أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكرياء مزواري - رمضانُ في الذّاكرة (ج1)















المزيد.....

رمضانُ في الذّاكرة (ج1)


زكرياء مزواري

الحوار المتمدن-العدد: 6666 - 2020 / 9 / 3 - 16:38
المحور: الادب والفن
    


(1)
من منّا نحن صغار الحيّ لا يتذكّر شهر رمضان المُبارك؛ كانت لهذا الشّهر طقوسٌ خاصةٌ تهيؤ الصّغير قبل الكبير لاستقباله. كنّا نحن الصّبية نتنافس في ما بيننا على صيامه، إذ بمجرد ما يخرج الواحد منّا للحيّ إلاّ ويُطالب صديقه بفتح فمه، وإبراز لسانه حتّى يرى شكله، فإذا كان يميل إلى الحُمرة وفيه شيء من اللُّعاب ننعته مباشرة بتلك اللازمة: "يَاهْ، وَكَّالْ رَمْضَانْ" أو "وَكَّالْ رَمْضَانْ مَحْرُوﮔْ لَعْظَامْ". وهكذا كان كلّ واحد منّا يطوّر حيلة؛ فقبل أن يخرج من منزله، يذهب إلى المرآة ليرى لون لسانه، ويبدأ بعدها بإخراج كل ألوان المخاط، ومسح لسانه بيده أو بمنديلٍ حتّى لا يظهر عليه أي شكل من أشكال الرطوبة.
من منّا ينسى أجواء الحيّ في رمضان الكريم، خاصة بعد صلاة العصر، إذ يتحوّل الزّقاق إلى فضاء تكتسحه رائحة "الحريرة"؛ نعم "الحريرة"، هذه الأكلة العجيبة التي لا يمكننا الاستغناء عنها، أو تصوّر مائدة رمضانية دونها. كان لُعابنا يسيل كلما استنشقنا رائحتها، وننتظر بفارغ الصبر أذان المغرب، حتّى يرفع عنّا التكليف. هذه الأكلة اللّذيذة المكونة من "العدس" و"البصل" و"القُزبر" و"المعدنوس" و"لكرافص" أو ما كان يطلق عليه ب"قْوَامْ لَحْرِيرَة"، كانت نسوة الحي يتفننّ فيها، ويتبادلن بعض الأطباق(زْلاَيَفْ أو لَغْرْفْيات) حتّى تُقوّم كلّ واحدةٍ عمل الأخرى، والمرأة التي تتقن هذه الأكلة، تسمى في عرف النّساء "حادگة" (من الحذق).
كانت لدى أبناء الحيّ علاقة روحية مقدسة مع مسجد "عكاشة". هذا المسجد الصّغير، بمعداته البسيطة، وأثاثه القديم، كان يملأ قلوبنا سكينة ونشوة، عكس مساجد أخرى كنّا نرفضها، إما بسبب قمع بعض المسنّين لنا، أو لأنّها كانت تقع وسط أحياء كنّا نعدها "بورجوازية". ولكن في حقيقة الأمر كنّا نخاف أن يُفتضح أمرنا، لأننا كنّا نُغير على أشجار منازلهم في شكل مجموعات وقت فصل الصيف ونسرق منها البرتقال والمشمش والتفاح... وما على شاكلتها من ألوان الفواكه التي كنا نأكلها قبل أن يحين موعدها ودخولها إلى السوق، وكنا نفخر بذلك لأننا السبّاقون دون غيرنا.
رغم سنّنا الصّغير كنّا نتنافس في شهر رمضان على أداء الصلوات في وقتها، و التراويح منها خاصة؛ كان مسجد "عكاشة" الصغير يملأ عن آخره في هذا الشهر. كان كثير من أقراني لا يصلّون إلا صلاة "المغرب"، لا لشيء إلا لأن بعض الأخيار من رجال الحيّ، كانوا يُقدمون على إحضار التّمر وإطعام الصائمين عسى الله يثيبهم عليه، كنّا نسعد أيما سعادة حين يقدم لنا ذاك التمر، رغم ضعف جودته، كما كنّا نسخط أيما سخط من بعض المسنين(شْوَابَنْ) الذين كانوا يحرموننا من ذلك، بمبرر أننا أطفال ولم نبلغ بعد مرحلة الصّيام("مَزَالْ مَا يْحَقْ عْلِيكُم")، وفي كثير من الأحيان كنّا نعاقب صاحب الفعل ليلاً، وذلك برشق منزله بالحجارة وما شابه ذلك.
بعد أداء صلاة المغرب، كنّا نجتمع نحن الصغار، ونعقد تحديا غريبا: "لِي رَاجَلْ يَهْوَدْ دُورْكْ لَطْرِيقْ سِيدِي يَحْيَى وَيَنْعَسْ فِيها"، أي من يمتلك رجولة حقيقية، عليه بالنّزول إلى طريق "سيدي يحيى" ويستلقي وينام فيها بعض الوقت، لماذا هذا التحدي؟
كانت لدينا سردية غريبة عن طريق "سيدي يحيى" تتناقل جيلا بعد جيل، وهي أن هذه الطريق حصدت الكثير من الأرواح، وبعضهم من أبناء الحي، وبالتالي هي "مسكونة"، أي تسكنها أرواح شريرة، ولم ترق عليها لحدود الساعة أية دماء من الحيوانات حتّى تكف عنا غضب أهلها "مَّالِينْ لَمْكَانْ".
آهٍ، كم هي لحظات في غاية السّعادة، فطريق "سيدي يحيى" التي كانت طوال النّهار مليئة بالسيارات والعربات، وباللّيل مرتعاً خصباً "للمقاتلات" التي تنقل البنزين المهرب من الجزائر، تُمسي فارغة. كانت سعادتنا بسيطة حينها؛ نستلقي في الطريق "المسكونة"، ثم نجري، نمرح، ونصرخ... كما كنا نعشق الطريق لا شعوريا، لأن أرضيتها ببساطة كانت مطلية بالزفت عكس أزقتنا، ولكن من الغريب أن مرحنا هذا لا يتعدى بضع دقائق، فكنا نخاف من ظلمة الطريق، كما كانت أزقتنا تفتقد للإنارة العمومية، والأهم من هذا كله كنّا نخاف فوات تناول طبق "الحريرة" مع الأهل.

***













(2)
من عوائدنا بعد الفطور التّسابق إلى الخارج، و أول من يخرج من منزله نصنفه في خانة الرّجال، لأن البيت في تصورنا لا تمكث فيه عدا الفتيات مع أمهاتهن، وهكذا نجد بعض "أولاد الحومة" الكبار، حيث يدخن أغلبهم التدخين، والمخدرات(لَحْشِيشْ) كذلك، نبدأ شيئاً فشيئاً نجتمع، وما إن تكبر دائرة الرّفاق حتّى نبدأ في التفكير لبرنامج اللّيلة، وطبيعة اللّعب التي نتفق عليها يكون غالباً بعد أخذ ورد، أي كنّا نمارس ظاهراً الديمقراطية، ولكن باطنياً كانت الطبقة النافذة التي تكبرنا سنّاً هي من تسطّر برنامجنا المرحلي لتلك اللّيلة.
لم يكن تنزيل مخرجات اللّعب يتم إلا بعد صلاة التراويح، فكنّا نحن أبناء الحيّ نتسابق لمسجد "عكاشة"، هذا المسجد الذي يحتضن الكثير من ذكريات الطفولة اللّذيذة؛ كان عندي فضاء روحانياً مقدسا،ً فيه تكونت مجموع رؤيتي للعالم آنذاك، فكنّا نخاف الله عز وجل، ونحبّ نبيه الكريم، ونحفظ بعض أسماء صحابته، ونعرف قصته مع الكفّار المشركين، كانت أرواحنا تهتزّ عندما يأتي إلى مسجدنا الصّغير داعية من الدّعاة، ويجلس في كرسي جميل، ويضع مكبر الصّوت بجانبه، فينطلق هذا الأخير في تعداد فضائل الصيام تارة، ويذكرنا بالجنّة والنّار تارة أخرى، و كان يدعونا إلى التّراحم والتآزر أيضا.
بعد انتهاء موعظته الرّقيقة، التي كانت تسبح بنا في ملكوت الجلال والجمال، ينطلق بنا الإمام في تأدية صلاة العشاء، وكم كان صوته جميلاً حين يحضر أحد الدّعاة معنا، عكس الأيّام الأخرى حيث يأتي صلاته دون روح أو خشوع، كنّا نحن الصّغار، نؤدي الصلاة وأعيننا ترقب حركات الإمام، وبذلك نسبق حركات المصلين، وبعد صلاة الفرض يبدأ المسجد في الانفراج، حيث يغادر عدد من المصلّين ممن لهم مصالح وأغراض يقضونها، وكانت هذه مناسبة لنا في لملمة الشّمل، وإعادة رصّ الصّفوف؛ كانت ركعات التّروايح شاقة بالنسبة إلينا، نظراً لطولها، وبذلك منحت لنا الفرص لتبادل الغمز واللّمز، ومنّا من كان يحضر للمسجد بعض الحلويات، إذ أتذكّر مرة كيف تقاسمت أنا وصديقي "الكعك"(من الحلويات المعروفة عند أهل وجدة) في السّجود، حيث لا يستطيع أحد من الكبار أن يرقبنا، وبعدها انفجرنا ضحكاً، وعلمنا جيداً أن ما ينتظرنا بعد نهاية الصلاة من وعيد، لذلك بمجرد ما أن أنهى الإمام صلاته، إلا وانطلقنا كالشّهاب الثّاقب نحو باب المسجد، لأننا كنّا ندري جيداً ما سيحيق بنا لو بقينا هناك.
كانت لي ذكريات لذيذة من هذا القبيل، لكن المهم بعد هذا هو العودة إلى الحي، وتنفيذ البرنامج المتفق عليه كل ليلة، كانت لعبنا عديدة، منها: اللّعب بالورق(=الكارطة)، "غَمُوضة"، "الكنز"(trésor)، "سبع حجيرات"، "لمحاجيات"، "ربع قنوت"، 1-2-3 جميد، 1-2-3 "دينفري"(Délivré)... إلا أن اللّعبة المفضلة عندنا هي هذه الأخيرة؛ إذ تمتاز بالجري والخفّة في الحركات، ويجب على اللاّعب أن يمرّ بجانب أصحابه المقبوض عليهم، وأن يمسهم بيده، رغم الحراسة المشدّدة عليهم، وإن قُبض عليه في هذه الأثناء، فقد خسر هو وأصحابه، لأنه لم يتمكن من إطلاق سراحهم، لكن هيهات أن يقبض عليه، إذ غالباً ما كان هذا الأخير كبيراً عنّا في السّنّ، ونظراً لمكره كان يلجأ بخبث إلى منزله، طبعاً بتخطيط من أعضاء فرقته، ونظل نحن الحيارى المغلوب على أمرهم ننتظره إلى أن نسأم، وينصرف كل واحد منا في الأخير إلى منزله، وهكذا تظل اللّعبة مفتوحة دون نهاية.

***




(3):
ليالي رمضان، ليالي الدفء والأنس، ليالي الصّفاء والرّحمة، ليالي السّعادة والفرح. فيها كنّا نجوب أزقة الحيّ الضيّقة حيث عبق رائحة "الحريرة" يملأ الفضاء، هذه الرّائحة التي "تُعَطْعِطُ" وتسرح في الجو كانت تُذكي من كمية اللُّعاب في فمنا أثناء الصوم، ليسقط على بطننا الفارغ ويهدئ من ألمه، فرغم صغر سنّنا، كنّا نقول لمن سألنا "إني صائم" لأن غير الصائم من الأطفال كان ينظر إليه نظرة ازدراء، وكأنه غير مسلم، وكنّا حين نسمع كلاما بذيئاً أو نرى منظراً مقززاً نقول: "اللّهم إني صائم" إيماناً واحتساباً منّا.
كلّما أذكر رمضان الكريم إلا ويربط ذهني بطريقة ميكانيكية لاشعورية بين التراويح ومسجد "عكاشة"، هذا المسجد الذي نعته البعض منّا بجامع "الشوابن"(المسنين)، وبيننا نحن الأطفال وبين هؤلاء المسنين قصص لا تكاد تنتهي؛ إذ كنّا نضع لكل مسنٍّ لقباً ما يميزه، فمنهم: "الشاحور"، "بنكرموسى"، "بورعدة"، "شويبيني"، "بركة عوج اللازمة"، "بريبريو"، "صحراوي"...، و هكذا كنّا نكرههم جداً في أوقات المناسبات؛ تلك المناسبات الجليلة التي كان يحضر فيها الطّعام إلى مسجد عكاشة، و كان هؤلاء المسنون يمارسون علينا كل أشكال القمع وألوان الضبط الاجتماعيين، إذ أذكر من حيلهم التي كان كلّ الصّغار على دراية بها أنه حين يحضر الطعام و نتحلق حوله يبدأ أحد المسنين بتوزيع الملاعق على الكبار أولا، وإذا لم يتبق منها شيء كنّا ننتظر حتى يكمل أحدهم أكله ثم نتصارع عليها نحن الأطفال حتى نظفر ببقية الطعام، كما كنّا نلحظ حيلة غريبة لدى هذه الفئة، كان يتطوع الواحد منهم إلى تقسيم اللّحم، فيمسك بيديه تلك القطعة وأعيننا تفيض حقداً على فعله، فيبدأ بتوزيع الغنيمة فوق الطّعام، وسرعان ما تذهب إليها ملاعق الكبار، ونحن من فرط ضعفنا نكتفي بفتات نلتقطه من هنا وهناك مليء بالحمص اللّعين.
كان الحاج "بركة" رحمه الله رحمة واسعة، والذي كنّا ننعته ب"بركة عوج لازمة" من بين الشيوخ الذين نال على أيدينا كل أنواع العذاب النفسي، فكنّا نذهب ليلاً لمنزله المحادي لحيّنا؛ حيث كان حيّاً في تصورنا راقيا وسكّانه يملكون "لعاقة" (أي المال)، ثم نرشق بيته بالحجارة، ونصرخ بملء أفواهنا: "أَبَرَكَة عْوَجْ اللاّزْمَة، أَبَرَكَة عْوَجْ اللاّزْمَة، أَبَرَكَة عْوَجْ اللاّزْمَة"، وكم كانت فرحتنا حين يخرج من منزله ويطاردنا في زقاقنا الشّعبي الذي كان يكرهه جداً.
كما لا أنسى ذات مرة في صلاة التراويح، أني كنت أحفظ شيئاً من القرآن الكريم، وتزامن ذلك مع قراءة الإمام لتلك السورة التي كنت أحفظها عن ظهر قلبٍ، وبدأت أرتل معه، بل وكنت أنتظر خطأه حتى أقوم زلّته، وهكذا كنت منتشياً جداً إلى أن سلّم الإمام، ووبخني بعدها أحد هؤلاء المسنين قائلا بصوت مسموع: "قرا فنفسك"، أي اقرأ سراً، وكم حقدت عليه كثيراً، ولم أفك عقدتي معه إلى حد الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما لا يفوتني أن أذكر أناساً طيّبين من الشيوخ، إذ منهم من توفاه الله، ومنهم من لازال ينتظر، فمنهم مسّن كنت أحب أن أصلي بجانبه، وأقرأ قرآن الحزب بقربه، فما نهرني قط، ولا أساء إلي إطلاقا، بل لازلت أذكر صلاته لي قائلا: "الله يفتح عليك أولدي"، وكذلك كان والحمد لله، ومسّنٌ آخر أتذكره كل شهر رمضان، إذ بينما كنت أنتظر أذان المغرب أمام باب منزلنا، مرّ علي هذا الرجل الصالح، وأعطاني تمرة ومعها قطعة نقدية مكونة من خمس دراهم ومسح على رأسي، ثم ذهب إلى المسجد، كم كانت فرحتي كبيرة حينها، إذ غمرتني نشوة هذه القطعة درجة جعلتني أنسى فريضة الصلاة خوفاً من أن يطالبني أبناء الحي بتوزيعها بشكل عادل كأنها ملك جماعي، وهكذا دخلت بيتي دون تأدية الفرض، والعياذ بالله من سلطة المال.

***

(4):
أما من الذكريات الأخرى التي لا زالت عالقة بذهني، تلك التي كانت تربط رمضان المبارك بمدرستنا "مدرسة القدس"؛ كانت هذه المدرسة تقع في أحد أجمل الأحياء بمدينة وجدة وهو حي القدس، كان حيّاً طبقياً بامتياز، حيث تسكنه عليّة القوم آنذاك؛ إذ مظاهر البذخ بادية للعيان، بدءاً من المباني التي كانت على شكل فيلات أنيقة محفوفة ببعض الأشجار المثمرة، ثم انتهاء بساكنتها التي إن نظرت إليها تسرك آثار النعيم على محياها، كانت المسافة الزمنية التي تبعد بها منازلنا عن المدرسة تقدر بعشرين دقيقة، كنّا نحن أبناء الحي نذهب بشكل جماعي للمدرسة، إذ أذكر منذ أن وطئت رجلاي المؤسسة سنة 1998م أني لم أقصدها مع الأهل يوماً قط، حيث كان يُعد في أعرافنا حينذاك رمزاً للرجولة ومقياساً للشّهامة، عكس البقية من أبناء الأحياء الرّاقية حيث كنّا ننعتهم ب"أولاد بابا وماما".
كانت "مدرسة القدس" بالنسبة لنا فضاءً خصباً للتعذيب الرّوحي، حيث تذوقنا فيها جميع أشكال العنف الرمزي، وألوان الاضطهاد النفسي، ناهيك عن المجازر المادية التي نلناها من طرف أطرها الإدارية و التربوية، كان فضاءً غريباً عنّا نحن أبناء المعذبين في الأرض، وكانت تلك الحجر الدراسية المكتظة أشبه بزنزانات تخنق حريتنا التي ألفناها في زقاقنا الجميل، أما عن الدروس التعليمية فكانت هي الأخرى امتداداً لحلقات الذّل و الإهانة القصوى.
كان منسوب العنف بوجهيه المادي والرمزي في مدرستنا يزداد شهر رمضان، فبالإضافة إلى أثر "الصيام" الذي كان ينال من أجسامنا النّحيلة، كان عذاب جهنّم ينتظرنا في المؤسسة، فكانت أغلبية أسرنا محرومةً من الرأسمال الثقافي، وكانت اللّغة الفرنسية من أشد أنواع التّسلط علينا، فنحن المغلوبون على أمرنا، لم يكن قاموسنا المعرفي مليئاً إلا بغلاء المعيشة، وارتفاع أسعار البطاطس والبصل، لذلك لم نطور إلاّ حيلاً بسيطة نواجه بها تسلّط المعلّمين حين لا ننجز تماريننا الفصلية؛ ومن هذه المهارات التي أجمعنا عليها نحن أبناء الحيّ هي ضرورة التّمرس على كل ما من شأنه أن يساهم في تقوية عضلاتنا؛ فكنّا نتعمد الجري حُفاةً حتّى تتصلّب أقدامنا وتقوى على تحمّل عصى المعلّم وعقابه المعروف ب"حمالا" أو "فلاقا"، كما كنّا نكثر من فرك أيدينا بالتراب، أو نلعب لعبة غريبة مفادها أن يضرب كل واحد منّا يد الآخر براحة يده أو بنعل أو بما شابه ذاك، أو أن نكثر من التناوب على لعب كرة القدم ونركز تحديداً على لعب دور حارس المرمى، وبهذا تشتدّ يدنا وتقوى على أعباء عصى المعلّم، هذا على المستوى البدني، أما على المستوى المعنوي، فطورنا حيلة سحرية خرافية عجيبة؛ إذ كنّا دائماً ما نسبق التلاميذ للمؤسسة، ونبحث في ساحتها عن نوع صغير من حجر الوادي، معروف برطوبته وليونته، ونسميه بحجر "السّلاّكة"؛ كنّا نضع هذه القطعة الصغيرة تحت لساننا لمّا نلج إلى القسم، ونردّد دعاء من بداية الحصة إلى نهايتها وهو: "أَسَلاّكَة إِيلاَسَلّكْتِينِي نَرْمِيكْ فَالجَنّة، وَإِيلاَمَسَلّكْتِينِيشْ نَرْمِيكِ فَالنّارْ"، أي أيتها الحجرة الطاهرة المقدسة، إذا أنقدتني سأضعك في الجنة (أي في المكان المزهر) وإذا لم تنقدني سأرميك في النّار(أي في المكان المقفر)، وهكذا كان سيناريو كل حصّة، فيا كم سعدنا حين كنّا ننجو من بطش المدرّس بفضل حجر "السلاكة" وننفذ وعدنا الذي قطعناه، ويا كم كنّا نحزن ونشقى حين يأتي علينا ما أتى على قوم عادٍ وثمودَ من سَمُومِ العذاب.

***



#زكرياء_مزواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حُبٌّ فِي زَمَنِ التُّيُوسِ
- Jean-François Dortier, «Dieu et les sciences humaines»: بين ...
- مَقَاهِي المِلْحِ
- فيروس كورونا في مواجهة الإنسان السائل
- سِيرةُ دُكتورٍ خَدِيجٍ
- حُبٌ فِي زَمنِ التّفاهَةِ


المزيد.....




- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكرياء مزواري - رمضانُ في الذّاكرة (ج1)