أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي عبد الجبار شمري - - الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية - ملخص لتحليل طرابيشي لرمزية الآله في أعمال نجيب محفوظ















المزيد.....

- الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية - ملخص لتحليل طرابيشي لرمزية الآله في أعمال نجيب محفوظ


علي عبد الجبار شمري
كاتــبٌ حُـــر

(Ali Shammari)


الحوار المتمدن-العدد: 6760 - 2020 / 12 / 14 - 15:44
المحور: الادب والفن
    


تناول الأستاذ جورج طرابيشي في كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية "، طائفة من روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ بالتحليل والتعمق في فك الرمزية، وأنا أميل إلى هذا الوصف في تناوله لتلك الروايات، وأُفضله على استخدام العمل النقـدي، فالنقد يشتمل على بيان مواطن الضعف في العمل أو النِتاج الأدبي، وهذا الجانب وأن كان حاضراً في معالجة جورج لأعمال محفوظ، إلا أنه كان نقـداً مُبرراً التمسَ فيه الناقدُ العذر للكاتب. لذا فقد كان تناول الأستاذ جورج لتلك الأعمال أقربُ إلى تحليل وإسبار في خفايا وأسرار الرمزية، منه إلى شيءٍ آخر وهذا ما أورده هو نفسه في الكتاب " وهذه الدراسة لا تطمح بأن تكون أكثر من (قراءة تحليلية) في بعض أعمال نجيب محفوظ على ضوء (مشكلة الله) التي باتت مركزية في كتاباته منذ أواخر الخمسينات"(طرابيشي، ص 298) . وقد كان طرابيشي موفقاً إلى حدٍ بعيد في تحليله، بل كان الأقرب إلى الصواب بشهادة نجيب محفوظ نفسه، والتي نشرها طرابيشي على ظهر كتابه "الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية" والتي قال فيها موجهاً الكلام لطرابيشي "بصراحة أعترف لك بصدق بصيرتك، وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عني بأنَّ تفسيرك للأعمال التي عرضتَها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها"
وبعد ما سبق من تقدمة، سأشرع بالحديث عن كلُ رواية تناولها الكتاب بالنقد باختصار وإيجاز، ثم سأحاول ترتيب وأدراج ما وقعت عليه في سطورٍ جامعة، تُبرز المشترك وتوضح الملتبس

أولاد حـارتـنـا
لعلها من أشهر روايات محفوظ، لا لأنها أفضلهم، بل لما أثيرحولها من لغطٍ؛ قد كان سبباً في تعرض كاتبها لمحاولة اغتيال كادت أن تودي حياته. ويبتدأ طرابيشي تحليله للرواية بوصفها محاولة من نجيب محفوظ لإعادة كتابة تاريخ البشرية، وهو رغم ذلك ينفى عنها الرتابة التاريخية التي تعنى بالعموميات، وأنما هي قطعة أدبية فريدة بما تحتويه من البعد التاريخي والعلاقة الشخصية الخاصة التي حرص الروائي على وجودها. وبحسب طرابيشي فلا يمكننا عند الحديث عن الإنسان وتاريخ البشرية، أن ننأى بأنفسنا عن علاقته بالإله فهذا التلازم لابد منه لإيصال الفكرة. فحارة الجبلاوي التي ولدت من العدم وبمختلف ساكنيها من حشاشين ومتدينين وفتوات وقتلة وحواة ورعاة، ما هي إلا هذه الأرض التي ولدت كذلك من العدم، والتي تحمل على ظهرها الناس بمختلف مشاربهم، وإن فك هذه الرمزية يقود بدوره إلى فـك رمـزية " الجبلاوي" مُوجد هذه الأرض والذي لم يكن بالضرورة إلا " الله" خالق الأرض وموجدها. يسترسل طرابيشي في فك رموز الرواية فيرى أن بيت الجبلاوي الكبير الذي يطمع الجميع بدخوله، ماهو إلا الفردوس الذي يطمع الإنسان بالرجوع إليه. وفي تفسيره للإسقاط والتجانس في الأسماء، وربطاً بحدث استخلاف آدم للأرض، كان لطرابيشي يدٌ طولّا في إيضاح ما بطّن محفوظ روايته، فأدهم ما هو إلا آدم، وإدريس ما هو إلا إبليس، وذالكم الموقف الذي كان من المتوقع أن يستخلف فيه إدريس على إدارة الوقف، فوقع اختياره على أدهم، لم يكن إلا صورة رمزية لتلك الحادثة التي وردت في القرآن
وتستمر الرمزية ومعها الحبكة الدرامية، فيُطرد أدريس من البيت الكبير ليعيش فيه أدهم بهناءة في كنف الجبلاوي ويتزوج أدهم، لكن إدريس لم يُسلم بما حصل وقد أقسم على الانتقام، فيظل يوسوس لأدهم حتى يقنعه بأن يطلع على حجة الوقف، وبتشجيع من زوجته يُقدم أدهم على تلك الفعلة؛ فينال من جبلاوي مايستحق من غضب، فيطرده من ذلك النعيم إلى العراء، ليلقاه إدريس بضحكة تشفي وانتقام. وتستمر الأحداث هكذا بالتوزاي لتلد زوجته صبيين هما همام، وقدري وما هذه الأسماء إلا رمزاً لقابيل وهابيل، وكما حدث مع إبني آدم، حدث مع إبني أدهم ، فقرب جبلاوي همام وأسكنه البيت الكبير، وكان هذا سبباً لحنق قدري وقتله لأخيه همام. بعد هذه الحادثة صفح جبلاوي عن أدهم وجعل الوقف له ولذريته، ومن هنا تبدأ رحلة الصراع بين ورثة الحارة من نسل أدهم، وبين ورثة الشر والانتقام من نسل إدريس، وكلما ساءت الأوضاع واشتدت على الناس المحن هتفوا صارخين: أين أنت يا جبلاوي؟ ليبعث جبلاوي لهم على أثر تلك الصرخات رسولاً تلو الأخر يعينهم في تنظيم أمورهم، فبعث جبل، ورفاعة، وقاسم وهم على التوالي موسى، عيسى ومحمد، ويرى طرابيشي أن محفوظ لم يكن موفقاً في الموازاة فيما يخص هؤلاء الأنبياء لأنها كانت أحادية الجانب، ويرى أن الرواية لم تستعد عافيتها إلا في فصلها الخامس والأخير الذي يظهر فيه عَرفَّة، و ما عَرفَّة ذاك إلا رمزاً للعلم والمعرفة الذي اكتسح كل مفاصل الحياة بثورة غيرت كل المفاهيم، لتشمل في تغيراتها حتى مفهوم "الله"..!
عرفّة الذي تسلح بتلك الزجاجات الحارقة التي لم يُعرف لها مثيل سابق في مواجهة نبابيت الفتوات، هو نفسه الذي تسبب في موت جبلاوي لأنه اجترأ على دخول خلوته وقتل خادمه، مما أماته غماً ؛ لاجتراء ذريته عليه
ورغم ذلك فقد اخبرته الخادمة أن الجبلاوي مات وهو راضٍ عنه، لأنه إنما أراد خدمة الآخرين بفعله هذا، لا المصلحة الشخصية. وبحسب طرابيشي فأن لهذا المشهد رمزية عالية في أن الله يحثُ على العلم ويشجع على التنور بضيائه، حتى لو تسبب هذا العلم في التنكر لله أو إنكاره. ولا تنتهي الرمزية في هذه الرواية إلى هذا الحد بل حتى بعد مقتل عرفة على يدِّ قدري، فأنه يترك وراءه ذلك الكراس الذي يحمل مفاتيح علمه وطريق الخلاص والحرية لأبناء الحارة، الطريق الذي سيخلصهم من بطش الفتوات واستبدادهم، وهو بهذا يترك فسحة من التفاؤل لمستقبل قد يحمل في طياته الأمل والحرية والخلاص لأبناء هذه الحارة من المظلومين والمساكين والمعذبين.

زعبـــَّـــــــــلاوي
للاسمِ جرسٌ يذكرك بجبلاوي، هكذا أراد الكاتب، وهكذا فسرها طرابيشي.وهو أولى الأشارات التي تجعلك لا تقبل بالتفسير العادي للقصة، وتُلجِئُك إلى الأخذ بالرمزية في تفسيرها. رحلة البحث عن الشيخ زعبلاوي، الشيخ شيال الهموم والمتاعب الذي يحاول الراوي العثور عليه لداءٍ مجهولٍ ألمَ به ولم يصرح به. ولا يملك الراوي من معرفة للوصول إلى زعبلاوي إلا النزر اليسير، لتبدأ رحلة طويلة من البحث من مكتب المحاماة العصري، وربع البرجاوي بالأزهر، إلى شيخ الحارة الذي عادةَ ما يعرف كل شيء، و بحسب طرابيشي فأن شيخ الحارة ليس إلا المعرفة أو العلم الذي قد يقف أحياناً في تلك المنطقة الرمادية حيث لا نفي ولا إثبات للحقيقة أو لوجود الله على وجه الخصوص، فشيخ الحارة لا يملك أن ينفي أو يؤكد " هو حي لم يمت لكن لا مسكن له" وهنا يعود طرابيشي ليؤكد تأويله لما كتب محفوظ وخالف به نيتشه بأن الإله قد مات، فالإله لم يمت، بل حتى لو سلمنا بأن القتل قد وقع فما هو إلا تسليم بوجود القتيل. ويستمر الراوي في رحلة البحث بعد أن يحصل على خارطة للكون من شيخ الحارة لمساعدته في البحث عن زعبلاوي، ومن حسنين الخطاط، للشيخ جاد تستمر رحلة البحث عن زعبلاوي لتميط اللثام في مختلف مراحلها عن ما يملكه هذا الزعبلاوي من صفات وخصائص والتي تشير بما لا يجعل مجالاً للشك أن الزعبلاوي ماهو إلا رمزاً " لله". وتستمر الرحلة لتقوده في أخر المطاف إلى الحاج ونس الدمنهوري، الذي لايجالس إلا من يحتسي الخمر، فلا يجد الراوي بداً من أن ينادم الحاج ونس ليصل إلى غايته، ومالخمر بحسب طرابيشي إلا كناية عن الفكرة الصوفية المتمثلة في التأمل والحلول والاتحاد بين العاشق والمعشوق للخروج من عالم الماديات والغوص في الروحانيات، وليس أفضلُ من الخمر شيئاً يتماهى مع هذا الوصف والرمزية.
يفقد الرواي الوعي أثناء الجلسة ليفاجأ بعد استعادته لوعيه أن الزعبلاوي كان حاضراً، وأنه مسح على رأسه وبلله بالماء..!
فما أن تأكد وجود زعبلاوي حتى تأكد من معه استحالة الوصول إليه!

الطــــــــــريق
لا يرى طرابيشي في رواية الطريق إلا امتداد لرحلة البحث عن زعبلاوي في رمزية جديدة تتمثل برحلة بحث صابر عن والده سيد سيد الرحيمي، ويظهر جلياً ما لاسم الوالد من دلالة وإشارة إلى المرموز. صابر الذي تركت له والدته ثروة جُمعت من عرق المومسات، و معها خبرأن والده مازال حياُ، وأنه عنيٌ ذو نفوذ! وماكان من صابر بعد أن استنفذ كل ماتركته له والدته من ثروة ،إلا أن يشرع بالبحث عن ذلك الوالد الغني لينتشله من ما وصل إليه من فقر، ويعيده لذلك العهد من الهناءة والدعة، كما كان في عهد أمه. وهنا يرى طرابيشي أن محفوظ كان من أنضج الكتاب العرب في تناول علاقة الإنسان بالله، تلك العلاقة التي يرى بأنها يجب أن تنزه عن الأتكالية، وأن يكون التغيير الذي يصبو إليه الإنسان نابع من داخله، ومستمد من قدراته، فالإنسان هو مصدر المعجزة لا من ييتظرها. وعلى عكس جدية الرواي وتفانيه في البحث في قصة زعبلاوي، كان صابرٌ مثالاً في الاتكالية والكسل فقد اكتفى بالبحث عن الرحيمي في دليل الهاتف مع نشر إعلان هزيل في مجلة! وحتى عندما حُكم بالإعدام و سُئل وهو في السجن عما يرواده إذا جاء أبوه، فقد كانت علاقة الانتفاع، والاتكالية، وانتظار المعجزة ظاهرة في معرض رده للمحامي لينتهي الحوار بينهما بما أراد محفوظ أن يُنفذه عبر الرواية، ليُجري على لسان صابر" لاجدوى من الاعتماد على الغير" فيأتي الرد مشحون بكل تلك الرمزية الملازمة للرواية على امتداد احداثها "بل هناك جدوى فيما هو معقول".

الشحــــــاذ
وتستمر رحلة البحث عن زعبلاوي أو الرحيمي في رواية الطريق لكنها هنا رحلة المحامي حمزاوي الذي يسأم الحياة لا لمرضٍ أصاب جسده بل لمسٍ خالطَ روحه، فَـملَّت تلك الحياة الرتيبة التي رغم مافيها من مواطن الراحة والدعة، إلا أنها ماعادت تمنحُ روحه الهائمة ما تُريد، فيستحضر كيف كان مع شقيه عثمان والمنياوي في شبابهم أقوياء الشوكة وأصحاب روح وهمة وأهداف عالية في النضال والأشتراكية ، لم يثني عزيمتهم شيء سوى تلك الأقدار التي جعلت منه محامياً "برجوازياً" ومن عثمان مسجون في قضية إرهاب، والمنياوي بائع لب وفشار. تظل روح حمزاوي الهائمة مترددة يشوبها عدم الاستقرار، حتى تقع يده على ما كتبت أبنته بثينة من بعض أبيات الشعر التي خُيل إليه أنها في معشوق لابنته، ليكتشف بعد استجوابه لها، أن تلك الأبيات ماكانت إلا امتداد لما كتبه هو قبل عشرين عاماً في سرِّ الوجود، لتستحيل فكرة في رأسه استحضرها فآمنَّ بها، وهي أن لا مناص من استعادة تلك النشوة القديمة لكي تشفى روحه السقيمة، وتبدأ من هنا رحلة الشحاذ الباحث عن النشوة. رحلة الشحاذ متسول النشوة التي تنقلت به إلى اماكن عدة بحثاً عن تلك النشوة، فمن أحضان البغايا، إلى القراءة المجدبة في الشعر، إلى الطريق الصحرواي في الخلاء عند الهرم، كلها محاولات لتسول النشوة، تلك النشوة التي ما أن حصل عليها لثواني عند تأمله النجوم وهو هائم مغمض العينين، حتى أدرك أن قطيعته مع ماضيه بلغت الذروة..! فما كانت تلك النشوة إلا نشوة التحرر والانفصال من وعن كل ارتباط. وبحسب طرابيشي فأن ما أجراه محفوظ من حوار على لسان عثمان بأن القلب ماهو إلا مضخة للدم ليس إلا هو نقدٌ لاذع للمتصوفة الذي يريدون الوصول لله عن طريق تلك المضخة. يهجر حمزاوي كل شيءٍ بصورة نهائية ويتفرغ لحياة منفكة الارتباط من كل شيء، مختلياً بنفسه متفرغاً لنشوته، وتستمر أحداث الرواية فيتزوج عثمان من بثينة أبنة حمزاوي، ليأتي حمزاوي هارباً عنده من ملاحقة الشرطة، فتهجم الشرطة عليه عند حمزاوي فيصاب حمزواي في ترقوته برصاصة يظل فيها متنقلاُ بين الوعي واللاوعي وهو يردد تلك العبارة التي ختم بها محفوظ روايته " أن تكن تريدني حقاً فلم هجرتني؟".

ثرثـــرة فـــــوق النيــــــــــل
لم يتناول طرابيشي هذه القصة بشيء من التفصيل، وأنما أكتفى ببعض التوضيح حولها نحو، أجابتها على أسئلة حول أخلاقيات الإنسان وتعامله مع الحياة، وهي تتناول حياة مجموعة من الشباب أدمنوا المخدر ليتسببوا في دهس إنسان مجهول بسيارتهم فيبداُ التساؤل لو لم يكن الله موجود هل سيكون كل شيء مباح؟ ليخلص محفوظ إلى أن الإنسان إنسان، والجريمة جريمة، بوجود الله أو عدمه.
حارة العشاق
ينقلُ طرابيشي في مُستهل حديثه عن هذه القصة عن لسان نجيب محفوظ قوله بما معناه، أن بعض الروايات والقصص مما يكتُب، قد يتناوله النقاد بتفسيرِ يجافي مافكر به عند كتابة تلك الأعمال. ويرى طرابيشي أن هذه القصة من الأعمال التي أُسيء تفسيرها؛ وهو يرجعُ هذا إلى الأزمة التي خلفتها النكسة في نفس محفوظ وكُتاب تلك الفترة، وفي هذا نقل طرابيشي حواراً لمحفوظ يُقرُ به بأن أعماله بعد النكسة تحولت لأحاجي وفوازير، و يرجع محفوظ ذلك لما استحالت إليه حياته بسبب النكسة . ويقص علينا محفوظ في حارة العشاق، حكاية عبد الله الموظف البسيط المتذبذب في قرارته، وزوجته هنية التي لا ينفك يقذفها بالفاحشة تعريضاً وتصريحاً. والرواية لا تخلو كسائر أعمال محفوظ من الرمزية، فعبد الله هو الإنسان، وترقيته في العمل ما هي إلا مرحلة من مراحل تطوره، وما اختيار محفوظ لتجربة الشك في الزوجة، إلا انعكاس لتجربة الإنسان وتذبذبه بين الشك واليقين في الله والخلق. يلتقي عبد الله في رحلة تطوره هذه، بالشيخ مروان الذي ينتشله من الحزن، ويُغير من قناعات عبد الله بشأن زوجته، فيجعله يكذب حواسه، ويصدق قلبه! ويردُ هنية لعصمته، ليعيش معها فترة من الراحة ليست بقليلة، وينجب منها طفله سميُّ الشيخ، ليرسخ محفوظ به أول حقبة من تطور الإنسان البدائي، ولا يلبث عبد الله في هذا الحال حتى ينقلب على الشيخ مروان، فيصبح لا يستسيغ منه قولاً أو عبارة، ويرى أن بضاعته صارت بالية ومكررة، فيعود مع هذه الانتكاسة شكه وفراقه لهنية.وبعد الشيخ مروان يلتقي عبد الله بالأستاذ عنتر معلم الحارة، والذي يقنعه بتطوير حياته، وهنا تأتي مرحلة جديدة من تطور الإنسان، وعلى خلاف الشيخ كان رأي الأستاذ أن العقل هو مايجب أن يُستفتى لا القلب، والعقل هنا ماهو إلا رمزية لعصر المعرفة والإنفتاح على الثقافة، فيعود عبد الله إلى هنية ويعيش معها براحة لفترة من الوقت، وينجب منها الابن الثاني عنتر. لكن هذه المعرفة المتمثلة بعنتر لم تكن معرفة حقيقية، فهي أقرب إلى المعرفة الفلسفية التي لا تجزم بالأمور، أما المعرفة العلمية فكانت تتمثل بمراد عبد القوي ضابط المباحث. مراد عبد القوي الذي أودع الشيخ والأستاذ السجن بتهمة تعاطي المخدر، وممارسة الفجور، ليجد عبد الله مستقراً عنده يسأله عما سألهما من قبل من خبر هنية، فلا يجد جواب فهذه ليست مهمته بل مهمة جهة أخرى، وهو كما المعرفة العلمية الحديثة، فهي لا تملك أن تنفي أو تثبت، ليصل عبد الله لأول مرة إلى جوابٍ نابع من نفسه، فإذا كانت هنية بريئة بنسبة 50% ومذنبة بنفس النسبة، فلأنه يحبها ولا يستطيع العيش دونها سيؤمن بالاختيار الثاني ويصدقه.

حكايــــة بــلا بدايــة ولا نهايـــــة
يرى طرابيشي في هذه الرواية استكمالاً لمشروع محفوظ في أولاد حارتنا لكن من منظور معكوس، فهي تعيد كتابة تاريخ البشرية لكن من منظور العلم لا الدين. الرواية تحكي قصة محمود الأكرم المنحدر من الأسرة الأكرمية التي تقطن البيت الكبير، وما أكرم هنا إلا أدهم أو قل الأنسان الأول، أما البيت الكبير فكناية عن الأرض ومركزيتها في الكون. ولا يرى طرابيشي تفسيراً للمواجهة بين محمود الأكرم، وعلي عويس إلا ترميزاً للمواجهة بين الدين والعلم. يطرح محفوظ من خلال روايته ومن خلال هذا التوزاي بين الدين والعلم، شخصيات عديدة تمثل الجانبين، فللدين اختار الطريقة الصوفية متمثلة بالشيخ الصناديقي والشيخ عمار، أما العلم فكان يعكس نظريات فرويد، كوبرينكس ودارون بلباس شيوخ الطريقة الأكرمية القدامى، أبو الكبير، والدرملي وأبو العلاء. ويُقدم محفوظ بتصويره لقدوم علي عويس بوفده المطالب للحقيقة على الشيخ محمود، تلك المحاكمة للتصور الديني القاضي بجمع الأموال لبناء بيوت للدين والعبادة في الوقت الذي يرزخ فيه الناس تحت وطأة الجوع والفقر. وتستمر الأحداث ليَتبينَ لنا فيما بعد أن على عويس ماهو إلا ابن الشيخ محمود من زينب، حيث كان قد وطأها سفاحاُ في شبابه، وقد جاءت به على أنه اخوها فيما بعد. وأن هذه الصلة بين عويس والشيخ، ترمز إلى تلك العلاقة بين الدين والعلم التي يريد محفوظ أن يُصدرها للقارئ برمزية على عويس والشيخ محمود وعلاقتهما ببعض " لاعداء لدرجة القتل، إنما تضامن إلى حد الأعتراف المتبادل بالأبوة والبنوة"

أعمال نجيب محفوظ إجمالاً
يرى طرابيشي والكثير غيره أن نجيب محفوظ قد أخذ من اسمه الأول ما اشتمل عليه من صفات ، فهو نجيبٌ وذكيٌ وفطنْ. وإن كاتباُ بتلك الصفات لا تُقرأ روايتهُ وتؤخذ كما هي عليه، ناهيك عن أن محفوظ ذاته اعترف ذات مرة أن معلمه كان يُحب ماكان يكتبه ويجلعه أمثولة للتلاميذ الأخرين، لولا أنه كان يأخذ على نجيب ما يورده من رمزية للدين في كتاباته. وعلى ما سبق فقد أمتلك طرابيشي كافة الأدوات التي تؤهله لقراءة أعمال محفوظ قرأءة مُعمقة فككَّ بها رموز الشخصيات وفسر مواقفهم وما يمرون به من مشاهد وأحداث وفق ما يمثلونهُ في الواقع، وقد كان موفقاُ في ذلك بشهادة محفوظ نفسه التي أوردناها في المقدمة. أن أسباب نجاح طرابيشي في تحليله كتب محفوظ تكمن أجمالاً، أن الرجل أي طرابيشي، يمتلك ثقافة موسوعية عالية مكنته من فك الترميز وتحليل المبهم، وأنه كذلك قرأ شخصية محفوظ وتابع حوارته المرئية لكي يعرف أكثر عن شخصية هذا الكاتب، كذلك فقد استعمل هذا المنطق كمنطلق في التحليل بأكثر من عبارة حين أورد أن الرواية فوتغرافية أو أن احداثها عادية فهو أقر أن الرواية عادية بدراميتها، لكن معرفته بمحفوظ وشخصيته وأسلوبه تأبى أن تتقبل الدراما العادية؛ لهذا وجدَّ من كنوز تلك الروايات وثمارها ما يكفى الغلة ويغني الفقير. لقد كانت رمزية الله حاظرة بكل أعمال نجيب محفوظ، فالعلم والدين صنوان لا يفترقان وأن تعددت أشكال تقديمهم فحضورهم ثابت، وقد آمن محفوظ بالأثنين ووجد مكاناً للأثنين في أعماله، فأعماله هي الدنيا بكل ما فيها من تناقض، والدنيا وأن تصارع فيها الأضداد وتزاحم فيها الاختلاف إلى أنها تستوعب وتحتضن الجميع



#علي_عبد_الجبار_شمري (هاشتاغ)       Ali_Shammari#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في كِتاب -نقد وإصلاح- لطه حسين
- قراءة سريعة في المشهد السياسي العراقي..
- اِختلال المفاهيم.. رسالة مفتوحة الى التيار المدني
- الذائقة السياسية العراقية..الى أين؟
- -ويقولون مالايفعلون- .. ليسوا الشعراءَ فقط !


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي عبد الجبار شمري - - الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية - ملخص لتحليل طرابيشي لرمزية الآله في أعمال نجيب محفوظ