أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عدنان إبراهيم - من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 27















المزيد.....


من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 27


عدنان إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 6865 - 2021 / 4 / 10 - 08:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الطريقة المستقيمة
جلى أن لفظة طريق, وصراط, وسبيل, ومنهج, وشارع, وشريعة, وشرعة, ومحجة, وسنة, مترادفة لمدلول واحد, هو ما يوصل إلى المقصود بسهولة وَأمْنٍ من قريب. من هذا يظهر لنا أن الطريق هو اعتقاد حق, واقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أعماله وأحواله وأخلاقه ومعاملاته, في صغير الأمر وعظيمه. ومن وهبه الله تلك المواهب فهو من أهل هذا الطريق, السالكين على التحقيق.

من هم أهل الطريق؟
وعلى هذا فأهل الطريق هم الذين اجتباهم الله فورَّثهم علوم أهل اليقين, وفقَّههم في الدين, ووفقهم للعمل بالعزائم, وزهَّدهم في الدنيا, ورغَّبهم في الآخرة, فهم أئمة الهدى, وقادة المتقين, العلماء بالله وبأيامه وبأحكامه. نورهم الذي يهتدون به في سبل الوصول, والعمل بإخلاص وصدق - المطابق لحقيقة العلم - سُلَّمهم الذي يصعدون عليه, فارَّين من كل شاغل يشغل سريرتهم, او يلفتهم عن ما هم موجِّهون وجوههم نحوه, طهرت قلوبهم عن أن تطمئن بغير الله, وتزكت نفوسهم فلا تسكن إلى غير الله (1), هم أنجم الهدى, ومصابيح الدجى، حل الله العقدة عن ألسنتهم فنطقوا بالحكمة، وجعل لهم نورا في قلوبهم ففقهوا أسرار كتابه بسر الفطنة. هم حجة الله القائمة على حقيقة توحيده، ودلائله الساطعة على حقيقة كمال عنايته وإيجاده وإمداده، أعمالهم هدى للقلوب، وعباراتهم نور للنفوس، وإشاراتهم طهور للأرواح، بخلوا بنَفَس أن يصرفوه في غير نوال الفضل والرضوان، وبذلوا النفائس خشية أن تشغلهم عن حقيقة الإحسان. القرآن إمامهم، والسنة حصنهم، والخشية قوامهم، والرغبة مزاجهم. هذه صفاتهم، ولكن أين هم ؟.
لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وهم في التجارة والبيع، كان الرجل منهم يقوم فيدعو إلى الله دعوة عامة، فيصغي إليه النصراني واليهودي والمجوسي، فلا يقوم من مجلسه إلا وقد مال إليه أهل الملل او أسلموا على يده.
_
لزوم البحث عن الرجل الحي
من هذا يظهر أنه يلزم لمن أراد أن يسلك طريق الله تعالى - لتحصل له النجاة والفوز والسعادة والوصول - أن يبدأ اولا بالبحث عن الرجل الحي، العالم بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعالم بتزكية النفوس وتخليصها من أمراضها ورعوناتها، والعالم بالأخلاق المحمدية المتجمل بها، الممنوح الحال الذي به يجرد النفوس من اوحال التوحيد، العالم بعلوم اليقين ومشارب الأبرار ومشاهد المقربين، العالم بحقيقة التوحيد الخالص من الشرك الخفي والأخفى.
فإذا وجد هذا الرجل، فهو إمام أهل عصره جميعهم، والواجب عليهم جميعاً أن يتركوا الحظ والهوى، والعلو في الأرض، والتعصب للأباء والأجداد، إقبالا على الله تعالى، وتحقيرا لكل لذة يعقبها العذاب، وكل سيادة تنتج الشقاء، وكل شهرة تؤدي إلى حرمان الرحمة والغفران، وكل وظيفة تبعد عن دار الكرامة والإحسان الأبدي. حتى لو أن العاقل رأى أن عضوا من أعضاءه يمنعه من الإقتداء بالرجل الذي جعل الله له النور ومنحه الحكمة لَقَطَع العضو وفرَّ إلى المرشد، خشيةً من الشقاء الأبدي.

وجوب السعي لتحصيل ما به القيام بالواجبات الشرعية:
كل مسلم مطالب شرعا بواجبات شرعية من اعتقاد به النجاة إذا كان مطابقا لما جاء به الكتاب والسُّنَّة، وبعبادات ومعاملات وأخلاق، وبتزكية نفسه وطهارتها كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) وبالفكر في آيات الله وآلائه. وكل تلك الواجبات لابد وأن تُتَلَقَّى من عالِمٍ حَيٍّ تَقِيًّ، عامل من عمال الله تعالى، متحقق بوراثة العلوم المحمدية، يطمئن القلب به او مِمَّن تلقى منه. فإذا لم يسع كل مسلم ليتحصل به على ما به القيام بتلك الواجبات فهو مقصر، وربما ابْتِلُي بدَعِيًّ مغرور يبث فيه سم الفساد بالأخلاق والاعتقاد والأعمال، فيعادي إخوانه المسلمين، ويتهاون بما اوجبه الله عليه من العلم والعمل والسعي وراء النفع العام لجميع إخوانه تقربا إلى الله تعالى واقتداء برسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

تَلَقِّي الأسرار والأنوار عن الحيِّ الممنوح:
بينما أنك ترى بعض الناس يقتدون برجل جاهل يدعوهم إلى عالم ميت ويتعصبون له، فإذا حضر العالم الرباني بينهم نفروا منه، ورمَوْهُ بما يوحيه إليهم هذا الجاهل وتعصبوا عليه، وحرموا تلقي أسرار القرآن وأسرار السنة، وما به تزكية أنفسهم وتمكينهم في التوحيد ونوالهم السعادة الباقية. فاعجب يا أخي من إنسان لا يتعصب لوالده الذي رباه وتركه. وَيُتَبَنَّى للعالم ولا يخجل من ذلك، وربما أنكر على والده وأمره ونهاه ويفتخر بذلك. وانظر إلى من يتعصبون لجاهل ليس له عليهم أبوة ولا فضل تعليم، ويتركون العالم الذي به سعادة الدنيا والآخرة.
فيا أهل الطريق: أنتم الذين منحكم الله منة التسليم، ووهب لكم الرغبة فيما عنده سبحانه، والتلذذ بذكره سبحانه، وصرف الوقت فيما يرضيه. أنتم إخواني وأنا أخوكم، خلِّصوا أنفسكم بالسير على الطريق المستقيم الذي سار عليه أئمة الطريق والعلماء الربانيون الراسخون في العلم، وهو العمل بكتاب الله وسنة رسوله، وتهذيب النفس، وتلقين العلوم على يد عالم عارف بالله اوبَدَل عنه. واعلموا أن الناجي حقيقة الذي ينجو الإنسان باتباعه والإقتداء به هو رسول الله فحسب، وأنه لا يخلو أي زمان من الأزمنة من عارف بالله وبأيام الله وبأحكام الله، تجتمع تلك الصفات في فرد واحد، اويقوم بها جماعة من المسلمين، كل على قدر ما وهبه الله.
فعلينا جميعا أن نتعلم كتاب الله تعالى لنعمل به، ونتعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنتحصن بها، ونتلقى تلك الأسرار والأنوار عن الحي الممنوح، ونرفض ما عدا ذلك من التفرقة، والانتساب إلى من ربما كان انتسابنا له هلاكا لنا.
ونحن والحمد لله تعالى قد سمانا الله المسلمين، ورضى لنا أخوة الإيمان فقال تعالى: (هو سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) وقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).
والشكر عمل وهو قيام كل عضو بما خلقه الله له، فقيام القلب بما خلق له من استحضار عظمة الله تعالى وخشوع من جنابه العلى، ورغبة فيه ورهبة منه، وخوف منه ورجاء لفضله ورضوانه، ومراقبة له سبحانه، وحب فيه، وغير ذلك من أعمال القلوب، وهي شكر القلب. ولكل عضو شكر، وقد بسطنا ذلك في كتاب: (أصول الوصول) عند التكلم عن مقامات اليقين، وفي كتاب (شراب الأرواح).

البحث عن الرفيق العالم بالطريق
إخواني - طهَّر الله قلوبنا من وسوسة الشيطان - اعلموا أن كل مسافر إلى جهة لا يخرج من بيته إلا بعد إعداد الزاد، والتحقق من استقامة الطريق، وأنه أقرب الطرق الموصلة لمقصوده، وطمأنينة قلبه بأنه آمن، ولا يكمل اطمئنانه إلا برفيق عالم بالطريق، يسلم له قياد نفسه، ينزله متى شاء ويسير به متى شاء، يطيعه في كل أمره، ويعتقد أنه لوخالفه هلك اوضاع ماله. ولكنه لا يختار الدليل إلا إذا تحقق أنه عالم بالطريق وبأماكن الخوف فيه وأماكن الأمن وجهات المياه، ويعلم أنه له معرفة بالقاطنين بتلك الجهات، كل ذلك يعده المريد للسفر خوفا على حياته الفانية. ولكنَّا نرى المسلم المسافر إلى الدار الآخرة، المتحقق أنه سيرجع إلى ربه، لاَ يُعِدُّ الزاد لهذا الطريق، ولا يجتهد في البحث عن الرفيق، ولا يخطر على قلبه أنه مسافر: إمَّا إلى جنة وإمَّا إلى نار، فيهمل أمر الرفيق الذي يذكِّره بأيام الله، ويبين له سُبُلَ الله، ويسلك به على أقرب الطرق المستقيمة، ويزكي نفسه ويطهرها من أدرانها، وبإهماله في هذا الأمر يقع في هوة الغفلة فينسى اليوم الآخر، فينساه الله تعالى من أن يمنحه العناية والتوفيق، والنور والهداية، والعلم والإيمان، والرحمة والشفقة والإنابة، قال الله تعالى: (الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) فيكون بإهماله في طلب الرفيق المرشد الشفيق، سارٍ على الطريق المعوج المهلك البعيد عن الوصول، وهو طريق الحظ والهوى والغرور والأمل ويحسب أنه يحسن عملا.

السنَّة العملية أن يكون لكل سالك رفيق
كيف يتهاون في اتخاذ الرفيق؟.. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكل رجل من الصحابة أخا يأنس به في خلوته، ويستعين به إذا ذكر، ويتنبه به إذا نسى، ويعلِّمه ما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غاب، مع أن شمس ذاته المحمدية كانت مشرقة. فإذا كانت السنة العملية أن يكون لكل سالك رفيق يزداد بعلمه علما، وبمكارم أخلاقه كرما، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعمله، فكيف بنا ونحن في هذا الزمان المظلم نتساهل بالرفيق ونتهاون بالدليل ؟

حال الغافلين عن الآخرة
إنما يتساهل بالرفيق من لم يؤمن بيوم الحساب، ويتهاون بالدليل من جهل المبدأ والمآل، أبعدهم الله عن الطريقة المستقيمة لانحراف قلوبهم عن الحق، قال الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) طمس الله بصيرتهم عن مشاهدة جمال الآخرة ونعيمها لما فرحوا بالحياة الدنيا، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) صُمَّتْ آذانهم عن سماع الذكرى، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنحهم العناية في (ألَسْتُ) فصمت عندها، قال الله تعالى: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ) هذا حال الغافلين عن الآخرة، والجاهلين بجمالها ونعيمها، وبما فيها من أليم العذاب وشديد العقاب، فهم كما قال الله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ومن جهل نفسه ونسيها كان الشرك أقرب إليه من الإيمان، وكيف يكون من جهل نفسه مؤمنا كامل الإيمان وقد قال الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ؟

حال من منحوا التسليم والانقياد
أما حال من منحوا التسليم والانقياد للطريق وأهله، فإن التسليم بلغ ببعضهم إلى درجة حتى أخرجهم عن الحالة الوسط التي هي السعادة والفوز والفلاح. فإن بعضهم قد يسلم لأهل الجهل المدعين تسليما يجعلهم يكرهون الاستقامة، وينفرون من العارفين بالله تعالى العالمين بأيامه وأحكامه، ويظنون في أنفسهم أنهم خير من غيرهم، وذلك ظن الشيطان بنفسه.
وبعضهم يسلم لأهل الجذب الذين أفناهم الحب عن سوى المحبوب، وبلغت بهم الرياضة والتزكية مبلغا جعلهم روحانيين، حتى صاروا بحيث يعملون أعمالا لا تقبلها العقول كترك الأكل زمنا، وكبغض الدنيا وما فيها، وكتحمل البرد والحر، وكالفرار إلى الصحارى وغير ذلك، فسلموا لهم معتقدين أنهم مرشدون وتركوا أهل العلم بالله والمعرفة، وهؤلاء المنجذبون بكليتهم إلى الجناب العلي ليسوا أئمة للمتقين، ولا هداة للمسلمين، ولكنهم منحوا الحب والوجد والمعرفة لأنفسهم خاصة، وهم أبدال الأنبياء وليسوا أبدالا للرسل، وإني ليسرني أن المسلم يعامل هؤلاء معاملة الأطفال الرضع، فيرحمهم ويشفق عليهم إكراما لله ورسوله، ولا يقتدي بهم، فإن إقتداءه بهم يصير به هالكاً، لأن لهم مواجيد ومشاهد ملكوتية، ومكاشفات عن حضرة العزة والجبروت بها سكروا، وإليها جذبوا، وفيها فنوا، وعن سواها غابوا، فمن اقتدى بهم وقلدهم - مع ما هو فيه من طمس البصيرة، وفساد السريرة، والحجاب عن مشاهد القدس - فقد هلك وأهلك غيره (2).

وجوب الاقتداء بإمام المتقين
وإنما إمام المتقين من وصل إلى جناب القدس، ثم وّرَثه الله علوم الرسالة والنبوة، فقام داعيا للحق بالحق، دالا على الحق بالحق، مجدد للسنة، مبينا لسيرة السلف الصالح. هذا هو المقتدى به، وإذا أظهره الله في عصر من العصور وجب على كل طالب أن يقتدي به، او بمن اقتدى به، او بمن اقتدى بمن اقتدى به، فإن هؤلاء في الجنة ماداموا محافظين على تلك الأسرار، ومن تلقى تلك الأسرار، عمن تلقى عمن تلقى عمن تلقى عن الممنوح الذي جعل الله له نورا، الذي مات فأحياه الله، قال الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) وكما قال تعالى: (اومَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) فهو على الصراط المستقيم، ومن صلح له التلقي وأعانه الله على العمل كان ممن أخبر الله عنهم بأنه (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اولَئِكَ رَفِيقًا). وشرط التلقي أن يكون المتلقي عنه تحصَّل على العلوم النافعة، وفهم حِكم الأحكام، وعرف أمراض النفوس، فقام يرشد عباد الله بالقول والعمل والحال على طبق العلم، والمحافظة على ما علمه من المرشد او ما علمه ممن تلقى عنه من أبدال المرشد اونوابه، بذلك يتحقق لمن تلقى العلم والعمل والحال والقول أنه سالك على الطريق المستقيم، ناهج مناهج المؤمنين، مؤهل للفوز والرضوان من رب العالمين.

فيم يتنافس أهل الطريق ؟:
إخواني: - حفظني الله وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا - اعلموا أن المزاحمة والمنافسة إنما تكون في الفرار من الدنيا إلى الآخرة، وفي التخلي عن الرذائل النفسانية للتجمل بالفضائل الروحانية، في عمل الخير النافع لجميع الإخوان، وفي السبق في عمل القربات، والمسارعة إلى المنافسة في رفعة الدرجات عند الله لا عند الخلق، وفي احتقار نفسه ليعظمه الله، وفي الرضا بالفقير ليغنيه الله، وفي التواضع لعباد الله ليرفعه الله، وفي بغض الشهرة والسمعة والرياسة خوفا من القطيعة عن الله. وفي اعتقادي أن الدار الدنيا فانية زائلة: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
في ذلك تكون المنافسة والمزاحمة، ينافس في ذلك أهل الله الصالحون، وأحباب الله المقربون: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) وليست المنافسة والمزاحمة في جمع ما يفنى من المال، ومالا ينفع من الشهرة والسيادة، وما لا يدوم من ملاذ المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن. هذه هي منافسة البهائم الرتع، فإن النمل يدخر ويعتني بمسكنه، والخنازير والديكة تعتني بالمنكح، والسباع تفتخر بالجرأة والسيادة. وليس للمتقين ولا للأبرار بل ولا لعامة المؤمنين حرص على ما يزول، ولا رغبة شديدة فيما يفنى، ولكن يطلبونه بقدر الحاجة، خصوصا إذا كان المؤمن ذا أهل وعيال، فإنه يهتم لطلب الرزق على قدر الحاجة واثقا بالله متوكلا على الله، عاملا بأحكام الله، متباعدا عن مخالفة السنة. فإذا كان المؤمن العامي الذي صدق بقلبه وأقر بلسانه وعمل بجوارحه من غير علم ولا كشف، لا ينافس إلا فيما يبقى نعيمه وتدوم بهجته، فكيف بمن يدعي أنه من أهل الطريق؟.
وإنما أهل الطريق من مُنِحوا اليقين بعد الإيمان والحب والشوق والعلم بالآخرة، فكيف يتجملون بتلك المعاني ويتنافسون في الفاني؟ او يسعى بعضهم في أذية بعض؟ ويقوم بعضهم ينقص البعض؟... ليسوا أهل طريق الآخرة، ولكنهم أهل طريق الدنيا.

ما كان عليه أهل الطريق
وهكذا.. كان الرجل من أهل الطريق يمشي فيجتمع الناس عليه، فيردهم الناس عنه بالسياط فلا يرتدون، ويمر بعده أمير المؤمنين في كل عصر، والناس يضربون الناس بالسياط ليجتمعوا عليه فلا يجتمعون. كان أمير المؤمنين يزور أهل الطريق في بيوتهم فيسمع منهم القوارص من الوعظ حتى يبكي، وفي زيارة أمير المؤمنين هارون لفضيل، وما واجه به ابن جريج أبا جعفر المنصور، وما كتبه بعض الصحابة لأمير المؤمنين عمر، كل هذا دليل على أن أهل الطريق كانوا أئمة للأمراء وسادة للخلفاء، لأنهم خافوا الله فأخاف منهم كل شيء، وأقبلوا على الله فأقبل بقلوب الخلق عليهم، وجملوا سرائرهم لله فجمل الله علانيتهم لعباده، أنت تسمع من أسرارهم وكراماتهم ما دوّنه أهل التاريخ عنهم، خصوصا من ترجموا لأهل الطريق واعتنوا بآثارهم. كانوا إذا جلسوا في مجلس لاحت أنوار الحكمة، وظهرت أسرار المعرفة، وامتلأت القلوب إيمانا وذُكِر الله لرؤيتهم، وكره الناس الدنيا بما فيها، ورغبوا في الآخرة وما فيها، وكم أسلم يهودي ونصراني ومجوسيّ عند سماع عباراتهم، وعلم أحوالهم، وبيان أخبارهم، هكذا كان الطريق وكان أهل الطريق، حتى بلغ من التعظيم في القلوب أن الناس كانوا إذا أقسموا يقولون: (وحياة أهل الطريق)

الطريق وأهله الآن
أما الآن - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - أصبح اسم الطريق مرذولاً، وأهل الطريق محقرين، وأقوالهم مردودة، وأحوالهم منكرة، وأعمالهم مقبحة عند أهل الغرة وأهل الدنيا، لم ذلك؟ وكيف كان ذلك؟.. لم يكن ذلك إلا لأن رجالا اتخذوا الطريق مغنما ومكسبا. فزينوا ظاهرهم للناس لخراب سرائرهم، وباعوا الدين بالدنيا، وعملوا أعمال الآخرة للدنيا، فذهبت أنوار الطريق ومحيت أسراره وانطمست معالمه، وجهلت أحوال أهله، وحجبت الإمدادات السماوية، والفيوضات الربانية التي كانت تفاض على القلوب العامرة باليقين، والأبدان العاملة بسنة سيد المرسلين، والعقول الجائلة في الفكر في آيات السموات والأرضين، والأنفس السابحة في ملكوت السموات والأرض، والأرواح المواجهة لقدس الجبروت، أما الآن فأصبحت أجسامهم بلا أرواح. كل ذلك للاشتغال بالدنيا عن الآخرة، وترك البحث عن الرجل المرشد العامل الدال على الله بقوله وعمله وحاله.
كثر الحفاظ والمرشدون، وقل الراغبون والطالبون. يقراون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، ويجلسون مجالس الأنبياء والقلوب قلوب شياطين.

مآل من نسى يوم الحساب
فيا إخواني: لا تشغلنكم الدنيا عن الآخرة، ولا الحظ الفاني عن النعيم الأبدي، ولا الخلق عن الحق، واعلموا أن الإنسان لو عاش ألف سنة في اوفر الملاذ وأكبر الحظوظ، ثم انتقل إلى النار كان كأنه لم ينعم. ولو أنه عاش ألف سنة في فقر وعناء وذل وهوان، ثم انتقل منها إلى الجنة كأنه لم يتألم. وشقاء عاقبته الجنة: نعيم، ونعيم عاقبته النار: شقاء.
هلم إخواني إلى العمل بالسنة في أنفسنا، وخيركم من أحيا سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في نفسه ليقتدي به اولاده وأهله وجيرانه، فيكون إماما للمتقين.
هذا وإن تلك اللذة العاجلة والحظوظ الفانية وإن كانت مشهودة محسوسة تميل إليها النفس وترغب فيها وتحرص عليها، إلا أنك لوخطر على قلبك أنك سوف تموت، وأنك ستحاسب في القبر، وأن القبر سيكون إما روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النار، وأنك بعد ذلك تصير إلى المحشر، إلى موقف ترمى فيه جهنم بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر، فلو تصورت هذا الموقف لعلمت قدر الدنيا وفررت منها، ثم بعد ذلك تساق إلى الصراط - وهو جسر على متن جهنم أحدُّ من السيف وأدقُ من الشعرة - ثم إلى الميزان، ثم بعد ذلك تقف بين يدي ربك وبيدك صحيفتك، وتكشف لك حقائق نعمه سبحانه ومننه عليك، وجميل إحسانه إليك، ولطيف عنايته بك، مع غناه عنك وقدرته عليك، ثم ترى ما قابلت به مولاك من كفران نعمته، ومن الجحود به، ومبارزتك له بمخالفة أمره، والتستر من الخلق عند عصيانه جهلا منك أنه معك، وظلمك لنفسك باعتقاد أنك تملك وأنك تنفع وتضر، وتخلقك بأخلاق إبليس، وعملك بعمل البهائم، ومخالفتك للمرشد الناصح.
هنا - والله - تقشعر الجلود وتذوب القلوب، وتنسى حظ الدنيا، وتتمنى أن لم تكن شيئا مذكورا، ويقول العبد يا ليتني كنت ترابا، هذا مآل من نسى يوم الحساب.
أما إخواننا المؤمنون الذين عملوا بالسنة فإنهم لا يُحجَبون عن ربهم بل يُشْهِدهم جماله، ويمنحهم رضوانه، ولديها تحصل البهجة والسرور لمن سبقت لهم الحسنى، فينسون كل ما تألموا به في الدنيا، من الصبر على شرور الخلق وأذيتهم، والصبر على مر القضاء، فتكون فرحتهم لا تساويها فرحة، وسرورهم لا يساويه سرور.
فتأمل يا أخي تلك المواقف، واعتقد أن الدنيا نعيمها حساب وعقاب، والمهانة فيها غفران ورضوان. فإن لم تستطع أن تفر بجسمك ففر إلى ربك بقلبك، ولا تجمع على قلبك وجسمك الاشتغال بالدنيا عن الآخرة، بل اشغل قلبك بربك، واشغل جسمك بقدر ما فرض الله عليك في الدنيا وبيَّن لك، وإياك أن تتبع غير سبيل المؤمنين، فيضل من اتبع غير سبيل المؤمنين ويهلك، والحلال بيِّن والحرام بيِّن، والعالم بطريق الله لا يخفى إلا على قلب أعماه الحظ والهوى وقطعه الأمل والغرور، نعوذ بالله من حال يوجب غضب الله ويقرب من النار ونسأله فضله ورضوانه إنه مجيب الدعاء.




مذكرة المرشدين والمسترشدين
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبوالعزائم
الطريقة العزمية بمصر والعالم الإسلامي
_______________________________________
(1) هذا السكون هو معنى قول النبي ص: (اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) فالمسكين المراد هنا هو من لا يسكن إلى غير الله تعالى.
(2) توفي الإمام سنة 1937 حيث كان الزمان لا يزال يجود بمثل هؤلاء، فثقافة الإستهلاك و(الحَيْوَنة) إن صح التعبير - التي تنشرها الشركات متعدية الجنسيات أحد مشاريع الدجال الأمركي – لم تكن قد ظهرت بعد وعمت وطمت كما هي عليه الآن، فانمسخت الشعوب – والمسلمون أناس من الناس يتأثرون بما يتأثر به غيرهم، وإن كان المفترض فيهم أن يكونوا أصحاب رسالة كما هم، يؤثرون ولا يتأثرون، يهدون ولا يَضِلون.. ولكن الحقيقة المؤسفة أن المسلمون اليوم ليس لديهم وعي عام بهذه الحقيقة القرآنية عنهم وعن مكانتهم بين أمم الأرض (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمون بالله) وسبب فقدان الوعي قد بينه النبي ص حين بين أن علة العلل وسبب الهزيمة هي (حب الدنيا وكراهية الموت) قال الصحابي: (أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله) ؟ قال: (لا ولكنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوَهَن، قالوا وما الوهن يارسول الله ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) هذا هو مكمن الداء وبيت العلل. لأن مع هذا الداء لا ينفع توجيه قرآني ولا وعظ نبوي، لأن الحب يعمي ويصم، ومعه يتحول الهدى والنور إلى كلام مجرد كلام.. فالقرآن مثلاً يقول: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) هل من يحب الدنيا وجمع حطامها والتوغل في الحيوانية يمكن أن يرى أنه أُخرج للناس ؟!! نعم ربما خرج ليجمع الدنيا في كرشه لا أكثر! ويقول القرآن (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فلو آمنت الرأسمالية العالمية بالإستهلاك ودجل البراندات والماركات وأوهام الضرورة والحاجة، فهل يسع المحب للدنيا التحرر من تلك الأوهام؟ وهل يرجى أن يكون له وزن في عالم التفكير والحكمة ؟ أم أنه سينساق مع القطيع الذي يقوده بنو صهيون الذيم يحكمون العالم ؟
هذه هي الحقيقة المرة.. القرآن ليس له مكانة في قلوبنا لأنها مشغولة بأمور أخرى، وبالتالي فلن يصل نوره إلى البشرية، لن تنعم بالعدل والصدق والنزاهة والحرية من استعباد المادة، ما دام المسلم نفسه واقعاً في المصيدة ولا يستطيع حِراكاً.



#عدنان_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 26
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 25
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 24
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 23
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 22
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 21
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 20
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 19
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 18
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 17
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 16
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 15
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 14
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 13
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 12
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 11
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ ‎10
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 9
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 8
- من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله |‏ 7


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عدنان إبراهيم - من علوم الإمام أبي العزائم | الطريق إلى الله | 27