أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - إدريس سالم - كافكا في «المحاكمة»: ها أنا أموت مثل كلب حقير















المزيد.....

كافكا في «المحاكمة»: ها أنا أموت مثل كلب حقير


إدريس سالم

الحوار المتمدن-العدد: 6831 - 2021 / 3 / 4 - 00:47
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في النهاية، ليس بيدك إلا أن تقبل الأشياء كما هي. وقبل هذا وذاك، لا تلفت الأنظار إليك! اِبقِ على فمك مغلقاً، مهما كان ذلك ضد طبيعتك! وجب أن تفهم أن وراء هذا النظام العظيم للعدالة حالة من التوازن.
فرانتس كافكا – المحاكمة


أفكار فلسفيّة عميقة ونفسيّة غزيرة. قهر. ظلم. إعجازيّة مستفحلة. بيروقراطيّة وشموليّة. اضطهاد سياسيّ. دراما في القوانين. معاداة الذاتيّة المستلبة. تجرّد من الإنسانيّة والهوية الروحيّة والواقعيّة. الجميع مذنب دون استثناء. مدخل للتعبير عن أعماق النفس البشريّة في عالم العبث والعدم. صور وإسقاطات أدبيّة حقيقيّة لمصير شخصيّة غامضة ومجهولة. خيال موسوم بالخصوبة الفكريّة والثراء اللغويّ بلاغيّاً ورمزيّاً. استمرار إثارة تأويلات متنوّعة بحبكة ممتعة. تصوير أحداث غير واقعيّة بطريقة تبدو واقعيّة... وغيرها الكثير من القضايا الجوهريّة التي يحاور بها الروائيّ والأديب التشيكيّ «فرانتس كافكا» عالمنا الراهن الواهن على لسان بطله «جوزيف ك»، الذي يقود بطولة روايته «المحاكمة»، الصادرة عام 2018م بطبعتها الجديدة عن دار «الرافدين» للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، بالتعاون مع «منشورات تكوين» في الكويت، ودار «ممدوح عدوان» للنشر والتوزيع في دمشق، ترجمها الناقد السوريّ «نبيل الحفار»، والبالغ عدد صفحاتها (272) صفحة.

يسرد كافكا تفاصيل روايته التي نُشرت بعد موته من خلال شخص يدعى «جوزيف ك»، وهو رجل مستقيم دؤوب في عمله وكيلاً قانونيّاً في بنك ما، تبدأ باستيقاظه في يوم ميلاده الثلاثين، ليرنّ جرس منزله، فيفتح الباب وإذ برجلين يدخلان غرفته، ويخبرانه بأنه مطلوب للمحاكمة في يوم الأحد من طرف محكمة غير معروفة، ولكنهما لم يوضّحا أيّة قضية يتّهماه فيها، أو في أيّة جريمة يجري استجوابه، فيأكلان فطوره، ويبتزّانه ماليّاً، ويحاولان السطو على ملابسه.

هذه الرواية تتشابه بداية أحداثها مع رواية «التحوّل»، حيث أن جوزيف ك وغريغور سامسا استيقظا من نومهما، وإذ يتفاجآن بما لا يتوقّعانه، مع فرق بسيط، هو أن جوزيف ناضل ورفض الاستسلام، على عكس غريغور، الذي بقي أسير أفكاره وتساؤلاته.

ومع تفاعل الأحداث وتعقيدها وتعثّر «جوزيف ك» في معرفة جريمته يبدأ في البحث والمتابعة للدفاع عن نفسه بشتّى الطرق مع محاميه، لكن ما يواجهانه من صعوبات يتمثّل في عدم معرفة ما هي جريمته، وكثرة المفاجآت، فكيف لفرد أن يدافع عن براءته وحياته في حين يجهل ما ارتكبه في الحياة من ذنب؟ لا خيوط أمل، وخيوط الألم تتشابك في كلّ مكان، طيلة عام كامل.

لم يكن عدم معرفة نوع الجريمة التي اقترفها كافكا عائقاً أمامه لاستكمال أحداث روايته، خاصّة مع انسحاب المحامي الخاصّ به وعدم تمكّنه من إنقاذ «ك»، ليبقى الأخير – طيلة عام وبكوميديا سوداء وساخرة جدّاً – وحده أمام مؤسّسة قضائيّة طاغية تمارس بيروقراطيّة عقيمة عميقة، ترفض أن تخبره لماذا تحاكمه وإلى متى يستمرّ به الوضع هكذا، حتى تتسلّل روح اليأس والإحباط والاكتئاب إلى أحاسيس وأفكار «ك» الذي كان رجلاً نزيهاً يرأس أحد البنوك الكبيرة، ممّا أجبرته طغيان تلك المؤسّسة إلى أن يتحوّل إلى رجل متلاعب يحاول إخراج نفسه من المأزق الغامض واللجوء إلى سُبل غير شرعيّة، لإثبات براءته واكتشاف الحقيقة.

المحاكمة هنا وكأنها لعبة خطيرة وخبيثة وليست رواية، هي لعبة البقاء والفناء، فحتى تبقى الحياة ملكاً لجوزيف ك عليه أن يحظى بحقّه في المحاكمة، وحتى يفنى لا بدّ من النطق بالحكم. رواية مليئة بالإسقاطات المتعلّقة بعبثية الوجود، وما هو سرّ الوجود، والبحث غير المجدي للإنسان عن معنى لحياته. تطرح أسئلة حول القهر والظلم وغياب العدالة واستفحال البيروقراطيّة في المؤسّسات القضائيّة والحياة عامّة. لماذا وجد الإنسان على هذا الكون؟ ولماذا يتعذّب؟ ولماذا يموت بطريقة رخيصة؟

عند انتهائي من قراءة الرواية – مرّتين – هاجمتني أسئلة كثيرة كانت تطرحها عن حياة كافكا والحياة بشكل عامّ، خاصّة وأن الغرض الكتابيّ – الإسقاطات كثيرة ومتعدّدة ومتنوّعة، وأهمّها ولو أنني سأختصرها: ماذا أراد أن يقول وهو يكنّى البطل برمز (ك)؟ لمَن كان كافكا يؤسّس المحاكمة؟ هل كان يحاكم نفسه، أم أنه كان يستعرض عذاباته النفسيّة الذاتيّة تحت المجهر من وضدّ البيروقراطيّة المقيتة والأنظمة الطاغية؟ هل كان يضع والده (المستبدّ) على مذبح الغفلة ليُحاكمه على ذنب مجهول، سواء بالنسبة له أو حتى بالنسبة للوالد نفسه؟ هل من المُحتمل أن يكون كافكا نفسه هو أحد القضاة، أم أنه حياة الذي لا متصرّف له ولا حيلة هي تجسيد مُصَغَّر لحياته؟ ما هي تلك التهم التي سيحاكم بسببها؟ هل هي تهمة أنه ما زال على قيد الحياة، أم أن هذا الكيّه المُحتقَر كان عبداً لمصادفة غامضة كُتبت في تفاصيل حياته من قِبَل القدر في يوم ميلاده؟ وماذا عن معنى العدل؟ هل العدل هو أن يُحاكم الجميع دون أسباب منطقيّة واضحة ومحدّدة على ما سوف نقترفه من أخطاء مستقبليّة من وجهة نظر شخص مجهول؟ أم هل قصد كافكا أن يُكسِّب القارئ إدراكاً جديداً عن الذنب المُطلق والخطية الجدّية للإنسان؟ وماذا بعدَ أن تمّ قتل المحكوم عليه، هل ساد العدل أخيراً؟ وإذا اكتشفت المحكمة أنها مُخطئة في حكمها ماذا تفعل؟ وماذا تقول؟ وكيف تواجه قوانينها وتُسكت مجتمعاتها ما إن ثارت ضدّها؟ هل في استطاعتها أن تحيي الأموات؟

أراد كافكا أن يُلقي الضوء على تلك الصراعات الوجوديّة الخالية من المعنى – مع الشعور الجمعيّ بالذنب – التي يتحتّم على الأحياء التعايش معها طوال الوقت، أو مسايرتها – لتلافي الانسحاق تحت ثقلها – أغلب الوقت، أو الالتفاف حولها والتكيُّف معها باقي الوقت، إلى أن تباغتهم ظلمة الموت غير الرحيم، ليقول بصورة غير مباشرة أن الموت هو الحلّ الوحيد لمعاناة الإنسان في تلك الحياة، ولكن على الإنسان أن ينتظر هجوم الموت عليه، بدون أن يتجرّأ على السعي إليه بنفسه أو التودّد له أو حتى البحث عنه.

تنتهي الرواية بعد عام من تفاعل أحداثها بمشهد تراجيديّ أقلّ ما يُقال عنه بأن مأساويّ وعبثيّ، حيث يستيقظ «جوزيف ك» ليجد رجلين أمامه، فيرتدي ملابسه ويرافقانه. يشعر أنها النهاية، فيتأمّل ويفكّر في القضية ومحاميه وما ستؤول منها، تعيده الذاكرة إلى كلّ ما جرى من قصص وأحداث، ويتنفّسها مع مضي الوقت، إلى أن يصلوا إلى كهف خارج المدينة، فيزيلان ملابسه، وتوضع رقبته بجوار صخرة، ويتبادل الرجلان مهام تنفيذ الجريمة، واحد أسرع بالإطباق على رقبته، بينما الآخر يغرس السكّين في قلبه، ويديره فيه مرّة واثنتين. استطاع ك وهو يغيب عن الوعي أن يرى الرجلين، فصدغ أحدهما إلى جوار الآخر أمام وجهه مباشرة؛ يشاهدان المنظر الأخير، فلفظ آخر أنفاسه وهو يقول: «ها أنا أموت مثل كلب حقير».



#إدريس_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كافكا في «القلعة»: تشييد الكوابيس والغرائب بلعنة الاغتراب
- كافكا في «التحوّل»: انسلاخ تراجيديّ للذات
- ثيمتا الشهامة وغسيل الأرواح في رواية «قيامة اليتامى»
- حاتم علي: إنساناً ومخرجاً ملتزماً
- حرب شهوة وشهوة حرب
- روح مطعّمة بالمطر
- رواية «رصاصة أخيرة»: العيش في قوقعة الاختزال أفقد جمالية الق ...
- الحزن... وباء عالمي
- أغنية «كوباني»: ألم كلّ الكوبانيين
- صراع «يلماز غوني» مع الذات والتاريخ... في «صالبا»
- قرآن الله
- مازن عرفة لموقع «سبا»: رواية «سرير على الجبهة» انكسارٌ للأزم ...
- مازن عرفة لموقع «سبا»: الحياة التي أعيشها هي رواية، والرواية ...
- الشخصية وبناؤها في رواية «هيمَن تكنّسين ظلالك»
- على الأمم المتّحدة ومحكمة الجنايات الدوليّة قراءة رواية «سري ...
- تقنية «الراوي» في رواية جان بابيير «هيمَن تكنّسين ظلالك»
- رواية «هيمَن تكنّسين ظلالك» توثيق الحرب بتقنيات روائية مبهرة
- ماذا قدّمت قناة «ARK TV» للقضية الكردية؟
- كاتب كوردي يتحدث عن اللجنة الدستورية وانقسام الكورد
- سكوت كوردي على فساد مخيّمات لاجئي إقليم كوردستان


المزيد.....




- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...
- -أنصار الله- تنفي استئناف المفاوضات مع السعودية وتتهم الولاي ...
- وزير الزراعة الأوكراني يستقيل على خلفية شبهات فساد
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- دراسة حديثة: العاصفة التي ضربت الإمارات وعمان كان سببها -على ...
- -عقيدة المحيط- الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - إدريس سالم - كافكا في «المحاكمة»: ها أنا أموت مثل كلب حقير