أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد السلام انويكًة - تقطير ماء الزهر بالمغرب..















المزيد.....

تقطير ماء الزهر بالمغرب..


عبد السلام انويكًة
باحث


الحوار المتمدن-العدد: 6871 - 2021 / 4 / 17 - 11:51
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


قديم هو التداوي بالنبات في المغرب، وأصيل هو كتقليد تطبيب وفق خبرات تراكمت مع الزمن هنا وهناك بجهات البلادعلى تباين بيئتها. وإلى جانب ما كان عليه نبات المجال المغربي ولا يزال كمصدر مواد عطرية عدة، فقد شكل أداة تجميل للجسم بمستخلصاته ونوعاً من الأريحية في علاقة بكل احتفال ديني أم أسري. ولم تكن مشتقات النبات العطري عبارة عن سوائل برائحة طيبة مفيدة فقط، بل بأثر على ما هو نفسي وبتأثير ايجابي على كل توتر ذاتي وقلق عصبي.
ولا شك أن ما يطبع البيئة المغربية من غنى وتباين وتنوع، يجعل من نباتها العطري مجالا واعداً فيما هو صيدلي طبي وتجميلي، وبقدر تنوع واتساع نبات المجال المغربي بقدر ما لا يزال دون استغلال طبي واسع بل هو بحاجة لأبحاث ودراسات علمية وأوراش استثمار. ولعل طبيعة مجال البلاد الجبلي ونوعية مناخه، هي بأثر على ما هو عليه من غنى يخص أعشاب طبية وعطرية عدة، فضلاً عما هناك من تباين في نوع ونوعية المكون النباتي الطبي وقيمته في التداوي الأصيل.
وغير خاف أن الحضارة المغربية كانت منذ القدم بطابع تنوع في تراثها وثقافتها وعاداتها ونمط عيشها، باعتبارها تراثاً ضارباً في زمن البلاد. وكثيرة هي مظاهر وتجليات ما يعكس غنى الثقافة المغربية واحتفالياتها، والتي منها ما هو بعلاقة مع الطبيعة والنبات خاصة، كما شأن ما يحفظه المجتمع المغربي من أشكال احتفاءٍ ربيعَ كل سنة، حيث العطر والزهور والورود وتقاليد تقطيرٍ وأشكالِ تعبير ونزهات وشدو وترويح. وغير خاف أن عطر النبات ارتبط بحياة ونمط عيش المغاربة منذ القدم، فقد كان بموقع رمزي لديهم من خلال حضوره واستحضاره في مواعيد حياة وممات، وقد نجد العطر أكثر ارتباطاً بما هو ديني روحي من عبادة وتعبير عن حب وعلاقة وتقدير واحتفاء.
وإذا كانت لفظة عطر تعني كل ما هو طيب، فهي ترتبط في الثقافة المغربية وذاكرة المغاربة ب”العطار” ذلك الحرفي الناعم الذي يحيلنا على جوانب من عبق ورمزية تقاطع أزقة مدن المغرب العتيقة وأسواقها، كفاس ومراكش وتطوان وسلا والرباط ومكناس وتازة وصفرووغيرها. وعليه، يتداول المغاربة وينعتون منذ زمان بقولهم هذا رجل عطر وهذه امرأة عطرة إذا كان فيهما ما يميز من طيب وطيبوبة. ولعل العطر عند اللغويين إسم عام لِما هو طيب والطيب إسم شامل لكل رائحة طيبة، ولعل أقرب المواد للإنسان ولحواسه وتفاعلاته وأحلامه وآفاق حياته نجد كل ما هو طيب وعطر نباتي أصيل، بل لكل من الطيب والعطر معاً علاقة بالجمال وطلب الزينة. وتاريخ علاقة المغاربة بالعطر الطبيعي جزء من ذاكرة البلاد وثقافتها وحضارتها، كيف لا وجل مدن المغرب العتيقة لا تزال تحفظ شواهد وعادات وتقاليد تعود الى زمن بعيد.
وتذكر المصادر التاريخية الوسيطية المغربية والعربية، ما يخص بيع العطور في أماكن خاصة ببعض مدن المغرب العتيقة، ومن هنا ما نجده من تداول وحديث حول زنقة العطارين ببلاد الأندلس ثم بالمغرب لهذا العهد. ففي فاس مثلا بنيت مدرسة العطارين قرب سوق العطارين غير بعيد عن جامع القرويين أواسط القرن الرابع عشر الميلادي زمن بني مرين تحديداً سنة سبعمائة وثلاثة وعشرين هجرية. بل ويذكر بعض المؤرخين أن فاس كانت أكثر مدن المغرب وبلاد الغرب الاسلامي استيراداً للعطور خلال العصر الوسيط قائلا :” ومدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا.. لا أعلم بالمغرب مدينة لا تحتاج الى شيء يجلب إليها من غيرها، إلا ما كان من العطر الهندي سوى مدينة فاس”. وهو ما يعني كون المغاربة من خلال مدينة فاس كانوا على صلة بالعطر وحرف وحرفي العطور، التي هي في الأصل نباتات بمنظر جميل جاذب وريح طيب وشكل زهي وهو ما نجده غالباً في مناطق ذات طبيعة رطبة.
وبقدر ما هناك من علاقة بين الاحتفاء والعطر والطيب بقدر ما يدخل هذا الأخير ضمن تقاليد ضاربة في القدم، كالأعياد والأفراح والزواج والجنائز والدفن وغيرها من أشكال تفاعل حياة الانسان منذ قرون. فكثيراً ما نجد الطيب يحضر في طلب مغفرة ومحبة وجلب حظ وفأل حسن وطمأنينة نفس، لطبيعة ما هناك من علاقة خفية روحية بين الأزهار والورود والانسان. وعليه، فالنفوس دوماً تشعر بنوع من الراحة والروحانية عند رؤية الزهور والحدائق والنبات، ومن هنا إقدام الناس منذ القدم على غرس أشجار زاهرة تنتج الزهور وسط البيوت. وبما أن الموت حالة برعب وأثر خاص في حياة الانسان، عمل هذا الأخير منذ زمان على التخفيف من أثرها وتقديم الدعاء والتوسل عند حدوثها بواسطة العطر وجميع ما هو طيب.
وكان لموقع المغرب وأعاليه من الجبال أثر في تنوع موارده النباتية العشبية الطبيعية، فالبيئة المغربية تحتضن منذ قرون تنوعاً نباتياً شجرياً مثيراً للاهتمام، لِما تسمح به هذه الثروة من قيمة عطرية أصيلة لعل منها شجرة النارنج. وقد تعامل المغاربة منذ القدم مع جميع أنواع النبات العطري باعتباره إرثاً ثقافياً، وعليه نجد النبات وما يستخلص منه لهذا الغرض أو ذاك يحضر في تجليات تجمع الديني بالاجتماعي، كما في الطبخ والعلاج والتزيين والزيارة والاستقبال والترويح. ويصنف النبات العطري الى أشكال بتميزات ومواصفات تحددها الدراسات العلمية في هذا الاطار، نذكر منها التصنيف المورفولوجي ذلك الذي يقوم على الجزء المستعمل الذي يحتوي المادة العطرية الفاعلة. وعليه، من النبات من يستعمل بكامله ومنه من تستعمل فقط أوراقه.
وتعني شجرة النارنج التي ارتبطت بالبيئة المغربية منذ القدم وبالمغاربة في المدن العتيقة وأريافها الشيء الكثير، لِما تضفيه من قيمة مجالية بيئية على البلاد بأكملها ومن رمزية في الذاكرة المشتركة خلال ربيع كل سنة كما تشير اليه نصوص التاريخ في هذا الباب، حيث تميز في البيئة بأزهار بيضاء ذات رائحة طيبة هي مصدر عطر طبيعي. ومعلوم أن شجرة النارنج تجود خلال ربيع كل سنة بأزهار يتم تقطيرها بشكل تقليدي، لاستخلاص ما يعرف في البيوت المغربية بماء الزهر، وهي تسمية مغربية قد تكون عرفت لأول مرة بفاس ومراكش وسلا.
ووفق ما تذكره مصادر التاريخ تعود شجرة النارنج أصل هذه المادة المعطرة (ماء الزهر)، الى بلاد الصين قبل انتقالها الى جهات أخرى لعل منها تلك المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتصنف شجرة النارنج هذه ضمن الحمضيات بحيث هي شبيهة بشجر البرتقال. وقد ورد عن مؤرخين مشارقة خلال القرن السادس الهجري، أن المجال الأول من العالم يبدأ من جهة المغرب حيث البحر الغربي المسمى بحر الظلمات (الأطلسي) الى البحر الهندي، وأنه بجزر هذا الأخير كانت أشجار عدة منها النارنج التي تتوفر على زهر يتفتح ويسقط، وأن منه من يتم جنيه وتجميعه وتجفيفه وبيعه لتجار واردين على المنطقة يتجهون به الى جميع الأقطار لعل منها المغرب وفاس تحديداً خلال هذه الفترة.
وبناء على ما ورد في نصوص مصدرية تاريخية، انتقلت شجرة النارنج - أصل عطر”ماء الزهر” الشهير بالمغرب والغرب الاسلامي- الى بلاد والمغرب الأندلس، حيث المناطق الملائمة من الناحية المناخية تحديداً شمال البلاد وغربها. ومن هنا كان الأندلسيون المهاجرون بفضل في هذه العملية (تقطير ماء الزهر) وفي نقل ما ارتبط بها من تقاليد وسبل استغلال خلال القرن الخامس عشر الميلادي، خاصة طرق تقطير أزهار هذه الشجرة واستخراج منها ما يعرف ب”ماء الزهر”. هكذا انتقل هذا التقليد الأندلسي الأصيل الى مدن مغربية تاريخية عدة، وانتقلت شجرة النارنج التي كان يتزين بها فضاء بيوت المغرب العتيقة الداخلي، لِما تضفيه هذه الشجرة من جمال ورائحة طيبة خلال فترة إزهارها، فضلا عما تحاط به أزهارها من قدسية وقيمة جمالية وتجميلية.
يبقى من خلال ما حصل من أبحاث حول الهندسة الزراعية عند العرب، من المفيد الاشارة الى أن شجرة النارنج انتقلت من الأندلس الى المغرب ومنها الى أروبا شمالا، الى جانب أشجار مثمرة أخرى لا تزال تحضر في اللغات الأوربية وتنطق بأصلها العربي كما شأن شجرة النارنج.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث



#عبد_السلام_انويكًة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين - فاس
- من أرشيفِ سهرةِ سبتِ إذاعةِ المغربِ الوطنية ..
- بين وقْعِ انتخاباتٍ بالمغرب وتوقيعِ عزوف..
- فاس في ذاكرة المغرب
- محمد كًسوس صاحب مقولة .. خلق جيل من الضباع..
- المندوبية السامية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير..تحتفي
- من زمن الكفاح الوطني واستقلال المغرب..
- كيف كان بترول الصحراء الشرقية المغربية وراء تعقيد قضية الحدو ...
- فاس: كرونا يخطف ألمعَ عازفِ عُودِ طربِ الألة الأندلسية بالمد ...
- الصحراء المغربية.. بين إرثِ مستعمرٍ ماكرٍ وانزلاق موقفِ جزائ ...
- المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس.. وتقليد ندوة صفرو ...
- الصحراء المغربية وخطاب محاميد الغزلان التاريخي..
- من ذاكرة الشعبين المغربي والجزائري-خاوة خاوة- ..
- تازة.. من ذاكرة جوار وحضن مدينة لجزائريين زمن الاستعمار..
- جزيرة الصويرة.. ذاكرة مكان..
- بوكًليب .. نعت وباء وذاكرة ..
- تاريخ المغرب .. تاريخ قبائل ..
- ابن هيدور وأوبئة مغرب العصر الوسيط
- ليس هناك تاريخ دون تاريخ محلي
- قراءة في مؤلف تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب للمؤرخ محمد ال ...


المزيد.....




- مبنى قديم تجمّد بالزمن خلال ترميمه يكشف عن تقنية البناء الرو ...
- خبير يشرح كيف حدثت كارثة جسر بالتيمور بجهاز محاكاة من داخل س ...
- بيان من الخارجية السعودية ردا على تدابير محكمة العدل الدولية ...
- شاهد: الاحتفال بخميس العهد بموكب -الفيلق الإسباني- في ملقة ...
- فيديو: مقتل شخص على الأقل في أول قصف روسي لخاركيف منذ 2022
- شريحة بلاكويل الإلكترونية -ثورة- في الذكاء الاصطناعي
- بايدن يرد على سخرية ترامب بفيديو
- بعد أكثر من 10 سنوات من الغياب.. -سباق المقاهي- يعود إلى بار ...
- بافل دوروف يعلن حظر -تلغرام- آلاف الحسابات الداعية للإرهاب و ...
- مصر.. أنباء عن تعيين نائب أو أكثر للسيسي بعد أداء اليمين الد ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبد السلام انويكًة - تقطير ماء الزهر بالمغرب..