|
حتى لا تتكرر مأساة هيباثيا
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 6855 - 2021 / 3 / 31 - 03:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ هؤلاء الأدباء وحيلهم البارعة يلجأ الأدباء إلى حيلة ذكية، هي حيلة "الإسقاط التاريخي"، وذلك عندما يرغبون في نقد الأوضاع السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها مع تجنب مخاطر المواجهة مع السلطة سياسية كانت أو دينية. فتراهم ينتقون فترة تاريخية ليحملوها بكل عيوب مجتمعهم المعاصر، ويمضون قدما في تحليل أسبابها وكيفية مواجهتها وسبل التخلص منها دون خشية من تخوين أو تكفير. هكذا فعلها روائيون من أمثال جمال الغيطانى في "الزيني بركات" وسعد مكاوي في "السائرون نياما"، وكتاب مسرح من أمثال على سالم في "إنت إللى قتلت الوحش" ورشاد رشدي في "بلدى يابلدى"، وكتاب دراما تليفزيونية من أمثال يسرى الجندي في "جحا المصري". وإذا كان الأدباء قد أسقطوا الحاضر على الماضي ليتحرر قلمهم من وطأة السلطان، فإننا سنحذو حذوهم ولكن بطريقة عكسية ...! ... إذ سننتقى من الماضي واقعة تاريخية ونستخدمها كـ "عدسة مكبرة" تجسد لنا دقائق ما يحدث في واقعنا المعاصر وتكشف لنا بعض من خفاياه. والواقعة التاريخية التي سنستعين بها في فهم أحوال الحاضر حدثت في مدينة الإسكندرية سنة 415، وفى السنة الرابعة من عهد كيرلس الأول، البابا الرابع والعشرون للكنيسة المصرية. وهو البابا الذي وصفته المراجع الكنسية بأنه "عمود الإيمان" و"الأسد الجسور" و"أثناثيوس الثاني".
واقعة هيباثيا (للكبار فقط) في شهر مارس من عام 415م، وأثناء فترة الصوم الكبير (الأربعين المقدسة)، اجتمع حشد من مسيحيو الإسكندرية الأتقياء ... شديدي الإيمان ...! ... بقيادة واحد منهم يدعى بطرس أمام بيت هيباثيا. وهيباثيا (370-415 م) هذه هي الفيلسوفة السكندرية الشهيرة وعالمة الرياضيات التي حولت بيتها إلى جامعة صغيرة تعلم فيها، دون مقابل أو تمييز، مريديها من وثنيين ومسيحيين أصول الفلسفة والرياضيات والفلك. ويبدوا أن شعبيتها الجارفة وماتعلمه لطلابها من قواعد التفكير "العقلاني" لم تلقى هوى في نفوس الكثيرين مما استشعروا خطورة ما تبثه في عقول طلابها على سلطاتهم "الروحية". وبالطبع كان في مقدمة هؤلاء البابا كيرلس الأول "عمود الإيمان" وأتباعه المخلصين الذين حاصروا بيت الفيلسوفة في هذا اليوم المشهود. وماأن لمح حشد الأتقياء قدوم هيباثيا في عربتها حتى انقضوا عليها وانتزعوها منها وجردوها من ثيابها، ثم اقتاضوها عارية إلى كنيسة الـ "سيزاريوم" Caesareum. وهناك تم ذبحها باستخدام قطع من البلاط المكسور. ولم يكتفوا بذلك بل مضوا، في "غل" يتناسب مع عمق إيمانهم، في تقطيع جسدها. ويبدوا أن تمزيق جسد الفيلسوفة عاثرة الحظ لم يكن كافيا لشفاء غليل حشدنا المؤمن فرأيناهم يأخذون أشلاءها إلى مكان يدعى بالـ "سنارون" Cinaron ليحرقوها في سعادة ونشوة. وهكذا كانت النهاية المأساوية لـ "الفيلسوفة العذراء" التي شغلت الناس فشغفوا بها ووصفوها معاصروها بأنها تمتلك جسد أفروديت وروح سقراط. وكان موت هيباثيا هو بداية النهاية لعصر امتد لأربعة قرون كانت فيه الإسكندرية عاصمة ثقافية للعالم القديم ومدينة يتسع صدرها لكل التيارات الفكرية والديانات، سماوية وغير سماوية، وينشغل أهلها بإنتاج المعرفة وصناعة الحكمة.
حكاية "تا ميرى" مع الأتقياء الجدد كانت هذه واقعة مقتل هيباثيا، الواقعة التاريخية التي سنستخدمها في تأمل الأحوال المعاصرة لـ “تا ميرى". و"تا ميرى" هو الاسم الذي أطلقه المصريون على وطنهم والذي تعنى ترجمته الحرفية "أرضى المحبوبة"، وفضلوه على أسماءها الأخرى مثل "تا آخت" (أرض الفيضان والتربة الخصبة) و "كمت" (الأرض السوداء). واليوم تتعرض "تا ميرى" لمصير شبيه بمصير هيباثيا على أيدي أحفاد من قتلوها من غلاة الأتقياء المؤمنين ...! فكما جرد الأجداد هيباثيا من ملابسها نرى هؤلاء الأحفاد، للأسف الشديد، وهم يحاولون فعل نفس الشيء مع "تا ميرى". فنراهم يسعون جاهدين لتجريدها من تاريخها الذي يتجاوز 52 قرن (3200 ق.م – 2011 م) ليختزلوه في حقبة واحدة من حقبه المتعاقبة والمتواصلة. إنها حقبة "العصر العربي/الإسلامي" الذي عرب لسان المصريين وأثرى هويتهم بتعاليم الإسلام وامتد 14 قرن منذ غزو العرب لمصر سنة 640 وحتى يومنا هذا ليشكل بذلك 27% من تاريخ الأمة. وهكذا يسقط هؤلاء الأتقياء عن عمد وسوء قصد ونية ثلاث حقب أسهم كل منها في تكوين الرصيد الحضاري للأمة المصرية الذي يميزها عن بقية الأمم. والحقبة الأولى هي حقبة "عصر التأسيس" الذي غطى الـ 29 قرن الأولى من عمر الأمة (3200 ق.م – 332 ق.م) أي ما يعادل 56% من تاريخها. وهو العصر الذي تشكلت فيه النواة الصلبة للهوية المصرية نتيجة لتفاعل الإنسان المصري مع بيئته الطبيعية موقعا وموضعا. أما الحقبة الثانية فهي حقبة "العصر الهلنستي" الذي تزاوجت فيه حكمة المصريين مع فلسفة اليونانيين واستمر ثلاثة قرون (323 ق.م -30 ب.م) ليمثل 6% من تاريخ الأمة. ثم كانت الحقبة الثالثة وهي حقبة "العصر المسيحي" الذي أثرى الهوية المصرية بما بشر به السيد المسيح واستمر حوالي 6 قرون (33-640 م) أو ما يعادل 12% من عمر الأمة. وهي الحقب التي مازالت آثارها تفعل فعلها في ثقافة المصريين المعاصرين. ويتغافل هؤلاء الأحفاد أنهم، باختزالهم تاريخ الأمة المصرية في حقبة واحدة، إنما ينتقصون من رصيدها الحضاري الذي يمنحها تفردها وتميزها ويشكل الأساس لـ "قوتها الناعمة". وكما قطع الأجداد جسد هيباثيا نرى أحفادهم وهم ينشرون ويروجون لمقولات تنهش في جسد الوطن. فهم بادئ ذي بدء لا يعترفون بوجود "الأمة المصرية" ككيان واضح الملامح محدد السمات أصول تكوينه ضاربة في عمق التاريخ وشواهد وجوده وتمايزه واضحة وضوح الشمس في وضح النهار. ونراهم عوضا عن ذلك يتحدثون عن كيانات ملتبسة الدلالات من قبيل "الأمة العربية" و"الأمة الإسلامية". ولا يكتفى هؤلاء الأحفاد بإنكارهم لوجود "الأمة المصرية" بل نرى في مقولاتهم تمييز بين أفرادها على أساس عقائدهم هادمين بذلك مبدأ "المواطنة"، المبدأ المؤسس لوحدة الوطن وتماسكه.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اتفرج يا سلام
-
عقل في خطر: الحالة المصرية (2/2)
-
عقل في خطر (2/1)
-
الحقيقة بين -نظرية المؤامرة- ومنظومة العلم-
-
مجتمع الإبداع وثقافة الإتباع
-
القوة الناعمة وعالمنا الافتراضي
-
جبر الحداثة: خلاصة القول (4/4)
-
جبر الحداثة: من فكر البساطة الى فكر التعقد (4/3)
-
جبر الحداثة: المبادئ العامة (4/2)
-
جبر الحداثة: حضارة التمكين (1/4)
-
صناعة الابداع
-
صعود وهبوط التخصصات العلمية
-
تقييم من حَكَم
-
ولهم فى الكلاب شفاعة
-
هكذا تحدثت علوم -ما بعد الحداثة-
-
المعرفة ثورة وثروة
-
الاعجاز العلمي في ألف ليلة وليلة
-
حكايتي مع الدوق دي بروي
-
مشاهد من المستقبل المنظور
-
وهَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَ
...
المزيد.....
-
الكنيسة الكلدانية بمواجهة « بابليون» .. صراع النفوذ بين الصل
...
-
شرطة لندن ترد على مزاعم محامٍ يهودي: توقيفه لم يكن بسبب نجمة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: فليستمر ترامب بالوهم!
-
كنائس الموصل التاريخية تُفتح من جديد بعد ترميمها من دمار تنظ
...
-
بسجن إسرائيلي.. إطلاق رصاص مطاطي على أسير فلسطيني طالب بمعال
...
-
كيف استغل الإخوان مظلة الحريات لـ-التسلل الناعم- في أوروبا؟
...
-
خطيب الأقصى يدعو الفلسطينيين للرباط والدفاع عن المسجد
-
قائد الثورة الاسلامية مخاطبا ترامب: استمر في أحلامك!
-
من المشرق إلى المغرب.. حكايات الآثار الإسلامية
-
493 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
المزيد.....
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
المزيد.....
|