أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد رشيد العويد - بانتظارهم














المزيد.....

بانتظارهم


ماجد رشيد العويد

الحوار المتمدن-العدد: 1402 - 2005 / 12 / 17 - 09:47
المحور: الادب والفن
    


كأنما اجترحته يد الفناء، فانسرب ماؤه في الزحام، صار لعيني كالسراب ولمخيلتي كالهاجس يدق وباستمرار عتبة هدوئي فيقلقني غيابه.
لم يدع وراءه أثراً يدل عليه، أو لعلهم محو كل آثاره، ولم يبق منه سوى تلك الابتسامة الهادئة موسومة بها أحاديث ليلنا السامر، وكذلك ترتيله الذي طالما تفجّر الصبح عليه.
خلق غيابه حالة من الإرباك، كثيراً ما وصلت إلى حد التفجر.. آثار مشيته، بصمة عينيه على المكان، خلو المآذن من عذب صوته، الرنين الخافت لضحكته، وفيضان روحه مع كل آية يرتلها. كل ذلك بعث مساحة كبرى من الكآبة، فزهدنا الدنيا في غير إيمان، وفي قلق عال، وغامت بهجة اخضرار الروح.
في طريقي إلى مدرستي، وبآلية، كنت أنظر إلى كل جدار فألمس في الحفر بقايا نظرة آسرة، ومن الحجارة يطالعني وجه بعثت فيه الأيام نوراً. أمشي فأحس صوتاً يتقـافز من طلل المكان. أتخيله بثوبه الطويل الخشن، فيطرق حفيفه ذاكرتي، وتجرني خطواتي على إيقاع احتكاك الثوب بالأرض.. هكذا إلى أن يتلاشى من مخيلتي ـ حيناً ـ حضوره الشفيف مع زحام أول الصبح.
قلت لنفسي: لعلّه انتقل إلى مكان آخر. أجابني صوت معاند: ربما أقيل من الحياة. كان الصوت مستفزاً قادماً من أحشاء خوفي عليه، فتنبهت. أطلقت من يدي حركات وإشارات دالة على رفضي أن يؤول باكراً إلى الموت، فهو في نضارة العمر.. جسد اتسق جماله، وتخللته نفس هادئة. وقلت لابد أن غناءه في الصباحات يدل على نقائه وطهره.
ذات مساء قال لي وقد سألته عن السبب في إطلاق حنجرته كل صباح:
ـ لا يوجد في الدنيا أجمل من الغناء.
ـ وهل تسرّي به عن نفسك؟
ـ إن صوتي الذي وصفتموه بالشجي العذب ، يقرّبني من الناس، وأنشئ به معهم تلك الآصرة التي ما كان لها أن تنمو وتمتد لولاه.
وقلت له:
ـ ولكن كيف تغني وأنت تؤذن في الناس؟
قال:
ـ ومن قال لك إن الغناء حرام؟
ـ هكذا اتفق.
ـ غير صحيح، فالغناء في غير فحش غداء الروح.
يومها أدركت أن رقة ترتيله، وحلو أذانه وعذوبة غنائه نقلته من بؤس الحياة إلى فيحائها، وارتقت به وصعّدت روحه وهذّبت أحاسيسه. وقلت له:
ـ رغم ما تبديه ملامحك من الفرح فأنت تخفي أمراً ما!!
ـ هذا صحيح، فالناس يحبون إشراكهم فيما هو سار، وينفرون منك إذا عرضت عليهم مشاكلك.
ـ فهل تغفر لي فضولي، وتحدثني عن هذه المشاكل.
ـ لاشيء، ولكن يخامرني الإحساس بأن أحلامنا موؤدة كما نحن. كل شيء هنا ضامر، ولهذا أجد في الأذان دعوة إلى إيقاظ النفس والروح قبل الجسد. ما يحزنني هو يقظة الموت فينا، ثم تراني أصدح بالمواويل أنظّف بها أحشائي من وجع الضياع، نعم نحن في ضياع الأخ يغلب على أخيه.
ـ ولكن ماذا يمكنك أن تفعل وأنت وحدك؟
ـ لا يهم، ولكن وكما تسمع فأنا أحب تلاوة " وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت "
على صوته صباحاً ننفلت من أسر الكرى، فنسرع في حمل سلال النفايات بهمة عالية إلى خارج أبواب منازلنا. نقف دقائق يسرَح خلالها العقل، وتتقافز روح الوجد، وتفرّ الابتسامات العاشقة فيتلقاها بحنو، أثير الصباح المعبأ بالندى.
قيل إنهم أخذوه، وقيل إنه تزوج ورحل إلى مدينة أخرى، وقيل إنه رؤي يصعد باتجاه السماء، وكثيرون أكدوا هذه الروايـة، منهم رجال رسميون، وآخرون شبه رسميين. ولكن الثابت أنه اختفى، وكان لاختفائه أثـر كبير، إذ تغير وجه الصباح، فغدا مشرباً بالفتور، وأن السماء تشف من ثوبها الأزرق عن سديم مغبر فيزداد وطء الكآبة.
ذات ليل..
غالبت أخلاطاً من المشاعر. مشيت باتجاه النهر، لا ألوي على شيء، وقبل العبور إلى الجسر انعطفت يساراً، وظللت أحاذيه في سيري إلى أن انعطفت يساراً مرة أخرى. كنت أعب نسيم الليل، وتعب مع الغلس أذناي رجعَ صوته، وهو يرتل " وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت " فأترنّح مزهواً بعذب الصوت، وأظل أسير إلى أن تنشق السماء عن شفق متجدد.. ومع الأصوات العابرة، ومع دبيب البشر تجري بحّة شجية تملأ سماء المدينة، توقظ النائمين الذين يعيشون صحواً خالصاً على رنّة موال. لقد تحلل صوته في دمي وسرى في العروق سريان الشفق في الفجر المدعم بالندى. وبين كل نداء ونداء من أفواه الباعة، ينطلق من حنجرة أبي سليم موال يغنيه مغموساً بماء الشجن، حتى صار غناؤه توقيتاً. وشعرت وأنا أعود أدراجي أنهم لابد أخذوه. كنت بهذا الإيمان أعبر برزخاً من الشك المظلم إلى اليقين، مخترقاً بآية " وإذا الموؤدة سئلت " فضاء خاملاً، وعابراً كتلاً من المدن الهالكة إلى هنالك حيث يطفو الصوت بعيداً عن الرجال الرسميين وغير الرسميين... ومن يومها وأنا أتلو الآية بانتظارهم..



#ماجد_رشيد_العويد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل كانت الرقة رافداً من روافد العجيلي
- ثقة مستعادة
- صمت المثّال
- حجر على صراط
- طيبة
- الموت الأصغر
- السادن
- على جناحي ذبابة
- صيف حار
- وأخيراً رأيته
- العباءة
- في الجحيم
- في الليلة الأولى
- التماعة
- المِذَبّة
- مشكلتنا ليست في اللغة
- شهداء الغضب
- صناعة الألقاب
- حديث إلى الشريك في الوطن
- لنبدد معاً سوء الفهم


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد رشيد العويد - بانتظارهم