصهاينة، وثمة أمر آخر، وهو أنني لم أقف عند حدود الكتابة التسجيلية بل قدمت ما يشبه الرؤية المتكاملة للرجال في أوقات المحنة، ورأيت أن المقاتلين كانوا يمارسون الحياة بصورة إنسانية رغم كل الضغوط التي يتعرضون لها، وأن بداخلهم تلك الرغبة المتأججة في معانقة الحياة والقبض على مباهجها، والحلم بمستقبل مشرق سعيد في وطن حر كريم لا يركع لعدو غاشم.
كان لدي من الوعي ما يجعلني ابتعد عن تلك الخطابية الزاعقة، فلم أستسلم لمنطق العاطفة المفرطة التي يمكن أن تقدم ميلودراما فاقعة. كنت أسجل وأدون وأكشف ما وعته الذاكرة بقدر كبير من الانضباط والحميمية. لقد أردت أن أحب الوطن بطريقتي، وفيما بعد وجدتْ تلك النصوص أصداء نقدية هائلة فقد كانت من الصدق بحيث تشكل شهادة على عصر وعن رجال مما يمكن أن يسهم في تصحيح الصورة المضببة تماما لو أمكن أن يؤخذ بالنصوص كنقاط مضيئة لمرحلة مهمة من تاريخنا القتالي في عز الأزمة. لو التفت حقا لما في القصص من إشكاليات حقيقية فيمكن القول أن ذلك يمكن أن يثمر حقيقة في جعل المقاتل أكثر إحساسا بجدوى وجوده في التشكيلات القتالية، وأكثر قدرة على خوض غمار أي حرب قادمة برأس مرفوعة ويقين في القلب لا يتزعزع.
* كثيراً ما يشغل التجريب في الأدب ذهني وذائقتي. الانتقال من الحكاية بدلالاتها التقليدية إلى بلورة أساليب جديدة في القص. كيف ينظر سمير الفيل إلى هذا التجريب، وإلى أي حد يمكننا أن ننتقل بالقصة والرواية من الحكاية إلى إنتاج أساليب تجعلها بنتاً للواقع المعقد الذي نعيشه؟
** أود أن أعبر في بداية حديثي عن عدم انشغالي مطلقا بفكرة الشكل، وأظن أن تجربتي في الكتابة نهضت أساسا على عامل الصدق الفني، والانطلاق من تجربة حية مع استقطار اللغة لأقصى حد، وهي عماد أي نص متماسك، وهذا معناه أن ما يهمني في النص القصصي أو الروائي أن أجعل شخصياتي تتحرك بحرية، ومن خلال خبرتها الذاتية، وعلي فقط أن أفجر الدلالات من خلال الأحداث المتوالية بالنص، وبناء على هذا التصور يمكن القول أن النص السردي يحتفي بالشخصية الحية في عنفوانها، وفي حركتها الحرة الطيعة، ومن خلال لغة أحاول دائما أن تكون متماسة مع هذا الواقع فلا تعلوه ولا تهبط دونه. اللغة عليها معول كبير جدا في تقديم النص الغني بالدلالات، وعلى الكاتب أن يمتلك من اليقظة ما يجعله يقدم المعالجة الفنية بأكبر قدر من الحيادية، وهذا معناه ألا يتورط عاطفيا في أي مشهد حتى لو كان النص يقدم عبر الراوي الذي هو عادة ما يكون قناع الكاتب.
في مرحلة سابقة كنت أميل جدا إلى التجريب الشكلي، وقد حقق هذا الميل وفرة في زوايا الالتقاط، وفي العناوين الجانبية التي كانت تسهم إلى حد بعيد في تشكيل النص، وفي تقديم الحدث الواحد من خلال أكثر من زاوية مثلما فعلت في قصة " الخوذة والعصا " أو " مات في الثانية صباحا " بل أنني قد بدأت كتابتي الأولى بعمل سردي حصل على الجائزة الأولى على مستوى مصر، في مسابقة قومية نظمتها مجلة صباح الخير هو " في البدء كانت طيبة " وفيها استعنت بالبرديات الفرعونية لتصوير كيف قضى المصريون القدماء على الهكسوس في " أواريس " ، وكانت مادتي التي حصلت عليها من تلك البرديات قد وثقتها من قراءة كتاب العلامة سليم حسن في موسوعته " مصر القديمة ".
التجريب يتأتى من خلال رؤية شاملة لا تستسلم للنظرة التقليدية بل تنبع من جرأة الطرح، ومن محاولة تقديم نص غير مكرور، لكنني في العادة لا أستسلم في نفس الوقت لإغراء التجريب إذا ما كان يتضمن بهرجة الشكل وتقزيم المضمون أو تحديد الخطاب تحديدا قبليا. إنني أرى أن أي عمل سردي متماسك قادر على أن يقدم رؤية فنية متماسكة هو نجاح للكاتب سواء جاء بشكل جديد أو عبر نسق كلاسيكي.
أسجل هنا أنني شديد الارتباط بعمود الحكي، وفي رأيي أن عناصر الزمان بكل تراتبيته، والمكان بخصوصياته، وملامح الشخصيات الواضحة والناجزة هي المادة الخام التي تشكل حدود القص الناجح، ولقد تعاملت دائما مع الحكاية باعتبارها أفضل استثمار سردي ممكن، لكنني في ذات الوقت دفعت تلك الحكاية إلى مظانها الأولى حيث التلقائية، والطزاجة، والعفوية، وهي العناصر التي تمنح النص الأدبي ماء الحياة. وربما كان من المفيد هنا أن أطرح تصوري بشأن السرد الذي أراه العجينة الطرية التي علينا أن نشكلها بأصابعنا في لحظات السموق والسمو والتفرد ثم نقربها من نار الحياة ودفء الواقع. أعتقد أن مهمة القاص المعاصر أن يدفع بالحكاية حتى أقصى حدود المخيلة التي تتأرجح باستمرار ولا تعرف أفقا مغلقا، وفي حدود هذا التصور يمكن للكاتب النابه أن ينطلق بمادته نحو تخوم جديدة بشرط ألا يفتقد حميمية التجربة، وألا يقع في حبائل الشكلية التي تحول المادة السردية إلى رموز ولوغاريتمات وجداول إحصائية منفرة.
مازلنا نستمتع حتى الآن بتشيخوف وموباسان وجوركي وتورجنيف وكامو، ولكننا نتجه إلى الكتابة بصورة مغايرة لأن الكاتب هو نصه لا أكثر ولا أقل ، ولو فقد الكاتب جمهوره لكان عليه أن يراجع أدواته الفنية لأن الفن في نهاية الأمر متعة وفائدة، وكل فن عظيم تراه يحقق هاتين الميزتين.
* اللغة.. كثيراً ما سقطت أعمال بفعل اللغة الرديئة التي كتبت بها. إلى أي حد يمكننا أن نعتمد على اللغة في إنتاج أدب مغاير؟
** اللغة هي مادتي الأولية لتشكيل النص، وفي تصوري أن الكاتب لن يستطيع تقديم عمل أدبي حقيقي بدون امتلاكه زمام اللغة، وأنا لا أدعو مطلقا للغة القاموسية المهجورة، ولكنني أدعو للغة الحية، المرنة، التي تمتلك حيوية ودفق اللحظة الآنية، وثقل مرجعيتها التاريخية في آن.
في مرحلة سابقة كنت أتعامل مع اللغة كوسيلة توصيل أفكار الكاتب، وبعد أن نضجت أدواتي إلى حد ما، وعبر التجربة الميدانية اكتشفت أن اللغة نفسها تلعب الدور الكبر في نقل أحاسيس ونبض الشخصيات، وكلما كانت هذه اللغة حية، ومرنة، وعصية على القولبة كلما أثرت في تشكيل المعمار الفني, ويمكنني بدون أي تزيد أو ادعاء الزعم أن اللغة تمثل العنصر الأكثر تأثيرا في تشكيل النص ودفعه لنطاقات جديدة من النجاحات والتأثير في جمهور متزايد من القراء.
ولما كانت لغتنا العربية ذات تراث ضخم، ولها خباياها الجمالية، ومنعطفاتها الفنية فمهمة الكاتب أكثر تعقيدا فهو يستخدمها عبر ثلاثة مستويات. المستوى الأول يتضمن عنصر توصيل المعنى، والمستوى الثاني يحتوي على عنصر المصداقية في رسم المشهد الحكائي، أما العنصر الثالث الأكثر أهمية فهو يختص بكون تلك اللغة بمساربها وذبذباتها تحمل موسيقى حقيقية منبثة بين السطور، وعلى الكاتب الذكي أن يتتبع تلك الموسيقى ويسايرها، ويعمل على تنميتها من خلال تعميق مشاهده البصرية والسمعية في ظل تدقيق شديد لانثيال الكلمات والعبارات والفقرات ضمن نسق لغوي فريد.
وأحسب أن من مهام الكاتب الأساسية أن يوجد تشكيلات لغوية مبتكرة خلال عملية إنتاج النص، وهذا لا يتنافى مع التلقائية التي أدعو إليها فمثل هذه المهمة تحتاج إلى شيء من الفهم الدقيق لطبيعة اللغة، وفقهها، وطرقها في التعبير عن أفكار ومعان وعلاقات جديدة، وأستطيع أن أقول بضمير مستريح أن اللغة الحية، هي مفتاح العمل الناجح، فهي الأداة التي ينتقل بها النص من مجال الفكرة إلى حيز الإمكانية ثم الوجود. ومن أغرب ما رأيته في العقد الأخير تلك اللغة المفككة الأوصال التي يكتب بها بعض الشباب، فلا يمكنك أن ترجع الضمائر لأصحابها، ولا أن تعرف أين تبدأ الجملة وأين تنتهي؟ والغريب أن هذا كله يجري باسم "الحداثة " فيما يمكن اعتبار أي نص حداثي بمقدار ما يبتعد عن التقليد والمألوف والمكرور، وبمدى ما يحققه من رؤى فنية تحفر في طبقات المعرفة وتؤصل لكل ماهو جميل وراق. تلك الفوضى اللغوية هي إحدى أسباب ابتعاد القاريء عن الأدب خاصة في مجال الشعر الذي أراه أكثر عرضة لهذا الهجوم المباغت، وربما كانت طبيعة القصة باعتبارها تتضمن حدثا لا يفهم إلا عبر سياق لغوي متماسك هو الذي حفظ ذلك الفن النبيل إلى حد بعيد من هذه الفوضى الأدبية المميتة.
* نصوص من مثل "مشيرة " و " نرجس " و" تمرحنة " على سبيل المثال، هل مبعث تعاطفنا معها، ونجاحها الباهر، أنها كما تشير أنت بنيت على شخصية حقيقية ؟ أم الأمر على نحو آخر ؟
** ألتقط شخصياتي من واقع أعيشه، وفي أغلب الأحوال يكون لدي رصيد معرفي كاف بتلك الشخصيات يمكنني من الكتابة عنها بحماس وحرارة ومصداقية، لكنني في نفس الوقت أقوم بعمليات إزاحة سردية تخفف من ثقل الواقع وتقدم حلولا جمالية تخرج الشخصيات عن معنى " النمط "، وربما كنت واحدا من القلائل الذين لا يكتبون إلا من خلال تجربة حية، ولا أذهب للنص إلا عبر احتكاك قوي بالحياة التي أرى أنها تمدنا بالنماذج الإنسانية التي تحمل غناها وتنوعها وثراء فضائها الاجتماعي. ولما كانت الشخصية الفنية ليست هي بالضبط الشخصية الاجتماعية فلاشك أن هناك مركب كيمائي يجمع بينهما في تكتم ودهاء، ولا يمكنني أن أبدأ نصا بشخصية مصنوعة أبدا. شخصياتي حية ومؤثرة وليست بنت تصورات ذهنية مطلقا. أعترف أنني ومنذ ثلاث سنوات أو يزيد بدأت أكتب مذكرات تفصيلية على الهامش تتضمن كل ما يمكن معرفته عن تلك الشخصيات التي سأدخلها معملي الفني، وهذا يساعدني كثيرا في نمو الحدث، وفي جعل الصراع يركض بصورة أسرع، ناهيك عما يمكن أن تتيحه لك معرفة ردود أفعال كل شخصية تجاه موقف ما. ولأقترب من المختبر الإبداعي سأقول أن " مشيرة " نص كتبني ولم أكتبه، فقد عدت من تشييع جنازة ابنة خالتي، وكنت طوال المسافة الممتدة من البيت إلى الجامع فالمقابر أستعيد بشكل لا إرادي كل المشاهد التي جمعتنا أطفالا نحمل البراءة بين جوانحنا. حين عدت لبيتي أغلقت خلفي باب الحجرة وجدت القلم يسبقني وأنا أجاهد كي أدون الكلام، وللحق لم أحرك كلمة واحدة عن موضعها، فقد كانت الشخصية حقيقية وتلوح لي كأنها في عنفوان حياتها، لكنني في " نرجس " اعتمدت على رسم دقيق للمشهد الافتتاحي، ثم دونت بعض المعلومات الأساسية، وتركت الشخصية ذاتها تتحرك بانسياب ونعومة مع ترك مساحة للتخييل، وفي هذه القصة فوجئت بنرجس تتحرك وتخرج عن الدور المرسوم بعناية فلم أشأ أن أحذف أو أضيف، فلقد كان جميلا أن أتركها على سجيتها، ومن الغريب أنني بقيت أياما مشدودا لهذه الشخصية بالذات، أما " تمرحنة " فقد أخذت مني إعدادا طويلا لأنها شخصية مركبة، والخط الدرامي كان يستوجب أن أسأل عن بعض المعلومات التي تعوزني مثل أسماء نباتات الظل ونباتات الشمس لأن والدها بستاني، كما سألت عن طريقة تربية الجياد وذلك ليكون السرد مبنيا على أساس معرفي. قد يكون غريبا أن تعلم أنني خلال كتابتي لقصة " المأمورية " قد توقفت في مرحلة البداية لأذهب لكنيسة قريبة من مدينتي كي أتعرف على بعض المعلومات الخاصة بالصوم والصلاة لدى الأقباط، وقد وجدت تجاوبا عميقا، وفي كل الأحوال أقترب من الواقع وابتعد عنه بنفس القدر الذي تتحرك به الأحداث، وفي يقيني أن الكتابة تتضمن غبطة الاكتشاف، ونعمة استبصار الحقائق الكامنة في قلب المشهد الاجتماعي. أمارس الكتابة بمزاج رائق جدا، وبطريقة أقرب للتعبد خاصة فيما يخص اللغة، وحين أشعر بقلقلة لفظ ما، أترك النص فترة ثم أمحص " اللفظ " وأقلبه على أوجهه المختلفة قبل أن يستوي في النص جزءا من العجينة السردية. أنا غير معني بنقل الواقع، وبالقدر ذاته أجد أن الواقع حاضر بقوة من خلال شخصيات تحفر لنفسها مجراها الذاتي المستقل، وكنت حتى سنوات قليلة خلت أكتب وأمحو كثيرا، لكنني صرت الآن أكثر إدراكا لمعنى أن أترك اللغة تتشكل تبعا للموسيقى الخفية التي تنبع من النص فتنسجم معها الفقرات وتتوازن العبارات، وتشعر مع آخر جملة بالنص أنها " القفلة " الموسيقية المناسبة التي يمكن بها أن نكمل اللحن.
* القصة القصيرة فن مراوغ إلى أي حد يمكنه الإحاطة بقضايا العصر؟
** أنا واحد من المهتمين بفن الحياة، وأعتبر إشراق يوم جديد على حياة كائن بشري هو انتصار لما في الحياة من حيوية وحركة وإشراق، وقد بدأت شاعرا، وقد قدمني عبد الرحمن الأبنودي خلال حرب الاستنزاف للجنود في قاعدة حربية كانت بقرية كفر البطيخ ( كان عمري حينها 18 عاما )، ولم يكن خروجي من ميدان الشعر إلى فضاء السرد إلا إيمانا بما يمتلكه هذا الحقل الثري من إمكانيات مذهلة للتعبير عن الكثير من القضايا. القصة القصيرة بالذات فن نبيل وصعب. هو فن يهتم بالتكثيف، وينتصر للاكتناز المعرفي، لكنه لا يبرح فضاء المخيلة، وهو فن يجمع بين الحكاية دون أن يترك أبوابها مشرعة على فضاءات بعيدة؛ لذا فهو فن عصي على غير الموهوبين، وربما كان الفن الأكثر جمهورا في وقتنا الراهن لأنه يقترب اقترابا حقيقيا من كل القضايا المعاصرة، ولديه مزية التأثير السريع والحقيقي في وقت قصير، وبدون إفراط في الكلام.
هو فن يتعامل مع الواقع المتحول، ويتناول القضايا المعاصرة، ويستعين بشخصيات من دم ولحم، وهو فن لغوي بالأساس، لكن لو أنك تأملت مسيرة القصة القصيرة فستجد أن كتابها الأشد تأثيرا كان لديهم مواهب استثنائية في الجمع بين فن الحكي بما يستتبعه من إفراط في القول مع فن اللمحة الخاطفة التي يتمتع بها الشعر. القاص المحنك هو الذي يمزج بين القالبين في عذوبة ورقة ودونما لغط كبير. لقد كتبت الشعر قبل السرد، وكان هذا كفيل بتدمير ذائقتي السردية لكنني نجحت في أن أفلت من إسار تلك النظرة الرومانسية للأمور، وأدركت منذ البداية أن المهمة ـ أقصد مهمة تشكيل نص سردي صارم وفي نفس الوقت قادر على إثارة شجن القارئ ـ يحتاج إلى صبر ودأب، وحرفية، وقدرة على الاستغناء عما هو ليس ملحا وضروريا، وهو شعور صادق، وممارسة حقة يعرفها المتصوفة حقا. المدهش في الأمر أن كل تجربة في فن القصة القصيرة هي مغامرة بحد ذاتها، وفيها من اللعب الحميد الشيء الكثير: كيف تبدأ الجملة الافتتاحية؟ كيف تدخل منذ اللحظة الأولى قلب الحدث؟ كيف تدون في ذاكرتك معلومات كثيرة تفيدك تماما في عملك، لكنك لا تبح بها سوى لذاتك؟ كيف يمكنك أن تستدعي شخصياتك في كامل لياقتهم الاجتماعية؟ كيف تكون حكيما ومتزنا ومجنونا في ذات اللحظة؟ القصة القصيرة بالفعل فن مراوغ، وماكر، وكاتبه بحاجة إلي بصيرة نافذة، وإلى قدر من النقاء الحقيقي لحظات الكتابة. كيف يمكنك أن تبقي الجمر بين راحتيك دون أن تحترق هاتين اليدين؟ هذه مقدرة نادرة وبحاجة إلى صبر وجلد، وربما سأبوح بسر لم أقله لأحد من قبل، وهو أن القاص الموهوب حقا عليه أن يحطم النص النموذج الذي أنتجه وحاز على دهشة كل القراء وإعجابهم، لأنه لو توقف أمام النموذج الباذخ الثراء والرقة والجمال فقد أنهى حياته الإبداعية، ولن يكتب بعد ذلك سوى نسخ مكررة؛ لذا أنا عادة ما أكون شديد الحزن عندما أشعر برضا النقاد، وأبذل جهدا خارقا كي أضرب توقعاتهم في الصميم، والحمد لله أن شخصياتي تعودت مني هذا المسلك، ولم تعد بحاجة إلى أن تعتذر أو تبدو في حالة ندم عما اقترفته من ذنوب وآثام.
* في حوار لي مع المرحوم الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي، نُشر في مجلة البيان الكويتية، سألته: الرواية العربية، أين تقف اليوم من مثيلاتها في الغرب الأوربي وفي الأمريكتين؟ وهل يمكن أن نشهد لها صعوداً أو هبوطاً أمام غزو وسائل التقانة الحديثة؟ أعيد عليك طرح السؤال.
** بالتأكيد الرواية العربية أقل عمرا من الرواية الغربية، وهذا ليس هو مربط الفرس، ولكن العنصر الحاكم في الأمر أن هناك عطاءات لا تنكر في منجز الرواية العربية، وثمة أجيال تتالت وقدمت إنجازات متنوعة وثرية جديرة بالتقدير، وقد كان من حسن حظ العرب أنهم التفتوا مبكرا للآداب الغربية، وإن كانت هناك في مجال الرواية مدرستان هائلتان تركت كل منهما أشد الأثر على المكون الأول للرواية العربية. كانت هناك المدرسة الفرنسية والتي كانت صاحبة الترجمة الأوفر، وقد شكلت وجدان الجيل الأول من كتاب النص القصصي العربي خاصة على يد ستندال وبلزاك وفلوبير ثم بعد ذلك على يد سارتر وكامي ونتالي ساروت.
ثم تلتها الرواية الروسية وكانت أشبه بالصناعة الثقيلة في نماذجها العظيمة مثل جوجول، وتولستوي، وتورجنيف، ودستويفسكي، ومكسيم جوركي، وقد تركت هي الأخرى أثرا عميقا لدى القاريء العربي خاصة في انسيابيتها وقدرتها على التأثير القوي.
نقلت الروايات العربية الأولى من الغرب، وتأثرت وترجمت واقتبست ثم تعلمت من تركيب مجتمعاتها كيف يمكن استراق السمع والبصر لأحوال الناس فنهضت الرواية، وتعتقت على يد جيل كامل نذكر منه عادل كامل، ونجيب محفوظ، ويحيى حقي، ومحمد عبدالحليم عبدالله، وأمين يوسف غراب، وحنا مينا، وعبدالسلام العجيلي، ومحمود المسعدي، جبرا ابراهيم جبرا، وعبدالرحمن منيف، غالب هلسا، الطيب صالح، وسهيل أدريس، ومالك حداد، ومحمد ديب، وكاتب ياسين، والأسماء الثلاثة الأخيرة كتبت بالفرنسية، وأغلب الأسماء التي ذكرتها هنا تحولت مع الوقت إلى رموز.
حققت الأجيال التالية مسارات ثرية ومدهشة من قص مختلف خاصة مع كتاب اهتموا كثيرا بالشكل، ووجهوا جهدهم للعثور على معالجات مختلفة للنص الروائي الجديد، فأصبح هناك روايات واقعية صرفة، وروايات وثائقية، وروايات تزخر بالموروث العربي، وروايات تتوسل بالأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة، وهي كنوز تخاطفها الغرب فيما بعد وتجدها في نصوص كتاب أمريكا اللاتينية وعلى الأخص كاتب هائل مثل بورخيس.
ما أود قوله أن الرواية العربية خرجت من كتابة النموذج والنمط إلى كتابة الدهشة والاكتشاف، وصارت هناك أعمال قادرة على التأثير في ذائقة الجمهور الغربي بنفس درجة تأثيرها في الجمهور العربي، وسأضرب أمثلة لبعض الكتاب من مختلف الأقطار فأبرز هنا كتابات عبدالحكيم قاسم عن الريف " أيام الإنسان السبعة "، وروايات جمال الغيطاني التي تتناول التراث " الزيني بركات "، وكتابات هدى بركات حول الحرب الأهلية اللبنانية بما يتضمنها الكتابة من بعد إنساني موجع " أهل الهوى " و" حجر الضحك "، وثمة اجتهاد في البحث عن حقيقة الإنسان مثلما نجد عند المغربي سالم بنحمش " مجنون الحكم "، وربما كان من المفيد هنا أن نتوقف أمام الأسطورة في الصحراء التي يشكلها كاتب من طراز فريد وهو الليبي إبراهيم الكوني، ومن سوريا نتوقف بمزيد من الإعجاب أمام كتابات باذخة لزكريا تامر، وحيدر حيدر، ووليد إخلاصي، وجيل جديد يكتب نصا مغايرا، وحتى في السعودية تعرفت على كتابة القرى الجنوبية عند عبد العزيز مشري وعنه أخرجت كتابا في سلسلة " آفاق عربية " ومع الرواية التسجيلية توقفنا أمام عطاءات صنع الله ابراهيم، وفي فلسطين كان هناك أميل حبيبي بحسه الساخر، ومريد البرغوثي الذي أبكانا بعودته إلى رام الله التي رآها أقرب للبلد المأسور، وهناك جيل تال منه حسن حميد، ومن تونس كانت روايات صلاح الدين بوجاه، ومن اليمن قرأنا أسرارها عند زيد مطيع دماج، وبقدر حزننا على العراق الجريح علينا ألا ننسى روائييه ومنهم فؤاد التكرلي.
الخريطة الانتقائية والتي استحضرتها من ذاكرة مكدودة بعض الشيء تدل على ثراء الرواية العربية وتنوعها، ولقد حضرت ثلاث دورات من ملتقى الإبداع الروائي العربي الذي عقد بالقاهرة، وقرأت لأجيال جديدة تكتب بصورة مختلفة وأمامها مستقبل جميل، ومنها أذكر الكاتبة العراقية الشابة بتول الخضيري " غايب " والكاتب الجزائري واسيني الأعرج " سيدة المقام "، وروائي النوبة حجاج حسن أدول " ليالي المسك العتيقة "، العراقية أيضا " عالية ممدوح "، والفلسطينية سحر خليفة، واللبناني رشدي الضعيف، ثم المصرية المقيمة في لندن أهداف سويف " في نن عين الشمس "، والسوري المجدد نبيل سليمان ومعه في نفس الدرب خيري الذهبي، ومن اليمن القلم الجديد هدى العطاس، ومن الكويت فهد اسماعيل فهد وكذلك ليلى العثمان ثم جيل جديد من السعودية منه عبده خال ويوسف المحيميد، ومن البحرين محمد البنكي.
لقد ذكرت الأسماء التي أسعفتني بها الذاكرة لا بقصد الحصر ولا المباهاة، ولكن لغرض واحد سأذكره حالا وهو أن مسيرة الرواية العربية تتميز بثلاث سمات أساسية. السمة الأولى: أنها مسيرة لا تعترف بالانقطاع؛ بل هي تواصل في دأب مشروعها الحضاري بقدر كبير من الثقة والاقتدار والتجاوز. السمة الثانية: أنها تملك ذلك الثراء الإبداعي والقدرة المذهلة على التنوع، والتأثير الحقيقي في المتلقي عبر نصوص راحت تحقق قدرا كبيرا من النجاح. أما السمة الثالثة والأخيرة فهي تختص بدخول الرواية مجالات جديدة غاية في التأثير على جمهرة المتلقين وعبر وسائط تجدد ذاتها مثل تحول أغلب روايات خيري شلبي ( الوتد ) إلى مسلسلات تلفزيونية، وإبراهيم عبد المجيد (قناديل البحر )، وهناك طبيب الأسنان الدكتور علاء الأسواني في مشروعه المثير الذي بدأه برواية ( عمارة يعقوبيان ) ويمكن أن نضيف كثيرين للقائمة منهم محمد المنسي قنديل ويوسف أبورية، وغيرهما.
لم تعد هناك مخاوف من تقلص حركة نشر الرواية بعد الهجوم الكاسح للتقنيات الحديثة، بل أن ما حدث في حقيقة الأمر هو أن الرواية بالذات صارت من أهم مصادر الدراما المعاصرة سواء في صورة فيلم أو مسلسل أو حتى التحويل للمسرح، وسأذكر هنا تجربة خضتها بنفسي حين حولت نص قصصي للقاص الراحل يوسف القط هو " إطار الليل " إلى عرض مسرحي حضرته جماهير غفيرة وقدم في ثلاث مدن كبرى هي القاهرة والمنصورة والجيزة، وكان النجاح مشرفا وللأسف فقد مات يوسف القط قهرا وكمدا ( سنة 1986 ) قبل أن يرى نصه يؤدى على مسرح يؤمه جمهور غفير( عرض العمل في نوفمبر سنة 1999) من إخراج هاشم المياح. هناك إذن تآزر وتصالح بين كافة الفنون، وحالة من المزج بين فنون ذات طبيعة مختلفة وكلها وسائل تصب في النهاية لصالح الجمهور.
غير أن ما ذكرته هنا من إمكانية المصالحة بين فنون الكتابة المختلفة لا تمنعني من قول شهادة حق، وهي أن الرواية العربية برغم كل ما ذكرته من ملاحظات تظل هي فن الكتابة الأول الذي يمكنه أن يستوعب كل التحولات العميقة في المجتمع، وهو فن عظيم من المقدرة بمكان بحيث يمكنه أن يعبر عن كافة المشاكل ومختلف القضايا مهما كان حجمها، وهذا يلقي على كاهل الكاتب عبء تجديد قوالبه، والانطلاق بحق في فضاءات التجريب بحثا عن أشكال وأطر وقوالب يمكنها أن تستوعب كافة المتغيرات دون أن يسقط عنصرين أساسيين أعتبرهما دعامة كل عمل روائي. العنصر الأول هو القدرة على اقتناص لب الصراع وجوهر الأزمة في العمل الفني، مع الولوج لدواخل الشخصيات واستبطان دواخلها، مع الاستفادة من التاريخ، وبما يلقيه من ضوء على الأحداث المعاصرة التي تترك تأثيرها العميق لدى الأفراد والتجمعات البشرية. العنصر الثاني هو العمل بصبر ولماحية من أجل تجديد اللغة، وعصرنة الأساليب التي يعتمدها الكاتب في نصوصه بحيث يمكنها أن تحمل بيسر ومرونة خطابه الفكري الرصين.
باستعادة كل ما ذكرته حول خريطة الرواية التي جاءت عشوائية إلى حد ما، ومتنوعة في تجلياتها وعطاءاتها أيضا يمكننا القول أن الرواية بخير وستظل قادرة على الوفاء بكل ما يطمح إليه المجتمع من تعبير عن أحلامه وهمومه، وكذا تعزيز إرادة الكاتب في اقتناص الحقيقي الأصيل المتجذر مع إسقاط كل ما هو سطحي وزائف وعابر.
** الانترنيت إلى حد يمكننا القول أن هذه الشبكة قد أساءت إلى الإبداع، أو أنها على العكس كانت منبر من لا منبر له؟
* بدون ظلم أو افتئات على الواقع الذي نعيشه يمكنني القول أن الانترنت قد جاء ليحل الكثير من إشكاليات النشر خاصة مع الجيل الجديد الذي لم يصبح له حيثية للذيوع والانتشار، وقد حدث أن اختفت إلى حد كبير كل أشكال الرقابة السياسية والدينية والأخلاقية، وأصبح الكاتب مسؤول مسؤولية كاملة عما يكتب، كما استتبع ذلك حرية تدفق المادة الإبداعية فسقطت الكثير من الحواجز التي عطلت التعارف الحي بين الكتاب العرب على اختلاف بلدانهم.
كل هذا شيء طيب ويدعو إلى الفرح، لكن ما حدث في نفس التوقيت بالضبط ومع دخول شبكة الإنترنت كل بيت ومنتدى ومقهى أن سادت حالة من الفوضى العارمة في مختلف مجالات الكتابة، وهي مسألة أشبه بالأعراض الجانبية لأي دواء يتجرعه المريض، فقد اختلط الحابل بالنابل، ولم تعد هناك تلك المساحة النقدية التي يمكنها أن تفرز الغث من الثمين، مع وجود " شلل " أدبية لترويج نصوص غاية في الركاكة والتفاهة، وثمة مرض آخر أشد فتكا هو وجود جماعات ضغط تعمل لصالح كتاب بأعينهم فتقدم قراءات ومداخلات تتسم باللغو والهزر مع إمكانية تسييد هذا الاتجاه على حساب الكتابة الجادة الناصعة، ولو استمرت تلك المحنة لصارت شبكة الإنترنيت وبالا على الأدب الأصيل الجاد.
وحسب خبرتي المتواضعة في هذا الشأن أعتبرها مشاكل تصاحب عادة كل تقنية جديدة، وأظن أن التجربة ستصحح نفسها بنفسها مع اعتياد المدونات والمنتديات الثقافية بحيث يمكن في النهاية الوصول إلى ضوابط مستحدثة وآليات تقلل من حجم الوقت المهدر في غير محله.
إنني استشهد بما رأيته لأقول إنها ثورة حقيقية في النشر بشرط أن تحدث عملية الفرز والغربلة والانتقاء، فمن خلال تجربة شخصية أجدني قد دخلت المعترك وجلا ( بالتحديد في 9 أبريل سنة 2003 ) بنص قصصي من مجموعة " شمال يمين " بعنوان " ياقات حمراء " وهذا النص زاره حتى إجراء هذا اللقاء 764 قاريء وحاز على 47 مداخلة مما يعني أن الأنترنت هو نافذة معقولة جدا للتواصل وعلينا ـ نحن رواده من المثقفين ـ أن نصحح ما يعتوره من عثرات ونقائص وسلبيات؛ ذلك أن الثقافة في كل أشكالها وشتى تجلياتها هي محاولة لفهم الحياة بصورة أفضل، ولجعل الحياة مع الآخرين أكثر تفهما وتناغما مع ما يمنحه الأدب للنفس من راحة وطمأنينة وبهجة لا تنضب!

دمياط في 12 / 8/ 2006



#ماجد_رشيد_العويد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لبنان بين فتاوى بائسة وحزب ظنّ أنه الدولة
- مدن الطلل
- السور
- اعتذار
- رائحة في الذاكرة
- كلمة في وداع الرجل الكبير
- تحية إلى سمر يزبك
- هل يجبّ انشقاق عبد الحليم خدام ما قبله؟
- المطلوب محاكمة حزب البعث قبل خدام
- الوهق
- بانتظارهم
- هل كانت الرقة رافداً من روافد العجيلي
- ثقة مستعادة
- صمت المثّال
- حجر على صراط
- طيبة
- الموت الأصغر
- السادن
- على جناحي ذبابة
- صيف حار


المزيد.....




- كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما ...
- على الخريطة.. حجم قواعد أمريكا بالمنطقة وقربها من الميليشيات ...
- بيسكوف: السلطات الفرنسية تقوض أسس نظامها القانوني
- وزير الداخلية اللبناني يكشف عن تفصيل تشير إلى -بصمات- الموسا ...
- مطرب مصري يرد على منتقدي استعراضه سيارته الفارهة
- خصائص الصاروخ -إر – 500 – إسكندر- الروسي الذي دمّر مركز القي ...
- قادة الاتحاد الأوروبي يتفقون على عقوبات جديدة ضد إيران
- سلطنة عمان.. ارتفاع عدد وفيات المنخفض الجوي إلى 21 بينهم 12 ...
- جنرال أوكراني متقاعد يكشف سبب عجز قوات كييف بمنطقة تشاسوف يا ...
- انطلاق المنتدى العالمي لمدرسي الروسية


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - ماجد رشيد العويد - حوار مع القاص والروائي المصري سمير الفيل