|
ابراهيم ناجي و شعر من الوجدان
احمد الحمد المندلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 6850 - 2021 / 3 / 26 - 23:22
المحور:
الادب والفن
# ابراهيم ناجي احد ثلاثة من كبار الشعراء اخذوا مكان الصدارة بين شعراء الحركة الوجدانية ـ او الرومانسية ـ في مصر ، والشاعران الآخران هما علي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل ، وان زخرت تلك الحركة بكثير من المواهب الشعرية المرموقة ، على اختلاف في المستوى او الاتجاه . كان ابراهيم ناجي ـ في مطلع الحياة الفنية لهؤلاء الثلاثة ـ اقربهم حين ذاك ال نفوس الشباب ، وذلك لعكوفه على تجربة الحب المثالية ، ولتلقائية تعبيره ، وسهولة معجمه ، ويسر صوره ، ولذلك الشجن الرقيق الذي يشيع في اغلب قصائده ، ثم امتد الزمن وتوزعت مشاعر الشباب واختلفت مداركهم واذواقهم ، فتقاسم الثلاثة اهتمام محبي الشعر ونقاده ودارسيه . وتشيع عن بعض الادباء ـ بين الناس ـ صورة يختلط فيها سلوك الاديب وحياته ـ او ما يقال عنها ـ بابداعه وفنه ، اختلاطا يفضى الى كثير من الاحكام والآراء التي تبدو غير صحيحة ـ او مسرفة ـ اذا اعاد الدارسون النظر في ابداع الاديب بمعزل عما شاع عنه بين الناس من سلوك واخبار . وقد شاع عن ناجي انه شاعر غزل ، متنقل الهوى ، عاشق لمجالس السمر ، قد يصدق عليه قول صاحبه عمر بن أبي ربيعة تتهمه بالملال والبحث عن كل طريف جديد : فوجدناك ـ اذ خبرنا ـ ملولاً طرِفا ، لم تكن كما كنت قلتا او قولها : متنقلا ذا قلة طرفا لا يستقيم لواصل ابدا وكثيرا ما اغرى اختلاط السيرة بالابداع عند هذا الشاعر بعض الدارسين ، فراحوا ينقبون عن صلته العاطفية بصديقة مجهولة ، او فنانة ، او حبيبة رمز اليها بحرف من الحروف ، وهذا منهج لا ماخذ عليه اذا كانت غايته جلاء سيرة حياة الشاعر دون ان تفرض وقائعها على فنه وابداعه . ومن يقرأ شعر ناجي بمعزل عما شاع من سيرته وميله ، يفاجا بشحوب غير قليل في صورة المرآة التي يفترض الدارسون انها كانت ـ بشخصها ـ محورا اساسيا لتجاربه الشعرية . ولاجدال في أن المرآة تطل من وراء اغلب قصائد ناجي العاطفية ، لكنها تبدو مجرد اثارة للتعبير عن رؤية وجدانية للحياة ، تقف حائرة بين ماض قد انقضى وغد مجهول ، بين افتقاد ما لا يعود وما لن يعود ، وانتظار ا لا يجيء ، ومن لايجيء ، او خوف مما قد يجيء . وبين فقد الامس وترقب الغد تختفى اللحظة الحاضرة بما تفرض من مواجهة وما تحمل من وهج ، ويصبح الماضي مجرد ذكرى حجرات خبا لهيبها وغشاها الرماد ، يجد الشاعر في استعادتها بعض دفء لا ينفى ما في الحاضر من برد أو ركود : تمر ذكرى وراء ذكرى وكل ذكرى لها دموع وتعبر المشجيات تترى من كل ماض بلا رجوع
أو قوله : ياغلة المتلهف الصادي يا آيتي وقصيدتي الكبرى
ماذا تركت لدى من زاد الا استعادة هذه الذكرى ؟
ذلك هو الماضي الذي لن يعود ، أمام الغد فيبدو بعيداً يستحيل ان تسفر عنه اللحظة الحاضرة بما فيها من ملال وركود ، الا اذا راه الشاعر بعين الوهم أو الخيال : هات قيثاري ودعني للخيال واسقني الوهم وعلل بالمحال خلني بالشوق واستدعي غداً فغدا عندي كآباد طوال
ويجمع ناجي بين ذكريات الامس واماني الغد فيقول : التقت ارواحنا في ساحة كغريبين استراحا من سفر
وحططنا رحلنا في واحة زادنا فيها الاماني والذِكر
ولعل هذه الواحة التي حط فيها المحبان رحلهما الى حين صورة مما اشرنا اليه من الوجود العابر للحظة الحاضرة ، وخلوها من المواجهة والاحتدام ، واعتمادها على الاحلام الذكريات . وبين هذين القطبين من الأمس والغد تصبح المرأة رفيقة سفر ، او ذكرى بعيدة ، يأسي لها الشاعر في شجن رقي ، او رؤيا أو حلم تختلط فيه الحقيقة بالخيال . وهكذا تصبح اللحظة الحاضرة عابرة ، يرقبها الشاعر ببصر الحكيم ـ او المبتعد عن معترك الحياة ، يعجب لاقتتال الناس حول ما هو اتفه من أن يُقتتل عليه . جلست يوما حين حل المساء وقد مضى يومي بلا مؤنس
اريح اقداماً وهت من عياء وأرقب العالم من مجلس
كم صحت اذا أبصرت هذا الجهاد وميسم الذلة فوق الجباه
واحسرتا مما يلاقى العباد اكل هذا في سبيل الحياه ؟ ومرة أخرى : مكاني الهادىء البعيد كن لي مجيرا من الانام
قد أمَّك الهارب الطريد فآوه انت والظلام
يا حسنها : ساعة انفصال لاضنك فيها ولانكد
يا حقبة الوهم والخيال هلا تمهلت للأبد ؟
ولآن الشاعر لا يلقى بتجربته في خضم الحياة نفسها ، ويكتفي بالرصد والمشاهدة من مجلسه البعيد ، تبدو نظراته في النفس والناس والحياة فاترة خالية من الرؤى المتعارضة والرغبات المتصارعة ، وقد يبدو الفرق واضحا بين هذا الموقف " الساكن " وموقف محمود حسن اسماعيل المتمرد . وحين تجيء التجربة صورة لذكرى لن تعود او لما لن يتحقق تغدو عند ناجي تجربة حب مطلق يجد الشاعر في بعض لحظاتها القليلة شيئا من الروح ، وفي كثير من لحظات خداعها وفرقتها شيئا من الحزن ، لكن الرَّوح لا ينتهي عنده الى البهجة ، ولا يبلغ الحزن حد اللوعة ، اذ يجيء كلاهما عن طريق الحكاية ، لا العيش والمواجهة . على ان ناجي في قصائد قليلة ،حين يحيل الماضي الى لحظة حاضرة يعيشها من جديد ، او الغد الى رغبة عارمة تجسد الحلم المستحيل ، يُضفي على صوره كثيرا من الحركة والمفارقة والحياة النابضة ، كما في رائعته " العودة " رفرف القلب بجنبي كالذبيح وانا اهتف يا قلب اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح لـِمَ عدنا ؟ ليت انا لم نعد
والانتظار شعور رومانسي غالب يتردد عند شعرائنا الثلاثة وعند غيرهم من الوجدانيين ، وهو عند علي محمود طه ـ في قصيدته انتظار ـ محاط باطار من مشاهد الطبيعة الرقيقة ، وعند محمود حسن اسماعيل بعناصر طبيعية جامحة . اما ناجي فيبدو في لحظة انتظاره مستكينا لضياع الامل وخيبة الرجاء ، وان استعان على غير عادته بعنصر عابر من الطبيعة الهوجاء كشف في وسط قصيدته وفي ختامها الرماد عن جمرات ما زال بها رمق من لهيب : تعال ، فلم يعد في الحي سار وهوّمت المنازل بعد وهن
وران على نوافذها ظلام و قد كانت تطل كالف عين
تعال ، فقد رأيت الكون يحنو علي ، ويدرك الكرب الملمّا
ويجلو لي النجوم فازدريها وأغمض لا أريد سواك نجما
ومنتظر بابصاري وسمعي كما انتظرتك ايامي جميعا وهل كان الهوى الا انتظارا شتائي فيك ينتظر الربيعا ؟ أرى الآباد تغمرني كبحر سحيق الغور مجهول القرار ويأتمر الظلام علي حتى كأني هابط اعماق غار وتصطخب العواصف ساخرات وتطعنني باطراف الحراب وتشفق بعدما تقسو فتمضي لتقرع كل نافذة وباب وقد عرف كثير من الرومانسيين ـ ومنهم علي محمود طه و حسن اسماعيل ـ باتخاذهم مشاهد الطبيعة اطارا للتجربة العاطفية ، او خلفية لها ولكن ناجي لا يحفل كثيرا بالطبيعة ، وهي عنده لا تعدو أن تكون ميقاتا للتجربة العاطفية في المساء أو الليل او السحر او الصباح ، وتظل المرأة عنده رمزاً منفرداً للحب والجمال والحنان والامان والغدر والتقلب وساعات الصفاء والفرقة ، لكنه ينفي عنها ـ مادامت ـ وجودها الشخصي لتغدو كيانا مطلقا ،حتى حين يوجه تجربته الى امرأة بعينها . لذلك بوجه الشاعر خطابه العاطفي في كثير من قصائده بضمير المذكر مشيرا الى " الحبيب " المطلق غير المحدود ، فيقول : يا حبيبي ـ يا هاجري ـ يا قاسي البعد ـ قل للبخيل ـ يا حبيب الروح ـ يا ديار الحبيب ـ هبني اسأت . . وهو حين يخاطب امرأة بعينها ويسميها باسمها ، يختار ـ لها في الاغلب اسماء " شعريا "مما جرى تردده في الشعر العربي العاطفي القديم ، مثل : ليلى وهند ومي ، الا في قصائده معدودة وجهها الى " زارا " و " سونيا " و " س " . وحين يقصر الشاعر تجربته في حدود الحب المطلق وحده تبدو صوره يسيرة ومعجمة غير رحب وصوره المجازية غير مركبة ، لكنه يستعيض عن ذلك ببعض المماثلة او المفارقة او التمهيد الموفق للقافية ، وبانسياب العبارة في ايقاع هادىء شجي . ويفلح الشاعر أحيانا ـ مع التزامه بتلك السمات ـ في تجسيم بعض العواطف تجسيماً بديعا يتجاوز المجاز المفرد الى صورة كلية تحيل العاطفة الى كيان نابض بالحياة ، ولعل من اجمل ما وفق فيه تجسيمه للحنين في صورة طفل يتمرد ـ حين يشب ـ على من غذاه واحتضنه ورباه : امسى يعذبني ويضنيني شوق طغى طغيان مجنون أين الشفاء ؟ ولم يعد بيديالا اضاليل تداويني ابغى الهدوء ، ولا هدوء وفي صدري عباب غير مأمون يهتاج ان لج الحنين بهويئن فيه أنين مطعون ويظل يضرب في اضالعه وكأنها قضبان مسجون ويح الحنين وما يجرعني من مرِّه ويبيت يسقيني ربيته طفلا بذلت له ما شاء من خفض ومن لين ******* م/1-ابراهيم ناجي ..شاعر الوجدان 3- ديوان ابراهيم ناجي 2- نشر في الوفاق الدولي- العدد : 1168 بتاريخ 26/8 /2001م .
#احمد_الحمد_المندلاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أرشيف حقوق الإنسان /1
-
التهكم السياسي في الشعر العراقي المعاصر
-
كتابات مندلاوية 52/نساء 4
-
كتابات مندلاوية 50/نساء2
-
قصة مثل..29/2021م
-
حلبجة في ذاكرة المندلاوي/3
-
الصافي النجفي و رباعيات الخيام
-
حلبجة في ذاكرة المندلاوي/2
-
كتابات مندلاوية 49/بوياقي
-
كتابات مندلاوية 48/نساء1
-
كتابات مندلاوية 47/اغتيال
-
الهدية في الشعر العربي
-
كتابات مندلاوية 46/محراب الوفاء
-
انتصار..
-
كتابات مندلاوي -45/صلاح
-
نوروزنا في مندلي
-
شخصيات كوردية فيلية
-
باب النجاة ..
-
مع الشاعرة ناهيد
-
حلبجة في ذاكرة المندلاوي /1
المزيد.....
-
كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا
...
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|