أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عمر بن أعمارة - واحة فڭيڭ.. أو في بهاء وكبرياء المكان















المزيد.....

واحة فڭيڭ.. أو في بهاء وكبرياء المكان


عمر بن أعمارة

الحوار المتمدن-العدد: 6648 - 2020 / 8 / 16 - 19:08
المحور: الادب والفن
    


هكذا حال المحبّ والمحبوب.
كل الطرق تؤدي إلى روما، ولا طريق واحدة تؤدي إلى واحة فڭيڭ غير طريق القلب. هناك خيط ناظم رفيع يجمع بين البهاء والبساطة والكبرياء،هذا المثلث متساوي الأضلاع لا يستقم في غياب إحدى أضلعه الثلاث، فبهاء المكان في بساطته وبساطته في كبريائه وكبرياؤه هو حين يتمنّع ويصير غير متاح لأي كان حيث يلبس هبته ويصبح عصيا عن البوح والإفصاح. لواحة فڭيڭ عناوين ودروب، لكن أنّى أن يتأتى لأي كان ولوجها ؟ ففي بساطتها يكمن كبرياءها وفي عزلتها ونائيتها يحضر المكان متمنّعا وعصيّا عن أي إمكانات التفاوض، إذ قد تسعى بجميع الطرق المتاحة لك لمطاوعته ومراوضته لكن لن يستجيب لعروضك ما لم تعمل على تفكيك شفرات رموزه لاستجلاء الغموض القابع تحت جلد بساطته، فالمكان مدجج بكل ما يوحي بالغموض والتكتم وكل الأسرار فيه تلبس رداء التمنع.
لقد إلتقطت الواحة من الصحراء سفورها وعُريها وحولت الجبال الشامخة إلى أدرع وأحجبة فأثمرت الحياة، هكذا صارت لا تفصح عن شيء بل تخفي كل ما يبدو متجلّيا. في الواحة بنايات خجولة لا تكشف سوى عن كبريائها: نوافذ مفتوحة على فناءات بيوتها، أزقة ودروب ضيقة مسقوفة تغمرها الظلمة ولو في واضحة النهار حيث الشمس الساطعة تتوسط السماء، وبساتين محيطة بأسوار تحجب الرؤى.
للواحة نبضات روحية وللمكان هناك تجاعيد فإن أجدت محاورتها أفصحت لك عن أسرارها، قد تغوص في ثناياها باحثا عن الخيوط والتلافيف الدقيقة الرابطة بين البساطة والكبرياء فيعترضك هناك جمال تلقائي مفرط وقد تصادفه أينما وليت نظرك. الزمن الواحي منفرد، رتابة مفرطة وسكون مترامي الأطراف، قد يتمدد الزمان هناك حد الضجر ويمنحك يومين أو ثلاثة في يوم واحد، ولا تَناهي المكان هناك في تَناهيه، فالمكان هناك ملاذ آمن بعيدا عن ضجيج وصخب العالم، بل دعوة لمعانقة النفس وقد تختلي بنفسك في خلوات متعددة ومتكررة مما يجعلك تحس بأنك تنفرد بالكون وهو أيضا ينفرد بك، فالواحة تجعلك تتدرب على كل أشكال التضرع والمناجاة والتأمل مما يضفي عليها جاذبية خاصة.
في الواحة، المكان ليس مجرد جغرافيا أو مساحات للعبور أو حتى للسكن، بل هو مقام والمقام دعوة للحضور المكتمل والزمان هناك ليس مجرد وقت بل ذاكرة تنبض بالحياة. الواحة هي تلك التركيبة الطبيعية الخالصة بين السهل الممتنع والبسيط الممتع حيث البهاء يتدفق من كل مفاصلها وعليها تدلّى رداء الصمت والخجل لفّها، والحياء سبغ أماكنها بالهدوء والسكينة، والنسيان المخاتل يتسلل إلى حيث تنبض الحياة قصد وأدها.هناك في الواحة كل شيء يتنازل عن غموضه ويلبس وضوحا مبهرا والبساطة هي نداء إلى الإنتماء للروح و لبواطن الذات. هناك من اعتبر الماء روحا للواحة وأنا أزعم غير ذلك فللواحة روحا لا ينتبه لها أي كان، إنه "الصمت" ففي صمتها الخاص يكمن جوهر ووجودها. هناك الكون وهناك الصمت وللصمت أسرار وبهاء لن يستوعبها ولن يتذوقها إلا من كان خارج كل الصخابات حتى التي تكمن بدواخله.
كلما طال الأمد ازداد تشوقي وحنيني للمكان، فما سرّ هذا الشيء الذي يوقظ في هذا الكم من المشاعر والأحاسيس ويجعل كل ما مضى من زمان الواحة يطفو على ذاكرتي ؟ لقد صرت كما لو أنني كلب بافلوف، فإن كان هو يطلق لعابه عند سماعه الجرس إيذانا بوقت الأكل، فأنا تلبسني كل أحاسيس الحنين ويكتسحني الشوق الجارف إلى واحتي كلما اقترب فصل الصيف، هكذا يتدفق من روحي ويطفو كل ما هو من صُلْبِ الواحة إيذانا بقرب موسم الهجرة. أتوجه إلى واحتي كي أعيد تشكيل نفسي العميقة ورؤية العالم على نحو مغاير، أقصد واحتي كي أبتعد عن كل ما يبعدني عن نفسي التي ما فتئت أبحث عنها في كل مكان دون جدوى، أروح لواحتي لأبحث عن آثار إنسانيتي الأولى فأنا ابن المكان حيث لازالت نُحوتاته بادية على روحي وحتى على شكلي، أزور واحتي لأروي عطشا حلّ بي سكنني ولازمني منذ أن غادرت المكان، هذا المكان الذي يشدني إليه شدّا وتتملكني أسراره المتدفقة، هذه الواحة التي استوطنتني بعد أن سكنتها وهواها سحرني ثم أسرني حيث يأخذني من نفسي إلى نفسي. هل طعم الطفولة والمكان حيث ترعرعت دائما بهذه اللّذّة ؟ للمكان هناك وقع خاص، فهو مستودع ذكريات وساحة "تاشْرَافْتْ" ليست مجرد فضاء للقاءات بالأحبة والأصدقاء أو للعبور بل مقام والمقام سلطة. فما أقسى أن تفارق المكان الذي ولد فيك يوم ولدت فيه !
كلما نزلت بالواحة أتسكع وأهيم في دروب بناياتها وأزقة بساتينها وأقتحم كل الأمكنة، أترصد لحظات وأتصيد فرص لعلني أستعيد ولو القليل من دقائق أحداث الماضي والذكريات ولعل هذه الأمكنة تجود عليّ برحيق مما مضى أو تستفزّ الذاكرة وتحثها على الإشتغال والتذكّر، وجاهدا أسعى لأن أقبض على نتوفات من ماض جميل. هناك في الواحة المكان يُلبسك البساطة ويضفي عليك البهاء، هناك المقام والمقام إنتماء لا ادّعاء، هناك تجلس حيث يليق بالمكان ويليق بك. إن للطبيعة هناك جلال، هناك أنفاسا وروائح فما أزكى نسيم الصباح ورائحة الطين حيث التراب الطاهر الحر المبلل بماء المطر خصوصا أيام الصيف إذ يمنحك جرعات منعشة، وأمكنة تفوح منها رائحة الحطب المحترق مع جمالية يضفيها دخانها على بعض السقوف التي سبغها بالسواد. كلما حللت بالواحة ووطئت قدماي تربتها إلاّ وشعرت بطفل يولد بدواخلي إذ عقارب الزمان تعود بي إلى لحظة الصفر حيث البداية. للمكان جلال وللصمت لذة وللسكينة رعشة.أمشي في دروب وأزقة الواحة وبين الأحياء السكنية وزقاق البساتين، أقلب بصري في كل جزء من سمائها وترابها ومائها وجدرانها وسقوفها ونخيلها. عندما ألج المنزل حيث ولدت وترعرعت أطوف كل غرفه المتعددة كما بهوه متمعنا النظر في كل جزء منها كما لو أنني أراها لأول مرة أو كأنما أودعها مرة للأبد، وبعدها أجلس عند زاوية ما وأتيه وأنا أتأمل أرضية البهو أو أحذق في سمائه. وفي لحظات عديدة أقفل جميع أبوابي ونوافذي وأحكم إغلاقها حتى لا يتسرب ويتسلل إليّ ضجيج العالم، هكذا أغرق في لذة الصمت الممزوج بالمكان، أتأمل الفراغات المحيطة بي والتي تملأ كل الأمكنة، أنصت إلى نبضات قلبي ونبضات قلب الكون.
واحتي تستضيفني لأحتسي كأس صمت مخضّب بطمأنينة وسكينة وبتأمل، هكذا تهمس في جوارحي فأصمت وتلهمني فأصمت فأفتتن بها وأخشع فأهمس في روحها فيتملّكها الشغف للمزيد من همساتي، فأنتشي وبعد ذلك أحتار، هكذا تمتزج الحيرة بالدهشة وتتبلل بمشاعر الاطمئنان والسكينة فيتدفق الحب والشغف بالحياة ويصبح كلامي ممزوجا بالصمت ومبللا بالعشق فيولد الهمس والهمس سرّ بين المحب والمحبوب والسرّ إيحاء غير قابل للإفشاء. هكذا حال المحبّ والمحبوب.



#عمر_بن_أعمارة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا ثقة لي حتى في النّحْلِ نفسه.
- تلك الفراشة علمت بالحقيقة لذلك لم تعد.
- -إدير- الناي الأبدي ونداء للحياة
- الكراهية لا تبني فقها ولا تدحض فكرا
- أيهما الأقرب إلى دينك يا شيخ،طلب الهداية والمغفرة للضال أم ا ...
- بُوخُودْ-المدينة النموذجية بواحة فڭيڭ
- في استحالة الفرد تحت سقف المِلّة
- كره العقل أو فصل الإنسان عن جوهره
- إيمان العجائز أو الإله في حدود عين القلب
- كتاب -صحيح البخاري نهاية أسطورة- تعليقات أولية على هامش ما أ ...
- دول مجاورة للحداثة ومواطنون لايِت ( (Light
- قَبْرِيَّات تمرينات رشيقة استعدادا للرحيل
- احذروا، إنه بيض أدولف هتلر
- حين تصبح الكراهية آلية للقياس والجهل مستنقع للطهارة
- كل ما تعلمته من الكتب العربية هو أن العرب(كانوا)
- هل المستقبل للإسلام الروحاني ؟؟؟
- الأنا والموت والقبر كنهاية سعيدة (الجزءالرابع)
- الأنا والموت والقبر كنهاية سعيدة (الجزءالثالث)
- الأنا والموت والقبر كنهاية سعيدة (الجزء الثاني)
- الأنا والموت والقبر كنهاية سعيدة (الجزء الأول)


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عمر بن أعمارة - واحة فڭيڭ.. أو في بهاء وكبرياء المكان