أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد دوير - الله .. في الفلسفة (3 )















المزيد.....


الله .. في الفلسفة (3 )


محمد دوير

الحوار المتمدن-العدد: 6789 - 2021 / 1 / 15 - 09:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ثانيا: الألوهية ما قبل سقراط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التراث البشري هو ارث للإنسانية، يحق لها، بل ويجب عليها، أن تتناوله بقدر كبير من الاهتمام والانشغال النقدي والتحليلي والتفسيري.إن البشرية في لحظات ما يجب عليها أن تنظر لمسار التاريخ نظرة شمولية لاكتشاف القوانين العامة التي تحكم حركة التطور الإنساني، وهذا بالطبع لا يلغي أو يتعدي النظرة الخاصة لكل مجتمع من المجتمعات.إن وحدة الحضارة الإنسانية في مسارها العام تبدو حقيقة لا ينتفي معها تمايز الخصوصيات المحلية.ومن هنا – حيث العمل علي كيفية التمييز بين الخاص والعام – يأتي دور وأهمية الفلسفة.واعتقد ان الفكر العربي القديم – فترة دار الحكمة وما بعدها – لم تتدخر وسعا في السعي نحو استلهام الفكر الفلسفي الغربي – اليوناني تحديدا – لفهمه والبناء عليه أو تفسيره علي اقل تقدير، فالامتزاج الحضاري قضية واقعية تاريخيا.

و"فلاسفة ما قبل سقراط" هم الذين عاشوا في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وقدموا أبحاثا ودراسات حول العالم والوجود والإنسان، وكانت لهم اهتمامات مختلفة في شتي العلوم. والمصطلح نفسه وُضع في القرن الثامن عشر للتمييز بين سقراط الذي انشغل بالأخلاق والمعرفة كأساسين لمذهبه الفلسفي وأسلافه من الذين انشغلوا في أبحاثهم ومؤلفاتهم الفلسفية بالكون والوجود والمادة.

ويمكن حصر تلك المرحلة في عدة اتجاهات أو مدارس كالأيونية والفيثاغورية والإيلية والذرية والسوفسطائية. بيد أن إسهاماتهم النظرية ومؤلفاتهم لم تصل إلينا كاملة لأسباب عديدة،وما توافر لنا من معلومات عنهم جاء عن طريقين، الأول بعض المؤلفات التي صمدت مع الزمن ضد عوامل التعرية الثقافية، والثاني ما دونه كل من أفلاطون في محاوراته، وأرسطو في كتاباته في سياق شرح نظرياتهم والرد عليها.

إنها علي أية حال" رؤي أو فلسفات " تقدم لنا صورا مختلفة لكيفية معالجة قضايا الوجود وأصل الكون بوجه خاص، إضافة إلي موضوعات ذات صلة بالطبيعة أو بالإنسان. ويطلق عليها فلسفات ما قبل سقراط، تمييزا لها عن النظريات الكبرى لدي أفلاطون وأرسطو، ولكن الأهم هو اعتبار سقراط مركز التحول في تاريخ الفلسفة اليونانية، وفي تاريخ الفكر بشكل عام، لاعتبارات عديدة أهمها أنه نقل السؤال الفلسفي من البحث في الوجود إلي البحث في الإنسان، وإن كانت السوفسطائية قد سبقته في هذا المضمار ، ولكن قيمته المقدرة تكمن بناء جسر بين الإنسان والإله.

ولا يمكن لباحث منصف أن ينكر الدور المؤسسي لفلاسفة ما قبل سقراط في وضع اللبنة الأولي لموضوعات شتي وعلي رأسها المشكلة الميتافيزيقية، إنهم الرعيل الأول للفكر الفلسفي في تفسير الظواهر الكونية ومحاولة الكشف عن نواميس الكون.

ورغم أنه يشار عادة إلي فلاسفة ما قبل سقراط بقدر من التقليل من شأنهم باعتبارهم "تجارب فكر"، وأن سقراط هو بداية التفلسف الإغريقي الحقيقي، إلا أن هذا منافي للحقائق تماما، فقد كانوا أكثر وضوحا في مناقشة قضايا الوجود،ومن ثم قضية الخالق/ الله / الإله/ الآلهة، ممن لحقوهم، ذلك أن موضوعهم الرئيس تمحور حول ما بعد الطبيعة والإلهيات. لقد رأوا أن مهمة الفلسفة أو التفلسف هي مناقشة قضايا الوجود.

وجدير بالذكر أن كلمة" فيلسوف" لم تكن دارجة في وصف كل من يعمل في قضايا الفكر المجرد والتأمل العقلي، إذ كانت تعني في عصر التفلسف اليوناني الأول " مُحب الحكمة" الذي ينشغل بكل ما يتعلق بالحياة الأدبية والثقافية والعلمية، لذلك كان محب الحكمة هذا في بواكير التاريخ الإغريقي ملما بالعديد من العلوم والتجارب والخبرات التي يستجمعها من أنشطة مختلفة، ثم بدأ معناها يضيق ابتداء من فيثاغورث ، الي أن انحسرت حديثا في التأمل العقل والتفكير المجرد في المشكلات الإنسانية والقضايا الميتافيزيقية.

أنطلق فلاسفة ما قبل سقراط من موقف نقدي للتصورات السابقة" هوميروس- هزيود- أورفيوس" فلم يرق للفلاسفة تلك التفسيرات التي تجعل الآلهة تتصارع وتختلف .. الخ، ورأوا في تلك التصورات إجحافا كبيرا بقدرة العقل الإنساني، والتقليل منه، فالإنسان قادر علي فهم الكون والتفاعل معه، وتلك السلبية التي فرضتها الآلهة علي الإنسان كما تروي أشعارهم؛ ليست سوي دعوة لجعل الإنسان كائنا سلبيا، فالتفسيرات المطروحة عن الظواهر الكونية مثل السحاب، مثلا بأنه الإله، ليست سوي ظواهر طبيعية يمكن فهمها، وأن الكون منظم بصورة دقيقة تجعله يسير من تلقاء نفسه دون العون من آلهة كثيرة تتضارب فيما بينها، فكثرة الآلهة يتعارض مع انتظام الكون الدقيق، البحث أو النظر في العالم والوجود قد يسهم في اكتساب العقل البشري صفة التنظيم والدقة والترتيب إذا فهم الكون علي صورته المنتظمة والدقيقة التي هو عليها، بمعني أن اشتباك الإنسان مع الطبيعة يخدم قدرات الإنسان الذهنية وتطورها، فيما يبدو أن استسلامه لتلك التصورات التي جعلته مجرد عبد للآلهة قد تقتل فيه مقومات التحدي وبالتالي مؤهلات المعرفة.

وربما يمكن القول أنه منذ تلك اللحظة تحديدا- لحظة أن تمرد البعض علي الهيراركية الأسطورية- آمكن القول بميلاد الفلسفة، لحظة قناعة الإنسان بأن الكون يمكن فهمه، وكذا يمكن إسباغ سمة العقلانية عليه،والكشف عن قوانين حركته، وأن العقل البشري قادر علي فعل ذلك، وهو ما حاول هؤلاء الفلاسفة الأوائل القيام به. لقد فهموا كما أكد هيراقليطس أن كثرة المعلومات لا تؤدي بالضرورة إلي فهم الكون ولكن الآمر يحتاج إلي منهج في التفكير، وفي اعتقادي أن تلك أهم سمة قدمتها الفلسفة بصفة عامة للوجود الإنساني.

السؤال الآن، أين إذن يستقر السؤال الوجودي في خريطة تلك النزعة الفلسفية المستحدثة؟ حقيقة الأمر فإن القضية تكمن هنا تحديدا، فالثورة علي التفسير الأسطوري لم تقم سوي لهذا الاعتبار، أعني للاعتراض علي مفهوم الإله، وأصل الوجود. وبالتالي يمكن القول أن السؤال المركزي في نشأة الفلسفة كان سؤالا ميتافيزيقيا من حيث النزعة والهوية، ومن ثم يصبح من المنطقي أن يكون سؤال" الإله" الفلسفة اليونانية في مرحلتها الأولي هو السؤال الأول باعتبارها الإنتاج الفكري البشري الذي سعي بشكل عقلاني ومنظم للبحث في أصل الكون وطبيعته عبر السؤال الوجودي الكبير في ماهية الوجود.وبكل تأكيد لا يمكن إنكار حق الحضارات القديمة في الشرق في طرح هكذا سؤال، ولكن تظل المشكلة قائمة في أن تلك الحضارات لم تحقق الامتداد النظري الذي كان حليفا للفلسفة الإغريقية والتي شاءت الظروف التاريخية والوضعية الجغرافية واللغوية والثقافية في اعتبارها جذرا معرفيا وفلسفيا للحداثة الغربية التي لم تزل تقدم اجتهاداتها في موضوع هذا البحث.

واعتبارا من القرن السابع قبل الميلاد بدأت بواكير الفلسفة اليونانية في المدن وخاصة مدينة أيونيا الواقعة علي الساحل الغربي لأسيا الصغرى، ثم انتقلت إلي جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية حتي استقرت في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في أثينا، ومع المركزية الأثينية اكتسبت أيضا الفلسفة اليونانية مركزية فلسفية ونضجا منهجيا مع أفلاطون وأرسطو. وعلي مدي تلك القرون ظهرت عدة مدراس فلسفية كبري تشكلت منها الروح الفلسفية والفكرية والعقلية التي ميزت الحضارة الإغريقية بشكل عام، ليس علي الصعيد الفلسفي فحسب، وبل وفي مجالات أخري كثيرة علي رأسها المسرح. بيد أن تلك الروح بدأت في الانزواء مع نهايات القرن السادس الميلادي.

وقد اتسمت الفلسفة اليونانية بعدة سمات أهمها: 1- أنها فلسفة طبيعية ركزت علي الطبيعة ومزجت بين الإنسان والطبيعة، الروح والمادة. 2- فلسفة شاملة تناولت كافة موضوعات الفكر كالمنطق والرياضيات والفيزياء والفلك والأخلاق..الخ. 3- وانشغلت إلي حد بعيد بالبحث في ماهية الأشياء وحقائقها وأصل الكون ونظرية الخلق والوجود مرتكزة في كل ذلك علي العقل كوسيلة للمعرفة والفهم والتحليل والاستنتاج وفقا لقواعد الحرية التي ميزت تلك الحضارة في غالب الأوقات نظرا لطبيعتها الجغرافية التي حالت دون تحولها لدولة مركزية مستبدة. 4- وقد استفادت الحضارة اليونانية بشكل كبير من الحضارات السابقة عليها كالحضارة المصرية القديمة والحضارة الفينيقية والفارسية.

ولكن تظل أهم إنجازات فلسفة ما قبل سقراط أنها المسئول عن عملية الانتقال من التعددية الإلهية إلي فكرة الواحدية، وإن بدأت بالواحدية المادية كالماء والهواء والتراب والنار، باعتبار كل واحدة منهم كانت أصلا للكون في نظر هذا الفيلسوف أو ذاك وإنما مهدت الطريق ورسخت في العقل الفلسفي فيما بعد لفكرة واحدية الإله.. وذلك هو التحول الأهم والإسهام الأكبر الذي يعود إلي تلك الفلسفات، لقد نقلت الفكر في النظر للخلق من التعدد إلي الواحد، ثم استكمل ثلاثي الفلسفة اليونانية عملية التحول من الواحد المادي الطبيعي إلي الواحد المفارق الذي ليس كمثله شيء.وسنكرر مرة أخري أن القضية ظلت في حيز الاستنتاج وستبقي كذلك طوال عصور الفكر الفلسفي. باستثناء مرحلة العصور الوسطي، حيث جاءت المسيحية لتنظم ذلك العبث – هكذا يقول علماء اللاهوت المسيحي- ليتحد المفهوم الوجودي عن الكون ونشأته وطرق عمله.

ويمكننا تقسيم الفلسفة اليونانية إلي عدة مدارس أو مراحل عامة أسهمت كل مرحلة منها في بلورة تصورات ما عن نظرية"الله" وكل ما يتعلق بها في مبحث الوجود من موضوعات ميتافيزيقية تم تدشينها كما أسلفنا وفقا لاستنتاجات العقل المتأمل والمتحرر إلي حد مما من القيم الرائجة أو المفاهيم المنتشرة حول العبادات والأديان. وسوف نناقش في هذا الصدد عدة مدارس كالأيونية والفيثاغورية والإيلية والذرية والسوفسطائية ثم نعرج علي آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو ورؤيتهم فيما يتعلق بالإله.

1- المدرسة الأيونية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشأت المدرسة الأيونية ( يطلق عليها أيضا المدرسة الملطية ) علي يد الفلاسفة الطبيعيين وعلي رأسهم طاليس، وتعتبر أول مدرسة ظهر فيها التفكير الفلسفي المنظم في اليونان، وذلك علي يد طاليس في القرن السادس قبل الميلاد، وقد اهتمت بشكل عام بالعالم الخارجي والبحث في أصل الكون وكيف نشأ ؟ واتفقوا على أنّ ذلك الأصل هو عبارة عن مادة موجودة في الطبيعية دون الاتفاق علي تعيين هذه المادة.وكان أهم رموزها إضافة إلي طاليس كل من انكسماندريس وانكسمانيس، وسوف نستعرض هنا أهم أفكارهم فيما يتعلق بقضية البحث وموضوعه.

أ‌- طاليس " 624 ق.م –546 ق.م":
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولد طاليس ولد في مدينة ملطية بآسيا الصغري.وقيمته تكمن في أنه أول من جعل التفكير العقلي أداته في فهم الظواهر دون الاعتبار لكل الأفكار السابقة عن نشأة الحياة وطرق عملها، وموقفه هذا يعبر عن قرار عقلي كان من القيمة بحيث تصدًّر قائمة التاريخ الفلسفي.

كان طاليس هو أول من أدلي برأيه في أمور تتعلق بالكون والوجود بالصورة التي تصلح لأن نطلق عليها تأملات فلسفية، وإن كان لم يترك لنا كتابا مؤلفا( لحظة تألق نجم طاليس وشهرته عندما تنبأ بكسوف الشمس عام 585 ق.م، ويذكر أنه تعلم الهندسة في مصر). ولكن أرسطو يشير أيضا إلي أن ثمة من سبقه في هذا المضمار، ولكنه دعم الفكرة ببراهين جديدة، وتقديم رؤي واضحة بشأن أصل الكون ونشأته وذلك حينما قال بأن الماء هو العلة الأولي للوجود، بوصفها القادرة علي تغيير طبيعتها بين الحالة المتجمدة والحالة الغازية.

بيد أن اعتباره الماء مصدرا إنما استمده – في رأي بعض الباحثين - من الأسطورة التي تتحدث عن بحر الأوقيانوس الأعظم الذي هو مصدر كل المياه الموجودة في الكون من بحيرات وبحار وانهار ومستنقعات وينابيع، ويجري في حركة دائرية حول الأرض، وربما من هنا تأتي لحظة التماس بين الأسطورة والفلسفة، فطاليس استند إلي ما ارتكز في الوعي من التصورات والمفاهيم الأسطورية في تفسيره المادي للكون، حيث نجد في أشعار هوميروس أن بحر الاوقيانوس العظيم هو أصل كل الأشياء، وهو ما يعني ان فلسفة طاليس لم تكن خالية تماما من شوائب سابقة عليها كما يري في ذلك بعض المفسرين ومن قبل هوميروس ثمة حضارات شرقية قالت بذلك كالبابلية مثلا.

ولكن علي أية حالة، ما قدمه طاليس يمثل نقلة نوعية اعتبار أن عمليات التحول في الوعي البشري إنما جاءت عبر نقلات تراكمية وكمية، إضافة إلي التحولات النوعية التي كانت طارئة في التاريخ البشري. وبمزيد من الوقت اكتسبت الحركة الفلسفية مزيدا من العقلانية.

لماذا الماء هو الجوهر؟.. لأنها قادرة علي أن تتمظهر في الوجود وفق الثلاث حالت هي السائلة والغازية والصلبة، ومن ثم يمكن قبول فكرة أن لها القدرة علي أن تشكل الأشياء، فالنبات والحيوان يتغذيان علي الرطوبة التي هي في الأصل ماء، وبالتالي فأصلهما ماء، ونتيجة تأثره بالفكر الشرقي، رأي أن في دلتا النيل يتراكم طمي الماء ويخلق أرضا جديدة،بما يعني أنه حتي التراب أصله ماء. ويمكن تطوير هذا التصور ليكون أصل الكون برمته ماء حتي الأرض نفسها تستقر فوق ماء كالجزيرة.

وضع طاليس إذن أول تفسير للكون بقوله أن الماء هو العلة الأولي، منه انتظمت الأشياء ونشأت، ويؤكد - كما المدرسة الملطية- أن الكون منظم بذاته متحرك بذاته ليس في حاجة إلي قوة خارجية تحركه، وأنه مليء بالحياة، وعندما نتحدث عن الحياة فإننا نعني بذلك المادة ، فلا حياة خارجها، وكل ما دونها غير حي وغير موجود، وكل ما في الوجود تدب فيه الحياة، وأن العالم مليء بالآلهة- هكذا قال طاليس- واختلف حولها المفسرون فقال أفلاطون أنه يقصد مليء بالقوانين التي تحكم كل كائن حي، وفسرها أرسطو بأن العالم نفسه يحكمه قانون عام بخلاف القوانين الجزئية التي تحكم كل جزء من أجزاء المادة.ولكن في النهاية ظل التفسير بعيدا عن الاعتقاد بإله مفارق متعال.

ب - انكسمندريس "610 – 547 ق.م"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تلميذ طاليس ورفيقه وخليفته في المذهب، هو أكثر فلاسفة تلك المدرسة وعيا وتأثيرا واتساعا ثقافيا. اهتم بالعلوم الطبيعية أيضا، وله إسهامات فيها منها أنه اخترع "المزولة" وهي عصا تغرس في الأرض ويستدل من ظلها علي المواقيت،مما يعني أن تأملاتهم النظرية كانت متصلة بالجانب العملي.ويعتبر أيضا أول من رسم خريطة للعالم.

وقد أكد انكسمندريس علي ذلك التوجه الطاليسي حينما أشار إلي أن الكون منظم، وهذا النظام نابع من داخله وفي غير حاجة إلي شيء خارجي في سريانه، وإن قال بأن أصل الكون مادة ليس لها حدود ولا خالق، فالكون في البداية كان كتلة كبيرة ضخمة تخلقت وتجزأت منها الأشياء بقوتها الذاتية،حيث أنشئت التضادات بين الأشياء كالساخن والبارد، ومن تألفهما تولدت أشياء أخري لها بعض من خصائص البرودة والسخونة.. وما إلي ذلك، وفقا لثنائية العدل والتعويض حيث تندر أشياء وتولد أشياء أخري لأن حجم المادة واحد لم يتغير فلا فناء ولا عدم ولكن كل ما يحدث هو "تغير"عبر حركة المادة التي ظلت تنفصل حتي اليوم وتتكون منها الأشياء والعناصر. وهذه المادة هي "الابيرون "، وليست العناصر الأربعة التي قيلت عن أصل الكون.

ويصف الابيرون هذا بالقول بأنه لا نهائي،أزلي، خالد، منه تتشكل كافة الأشياء، هو العلة المادية للكون،لا نهائي الكم، وغير متعين في أي شيء،غير محدد الكيف أيضا،فإنه لو كانت مادة واحدة محددة كالماء أو الهواء فكيف تتكون منه المادة التي تحتوي علي أضداد منها ما يستحيل أن ينتقل من حالة إلي حالة ؟، فالماء لا يتحول نارا، والعكس ومن ثم يستحيل أن نقول بعنصر واحد كأصل للكون. وبالتالي جعله مصدرا مجردا، ولكنه بالطبع لا يعني بالتجريد هنا تجريدا فكريا عقليا بل تجريد مادي أيضا،فالابيرون مادة ولكنها غير معلومة مطلقا.

ويعتقد آن الحياة نشأت من الابيرون عبر عدة مراحل،حيث يولد شيء ويفني شيء آخر دون نقص آو زيادة في الابيرون، ويري أيضا أن كل الأشياء نشأت أولا عن الرطوبة، فكانت الأحياء في البداية كالأسماك، ثم ظهر الإنسان، الذي تطور عن نوع من الأسماك، ولما جفت المياه علي منطقة في الأرض استطاع أن يتكيف علي الحياة بدون ماء يعيش فيه، وظل يتطور حتي وصل لمرحلته الحالية، وبذلك يصبح أول من تحدث عن التطور وليس عن الخلق.

إذن، فالمبدأ الأولي للكون لديه يتجاوز أي مادة، إنه اللا متناهي، وأطلق عليه المادة الأولي للأشياء كلها، منه تخلق الأشياء وإليه تعود بعد الفناء. وقد فسره أرسطو بأنه الموجود الإلهي،وإليه تعود كل الكائنات بعد فنائها، ولكن بارمنيدس أعطي تلك السمة أيضا للوجود وليس للموجود الإلهي فقط – كما سنري- بيد أن انكسمندريس جعل العناصر الأربعة تتولد عن الابيرون وقال أن مهامها تشبه مهام الآلهة في المرحلة الأسطورية الهوميرية،فجعل لكل منها أيضا مجال عمل ودور في تكوين الأشياء ولا يحق لعنصر أن يقوم بمهام عنصر آخر وإلا حدث خللا في الطبيعة، مثلما جعل هوميروس للآلهة مجال نفوذ أيضا،لا يجب تتعدي أي منهم علي نفوذ الآخر. ولا يوجد لديه تمييز بين النفس والجسد، أي أنه ينكر الجانب الروحي في الإنسان، وليس ثمة ألوهية تعمل علي تخليد النفس لحين الحساب، ولكن تلك الأفكار وتحديدا فكرة خلود النفس وتميزها عن الجسد إنما تسريت للفكر اليوناني عبر الأورفية والفيثاغورية، اللذان قدما أفكارهما في صورة شبه ديانة أو نحلة سرية.

جـ - انكسمانس " 588-524 ق.م"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رفيق انكسمندريس وتلميذه، استعاد أفكار طاليس وقال بأن الأصل مادة واحدة وليست خليطا، ومن ثم خالف انكسمندريس في القول الابيرون، لكونه مادة غير محدودة أو محددة،أي لا شيء، وكل لا شيء لا يمكن أن ينتج عنه أي شيء، فالخلق يحتاج مادة محددة من حيث الكيف ولا نهائية من حيث الكم. فما دون ذلك لا يعقل أن تنشأ الأشياء والوجود نفسه. وفي مقابل ذلك قال انكسمانس بالهواء كمبدأ أول، فالأرض قرص مسطح يطفو علي الهواء والكواكب كذلك، وفسر غروب الشمس بجبال شاهقة تحول دون رؤيتها ولذلك أنكر حركة الشمس، والهواء يمسك بكل شيء في هذا الكون.
والهواء مادة محددة الكيف منها نشأ كل شيء في الكون من الهواء عن طريق التكثيف والتخلخل،حتي الألهة نشأت من الهواء. وقال بأن العالم يتنفس وهي الفكرة التي أخذها عنه الفيثاغوريين.

ورغم اعتراض بعض المفسرين علي كون الهواء مادة أولية نظرا لأنه مادة غير فعالة ومن الصعب إنتاج مادة الكون وجزئياته منها، ويدعمه في ذلك انكسمندريس نظرا لأنه لم يحدد طبيعة المادة الأولية للكون، فيشير إلي أن تكثف وتخلخل الهواء هو ما ينشئ المادة، فإذا تخلخل الهواء صار نارا، وإذا تكاثف صار ريحا، وهكذا ويتحول الريح إلي سحاب يتساقط منه الماء، فيتكاثف الماء أرضا، وتتحول الأرض في جزء منها إلي أحجار. ويتشكل الوجود عبر هذا الطريقة.ومن هنا يمكن القول أن انكسمانس لم يتقدم خطوات كبيرة علي طاليس سوي استبدال العنصر الأولي، وموقفه من الإله أيضا لم يتغير كثير إذ أرجع كل شيء في الوجود حتي الآلهة فهي من الهواء.

لقد حاول انكسمندريس وانكسماندريس وهما من تلاميذ طاليس طرح فكرة أصل الكون ودقته وانتظامه عبر ما تيسر لهم من معرفة علمية وأيضا بواسطة التأمل النظري، فلم يكن باستطاعتهم افتراض فرضيات لا يمكن للعقل المجرد قبولها، كفرة تعدد الآلهة، فأكدت تلك المدرسة الرائدة علي أن الكون لكي تحدث فيه الحركة والتغير لابد له من مبدأ أولي فقالوا بعناصر كالهواء والماء والمادة المجهولة..الخ ولكنهم رفضوا فكرة وجود إله خالق قادر محرك جوهر، فأسسوا بذلك مبدأ الواحدية المادية.



#محمد_دوير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله... في الفلسفة (2)
- الله .. في الفلسفة (1)
- مقدمة في فلسفة اللغة
- الحلاج وأزمة العقل الديني
- العرب.. وسؤال الحداثة
- في فقه الهزيمة
- وهج اللاوعي في رواية -التاج- لعبير قورة
- هل صارت الكتابة بديلا للانتحار ؟
- خصخصة الألوهية
- علي شاطئ الذاكرة للروائي الجزائري مصطفي الشيخ زاوي
- الماركسية .. كاستنارة
- ملخص الكتاب ماركس ضد نيتشه ..
- سيناريوهات المستقبل في مصر
- الحداثة الغائبة والتحديث الريعي
- وفاة مرسي
- في فقه المصالحة: العسكر والإخوان واليسار
- الثورة المصرية.. والبحث عن دولة يناير (3)
- الثورة المصرية .. والبحث عن دولة يناير (2)
- الثورة المصرية والبحث عن دولة يناير(1)
- التنوير الآتي من طيبة وليس من آثينا


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد دوير - الله .. في الفلسفة (3 )