أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله تركماني - مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية (2)















المزيد.....


مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية (2)


عبدالله تركماني

الحوار المتمدن-العدد: 6788 - 2021 / 1 / 14 - 14:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم تكن مناقشة لينين مع الاشتراكيين – الديموقراطيين الأرمن ومع الاشتراكيين البولونيين حول حق الأمم في تقرير مصيرها إلا جزءاً من المناقشة التي سبقت ورافقت انعقاد المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي - الديموقراطي الروسي، ببروكسل ثم بلندن بين 17 يوليو/تموز و10 أغسطس/آب، 1903. وبالتالي، فمن الصعب أن نفهم موقف لينين من الاعتراف بحق تقرير المصير، وحرصه على التمييز بين الحق وتطبيقه، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار المشكلات التي كانت تواجه الماركسيين الروس، في أوائل القرن العشرين، لتنظيم حزب عمالي ثوري.
وما كان في وسع لينين، بوصفه ماركسياً من جيل معيّن، إلا أن يكون نصيراً متحمساً للمركزية. فقد كان يرى أنّ الحركة الثورية، في روسيا، ستظل ضعيفة وعاجزة مادامت متفرقة لا تجمع بينها وحدة مركزية. ومما زاد في تعقيد المسألة أنّ الكثير من الثوريين، من رعايا الإمبراطورية الروسية، كانوا يستلهمون، في نضالهم وعملهم وتنظيمهم، تجارب الأحزاب الثورية المتقدمة في بلدان أوروبا الغربية، ولا سيما الحزبين الاشتراكيين – الديموقراطيين الألماني والنمساوي. فقد كانت تجربة الحزب النمساوي – خاصة – مغرية وقابلة لأن تكون مثالاً يُحتذى، نظرا إلى أنّ الإمبراطورية النمساوية – المجرية كانت كالإمبراطورية الروسية متعددة القوميات.
لقد وقف لينين، قبيل المؤتمر الثاني للحزب وأثناءه، يدافع عن مبدأ المركزية ويفنّد حجج أنصار الفيدرالية من الاشتراكيين البولونيين أو البونديين اليهود " إنّ تاريخ الأوتوقراطية الملعون قد خلّف لنا عزلة شديدة بين الطبقات العاملة من شتى القوميات المضطهَدة من قبل تلك الأتوقراطية. وهذه العزلة هي أدهى شر وأكبر عقبة في النضال ضد الأوتوقراطية، ومن واجبنا ألا نضفي على هذا الشر صفة شرعية، من واجبنا ألا نكرّس هذه الفضيحة بأي مبدأ من مبادئ الخصوصية الحزبية أو الاتحادية الحزبية " (6). لقد كانت نقطة الانطلاق في هذا التحليل ضرورة إسقاط الأوتوقراطية الروسية، وكانت نقطة الوصول: الإيمان بأنّ إسقاط الأوتوقراطية غير ممكن إلا من خلال الوحدة الكاملة لعمال روسيا قاطبة.
وبعد ثورة 1905 الروسية، نشر لينين تحليلاً مفصّلاً للمناقشة التي دارت في مؤتمر " شتوتغارت " للأممية الثانية حول مسألة المستعمرات. وقد انتقد الأفكار التي نادى بها كل من: فان كول، وبرنشتاين، ودافييد، التي اعتقدت أنّ الاشتراكيين – الديموقراطيين غير ملزمين، من حيث المبدأ بإدانة أية سياسة استعمارية. وأعلن أنّ الفكرة التي برزت في قرارات المؤتمر، التي صيغت بعبارات مراوغة حول إمكانية إقرار مبدئي بالسياسة الاستعمارية، لا تعني سوى التسليم الأممي بوجهة النظر البورجوازية، وأنها خطوة حاسمة نحو الخضوع لـ " الإمبريالية البورجوازية ".
كما أشار إلى أنّ الاعتراف بـ " سياسة استعمارية اشتراكية " قد نال (108) أصوات مقابل (128) صوتاً، مما كشف القناع عن " الاشتراكية الانتهازية السابحة في مياه البورجوازية، وبذلك تجلّى الجانب السلبي من جوانب حركة العمال الأوروبية، جانب يمكن أن يسبب الكثير من الأضرار لقضية البروليتاريا ". وتابع " وهكذا، تتكوّن في بعض البلدان القاعدة المادية والاقتصادية، لنشر عدوى الشوفينية الاستعمارية بين بروليتاريا هذا البلد أو ذاك. ومن الطبيعي أنّ ذلك قد لا يكون مجرد ظاهرة عرضية عابرة، ومع ذلك، ينبغي لنا أن ندرك الشر بوضوح وأن نفهم أسبابه، لكي نكون على استعداد لتهيئة البروليتاريا للنضال ضد مثل هذه الانتهازية " (7).
وبين سنتي 1908 و1912، حيث كانت الثورات تندلع في الشرق، أعار لينين انتباهاً دقيقاً إلى الإمكانيات الثورية لدى الشعوب المستعبَدة من جانب الاستعمار. وجعل من بحثه في هذا الشأن جزءاً من عمله المكثّف لصياغة رؤية ثورية عن الإمبريالية والثورات البروليتارية. فقد رأى في الثورة الإيرانية، وثورة تركيا الفتاة، وثورة الصين، مقدمات وبشائر يقظة الشعوب المضطهَدة.
لقد استخدم لينين الصين كمثال، ليُظهر القوى المحركة في الثورة التحررية بالشرق، وليوضح طبيعتها السياسية – الاجتماعية. وكتب عن الثورات الديمقراطية التي كان يمكن للبورجوازية، التي كانت لاتزال تحتفظ بشحنة ديمقراطية – ثورية، أن تلعب فيها دوراً فعالاً. ففي عام 1912 كتب محلِّلاً السمات الأساسية للنظام الذي قام في الصين إثر ثورة 1911، وأكد على دور الفلاحين من الزاوية الاجتماعية، وعلى تأثير الغرب من الزاوية الحضارية " إنّ الشرق قد انخرط نهائياً في طريق الغرب، وإنّ مئات ومئات الملايين الجديدة من الناس ستشترك من الآن فصاعداً في النضال لأجل المُثُل التي نادى بها الغرب ... وفي آسيا ما تزال توجد بورجوازية جديرة بتمثيل ديمقراطية حقيقية، وكفاحية ومعقولة، جديرة بأن تكون ندّاً للرجال العظام والأنبياء الكبار الذين أنجبتهم فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. إنّ الممثل الرئيسي أو الدعامة الاجتماعية الرئيسية لهذه البورجوازية الآسيوية، التي ما تزال قادرة على الوفاء بعمل تاريخي تقدمي، هو الفلاح " (8).
وفي عام 1913 طوّر لينين موضوعته، التي تقول إنّ البورجوازية قادرة على القيام بدور تقدمي في آسيا، فكتب " إنّ أوروبا المتمدنة والمتقدمة، بتقنيتها المتطورة تطوراً باهراً وبثقافتها الغنية المتعددة الأشكال والصور، وبدساتيرها، وقد وصلت إلى لحظة تاريخية غدت فيها البورجوازية السائدة تؤيد، بسبب من خوفها من البروليتاريا المتنامية والمتعاظمة القوى، كل متأخر، وكل ما ينتمي إلى القرون الوسطى. إنّ البورجوازية التي دبّ فيها البلى تتحالف مع جميع القوى التي قضت وتقضي أيامها الأخيرة، بغية الإبقاء على نظام العبودية المأجور المتداعي ".
وفي المقابل، تنمو في آسيا حركة ديمقراطية قوية " فما تزال البورجوازية تسير مع الشعب ضد الرجعية. فمئات الملايين من الناس تستيقظ للحياة والنور والحرية. أية حمية تبعثها هذه الحركة الكونية الشاملة في قلوب جميع العمال الواعين الذين يعلمون أنّ الطريق إلى الاشتراكية يمر عبر الديمقراطية!! وأي عطف وتحبيذ قد ملأا جوانح جميع الديمقراطيين الشرفاء لآسيا الفتية "(9).
ثانيا- مرحلة الصراع (1913-1917)، وهي مرحلة هامة في تاريخ تعرّف الفكر الماركسي على المسألة القومية، لما تميّزت به من مساجلات لينين مع رموز أغلب التيارات الماركسية. لقد تميّزت هذه المرحلة بتمسك لينين بشعار" حق الأمم بتقرير المصير"، بمعناه السياسي، وليس الاستقلال الذاتي الثقافي، أي بما هو حق لكل أمة أن تقرر مصيرها، دون أي ضغط خارجي، وقد دعا الماركسيين إلى (10):
(أ)- أن يعبّروا عن مناهضتهم، دون تحفُّظ، لكافة أشكال العنف التي تستعملها أمة مسيطرة بحق أمة تطلب الانفصال في دولة مستقلة.
(ب)- أن يشددوا على كون مسألة الانفصال ترتكز على قاعدة تصويت سكان المنطقة بالذات، بواسطة اقتراع شامل وسري.
(ج)- أن يخوضوا نضالاً، لا هوادة فيه، ضد كل الأحزاب الرجعية التي تدافع عن الاضطهاد القومي بصورة عامة، والتي تنكر حق الأمم في تقرير مصيرها بنوع خاص. إذ أظهر أنه لا يجوز الانصياع لتأثير الحجج الواهية الكاذبة التي يقدمها القوميون الليبراليون حول خطر تجزئة الدولة " من وجهة نظر الديمقراطية عامة، فالعكس هو الحقيقة، لأنّ الاعتراف بحق الانفصال يقلل من خطر تفكك الدولة ".
فبقدر ما يكون النظام ديمقراطياً، بقدر ما تجد الأمم في هذه الدولة حريتها، ويزداد توطيد علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية معها. وقد أكد لينين: أنه لا يجوز أن نخلط بين حق تقرير المصير وإرغام الأمم أن تنفصل عن بعضها البعض مهما كانت الظروف، فقد كتب " نحن، الاشتراكيون – الديمقراطيون، أعداء لكل نزعة قومية وأنصار للمركزة الديمقراطية، نحن خصوم للخصائصية، وأن تكون كل الأشياء متساوية، فنحن على ثقة أنّ الدول الكبيرة تستطيع أن تحل بنجاح، أكثر بكثير مــن الدول الصغيرة، المشكلات التي يولّدها التطور الاقتصادي والتي يطرحها نضال البروليتاريا ضد البورجوازية، لكننا لا نقبل إلا بالعروض القائمة على الرضى المتبادل الحر، ونرفض ما هو قسراً وعنوة " (11).
وبذلك طرح لينين، من الناحية العملية، مهمة مزدوجة: فواجب على ماركسيي الأمة المضطهِدة أن يدعموا حرية الانفصال كما على ماركسيي الأمة المضطهَدة أن يدعموا اتحـــــاد الأمم الموافَق عليه بحرية.
ومن أهم نقاط البرنامج اللينيني، في مرحلة الصراع مع التيارين القومي الشوفيني والأممي العدمي، حول المسألة القومية تتعلق بمبدأ المساواة القومية، بكل أشكالها، باعتبارها الضمانة الفعالة لحقوق القوميات كافة. وكان هدفه من ذلك إزالة الشك وعدم الثقة والعداوة، هذه الآفات التي كانت تغذيها الأتوقراطية الروسية، وبالتالي تربية جماهير روسيا الكادحة على روح التضامن الأخوي والوحدة الأممية.
لقد كان لينين، في البداية، وحتى الثورة الروسية، يقدر عمق الشعور القومي لدى العمال الأوروبيين أقل من قدره، وتجلّى ذلك من خلال الدهشة التي أصابته عندما رأى ردود الفعل إزاء اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان أيضاً قد استهان بالإمكانيات البناءة لدى الحركات القومية في أوروبا الوسطى، التي كانت تتجه نحو الانفصال عن الإمبراطورية النمساوية – المجرية. لكنه، تعلّم من التجربة أنه ليس لدى مواطني الأمم المضطهَدة إحساس بأية قضية قدر إحساسهم بالمسألة الخاصة بمساواتهم. وفي حين كان معتاداً أن يعارض" القومية البورجوازية " بالأممية البروليتارية، فإنه قد أظهر، من خلال ترحيبه بالحركات القومية في البلدان المستعمَرة، أنّ هناك مكاناً في تفكيره لمقولة ثالثة (12).
ففي البلدان التي ما زالت الحركة القومية فيها فتية يمكن لهذه الحركة أن تسير " يداً بيد " مع الديمقراطية والاشتراكية، كما كان الأمر في أوائل القرن التاسع عشر في أوروبا. وقد لاحظ أيضاً، أنّ القومية يمكن أن تكون قادرة على نقل الفلاحين، الذين يغلب عليهم الطابع المحافظ، إلى طريق التقدم والثورة الاجتماعية.
أما ستالين، الذي كان يعمل في صفوف الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي تحت إشراف لينين، فقد أصدر، في أوائل سنة 1913، مؤلفه الشهير" الماركسية والمسألة القومية "، الموجَّه ضد الاشتراكيين – الديمقراطيين النمساويين وضد المنشفيك الروس وسواهم، فقد عرّف الأمة بأنها " جماعة ثابتة من الناس، تألّفت تاريخياً على أساس جامعة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفســي المشترك الذي يجد تعبيراً عنه في الثقافة المشتركة " (13).
لقد وضع ستالين هذا التعريف بالاستناد على عدد من الأمثلة المأخوذة من تاريخ الشعوب الأوروبية، وأكد أنّ غياب أية من العلائم الأربع (الأرض، اللغة، الاقتصاد، التكوين النفسي والثقافة) يكفي لإسقاط صفة الأمة. وبما أنّ الاقتصاد المشترك لا يتحقق إلا بعد اندثار الإقطاعية وتكوّن السوق القومية والتكامل الاقتصادي الرأسمالي، فإنّ الأمة " مقولة تاريخية لعصر الرأسمالية الصاعدة ".
ونظراً إلى أنّ كتاب ستالين بقي، لسنوات طويلة، باعتباره القول الماركسي الرسمي في القومية (14)، فانه يتعين علينا أن نؤكد بأنه لم يكن علمياً في مفهومه، حين ذكر قائمة/وصفة " عوامل " ينطوي عليها تكوين الأمة، مما يعيد إلى الأذهان العلم الاجتماعي في أسوأ أحواله. إذ إننا نحتاج إلى معالجة تاريخية، في العمق، لا إلى تعريف تخطيطي مدرسي لا جدلي إلى درجة بعيدة.
وقد اعترف لينين، أثناء إصدار كتاب ستالين، بأنه سُرَّ كثيراً ووصفه بأنه " مقال جيد جداً ". وفي نهاية عام 1913، كتب " إنّ مقال ستالين يأتي في المحل الأول من الأدبيات الماركسية الأخيرة حول المسألة القومية ". واستمر لينين في العمل، بالتعاون الوثيق مع ستالين، على المسائل المتصلة بالمسألة القومية. وأصبح ستالين مقبولاً كخبير في المسألة القومية من جانب الحزب البلشفي، وعُيّن " قوميسيراً " للقوميات في الوزارة البلشفية الأولى، التي تشكلت بعد انتصار ثورة أكتوبر الروسية في العام 1917.
وفي غمرة النضال الذي خاضه لينين، من أجل تثبيت موقفه من المسألة القومية، ضد مختلف النزعات الشوفينية والانتهازية اليمينية واليسارية، كان عليه أن يواجه الاتجاه الماركسي النمساوي الذي كان له، بحكم ظروف الإمبراطورية النمساوية – المجرية، مساهمات كبيرة في التنظير للمسألة القومية، خاصة نظريته عن " الاستقلال الذاتي الثقافي ". لقد اعتبر التيار النمساوي أنّ حل المسألة القوميــة، في الإمبراطورية النمساوية – المجرية، لا يمر عبر الانفصال السياسي، بل عبر الاستقلال الثقافي. وكان من أبرز ممثلي هذا التيار أوتو باور، الذي وقف ضد الفكرة الماركسية التقليدية التي كانت تعتقد في ذوبان الفروق القومية في عصر الإمبريالية، وذهب إلى حد القول: إنّ التمايز بين الخصوصيات القومية سيتعزز في عصر الاشتراكية.
ففي عام 1907 كتب أوتو باور (1882 – 1938) "...عندما تقوم الاشتراكية بمنح القومية الاستقلال وبجعل رسالتها ( Destin) نتاج إرادتها الواعية، تكون النتيجة هي التمايز المطرد بين القوميات في المجتمع الاشتراكي وتعمق خصوصياتها وبروز التباين بين الطباع القومية. وقد يفاجئ هذا الحكم أصدقاء الاشتراكية وأعداءها لأنهم مقتنعون على السواء بأنّ الاشتراكية ستفتّت التعددية القومية وتقلص الفروق بين القوميات أو تلغيها. لكنّ الأكيد هو أنّ المجتمع الاشتراكي سيسوّي بين الجميع من حيث المضمون المادي للثقافة ولمختلف الثقافات القومية. وقد بدأت الرأسمالية المعاصرة -بعد- في إنجاز هذه المهمة...لكن لا يمكن أن نتسرع كثيراً ونستنتج أنّ تعميم المضامين المادية للثقافة سيجعل القوميات متشابهة فيما بينها تماماً..." (15).
ولم يدخل لينين المناظرة مع باور، بصورة مباشرة ورسمية، إلاّ في شهر مايو/أيار 1913، عندما كتب مقالته " الطبقة العاملة والمسألة القومية "، التي ندّد فيها بشعار" الاستقلال الذاتي الثقافي " بوصفه شعاراً " قومي النزعة وخدعة بورجوازية ". لقد رأى أنه " يوحِّد البروليتاريا والبورجوازية ضمن نطاق الأمة الواحدة، ويقسّم بروليتاريا جميع الأمم " (16). واتهم واضعه ومنظّره الأول أوتو باور بـ " التهويل من شأن ما هو قومي والتهوين المخيف من شان ما هو أممي ".
وقد ركّز لينين، في دحضه المقدمات النظرية والنتائج العملية لموقف باور، على جوانب ثلاثة: الثقافة القومية، واللغة القومية، والتربية القومية.
(أ)- إنّ الوحدة الثقافية للأمة هي، في نظر لينين، خدعة بورجوازية تستهدف تمويه الصراع الطبقي ضمن نطاق الأمة الواحدة، كما تستهدف تمزيق وحدة النضال الطبقي لبروليتاريا شتى الأمم. لكنه استدرك أنّ كل ثقافة قومية تشتمل على عناصر من ثقافة ديمقراطية واشتراكية " إنّ كل أمة معاصرة تشتمل على أمتين. وكل ثقافة قومية تشتمل على ثقافتين اثنتين ".
ولا شك في أنّ جوهر المساهمة اللينينية، في هذه المسألة، يكمن في التمييز الذي اقامه بين المحتوى التقدمي والرجعي لكل ثقافة قومية، وتركيزه على ضرورة تطويــــر العناصر الديمقراطية والاشتراكية في كل ثقافة قومية. ويبدو أنّ الخطأ المحدد الذي اقترفه لينين يكمن في أنه رفض شعار الثقافة القومية دونما اعتبار لصدوره عن الأمة الظالمة أو المظلومة. مع أنّ رفع شعار الثقافة القومية، من قبل الأمة المظلومة يمكن أن يكون له، في شروط محددة، محتوى ديمقراطي وتقدمي مناهض للاضطهاد والاستغلال.
(ب)- حدّد الماركسيون الروس موقفهم من مسألة اللغة القومية في الفقرة الثامنة من برنامج الحزب الاشتراكي – الديمقراطي الروسي في سنة 1903، والتي نصّت على حق شعوب روسيا في تلقّي التعليم بلغاتها القومية، وعلى حق كل مواطن في التعبير عن آرائه بلغته القومية في الاجتماعات العامة، وعلى حق استعمال اللغات القومية المختلفة، إلى جانب اللغة الروسية الرسمية، في مؤسسات الدولة وأجهزتها. وقد صاغ لينين، في معرض مناظرته مع أنصار" الاستقلال الذاتي الثقافي " وأثناء سلسلة المحاضرات التي ألقاها في المدن السويسرية الرئيسية في شهر يوليو/تموز 1913 عن المسألة القومية، صاغ شعار " رفض اللغة الروسية كلغة رسمية وحيدة للدولة ". وكان رأيه أنّ اللغة الرسمية فائضة عن الحاجة، وليست ضرورية البتة في روسيا التي ينتمي سبعة أعشار سكانها إلى الشعوب السلافية، وأنه لو وجد تعليم حر في دولة حرة لتوصل السكان، بلا صعوبة، إلى التفاهم، دونما أي امتياز رسمي لأي لغة من اللغات، وذلك بحكم ضرورات التبادل الاقتصادي.
(ج)- أكد لينين أنه ما دامت الأمم المختلفة تعيش في نطاق دولة واحدة فإنها تكون موحَّدة بالعديد من الروابط الاقتصادية والاجتماعية، فكيف يجوز استثناء المدرسة من هذه الروابط؟ كما يطرح أنصار برنامج " الاستقلال الذاتي القومي الثقافي ". وفي الواقع فإنّ معارضة الاشتراكيين – الديمقراطيين الروس لبرنامج الاستقلال الذاتي، ومطالبتهم ببرنامج مدرسي مشترك علماني وديمقراطي في جوهره، لا تعني إنكارهم لحقوق الأقليات القومية، بما فيها حقها في أن يتلقى أبناؤها تعليمهم بلغتهم الأم. ولكن هذا ممكن فقط على أساس الحكم الذاتي الإقليمي، أي على اساس تدريس اللغة الأم في المناطق التي يتكلم غالبية سكانها هذه اللغة.
إنّ برنامج " الاستقلال الذاتي الثقافي " لا يقدم أي حل عملي لمسألة التربية القومية. وبالمقابل فإنّ البرنامج الديمقراطي، القائم على أساس الحكم الذاتي الإقليمي وعلى أساس احترام حقوق جميع القوميات والأقليات القومية، لا يكفل لأبناء القوميات غير لروسية حقهم في تلقّي تعليمهم بلغتهم الأم، وفي دراسة تاريخهم القومي الخاص، بل يحول أيضاً دون أية محاولة لتدريسهم بالإكراه.
الهوامش
6 - لينين، فلاديمير إيليتش: (المسألة القومية...)، المرجع السابق، ص 484.
7 - لينين، فلاديميير إيليتش (المؤتمر الإشتراكي الأممي في شتوتغارت) - عن المؤلفات الكاملة، المجلد (26)، ص ص 67 - 71.
- نقلا عن شرام، ستيوارت ودنكوس، هيلين كارير الماركسية-اللينينية ...، المرجع السابق، ص ص 154 - 156.
8- لينين، فلاديميير إيليتش:(الديمقراطية والشعبية في الصين) - عن: المؤلفات الكاملة، المجلد (21)، ص ص 401-407.
9 - لينين، فلاديميير إيليتش: (أوروبا المتأخرة وآسيا المتقدمة) – عن: المؤلفات الكاملة، المجلد (23)، ص 166-167.
10-غروشيف، إيفان: المسألة القومية في الاتحاد السوفياتي، تعريب: فارس غصوب، الطبعة الأولى - بيروت، دار الفارابي - 1973، ص ص 25 -28.
11 - لينين، فلاديميير إيليتش: المؤلفات الكاملة، المجلد (20)، ص 445-446.
12 - دايفيس، هوراس: القومية والاشتراكية، تعريب: فضل شلق، الطبعة الثانية - بيروت، دار الحقيقة - 1981، ص 246.
13 - مرقص، الياس: الماركسية في عصرنا، الطبعة الثانية - بيروت، دار الطليعة - 1969، ص 177.
14- لقد انحطت نظرية ستالين على يد تلامذته، وأصبحت أداة لتبرير سياسات استعمارية.
15 - د. التيمومي، الهادي: الجدل حول الإمبريالية...، المرجع السابق، النص رقم (20)، ص 162.
16- طرابيشي، جورج: الماركسية...، المرجع السابق، ص 157.



#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية (1)
- مقاربة الاتجاه الماركسي الكلاسيكي لبناء الدولة القومية (2)
- مقاربة الاتجاه الماركسي الكلاسيكي لبناء الدولة القومية (1)
- المقاربة الماركسية لبناء الدولة القومية
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (8)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (7)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (6)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (5)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (4)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (3)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (2)
- نشأة الدولة السورية الحديثة وتحولاتها (1 - 6)
- النمط السوفياتي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (3)
- النمط السوفياتي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)
- النمط السوفياتي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)
- النمط الياباني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)
- النمط الياباني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)
- النمط الأميركي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)
- المسألة الكردية بدلالة الوطنية السورية الحامعة
- النمط الأميركي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله تركماني - مقاربة الاتجاه البلشفي لبناء الدولة القومية (2)