أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم الموسوي - أن تعيش لتحكي *















المزيد.....


أن تعيش لتحكي *


كاظم الموسوي

الحوار المتمدن-العدد: 6786 - 2021 / 1 / 12 - 04:42
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


**** 1
ليس يسيرا على من احب الحرف. انشغالا أو تفاعلا، الا ان يكتب ويعبر عن مشاعره واحاسيسه، ابداعا أو تسجيلا للحظات تكمن فيها القدرات الذاتية للإنسان المبدع، وليس صعبا أن يعيش المرء ليكتب. او لا يكتب المرء دون أن يستطيع، الا اذا فقد الرغبة في تلمس الحروف وترتيبها، كعامل الطباعة ايام زمان، أو الدافع اليها. أو كما قال الشاعر الألماني ريلكه: اذا كنت تستطيع أن تعيش دون أن تكتب، فلا تكتب. ولكن هناك من يستطيع أن يجمع الامرين في ذات واحدة فيكتب، حينئذ، ليس ما يبدعه او ينتجه فقط، من أنواع الفن والادب، وانما مذكراته التي تلخص للقارئ حياة صاحبها بكل ما حوته من البدايات، حتى ما يمكنه أن يتوقف عن الكتابة.. وما شملته من تعرجات تحتمل كل شيء، نجاحات وخيبات، انتصارات وهزائم، علاقات وخصومات، أو ما تعنيه محتويات صندوق الدنيا بكل ألوانه. وبما يلزمه من مصداقية أو بوح انسان مدرك لرحلته الزمنية. هذا ما لخصه في خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، في ترجمتها العربية، الروائي العالمي الكولومبي، الحائز على جائزه نوبل لعام 1982 جابرييل جارثيا ماركيز، وعنوانه، أن تعيش لتحكي، مذكرات.
وجبراييل جارثيا ماركيز (6 آذار/ مارس 1927 - 17 نيسان/ ابريل 2014) في ترجمة د. طلعت شاهين يكتب الاسم هكذا، وفي ترجمة صالح علماني، يكتب الاسم غبرائيل غارسيا ماركيز، وفي الوكيبيديا يختم الاسم المفرد منها بحرف الثاء، (بالإسبانية: Gabriel García Márquez ) (وهذه قضية ينبغي أن تعالج في مؤسسات الترجمة العربية والمنظمات الإقليمية التي يعنيها الأمر، وتتفق علىها باعتبار المقابل والتلفظ الأصلي أو المعروف، وتوحيده عربيا بين مشرق ومغرب واجتهاد واختصاص). وكذا حصل مع العنوان، في ترجمة ما تناوله المترجم شاهين، أن تعيش لتحكي، بينما عند المترجم علماني: عشت لأروي. (وهذا سؤال آخر؟!) وكتب ماركيز في صفحة بعد الغلاف الاول، الحياة ليست ما عاشها الواحد منا، بل ما يتذكرها، وكيف يتذكرها، ليحكيها. وقصة الكتاب رواية أخرى للروائي، ولم يتوقع المترجم د. شاهين في تقديمه أن يقدم ماركيز على كتابتها، لأنه، كما رأى، كتب اغلب فصولها في رواياته التي كانت عاكسة حياته اليومية بتفاصيلها التي عاشها وشاهدها، ولكنه بعد كتابتها لم يخبر عنها لسنوات حتى إعلانه عن اتمامه الجزء الاول منها، ردا على الاشاعات التي انتشرت عن مرضه وإصابته بمرض السرطان. "وربما كان نشر الفصل الاول من مذكراته بشكل منفرد في جريدة الباييس عام 1998 كان نوعا من الرد على من اشاعوا خطورة مرضه، واقتراب لحظات موته، تناول في هذا الفصل ذكريات رحلته الاولى الى قريته "بارانكيا" لبيع بيت الجد القديم، ودور امه في تخفيف وقع اتخاذه من مهنة الكتابة حرفة لكسب عيشه على ألاب الذي كان يحلم له بمستقبل اكثر بريقا من تلك المهنة التي لا تجلب سوى الشقاء على من يحترفها" (ص(9 واتم ما نشر من المذكرات عام 2002 . وكان منذ طفولته مولعا بالفنون، بالرسم على الجدران، ومن ثم على الورق، وتعلم الموسيقى والعزف والانشاد مع الفرق الفنية، ورغم مواجهته لصعوبات في تعلمه القراءة، الا أنه قرأ اول كتاب أهداه جده له، وكان عبارة عن قاموس كبير، عرف منه أهمية الكلمة والكتابة، وبعدها قرأ اول كتاب عثر عليه في بيت الاهل، واعجب بمحتواه وحكاياته التي كان يسردها لنساء البيت وضيوفه، حتى قال عنه خطيب عمته سارا عندما رآه يطالعه: يا الله لدينا طفل سيصبح كاتبا (ص(78 وعرف بعد ذلك أن هذا الكتاب هو جزء من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وظل وفيا لاختياره، لا يريد الا أن يكون كاتبا، مهما تغيرت المصاعب أو تعددت التحديات. وحاول جمع كل مواهبه وقدراته في التوجه نحو هدفه أو غايته الاسمى، الكتابة. أن يكون كاتبا.
رد على أمه وهي تحاول إقناعه بالعدول عن تفكيره وارضاء والده الذي يريد له غير ما يخطط له، وهي تسأله "بطريقتها الماكرة: ماذا اقول لابيك؟، اجبتها من كل قلبي: قولي له احبه جدا، وانني بفضله سأصبح كاتبا. ثم واصلت بقوة لا تدع مجالا للشك: لن اكون سوى كاتبا". (ص81 ) وبإصرار وابداع وموهبة نقل كل ما شاهده أو عاشه أو سمعه الى الورق، كتابة، سردا، رواية. "منهجي في الكتابة حينها كان مختلفا عنه بعد ذلك ككاتب محترف، كنت اكتب حسب الترتيب المفهرس، لا زلت امارس هذه الطريقة لكني لم اكن اترك المقطع حتى انتهي منه تماما، - كما افعل الان- لكني كنت اكتب كل ما احمله بداخلي دون ترتيب. اعتقد ان ذلك نظام من الكتابة كانت تفرضه نوعية الورق المستطيلة المقطوعة من بكرات المطبعة.."(ص 82) وحين بدأ كتابة روايته فقد الإحساس بالزمن، كما كتب، واندفع بشدة في الكتابة، معبرا لصديقه: اني اكتب رواية عمري. وحين كتابته الرواية كان يفكر أو لا يزال عديم الخبرة"حتى اعرف ان الرواية لا تبدأ كما يريد الكاتب، بل كما تريد الرواية نفسها أن تكون، الى درجة أنه بعد مرور ستة أشهر بعد ذلك، وعندما اعتقدت انني قاربت على الانتهاء، أعدت كتابة الصفحات العشر الأولى بشكل مختلف حتى أستطيع أن أقنع القارئ ولا زلت حتى هذه اللحظة أعتقد أنها لم تكن كما يجب... " (ص 84).
سرد مذكراته كروائي بتفاصيل ثرية، استخدمها في نصوص رواياته واضاف لها روحه الشخصية، بأسماء عائلته، وأصدقائه، نشاطاته الصحافية ولقاءات المجموعات الثقافية، الفنية والادبية، وعلاقات أبيه العملية، ودور امه في ترتيب شؤون العائلة، الاولاد والبنات، والاقرباء، وزيارات او تنقلات العائلة بحثا عن عيش افضل بين المدن وما يحيط بها من مفاجآت ومغامرات، له أو لابيه، مع النساء، والاعمال، مرورا بالمدارس التي درس وفعاليته الأدبية فيها، مع الربط الروائي بما يحصل في البلاد من تغيرات سياسية وفي العالم من تحولات دولية.
واصل همه الأول، الكتابة، في الصحافة والرواية، وكان مناخه المثالي، "منذ أيام الدراسة في مدرسة سان خوسيه كان ادماني للقراءة، كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي، فكنت اقضي أوقات فراغي كاملة في القراءة وكل وقت الدروس تقريبا. بسنواتي الست عشرة، وبخط جيد ام لا، كان يمكنني أن أقرأ واعيد القراءة في نفس الوقت وبلا مساعدة أو نظام، وكان كل هذا يتم تقريبا سرا أثناء الدروس المدرسية. (ص 190) واشار في ذلك إلى قراءته كل ما حوته مكتبة المدرسة من كتب ومخطوطات ومجلدات مهداة من بقايا مكتبات إليها. كانت القراءة معينا له، لخياله الادبي، للسرد الواقعي والغوص في عالم بلاده وقارته وعجائبها التاريخية والثقافية التي نقلها بابداع ميزه كاتبا روائيا يستحق ما حصل عليه.
**** 2
اصبح ماركيز اسما معروفا بعد نشره قصصا قصيرة ومقالات في الصحافة، ولكنه لم يعتبر نفسه صحافيا، أو الصحافة مهنته. كان يريد أن يكون كاتبا مختلفا، وهو هدفه الرئيسي، رغم عمله في الصحافة مهنيا، وتقييم النقاد والأصدقاء لعمله، ومنهم من قال له ذلك، "أصدر ثاباتا اوليفايي- ضد كل مبرراتي- على أن الصحافة والأدب سينتهيان في نهاية الأمر إلى أن يكونا شيئا واحدا، وعلاقة مع " اليونفرسال" يمكنها أن تؤمن ثلاثة اتجاهات في واحد: حل مشكلة حياتي بشكل كريم ونافع، العمل في وسيلة إعلام مهنية وهي مهمة محترمة في حد ذاتها والعمل مع كليمنتي مانويل ثابالا، افضل استاذ في الصحافة يمكنني أن اتخيله..." (ص309) ورغم خجله الطاغي واصل في هذا المجال. بطاقته الإبداعية التي تفجرت في كل الاتجاهات، ومع الصعوبات الأخرى في عمل كهذا في بلاد غير مستقرة، اضطر إلى العمل في مجالات متعددة، تدور حول الثقافة ووسائلها. وتمكن أن يضع بصمته في كل ما قام به وإنتجه أو أسهم فيه. وساعدت صداقاته في عالم الفن والأدب في تسهيل أعماله وخياراته. أو الاستمرار في الحياة في تلك السنوات التي كانت اكثر قلقا، كما كتب عنها. وتنوع في العمل الصحفي من كتابة الافتتاحيات الى المقالات الادبية والنقد السينمائي والتحقيقات الصحفية التي قدمت له مداخل أو مقدمات لمواضيع الروايات التي كتبها بعد فترة من التحقيق فيها. وتابع اهتماماته في القراءة والصحافة، وكانت"مقالاته في "الزرافة" تجعلني شديد الحساسية تجاه الثقافة الشعبية، بعكس قصصي التي كانت تبدو الغازا كافكاوية كتبها شخص لا يعرف في أي بلد يعيش، الا أنه في الحقيقة، كانت روحي تشعر بمأساة كولومبيا كصدى بعيد، وتقلقني فقط عندما تطفح انهار الدماء، كنت اشعل سيجارة قبل الانتهاء من الأخرى، اتنفس الدخان بشوق للحياة يشبه تشوق مرضى الربو لتنفس الهواء، العلب الثلاث التي استهلكها يوميا كانت تترك آثارها على اظافري وكحة تشبه نباح كلب عجوز..." (ص363)
سرد في فصول كاملة من المذكرات عن العمل الصحافي في بلاده، وعن الكتاب والصحفيين الذين برزوا في مشهدها اليومي، واسماء الصحف التي عمل فيها، وزملاءه الذين شاركوه كل ايامه، ومغامراته ومتاعب المهنة والرقابة وصعوبات العمل اليومي والمكاتب والمقاهي وبيوت الدعارة والفقر والجوع والحرمان.. بواقعها المحزن وتاريخها المأساوي أو الغرائبي، وفي هذه الأجواء التي سردها أو مناخاتها توفرت له رواياته التي سجلت له وعرف بها، بأسلوبه المتميز وإبداعه الفني وقدراته الثقافية وخجله الذي لا يعرف سببه.
رغم كل ذلك، رفضت اهم دار نشر في وقتها رواية له، اختارها وشجعه عليها النقاد وزملاؤه في الصحيفة، وكان هذا درسا له، "في يوم من الايام سلموني في الهيرالدو رسالة كانت قد فقدت بين اوراق رئيس التحرير، كانت تحمل شعار دار نشر لوسادا في بوينس ايريس فتثلج قلبي، لكنني تمالكت نفسي حتى لا افتحها هناك وانتظرت إلى أن أصل إلى ركني الخاص، بفضل هذا استطعت أن اواجه وحدي وبلا شهود لخبر أن "الورقة الجافة" تم رفضها، لم اكن بحاجة إلى قراءة الأسباب كاملة لأنني شعرت في هذه اللحظة ببرودة الموت" (ص413). ومع تبريرات وتعاطف زملائه احتاج لوقت لاستعادة توازنه. واستمر في مغامرته ككاتب، يقرأ في الساعات التي لا عمل لديه فيها وتحت حر الظهر وخلال أيام الجوع كل ما يقع امامه، حتى كتب الجراحة ونصوص تعليم المحاسبة وغيرها إضافة إلى الكتب التي تصله أو يستعيرها لتنفعه في حلمه الثقافي. إدراكا منه أنه يعيش في مجتمع يحب الثقافة والعلم، ويتعلم مع تقلبات ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مع أن "المدارس قليلة ومتفرقة، وعلى التلاميذ أن يسافروا كل يوم عدة فراسخ سيرا على الاقدام أو في قوارب ذهابا وعودة. بعض هذه المدارس كثافتها عالية إلى درجة أنهم يستخدمون المكان ايام الاثنين والأربعاء والجمعة للاولاد، وايام الثلاثاء والخميس والسبت للبنات، بقوة الواقع كانت تلك المدارس الاكثر ديمقراطية في البلاد، لان ابن الغسالة الذي لا يكاد يملك طعامه اليومي يدرس في المدرسة نفسها التي يدرس فيها ابن العمدة" (ص458-459).
من طرائف ما سجله في مذكراته تكراره عن سوء الحظ الذي لاحقه في كل أعماله وشمل ايضا أصدقاءه واوضاع بلده السياسية، والطبيعة التي تزيد في المشهد الكارثي الذي عاشه، ولكن صبره وجلده ومتابعته وقدراته وصداقاته وفرت له فرصا متعددة، وآخر ما كتب عنه تكليفه في تحرير صحيفة غيرت في سيرته ومنحته فرصا ثرية. من بينها حصول ما سميت بأيام الجمعة الثقافية، ولقاءات الزملاء والأدباء والبرامج الثقافية المتنوعة، التي غيرت نمط عمله اليومي من اعباء تحرير الصحيفة، الى أجواء اخرى، وبعدها أيام الأحد التي سمحت له بالراحة بعد تلك الأيام المجهدة والتي اتاحت له سماع الموسيقى دون احكام مسبقة، بفضل أصدقائه وزملائه القريبين منه، وذكرهم بالاسماء والعناوين والاماكن، دون أن ينكر فضلا لهم أو دورا في اشهار عبقريته.
أضاف وفاء ماركيز وصدقه واخلاصه مكانة له بين كبار الكتاب والمثقفين في بلده وخارجه، قبل جائزة نوبل وبعدها. كما كشف ثقة الآخرين به، وهو ما أشار له عند لقائه قائدا للحزب الشيوعي السري في مخبأه السري والمفاجأة فيه. وهو يكتب تحقيقا صحفيا اراد أن يلم بكل جوانبه، فاتصل بأصدقائه ليحصل على معلومات أكيدة. "دون سابق انذار، فاجأني في التلفون صوت متناغم وهادئ؛
- اهلا جابرييل، انا جيلبرتو فييرا.
رغم أنه كان الأكثر شهرة بين مؤسسي الحزب الشيوعي، فإن فييرا لم يعرف السجن ولا المنفى دقيقة واحدة، الا أنه رغم خطورة أن يكون أي من التلفونين مراقبا، املاني عنوان بيته السري لازوره في ذلك المساء."(ص 475). واكتشف ماركيز بعد وصف السكن السري، والحوار معه، وأنه الرجل الذي يبحث البوليس السري عنه في البلاد، متابعا لكتاباته وحتى مقالاته المجهولة التوقيع، وكان يتفق معه على "أنه أفضل خدمة يمكن أن أقدمها للوطن هو أن أبقى بعيدا عن الانتماءات السياسية"(ص 476). وحصل على معلومات ثرية واستمر في صلته به في علاقة صداقة سهلت عليه التواصل وحتى في الأيام الصعبة من إقامته السرية.
بعد إصداره روايته مائة عام من العزلة" عام 1967 مبدعا فيها بأسلوبه المميز، والذي سمي بالعجائبي أو السحري، وعدت الرواية ممثلة لنوع ادبي عرف باسم الواقعية السحرية الذي تفنن فيه الروائي، وسجل له ولبعض من اقرانه المبدعين في قارته. عمم المصطلح بعد النجاح الكبير للرواية. وترجمت الى أكثر اللغات الحية وطبع منها قرابة ثلاثين مليون نسخة. وفي عام 2007، أصدرت كل من الأكاديمية الملكية الإسبانية ورابطة أكاديميات اللغة الإسبانية طبعة شعبية تذكارية من الرواية، باعتبارها جزءا من الكلاسيكيات العظيمة الناطقة بالإسبانية في كل العصور. واثارت صداقته مع الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو الكثير من الجدل في عالمي الأدب والسياسة. واراد بها العمل من أجل شعبه ووطنه، والدفاع عن حقوق الإنسان في الحرية والتقدم والسلام والتنمية، وله مواقف وتصريحات مشهودة، يذكر بها وترفع القبعة له.
صدر هذا الجزء الاول من المذكرات في مطلع عام 2002 في طبعة من مليون نسخة، وقدمت في اربع عواصم في وقت واحد لتكون أضخم طبعة لكتاب واحد في التاريخ. وجرى نقاش حول الأجزاء التي تليه، حتى نشر وصيته، رسالة الوداع التي اتمنى قراءتها والاستفادة من عبرها.
****3
اختتم الروائي الكولومبي العالمي ماركيز الجزء الاول من مذكراته، بكتابة رسالة رسمية إلى حبيبته، مارسيدس بارشا، (مارثيدس) لسؤالها عن علاقتهما واخبارها عنه وانتظار جوابها لاتخاذ القرار المصيري!، والذي رسم مستقبلهما، وعاشا بعد الزواج، اجمل سنوات العمر، اكثر من ست وخمسين سنة سوية، من عام 1958 حتى 17 أبريل/نيسان عام 2014، رواها فصولا وسردها حكايات. "عند نزولي من الطائرة اخذت (ورقة) واحدة زرقاء سماوي، وكتبت أول رسالة رسمية لمارثيدس الجالسة أمام باب بيتها في الساعة السابعة صباحا، بفستانها الاخضر كعروس بلا عريس، وشعرها كسنونو غير واثق من نفسه، دون أن تنتبه لمن ارتدت فستانها مع طلوع النهار (ص496).
كانا طفلين عندما التقيا عام 1941، هي في التاسعة من عمرها، وهو في الرابعة عشرة من العمر، وتعلق قلباهما "من أول نظرة ولقاء" وكأنهما يقرآن مستقبلهما. وعاشت معه أيامه مبدعا ومثقفا عضويا إنسانيا له اسمه ومكانه في المشهد الثقافي والسياسي في بلاده والعالم، ومثله عمرت سبعا وثمانين سنة، وإدارت مؤسسته، بعد فراقهما، رحيله الاخير. وحين توفيت في البيت نفسه الذي سبقها برحيله فيه، نعتها مؤسسته، التي ادارتها، واسمها "مؤسسة جابرييل جارسيا (جارثيا) ماركيز للصحافة الإيبرية الأمريكية الجديدة"، معلنة أن مرسيدس بارشا "توفيت في منزلها في مكسيكوستي، (2020/08/15) حيث استقرت مع (جابو) ( كنية جبراييل جارثيا ماركيز المحببة له) فيه منذ 1961. وجرى الحديث عن أصول عربية لها، من ابويها اللذين هاجرا من الإسكندرية إلى كولومبيا وعملا في محل صيدلة، كمهنة أبي غابو. وهناك حصل اللقاء. (وكذلك مثل الترجمة العربية للاسماء اختلف حول اصول بلدها، ولكن اتفق على عروبتها).
اعترف جابو أن مرسيدس بارشا هي الحب الكبير في حياته وملهمته وموفرة مناخات العمل لابداعه، لاسيما في كتابة روايته "مائة عام من العزلة،" التي استغرقت كتابتها مدة 18 شهرا. وعبّر جارسيا بامتنان عن تحمل زوجته الكثير قائلا، "عندما نفد المال لم تقل شيئا. ولا أعرف كيف نجحت مرثيدس بجعل الجزار يعطيها اللحم والخباز الخبز والمالك انتظار تسعة أشهر حتى استطعنا دفع الإيجار". ورهنت حلقة الزواج من أجل تسديد ثمن بريد مخطوطة القسم الثاني من رواية مائة عام من العزلة للطبع، واهدى لها روايته الشهيرة، الحب في زمن الكوليرا، التي نشرت عام 1985 .
كشف جابو عن حبه لمرسيدس وارتباطه منذ أصبحت في السادسة عشر من عمرها، وحين تقدم لها وافقت دون تردد، وعندما عاد غابو إلى وطنه، بعد أن أنهى عمله، كانت مرسيدس تنتظره بفارغ الصبر، وبعد أيام قليلة من لقائهما مرة أخرى، بدأ المحبان في التخطيط لكل شيء، بدءا من حفل زفافهما، الذي تم في21 آذار/ مارس 1958، والعيش سوية بدون كتابة رسائل وتبادلها، وليقضيا عمرا ممتعا لهما.
في رسالة الوداع الأخيرة، التي كتبها الاديب ماركيز، ونشرها على موقعه على الانترنت، وهو على فراش المرض اللعين، معلنا إعتزاله عن الحياة العامة، واستئذانه من قرائه ورفاقه ومحبيه وزملاء مهنته، ودع فيها محبوبته، رفيقة العمر، كاتبا فيها: "لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعي ولتضرعت إلى الله أن يجعلني حارسا لروحك.. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها، لقلت «أحبك» ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك دوما يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبدا".
وبمعين الحكمة وخبرته الثقافية كتب: لو شاء الله أن يهبني شيئا من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي .. ربما لن أقول كل ما أفكر به لكنني حتما سأفكر في كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلا، وأحلم كثيرا، مدركا أن كل دقيقة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور .. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكل نيام ..". وهو يدرك أنه يتمنى: "لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق .. للطفل سوف أمنحه الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلم التحليق وحده .. وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان".. ويعترف بصراحة: "لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر .. تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلقه.. تعلمت أن المولود الجديد حين يشد على أصبع أبيه للمرة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف .. تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن قلة منها ستفيدني، لأنها عندما ستوضب في حقيبتي أكون أودع الحياة". وينصح بشجاعة وجرأة: " قل دائما ما تشعر به وافعل ما تفكر فيه .. لأن الغد ليس مضمونا لا لشاب أو مسن. ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم. فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو أنك كنت مشغولا كي ترسل لهم أمنية أخيرة .. حافظ بقربك على من تحب، أهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكرا، وكل كلمات الحب التي تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الرب القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك".
تقدم كلمات الوداع الأخيرة لمثقف عضوي، عاش حياته مع زوجته وولديه وسرد حكايات أسرته وتاريخ بلدته وشعبه ووطنه، واشتبك في صراعاته السياسية وتحولاته، وفاز بالجوائز العالمية واشتهر اسما مبدعا، تخلده اعماله... كل هذه تقدم دروسا وعبرا لمن يريد أن يستفيد من حياته وأيامه ويبني عليها سجلا اخر من حياة لا تتكرر دائما أو تعود مثلها. وليعيش ليحكي أو يروي ..
* اعتمدنا على النسخة الإلكترونية للكتاب، ترجمة د. طلعت شاهين عن الاسبانية، ط 1 دار سنابل ، القاهرة، 2003



#كاظم_الموسوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن اليسار والجبهة الشعبية
- من سرق المصحف؟
- «دواعش» الثقافة والإعلام العربي
- كلمات من دفتر الأحوال... (26)
- مع ناظم حكمت في سجنه
- ملايين جائحة كورونا
-  مظفر الريل وحمد
- هؤلاء علموه.. مَن علمَكم؟
- كلمات من دفتر الأحوال... (24)
- كلمات من دفتر الأحوال... (23)
- نحو يسار وطني ديمقراطي موحد
- كلمات من دفتر الأحوال... (22)
- حنظلة يرفع سبابته ويؤشر
- كلمات من دفتر الأحوال... (21)
- جمال عبد الناصر .. مثقفا
- كلمات من دفتر الأحوال... (19)
- كلمات من دفتر الاحوال... (18)
- ثورة العشرين بين رسالتين
- مهدي عامل وقراءة في -نحو حركة عربية ثورية جديدة-
- مآلات الأوضاع السياسية في العراق


المزيد.....




- أضرار البنية التحتية وأزمة الغذاء.. أرقام صادمة من غزة
- بلينكن يكشف نسبة صادمة حول معاناة سكان غزة من انعدام الأمن ا ...
- الخارجية الفلسطينية: إسرائيل بدأت تدمير رفح ولم تنتظر إذنا م ...
- تقرير: الجيش الإسرائيلي يشكل فريقا خاصا لتحديد مواقع الأنفاق ...
- باشينيان يحذر من حرب قد تبدأ في غضون أسبوع
- ماسك يسخر من بوينغ!
- تعليقات من مصر على فوز بوتين
- 5 أشخاص و5 مفاتيح .. أين اختفى كنز أفغانستان الأسطوري؟
- أمام حشد في أوروبا.. سيدة أوكرانية تفسر لماذا كان بوتين على ...
- صناع مسلسل مصري يعتذرون بعد اتهامهم بالسخرية من آلام الفلسطي ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم الموسوي - أن تعيش لتحكي *