أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ناهد بدوي - في العنف معكوساً















المزيد.....

في العنف معكوساً


ناهد بدوي

الحوار المتمدن-العدد: 6847 - 2021 / 3 / 21 - 02:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


"بدون دولة" مسلسل استرالي يحكي عن العنف وعن ممارسة العنف في معسكرات اللجوء في استراليا وعن التشوه البشري الناجم عنه بالاتجاهين. العسكري الأسود قصة للكاتب المصري يوسف ادريس يحكي العنف وممارسة في السجون المصرية وعن التشوه البشري الناجم عنه بالاتجاهين. تفاهة الشر كتاب للكاتبة الأمريكية حنة أرندت يحكي عن العنف وممارسة العنف في معسكرات الاعتقال النازية وعن التشوه البشري الذي خلقته آلة العنف الرهيبة على البشر عندما تحولوا الى أدوات العنف البشرية. التشوه بالاتجاهين، أي التشوه البشري الذي يقع على شخصية الممارس للعنف كما يقع على شخصية الممارس عليه العنف في الوقت ذاته، العنف الذي يسبب التشوه البشري معكوسا على الفاعل.
حسمت فكريا فكرة مناهضة العنف وآثاره المدمرة على البشر الذي يمارس عليه من قبل أخيه الإنسان منذ أواخر القرن التاسع عشر. وحسمت قانونيا منذ الستينات من القرن العشرين في الكثير من بلدان العالم التي وقعت على اتفاقيات حقوق الانسان ومناهضة التعذيب ومناهضة العنف ضد المرأة والطفل .... الخ. فقد ناضل البشر ضد عنف الانسان لأخيه الانسان منذ زمن بعيد، وأنتج هذا النضال في أماكن متعددة وخلال تواريخ متعددة تلك الاتفاقيات التي أصبح التوقيع عليها والالتزام بها هو شرط بناء أي مجتمع صحي مناسب لنشأة مواطنين أحرار ومتوازنين نفسيا واجتماعيا واقتصاديا. فما الذي يحصل في العالم؟ ولماذا يتم العودة دائما الى طرح هذا الموضوع وإلى ضرورة النضال ضده حتى في البلدان التي انتصرت فيها حقوق الانسان؟ مع أننا كنا نظن أنه حسم منذ زمن طويل بدون رجعة. أعتقد أن ما ينقص العالم الآن هو دراسة وتطوير العنف معكوسا على ممارسه. مع أن هناك الكثير من الدراسات حول ذلك في النصف الثاني من القرن العشرين وكذلك الكثير من الأعمال الأدبية والفكرية التي تناولت هذا الجانب وسأتكلم عن ثلاثة منها هنا.
لفتت الفيلسوفة حنه ارنت النظر الى أنه من الضرورة العودة إلى مسألة الشر والعنف الممارس ضد البشر لصياغة فكرةٍ فلسفية واضحة ولتطوير بعض الأفكار حول هذا الموضوع. وركزت على تأثير العنف السياسي على البشر وخاصة على الأدوات البشرية التي تستخدمها الأنظمة الشمولية والمستبدة لممارسة العنف. رصدت ارندت في كتابها "تقرير حول تفاهة الشر"، ثلاثة مفاهيم فلسفية متصلة بهذه المشكلة وهي: الفكر، والإرادة والحكم؛ فالشر لم يكن ناتجًا عن البلادة والغباء عند أدوات العنف وإنما هو تعبير عن غياب الفكر، فقر في الفكر. هو تعبير عن التفاهة، تفاهة الشر كما أطلقت عليه. انطلقت حنة أرندت من أن البشر عندما يفقدون النشاط الذاتي للفكر بما هو فكر، أي القدرة على الفحص والتحليل والتمييز، هذه القدرة، هي وحدها قادرة على أن تجنِّبنا الشر والعنف. وفقدان هذه القدرة هي التي تجعل البشر يكفون عن أن يكونوا بشرا بتحولهم الى الة تنفذ ما أراده غيرهم.
في الأنظمة الشمولية والمستبدة يختلط فيها العنف بالفعل السياسي، وتتلاشى فيها الحدود بين المجال العام والمجال الخاص. سواء كان هذا المجال الخاص ديني أم غيره من المجالات الخاصة، مما أدى إلى نتائج كارثية لم يكن ثمنها دماء هدرت بغير حق فحسب، لا بل تركت بصماتها على مجال التربية وتكوين الأجيال الجديدة التي نشأت في هذه الأجواء. وبالمقابل رأينا في سورية كيف تحولت الاندفاعة الثورية مع استمرار العنف الى نزاعات على أهداف خاصة لا تخص ما أجمع عليه الشعب السوري بثورته، والتي تتلخص باستعادة الحرية والكرامة. كما شهدنا كيف تلاشت الحدود في بعض الأحيان بين الأطراف المتصارعة، فلم تكن داعش الا الوجه الآخر لنظام الاستبداد. وكذلك عملية خطف الأربع ناشطين الهاربين من بطش النظام التي ارتكبتها جهة تدعي معارضتها للنظام. ولكنها قامت تماما بمهمة النظام الاستبدادي وصبت في طواحينه. فالاستبداد يناصر الاستبداد دائما حتى ولو تهيأ له أنه يعارضه. وذلك عندما يصبح "العنف أمرًا عاديًّا جدًّا على نحو لا يطاق" على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بورديو.

من أجل كل ذلك أعتقد أن علينا مراجعة مفاهيمنا ودراسة مدى تأثير ممارسة العنف الطويل علينا، ومراجعة تصورنا لفعل الحرية والسلطة وأدواتها، وكل المفاهيم التي تؤطر وعينا السياسي وسأركز هنا على ضرورة وعي خطورة ممارسة العنف التي تقتلنا كبشر ونحن نحاول انتهاك المختلفين عنا، وأنه علينا أن نؤمن بأنه لا يوجد أي ذريعة يمكنها أن تبرر ممارسة الانتهاك بحق أعدائنا ليس رحمة بهم فحسب بل رحمة بنا أيضا، لأنها تقتل فينا حلمنا ببناء بلد حر وكريم.
يوسف ادريس في قصته "العسكري الأسود" عبر عن العنف معكوسا على نحو مبدع. عن التشوه البشري الناتج عن العنف بالاتجاهين. التعذيب في السجون السياسية الذي نتج عنه مخلوقات شوهاء بالاتجاهين. فالخاضع للتعذيب وصفه بجملة "ما أغربه من كائن فقد أمنه البشري" ولكن ريادته كانت بتوصيف التشوه البشري الذي ينال الجلاد، العسكري الأسود. "حين كان العسكري الأسود يضرب كان من يراه لا يظن أبداً أنه يمت إلى الإنسان أو الحيوان بصلة، ولا حتى للآلة فالآلة لا تبدو على وجهها المتعة المتوحشة وهي تضرب، ويا لخسة ضربه لأن المضروب لا يملك حرية الرد".
يتربع الإنسان، الكائن البشري، بما هو قيمة بحد ذاتها بمعزل عن توجهاته وأفكاره في أول سلم الأولويات عند يوسف ادريس. هذه القيمة الثمينة التي نرتعب عندما نراها تنتهك بهذه الطريقة. ويدفعنا الكاتب دفعا إلى حقيقة مفادها أن رعاية الإنسان في الإنسان وحماية صفاته البشرية الثمينة هي أهم من كل الأفكار والأيديولوجيات والمصالح التي وجدت أصلا من أجل الإنسان واغترب كثير عنها وعن أساسها الجوهري هذا. يقول يوسف ادريس "يتحول الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر، وكأنه إنسان يتهدم إلى أعلى، ويسعده الألم الذي يحدثه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة، وبإرادة أيضاً يقتل استجابة البشرية للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم والتقوض وبلوغه هو أخس مراحل النشوة المجرمة التي لا يستطيعها من المخلوقات جميعها ولا يستمتع بها غير الإنسان المنحط في الإنسان". وفي نهاية القصة نرى نسمع أنقاض الجلاد وهي تعوي ونشاهد كيف يبدأ بأكل ذاته مبتدءا بيده.
في فيلم "بدون دولة" يفرح، كام بوظيفته الجديدة كحارس في مخيم اللجوء فهو استطاع الحصول على أجر أفضل مما كان عليه في عمله السابق مما يؤمن لزوجته وأولاده الصغار حياة لائقة. وسرعان ما يجد نفسه ممزقًا بين شعوره الطبيعي في رفض العنف المفرط الذي مارسته الشرطية أمامه وبلغ عنها للإدارة في المرة الأولى، وبين الحفاظ على راحة عائلته وحرصه على عدم خسارة وظيفته، حاول التأقلم مع الحياة الجهنمية في المخيم. صدمته بعنفها ولا انسانيتها في البداية ولكنه خضع لها بتشجيع من زوجته التي لم تدر انها بذلك ستخسرهـ عندما يفقد انسانيته.
بدأ تشوه شخصية كام منذ أول تنازل له على ممارسة العنف ثم تغول العنف في وظيفته حتى انقلبت حياته، وفقد صفاته البشرية واحدة وراء الأخرى، وعائلته التي كانت هدف عمله هذا صارت ضحية لتحوله وفقدانه لبشريته، فتعامله مع أولاده صار عنيفا ويرميهم على الأرض كما تعود أن يرمي اللاجئين على الأرض. وجاء المشهد الأخير في الفيلم ليلخص الدلالات العميقة التي يرمي لها الفيلم. نراه في هذا المشهد يمارس الجنس مع زميلته الشرطية على نحو عنيف أشبه بالحيوان. عندما فقد احترامه لنفسه فقد انسانيته، وعندما خسر نفسه من أجل أن يوفر حياة كريمة لعائلته، خسر حبه لعائلته، خسر الحب الذي يميز الانسان، وصارت ممارسة أي سلوك مشين أو. جريمة قضية بسيطة بالنسبة له. رسالة الفيلم واضحة ولا تدافع عن اللاجئين فحسب بل تدافع عن استراليا. قيمها الإنسانية فعندما تنتهك إنسانية اللاجئين سوف يترافق معها انتهاك حقوق المواطنين أنفسهم ونتهك صفاتهم الإنسانية أيضا.
إذن علينا ألا نكتفي بمسلمات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو حول العنف المشروع الذي يتمثل في عنف الدولة التي تكتسب شرعيته من العقد الاجتماعي الذي يعقده المواطنون فيما بينهم. بل من الضروري المراقبة الدائمة لهذا العنف ومدى تأثيره على ممارسيه الشرعيين فالشرعية لا تلغي حقيقة تعرضهم للتشوه البشري، الأمر الذي سوف يجعله يخرج عن الشرعية التي أعطاها له الدستور. وهذا ما رأيناه في تصاعد عنف البوليس في أمريكا وفرنسا ونزول الناس الى الشارع ضده في الفترة الأخيرة.

أجواءنا السورية تحكي أيضا عن العنف وعن ممارسة العنف منذ عشر سنوات، وعن التشوه البشري الناتج عنه بالاتجاهين. فبعد عقود طويلة من تلقينا للعنف في النظام الديكتاتوري انتقض الشعب السوري ضده وضد كل أشكال العنف التي كان يمارسها عبر آلة العنف الرهيبة التي بناها على مدى عقود، والتي اعتمدت على نحو أساسي على الأداة البشرية الرهيبة، انتفض الشعب السوري واستخدم العنف الثوري المشروع في الدفاع عن النفس، ولكن عدم مناقشة موضوع العنف من حيث المبدأ والتشوهات التي تترتب على ممارسته بالاتجاهين أدى مع الزمن الى إعادة انتاج استبداد من نوع أخر. لأن الأفكار التي لا يتم مراجعتها ونقدها يتم إعادة انتاجها على النحو ذاته الذي تربينا عليه. أعتقد أننا كسوريين جميعا نحتاج لنقاش موضوع العنف والتشوه البشري الناجم عنه ليس بكلا الاتجاهين، وانما بالاتجاه المعكوس على أداة العنف بعد أن كتبنا كثيرا عن تأثيره على الانسان الذي يقع عليه العنف. فحتى الآن مازال في بلادنا من يفتخر بأنه يمارس العنف على الآخر باعتباره تعبيرا عن سلطة، والسلطة مفخرة بالنسبة له، ولكنه لا يدري أنه تشوه وفقد انسانيته، وتحول الى كائن آخر متوحش، والأولى به أن يخجل ويتوارى عن الأنظار ويخفي فضيحته تلك، لا أن يفتخر بها بكل وقاحة.



#ناهد_بدوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكان النازح - مكان لا يمكن أن يملأه أحد
- تقاطع القمع السياسي مع الجندر
- ساحة باريس السورية
- طوبى للهجين-عربي المستقبل- والتحرر من سطوة الصورة النمطية
- رزان ليست أسطورة ياسيد زهران ولكن ؟
- آه ياماريا.. كم نحتاج إلى الحرية
- شهادة عن الاعتقال السياسي في سورية
- لماذا يحمل ترافق اسمي رزان وسميرة رمزية قوية؟
- جنيف الثاني وصفقة تبادل الأسرى والطائف
- لماذا لم يجدي كذب النظام السوري هذه المرة؟
- هل هذا الغباء هو من واجه الثورة السورية؟
- ومضة..حطام ماقبل الثورة
- الأقليات بين الهامش والمتن - عودة إلى فرانز فانون
- هجاء الطائفية
- أبونا باولو ومشاعرنا الطائفية وبوسطن
- مشاعر البرامسيوم
- الثورة السورية: مقابلة من الداخل
- لماذا الفلسفة النسوية الآن؟
- الشرعية المؤقتة، وبوصلة الثورة السورية
- لم يكن موتك مواتيا لنا


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ناهد بدوي - في العنف معكوساً