|
يوميات نصراوي: المعلم جمال قعوار والطالب نبيل عودة
نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)
الحوار المتمدن-العدد: 6603 - 2020 / 6 / 27 - 01:19
المحور:
الادب والفن
(بذكرى وفاة الشاعر جمال قعوار في 24 يونيو عام 2013/ ولد عام 1930) حين كنت في الصف التاسع التقيت لأول مرة بمعلم اللغة العربية جمال قعوار. كان اسمه معروفا لي ولكني لم التق به شخصيا رغم اننا من نفس المدينة ومن نفس الحي! أثناء دراستي الابتدائية تميزت بقدرات لصياغة لغوية عربية سليمة، كان استاذ اللغة العربية في الصفوف الابتدائية، المرحوم زهير فاهوم يعتبرني الأفضل بين طلابه في كتابة الانشاء واعطاني الحرية لأكتب ما اراه مناسبا، وبدأت وقتها صياغة اولى قصصي وللأسف لم احتفظ بشيء من تلك الكتابات الأولية وخاصة ملاحظات استاذي زهير الفاهوم. رغم ضعفي في موضوع قواعد اللغة العربية وهي مشكلة تلاحقني حتى اليوم، الا ان علامتي اللغوية مرتفعة جدا بفضل لغتي الجيدة التي تعتمد على ممارستي للمطالعة والكتابة بشكل واسع منذ الصف الثالث ابتدائي. لم اكتب حسب مفهوم ما، وعيي للفن القصصي لم يتشكل بعد، انما نوعا من التقليد والعشق للحكايات والقصص التي أقرأها او تروى لي، او التمثيليات التي نتابعها عبر الراديو (اذ لم يوجد تلفزيون في ذلك الوقت) وبعض الأفلام العربية التي وصلت الينا عبر الحصار الذي واجهناه ثقافيا منذ نكبة شعبنا عام 1948، ثم عشقت السينما الأجنبية لما فيها من خيال قصصي وتصويري، حتى لو لم أكن افهم الحوار، بسبب الترجمة الى العبرية فقط التي لم نكن نتقنها، مجرد متابعة الحدث المصور جعل خيالي ينطلق الى أبعاد لا يمكن تقييدها وبدون أي فكرة سابقة وجدت نفسي اكتب وأمزق واعيد الكتابة. اردت ان اكون منتجا وليس متلقيا فقط... وكنت ناقدا لنفسي، هل ما اكتبه في مستوى ما اشاهده او أقرأه او استمع اليه؟! أسعدني شخصيا وصول جمال قعوار، الشاعر المعروف وقتها، ليكون استاذ اللغة العربية لصفنا. في تلك الفترة (الصف التاسع) نشرت مجلة "الجديد" الثقافية اولى قصصي القصيرة (بقلم الشاب الناشئ نبيل توفيق عودة)، الأمر الذي ملأني بنشوة غير عادية، لقد أصبحت كاتبا وليس قارئا فقط !! إثر نشر قصتي هذه، ضمني الشاعر (الصديق فيما بعد لعشرات السنين) سالم جبران، لهيئة تحرير مجلة "الغد" الشبابية الشيوعية التي كان يرأس تحريرها، (اذ كنت عضوا في الشبيبة الشيوعية) لأتدرب تحت اشرافه على الكتابة الصحفية وكنت قد تعرفت عليه سابقا بسبب اضراب مدرسي كنت ضمن قادته، جاء سالم لتغطيته اخباريا، بعدها صرت عضوا في مجموعة طلاب جندتهم، كنا تلتقي اسبوعيا في نادي الشبيبة الشيوعية في الناصرة لتستمع الى محاضرات ثقافية وفكرية وسياسية من سالم جبران وقادة شيوعيين آخرين. أعترف إني كنت متحمسا ومستعدا لخوض هذه التجربة الجديدة في الكتابة الصحفية، نشطت في قراء التقارير بمختلف الصحف وبدأت أطبق الكتابة الصحفية في مجلة الغد، لم تكن لدي مشكلة في صياغة النص، انما بعد ملاحظات حول شكل انتاج وصياغة التقرير الصحفي، متطلباته، لغته وما لمسته من تصحيحات ما اكتبه للمجلة، بدأت ادخل عالم الصحافة بثقة كبيرة، ومعرفة هامة ساعدتني في تطوير صياغتي اللغوية، التخلص من الديباجة، السجع اللغوي والانتقال للغة الصحافة التي وجدتها أكثر دفقا وسهولة في التعبير وقربا من المناخ الثقافي لمجتمعنا. فيما بعد طلب مني سالم جبران ان اكتب اخبارا عن إصدارات كتب لأدباء محليين، وان استعرض باختصار مضمون الكتب. واعتقد انها كانت تجربة فتحت امامي فيما بعد أبواب النقد الأدبي قراءة وكتابة. ضمن هذه الأجواء. التقيت بمعلم اللغة العربية الجديد جمال قعوار، الذي كان شاعرا مرموقا ومعروفا. مستوى زملائي الطلاب في اللغة العربية كان متدنيا، طلاب الصف، من ناحية الصياغة اللغوية كانوا ضعفاء، كانت دراستنا للكثير من المواضيع باللغة العبرية لسبب كون مدرستنا فرعا لمؤسسة عبرية (ثانوية صناعية باسم أورط -عمال) وهي الأولى من نوعها في الوسط العربي في تلك الأيام واعتقد انه لم تنشأ مدرسة أخرى مثلها في البلدات العربية. لا بد من رواية حادثة معبرة جرت بيني وبين استاذي جمال قعوار عمقت العلاقة بيننا ورفعتها الى مستوى علاقة بين اديب وطالب عاشق للأدب في بداية تشكل وعيه القصصي بالأساس، وأعتقد ان الكتابة الصحفية (او لغة الصحافة) تركت أثرها علة نصوصي الأدبية أيضا!! في درس الانشاء العربي طلب استاذنا جمال ان نكتب عن "شخصية احببتها". كعادتي أنجزت موضوعي بنفس اليوم، من مادة كنت قد جهزتها للنشر في مجلة الغد التي يحررها سالم جبران. لكن زميلان لي طلبا مساعدتي في كتابة موضوعين لهما. بلا تردد كتبت موضوعين آخرين، (هذه كانت هوايتي) الشخصيات التي اخترتها هي يوري غغارين الانسان الأول الذي حلق في الفضاء الكوني، كان هذا موضوعي، واعددته وقتها لمجلة الغد، ثم كتبت موضوعان عن جمال عبد الناصر وجمال الدين الأفغاني للطالبين الزميلين في الصف. من الواضح ان تمرسي بالكتابة الصحفية اضفى على اسلوبي قيمة صحفية في الصياغة، خاصة موضوع غغارين، الذي جعلته تحقيقا صحفيا وليس مجرد كتابة لطالب في الصف التاسع، يتحدث عن انطباعاته. استاذي جمال اعاد لي دفتر الانشاء مع ملاحظة تقول "لا أدري من اين نقلت هذا الموضوع" واضاف ما معناه ان "الهدف ان اكتب بلغتي وان لا انسخ موضوعا من المجلات". اصبت بدوار وقلق عميق ولا أنكر إني كنت غاضبا ومستفزا. الموضوعان الآخران للطالبين الزميلين حصلا على علامات جيد جدا وممتاز، واشادة بالزميلين لقدرتهما على كتابة انشاء جيد. الأمر الذي أضحكني بمرارة. بعد تردد، قررت ان اصارح استاذي. اخذت دفتري الزميلين معي وطلبت مقابلة الاستاذ جمال، فاستقبلني بدماثته وبسمته التي افرغت توتري. صارحته إني كاتب الموضوع حقا، واني لا اعرف مجلة نشرت عن غغارين كما كتبت انا عنه وبأسلوبي الخاص، وان مادتي عنه ستظهر في مجلة "الغد" في عددها القادم بعد أسبوعين، وها انا أقدم له مجلة "الجديد" مع قصتي المنشورة قبل شهر بقلم الشاب الناشئ نبيل توفيق عودة، تأملني للحظة وقال لي انه متفاجئ حقا من طالب في جيلي استطاع ان ينشر قصة في الجديد التي كانت تعتبر أفضل المجلات العربية اطلاقا وليس داخل مناطق 48 فقط. عندها سألته ما رأيه بالموضوعين عن جمال عبد الناصر وجمال الدين الافغاني اللذان قدمتهما باسم زميلين لي من الصف؟ لم يجب فورا، تأملني مبتسما، ثم ضحك ضحكة قصيرة وسألني وهو يبتسم ابتسامة عريضة: "لا تقل لي أنك صاحب الموضوعين؟" ابتسمت، وقلت: وهل تظن ان طلاب صفك قادرون على مثل هذه الصياغة؟ قال: "أعطني دفترك" قدمت له الدفاتر الثلاثة. شطب ملاحظته من دفتري وكتب: "ممتاز 110 / 100 وتستحق أكثر!!" ثم اضاف: " ماذا عن صاحبيك"؟ قلت "يبقى الأمر سرا بيننا!" لم اعد تلميذه فقط، بل صرت زميله يحدثني عن الأدب ومشاكل ثقافتنا، احيانا افهم ما يقول وأحيانا اصمت خوفا من اظهار عدم فهمي. كان يحضر صحيفة يومية ينشر فيها كتاباته من نثر وشعر... وكثيرا ما سألني عن رأيي بما اقرأ من قصائده. بالطبع ما كنت الا مادحا حتى لو استعصت بعض التعابير عن فهمي. حين تقاعد وأنشأ مجلة "المواكب" وجدت فيها بيتا ثقافيا، وكنت من طاقم كتابها الدائمين. للأسف توقفت المجلة التي احتلت لفترة طويلة مكانة هامة على الساحة الأدبية، اعرف من تجاربي كم هو صعب اصدار مجلة بدون دعم من مؤسسة وبعمل فردي وبجهود جبارة. مجلة "المواكب" كانت نقلة نوعية في مسيرة الدكتور جمال قعوار، انتقل من كونه استاذا لمجموعات طلاب الى استاذ لشعب كامل، بمثقفيه وطلابه وناسه، ليس في المجال الأدبي فقط انما في التعبير عن الحلم الوطني الفلسطيني أيضا!!
#نبيل_عودة (هاشتاغ)
Nabeel_Oudeh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
*بيني موريس في كتابه -من دير ياسين الى كامب ديفيد- يصبح أكثر
...
-
-الخمس العجاف السمان- للكاتب عفيف سالم
-
من اين تجيء السعادة؟
-
عن -المبدعون والثرثارون- للأديب د. جميل الدويهي من كتابه الف
...
-
السخرية المغلّفة في قصة راوية بربارة -محاولة إقناع-
-
ملاحظات ثقافية: مفاهيمنا للنقد بعيدة عن جوهر الثقافة
-
جانيت لم تعد مجنونة
-
ازمة اليسار هي ازمة استيعاب التحولات العميقة بعالمنا المعاصر
-
نبذة عن كتابي -عرب جيدون- و-جنود الظلال- تاليف: هيلل كوهن
-
فلسفة مبسطة: فكر الشعب المميز جلب الكوارث لنفسه وللإنسانية
-
فلسفة مبسطة: راتسيوناليزم
-
جولة شعرية مع الشاعر د.فهد أبو خضرة
-
مسرحية: -الملح الفاسد-
-
الدخان بلا نار سياسة إسرائيلية بامتياز
-
صفات الشعوب
-
8 آذار يوم المرأة العالمي: رؤية متشائمة لمكانة المرأة العربي
...
-
ملاحظات: فكر الحداثة وتسخيره لثقافة ماضوية
-
البتول...!! (قصص من الأدب الساخر)
-
مع الأديب المهجري د. جميل الدويهي في روايته -طائر الهامة-
-
حركة نقدية بدون نقد وبغياب الناقد الجاد
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|