محمد فُتوح
الحوار المتمدن-العدد: 6984 - 2021 / 8 / 10 - 23:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
منذ القدم ومشكلتا الفقر ، وغياب العدالة ، هما الصفتان السائدتان والمتلازمان فى تاريخ البشر. والفقر مشكلة عالمية ، فهناك حسب آخر تعداد بدايات الألفية الثالثة ، أكثر من 2 مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر ، لا يجدون الفتات ، وينامون جوعى بلا عشاء. وتزداد شراسة الفقر فى الدول المتخلفة ، التى نصفها تأدباً بأنها نامية.
وبرغم ما يقدمه الساسة والاقتصاديون ، من أسباب ومبررات لتفسير ظاهرة الفقر ، كالحروب والأزمات الاقتصادية ومشكلة الانفجار السكانى ، فإننى لست مقتنعا بالكثير من هذه المبررات.
يعود السبب من وجهة نظرى ، إلى أن هناك قلة من الناس ، يسيطرون على مقدرات الأغلبية من البشر ، يمتلكون السلطة والمال ، وفى المقابل ، هناك الفقراء الذين لا يملكون شيئاً.
المشكلة أن هناك أُناسا يزدادون تخمة ، وأُناس لا يجدون قوت يومهم.
وتقدر أعداد منْ يعيشون تحت خط الفقر ، فى مصر بـ 50% من السكان من محدودى الدخل ، وسكان العشوائيات ، وسكان المقابر ، ومدن الصفيح. هؤلاء جميعاً يعانون الأمرين ليحصلوا على طعامهم.
ولأننا لا نعدم من بين رجال الأعمال ، فى مصر المحروسة ، مَنْ هم مؤرقون ،ومنشغلون ، ومعذبون ، وتتقطع أكبادهم حسرة وكمداً على أحوال الفقراء ، وخاصة طعامهم ولقمة عيشهم ، طلع علينا أحدهم ، الذى انتفض أخيراً بعد رقاد طويل ، وبدأ يشعر فجأة ، بمعاناة الفقراء وعذاباتهم وشقائهم بسبب لقمة العيش.
أنشأ هذا الرجل ما أطلق عليه " بنك الطعام " ، الغرض منه إطعام كل مصرى فقير ، عن طريق جمع فائض الطعام من الفنادق ، والمطاعم ، وولائم الأثرياء ، والسوبر ماركت ، والبيوت ، وتوزيعها على الأسر الفقيرة فى مصر.
وقد ناشد رجال الأعمال من ذوى الشفقة ، و القلوب الرحيمة ، والمؤسسات الخيرية المختلفة ، بالتبرع بجزء من المال ، أو بقطعة أرض ، أو بغير ذلك مما تجود به أنفسهم . وخصص لبنك الطعام هذا ، ثلاثة حسابات داخل ثلاثة بنوك رئيسية فى مصر ، وأنشأ خطًا ساخناً على مدى الأربع والعشرين ساعة ، للرد على استفسارات المتبرعين وأسئلتهم الخاصة ببنك الطعام.
ولكى يضمن رجل الأعمال رقيق القلب مرهف المشاعر، أن يصل الطعام إلى مستحقيه ، سوف يقوم برسم خريطة للأماكن التى يتجمع فيها الفقراء فى مصر ، والذين يحتاجون إلى الطعام.
ولا ينتهى الأمر عند هذا الحد ، فرغبة رجل الأعمال هذا ، فى إنقاذ فقراء مصر بإعالتهم وإطعامهم ، دفعته لتمويل فيلم تسجيلى قصيرا، لكى يعرض على القنوات الفضائية المختلفة . وذلك بأمل أن تلقى الفكرة قبولاً وتأثيراً ، لدى الأثرياء العرب ، فترق قلوبهم ، ويساهمون فى إطعام فقراء مصر.
وموضوع الفيلم يدور حول امرأة مصرية فقيرة تصطحب طفلها معها ، وهما يبحثان فى أكوام القمامة عن فضلات الطعام المتناثرة.
إنها فضيحة مهينة بكل المعايير ، أن يُصور فيلم عن هذا الموضوع ، وبهذا الشكل ، ويُعرض على القنوات الفضائية ، ليدر عطف وشفقة الأثرياء العرب ، وغير العرب ، على فقراء مصر فيدفعوا ثمن عشائهم.
إننى لست من أنصار إخفاء العيوب ، أو سترها بأى شكل من الأشكال . ولكننى أستهجن هذا الأسلوب فى عرض العيوب ، أسلوب التسول والشحاذة.
منْ يشاهد هذا الفيلم ، " خاصة من أثرياء العرب " ، سيشعر بالاحتقار والاشمئزاز ، من مصر كلها ، ومن فقرائها بشكل خاص.
إن دوافع رجل الأعمال هذا ، وإن كانت فى ظاهرها خَيٌرة ، إلا إنها فى الحقيقة ليست إلا إهانة لفقراء مصر ، ونيلاً من إنسانيتهم وكرامتهم . فقد تعامل معهم على أنهم شحاذون يتسولون الطعام من فضلات الفنادق والمطاعم ، لا فرق بينهم وبين حيوانات كالقطط والكلاب ، يلقى إليهم بالفضلات ، فيهرولون لاختطافها لإطفاء جوعهم.
هناك فى مصر ، أسراً توفر للقطط والكلاب طعاماً خاصاً ، مستوردا من الخارج ، لا يستطيع أُناس كثيرون ، توفيره لأبناءهم.
لقد تصورت أن رجل الأعمال هذا ، سوف يوفر لفقراء مصر ، وجبات جاهزة نظيفة وصحية . ولكن للأسف سوف يطعمهم ، من فضلات المطاعم ، والفنادق ، والبيوت ، التى تلقى فى القمامة .
أريد أن أهمس فى أذن هذا الرجل الثرى رقيق القلب والمشاعر ، هل تقبل أو ترضى ، أن يأكل ابنك أو ابنتك ، من فضلات المطاعم والفنادق ؟!
إنها طريقة التفكير التى لا نستطيع الفكاك منها ، كلما واجهتنا مشكلة من المشكلات ، طريقة تفكير يقع فى حبائلها كثير من الساسة والمنظرون فى مصر والعالم العربى والإسلامى .
طريقة تفكير لا ترى إلا الأشياء القريبة ، وتجعل الإنسان لا يدرك أو يبصر، أبعد من قدميه. فما جدوى الحل الذى سيقدمه رجل الأعمال هذا ؟ . هل سيستمر فى تقديم الطعام للفقراء ، لمدة سنة أو سنتين أو ثلاثة ، أو على مدى أعمارهم ، طالما أنهم أحياء ؟!.
إن هذه الفكرة بالرغم من عدم جدواها ، لا تصلح إلا لفترة زمنية صغيرة ، كموائد الرحمن التى تُقام فى شهر رمضان وحسب. أما على المستوى البعيد ، فهى فكرة فاشلة ، مهينة للفقراء . إن رجل الأعمال هذا إن كان مؤرقاً حقاً بمعاناة فقراء مصر ، فكان من الأولى أن يتعاون ويتضامن مع غيره من رجال الأعمال ، من أجل توفير عدد من فرص العمل سنوياً ، لأكثر الفقراء حاجة ، فيتكسبون قوتهم وطعامهم بجهدهم وعرقهم ، بدلاً من أن يتسولواالطعام فى خزى وخجل. وهنا أتذكر المثل الصينى الشهير " بدلاً من أن تمنحنى سمكة اعطنى سنارة لأصطاد بها الأسماك ".
إن هذا الرجل يفكر بطريقة منْ يقيمون " موائد الرحمن " والتى تُقام فى شهر رمضان ، لإطعام المسافر أو الفقير ، فبعد انتهاء الشهر ، لا يسأل منْ أقاموا هذه الموائد ، أين وكيف يأكل هؤلاء الفقراء طوال العام ؟.
إن رمضان هو مناسبة لتقديم الخير ، الذى يتمثل فى وجبة إفطار تُقدم للفقير والمحتاج. الخير بالنسبة إليهم ، " موسمى " يظهر فى أوقات ، ويختفى طوال العام .
وتختلف دوافع وأغراض ، مَن يقيمون هذه الموائد . فمنهم منْ يقيمها بدافع الصدقة ، وبعضهم بدافع من حب المظهرية ، والبعض الآخر ، يقيمها درءا للحسد ، وفقا للمثل : " اطعم الفم تستحى العين ".
ورجل الأعمال هذا ، هو على ما أعتقد ، ينتمى إلى النوع الذى يتفاخر باطعام الفقراء ، من أجل لفت الأنظار ، والاستعراض الشكلى .
إن تجربتى فى الحياة والتحليل الفلسفى والنفسى للبشر ، تؤكد أن لا أحد يقدم شيئاً لوجه الله . فهناك دائماً دوافع خفية ، غير الدوافع المعلنة ، وراء كل فكرة أو مشروع ما. وفى أغلب الأحوال ، تكون الدوافع الخفية ، عكس الدوافع المعلنة تماما .
هذا بالإضافة إلى أن هناك أموراً عدة ، تثير عندى الشكوك . فهذا المشروع ، له خط ساخن ، وتبرعات ، وحسابات فى البنوك ، وليس هناك من رقيب على ذلك ، والتلاعب فى هذه الحسابات ، ساحة مفتوحة ، تستخدم اسم الفقراء ، وعوزهم ، وقلة حيلتهم .
إنى أتساءل لمَاذا كل هذا فجأة ، وبدون مقدمات ؟!.
هل كان هذا الرجل يعيش فى بلد آخر ، ليس فيه فقر ، وفجأة جاء إلى مصر ، ليرى تعاسة وبؤس الفقراء ، فى البحث عن مسكن أو عمل ، أو طعام يطفئون به صراخ معدتهم ؟! . هل كان هذا الرجل يعيش فى غفوة دامت معه طويلاً ، ثم استفاق على صحوة أيقظت إنسانيته ، وجعلته يصدم حينما رأى امرأة تبحث فى أكوام القمامة على فتات الطعام ؟!.
إن نبرة الكذب والزيف ، زاعقة ، واضحة ، فى هذا المشروع ، وغرضها هو الحصول على المال بطريقة سهلة ، حتى ولو كان الضحية الفقراء فى مصر.
أقول لمثل هذا الرجل وأمثاله ، ألا تكفيكم ثرواتكم التى تزيدكم تخمة على تخمة ، كفاكم مزايدة بالفضيلة ، وفعل الخير .
ولكن حماقة الإنسان تدفعه إلى الجشع والطمع ، حتى ولو على حساب الفقراء.
من كتاب " الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الدينى " 2002
#محمد_فُتوح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟