أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - عمر ..رجل لعمري ...(الجزء الثاني من لحظة فرح )















المزيد.....



عمر ..رجل لعمري ...(الجزء الثاني من لحظة فرح )


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 6592 - 2020 / 6 / 13 - 16:39
المحور: الادب والفن
    


(الجزء الثاني من لحظة فرح )
لم تنتبه السعدية أن عمر وهو يركز النظر اليها وقت الغذاء ،قد استطاع قراءة الأرقام الدقيقة في القلب الذهبي المخروط المعلق بسلسلة في جيدها ، ولا أمها انتبهت لذلك .كان القلب والسلسلة هدية من خالها في عيد ميلادها الثاني ، والذي لم تحتفل به الا مرتين أو ثلاثة في حياتها ؛ كانت تتعلق به و يلازمها لأنه آخر ما تبقى مما سرقه ابوها وباعه من أجل الرهان على الخيول ..كان عيد ميلادها يصادف اول يوم من الدخول المدرسي بعد العطلة ، فلم يستطع عمر ان يستدعي حليمة والسعدية الى عشاء للاحتفال بالمناسبة .. أو يشتري هدية بذوقه ويفاجئهما بها في بيتهما ،فقد تحرج من ذلك ، فربما العادات والتقاليد لا تسمح في حي ما أكثر ما يراقب الناس بعضهم بعضا وما يتقولون !!، ودخوله كغريب قبل الخطبة قد يجر على المرأتين كثيرا من القيل والقال .. !!
رن الهاتف ليلا في بيت حليمة ، كانت في سريرها بين نوم وصحو ،مدت يدها في دهشة الى هاتفها على خزانة بجانب سريرها وعيناها تحدقان في ساعة حائطية أمامها
ـ اللهم اجعله خيرا ماذا يريد عمر في هذه اللحظة ؟
ردت عليه وقد تملكها غير قليل من خوف ،مباشرة قالت له :
خير حبيبي ماذا حدث ؟
طمأنها بعد اعتذار منه وقال مازحا : كم مرة قلت لك لاتخافي من عمر
بادرته : أخاف على عمر حبيبي وليس منه ..
ـ صمت قليلا وقال : هل السعدية نائمة ؟
استغربت للسؤال !! ماذا يريد عمر بالسؤال عن السعدية في ساعة مثل هذه؟
أكثر من احتمال مر بخاطرها !! ..
اهتز الهاتف في يدها اهتزاز ذبذبات صوتها : نعم ..لماذا حبيبي ؟
أدرك خوفها ،..فبادرها :
مابك السعدية ؟ أحسك مضطربة ..غدا عيد ميلاد السعدية ،أليس كذلك ؟
قالت : نعم لماذا ؟ السعدية ماعادت تحتفل بعيد ميلادها .
ـــــــ لكن غدا ستحتفل به .. شعلي الضوء واسمعيني ،
أحست قلقه وربما أول اضطرابها كسوء ظن به ..سرحت مع عبارة "شعلي الضوء" وهو يسترسل في كلامه
غدا سامر عليها بالثانوية بعد حصة المساء ،سآخذها معي ، لن تغيب كثيرا
ما أطلبه ألا تخبريها بأي شيء .. لا تقلقي..اياك أن تخبريها ..تصبحين على خير حبيبتي ، أحبك وأعتذر ان صحيتك من النوم ..
ليلة أرق رماها عمر على وسادة حليمة !! ..
لماذا لم يدعني معها ؟ وكيف عرف عيد ميلادها ؟ولماذا تعمد أن يأخذها من الثانوية مباشرة ؟
أعوذ بالله من سوء الظن .. لا هي ولاهو قابلان للشك
هل أخبرها ؟ قد يغضب ، وقد يفقد ثقته بي ...
سأترك الأمر للقدر ..
كانت مفاجأة السعدية أكبر من مفاجأة أمها للهاتف الليلي وهي ترى سيارة عمر تقابل باب الثانوية مباشرة ، نطت اليه بين اندهاش انظار صديقاتها اللواتي لم يصدقن قفزات السعدية الى صاحب السيارة الذي دعاها الى الصعود ، وكان استغراب الصديقات أكبر حين لاحظوا كيف تعلقت به وعانقته في تبادل للقبل على الوجه ..
انطلقت السيارة مخلفة وراءها عاصفة من الاستغراب والدهشة ..
قال عمر : عندي لك مفاجأة لكن لن أخبرك بها حتى نكون في المكان المناسب
استغربت وقالت : وماما أين هي ؟
قال سنعود اليها ، لا تخافي ..
الى أين يريد أن يأخذها ؟ فقط هوذا السؤال الذي يحيرها ، لكن ما عداه فهي واثقة منه مذ لقائهما الأول، وازدادت ثقة بما تحكية حليمة عنه ،لكن الى اين يأخذها وما المناسبة ؟ لم تتذكر ان اليوم هو يوم عيد ميلادها ،فهي لم تحتفل به من سنوات ،والايام عندها سواء،لا تتعجل الا يوم تنال شهادتها الثانوية ..ربما يريد اعتمادا على ذوقها الذي أطراه يوم لقائهما أن يشتري لحليمة هدية يفاجئها بها ..لا تدري .. انتبهت ان السيارة تتجه ناحية المدينة الجديدة .. سالت وكانها تتدلع :
ألا تريد أن تخبرني الى اين انت سارح بي ؟
قال ضاحكا : الى حيث أرسلني القلب المعلق في عنقك
تلمسته ثم تركته بلا انتباه الى التاريخ المدون فيه " هل العبارة غزل من عمر ؟
وقبل أن تجيب عن سؤالها لسعتها الذكرى .. اليوم عيد ميلادي !! ..
التفتت اليه وقالت : كيف عرفت ؟
قال وهو يضع اصبعين على عينيه :عيوني من عيون زرقاء اليمامة .. عيد ميلاد سعيد بنتي عزيزتي ، من الآن وكل عام آت وانت أحسن وأجمل ..
تنهدت وقد غلبتها دمعة ،و كان ينزل في منحدر مدخل مرأب المول فلم يستطع الالتفات اليها ..
بعد أن أوقف سيارته ،خرج ثم ضمها اليه وقال :
انتهى زمن البكاء أنت بنت عمر وعمر يكره الحزن والكآبة ..
سندخل لاقرب متجر نسائي ، تختارين كل حاجة اعجبتك وتاقت لها نفسك ،بلا نقاش ، ولا استفسار ، ولا تقتير ،سأتركك وحدك فقط لا تتأخري لان حليمة تذرع البيت قلقا عليك .. لا تنسي أن تتذكريها بشيء من ذوقك . .
كانت السعدية واجمة ، لاتدري ما تقول ، كل ما حكته حليمة عن الرجل تراه بأم عينيها واضحا جليا ،رجل يعرف كيف يأسر أنثى بلباقته وكرمه !! .. أخبرتها أمها ذات مرة انه يتضايق متى قدم لغيره هدية ورفضها الآخر فشعاره : الهدية لا ترد .. ستصمت لكن كيف تبرر موقفها مع أمها ؟ كان عليه أن يخبرها من قبل ،حتى تستأذن ،كادت أن تسأله هل فعل؟ لكن ليس من الذوق فسؤال مثل هذا قد يجر غضبه ...
انتهت من اختياراتها ، فدعته ليرى ما اقتنت .. قال : أثق في اختياراتك ،فمن تصور المعاني وتترجمها لا يمكن أن تخطئ في جمال ما ترتدي ،ومن يوم لقائنا الأول أدركت تلك الاناقة طريق القلب ،فهل وجدت السعدية صعوبة في دخول قلبي ؟
ضحكت وقالت :وكيف يستعصي علي قلبك ولسانك ذوق قبل قلبك ؟
وكل سلوك منك هو نبع ابوة صادقة ،أنا لم اتعجل نداءك بابا عبثا ..
شدها اليه وقال : لكن دعيني أرى ماذا اخترت لحليمة اذا سمحت :
تفحص الاختيارات فأعجب بها ووجدها مما يناسب حليمة ؛قال للسعدية :
هات خدك .. قبلها ثم قصدا السيارة ...
تنتقل حليمة والسعدية الى البيت الجديد الا بعد ثلاثة أشهر من التغييرات والتبديلات التي طلب عمر من حليمة ان تقوم بها في البيت حسب ذوقها ، بعد أن استحسن ميلها الى الألوان الفاتحة والخشب الدافئ المبهج ،وهو عكس ما يوجد في البيت ،وما كانت تفضله المرحومة زوجته ، وللحقيقة فهو نفسه كان يسعى من وراء تغيير بعض الأثاث أن تخلق حليمة داخل البيت بذوقها وشخصيتها المرحة ما ينعكس علي حياته الجديدة ، فالأمل الذي يجتاح نفسها هو نوع من الراحة النفسية التي قد تغير الجو الحزين الذي كان يفرضه مرض المرحومة ..
خلال هذه المدة كان عمر قد حرر بيت حليمة من الرهن ، وتسلم وثائق رفع اليد ، وكانت السعدية قد أنهت امتحاناتها بتفوق في البكالوريا ،وتستعد لاختبارات الانتقاء التي تنظمها المدارس والمعاهد.العليا .
لم يكن لها إحساس بخوف من ذلك فهي متمكنة من نفسها وقدراتها ، وقد اقترح عليها عمر أحد المعاهد الفرنسية لكنها كانت مترددة ، فهي مرتبطة بأمها ارتباطها بشريان هذا الوطن وتؤمن انه سيصحو يوما، فقط تلزمه هزة تمكن شبابه من اظهار قدراتهم العالية وابداعاتهم الخلاقة، هزة قد تكون ثورة بيضاء ، او ربيعا أخضر ،أو جائحة تعيد صياغة الحياة بتصور جديد، ومفاهيم غير ما هو سائد وتفتح العيون على النقائص ..
جلس عمر الى حليمة ذات مساء وأخبرها بتحرير بيتها من الرهن ، ملأت السعادة قلبها ،وكأن عمر قد حررها من أسفها وأعاد لها الصبا المفتقد على بيت رغم صغره ووقوعه في حي شعبي الا انه كان مخزن ذكرياتها الطفولية ، فقد كان كجرس ينبهها كل حين بقلق يخض صدرها ، كيف وثقت بزوجها السابق وسلمته توكيلا برهنه ؟
وجدت حليمة أن عمر على لسانه شيء يريد أن يخبرها به ولكنه يتحرج ، مسكت بيده وقالت:
كم أعشق هذا الوجه وهو ضاحك !! .. لكن حين يداهمه عبوس تغيب فرحتي ، فما الذي يقلق "الزين ديالي" ؟ هل ظهر من أهلك من يمنعك عني ؟ لا اريد أن يدق قلبك باي شيء يعكر مزاجك .. أياك أن تقدم على أي فعل قد يكون لك فيه حرج أو.....
بسرعة وقبل أن تنهي كلامها وضع يده على فمها وقال :
حليمة ياحبيبتي !!..لماذا تصرين على ان تجعلي من حبنا معارك ،
معركة مع السعدية وربحناها ،وشبه معركة الهاتف ليلة عيد ميلاد السعدية وتجاوزناها ،وهذه معركة جديدة تدقين طبولها الآن !!.. سافرت بعيدا ياحبيبتي !! .. الامر أبسط مما تتصورين ، ولكن خفت أن تؤولي مسعاي فترددت في قول ما أريد .. فلازال اللجام لم يستقم في يدي بعد .. حليمة ياحبيبتي ، انت صرت في حياتي خطوتي المتجددة ،"ومستحيل ان تحتويك الظنون " وأنا بك قد لملمت كل الأمنيات ، ولن يستطيع أي كان أن يحولني عنك أو عن بُنوَّتي للسعدية ، هذا حديث لا اريد ان تنبسي به حتى مع نفسك ..
أدركت السعدية أن عمر يسجل كل ذبذباتها ولا تفوته نبضة مما يخالجها سيان كانت معه أو غائبة عنه ، ارتمت عليه وقالت :
فرسك لك ،طيع في يدك ياحبيبي ـ وانت نفسي يا عمر ، صدر احتضنني أمنا ، فيك أمي وأبي بل أحن واشفق ، فقط أنا لا افكر الا بجهر معك ،أعرف حساسيتك لكن اعذرني .. بربك قل فيما تفكر ؟
ضحك وقال : اريد أن اشتري بيتك منك ..
شدته اليها بقوة وقالت :فقط هو لك هبة ياحبيبي ، أهذا يحتاج لكل هذا الاحتراس منك ؟ انت بمالك قد فككت رهنه، فانت أولى به من غيرك
ــ لا، لا اريده هبة ، أريده بمقابل ، لكن اسمعيني جيدا ولا تقاطعيني
او تعارضيني ..
ضحكت وقالت : ماعهدتك سلطويا ، أهذا عمر !! .. "الفقيه اللي كنتسناو براكتو داخل للجامع ببلغتو."؟.
قال وقد شد شفاهها بطرفي اصبعيه :
ـ مايعجبني فيك هو هذه الأمثلة كم ارتاح لها !! ..ترك شفتيها ،لثم أصبعيه ثم تابع : الامر لا يتعلق بسلطة ولا بهيمنة ،الامر سر بيني وبين نفسي، ولا اريد ان تعارضيه او تسألي لماذا ؟ لكن أكره أن يستمر أحد في استغفالي بعد اليوم ، أو يستغل طيبتي..
قالت وكانها قد تعجلت ما سيقول وقد اثارتها كلماته :
كيف لا أسالك عمر؟،ومن يجرؤ على استغفالك أو استغلال طيبتك ؟ وانت من وحدت اضدادنا، فانا معك لا أملك الا الشكر والطاعة والامتنان ،أنت كل وجودي ، فتصرف بلا استشارتي ولا رأي مني ..
قال: لا اتحدث عنك ولا عن السعدية ، ولكن عن مستقبل ليس موضوعه الآن، سأشتري منك البيت مقايضة ببيتي الذي سأكتبه لك مناصفة مع السعدية وسأشهد أني تسملت منك إضافة نقدية حتى يكون البيع سليما..
أرادت أن تتكلم فقال : نهينا الامر حليمة فقط هل انت موافقة ؟
غلبتها دمعة قالت : أوافق على ماذا ؟ انت حكمت الا أتكلم وانا طوع يديك حبيبي ، "ماذا عساه يقول ميت أمام غساله " ؟ أنا ملكك فأحرى قفص من ستين مترا مربعة ..
قبل ان تتركه الى الحمام قال لها : كل اثاث فائض من بيتنا سأرسل من يحمله الى البيت الثاني ..ومن اليوم سيصير البيت مخزنا لي ..
طيلة ليلها لم تنم ،تحول سريرها الى شوك قتاد، أو يعاسيب تلسع جسمها !!
ماذا يدور في عقل عمر ؟ أن يقايض بيتي ببيته ويتحمل إضافة يدعي انه تسلمها ، ويؤدي فوق هذا ثمن التسجيل والتحفيظ ؛ فلابد هناك سر .. ومن يستغبيه ويستغفله ، هي سبق أن علمت منه وبتلميح بسيط ان علاقته متوثرة ببعض أهله ، لكن الحديث كان عابرا اجمله في كلمات :
"كيخلف الله على الدومة ولا يخلف على من حشها "..لو كانت إساءة لنسيتها ،ولكنها شمتة وتحقير ..
من طبيعة عمر ألا يتكلم عن أهله ، ولا يذكرهم الا عابرا ، والقليل هو ما التقطته حليمة منه ، وحيث انها تحترم خصوصيته فلم تحاول ان تسأل او تستقصيه عن صباه ، وسر بعض العبارات التي تنفلت منه عن أهله..
ليس لعمر الا اخ وحيد من أمه فقد تزوج ابوه بعد موت أم عمر أثناء وضعه ، وقد تربى في كنف زوجة اب كان عمر يحتل عندها الرتبة الثانية بعد ابنها الذي كان أكبر منه بثلاث سنوات ، ،وقد عانى عمر من تسلط أخيه المحتمي بأمه ، ولم يرتح منه الا بعد أن فشل في الحصول على الشهادة الابتدائية ثلاث مرات فارسله أبو عمر الى السنغال ليشتغل مع عم عمر ويتعلم فنون التجارة ، استقر أخو عمر في السنغال وكان قلما يدخل الى المغرب ،فبعد أن تزوج فرنسية صار خطه الرئيسي داكار باريس ، لكن كانت العلاقة بينه وبين عمر علاقة موصولة كأي أخوين يختصمان في الصبا ثم يتصالحان بالرغم من الكبر الذي كان يظهر على الأخ والذي ورثه من أمه التي تحمله بطبعها وراثة متوارثة ..
لم يكن بيت عمر كبيرا فهو عبارة عن دارة صغيرة من طابقين في حي هادئ ، سكانه أغلبهم أجانب ، لهم مشاريع في المدينة، أو أصحاب وظائف ذات مسؤولية كبيرة في المدينة ..
للبيت مدخلان ، مدخل أول ينفتح على حديقة صغيرة صممها عمر لتكون مكان استجمام للمرحومة زوجته ،وهو من كان يعتني بصيانتها في أوقات فراغه ،وبجلب كل نبات جميل يبهر ويثير ، وقد نصب في زاوية منها مظلة كبيرة تحتها طاولة وكراسي تصلح لتناول الوجبات المختلفة مع زوجته أو اذا حل بالبيت ضيف قريب ..
ومدخل ثان يؤدي الى قلب البيت ، على اليمين حمام صغير ومغسل وفراغ تحت ادراج الطابق الثاني مغلف بالخشب و مؤثث ببعض التحف ،يواجهه الصالون بنافذتين كبيرتين تشرفان على الحديقة ، يقابله نصف جدار فصل الصالون عن غرفة الجلوس ، ذات باب كبيرة من زجاج، نصف الغرفة بفراش تقليدي ونصفها بأثاث عصري حيث التلفاز ، وممر الى المطبخ الذي يشرف على ساحة صغيرة كمتنفس ضوئي هوائي للمطبخ ولغرفة الجلوس ذات الباب الكبيرة ، على حواف الساحة اختطت أصص نباتية وشجرة ليمون في احدى الزوايا ،كما بها خزانتان كبيرتان من الأرض الى أقصى السقف من جهتين خصصتا لكل ما يتعلق بالتموين..
ما أن تصعد السلم للطابق الثاني حتى تجد تربيعة صغيرة بها تلفاز كبير، وغرفة للجلوس مفتوحة عليها بنافذتين، و شرفة تطل على حديقة المدخل ، تشرف التربيعة على ممر صغير الى غرفة نوم كبيرة يقابلها حمام ، تليه غرفة نوم خصصت للسعدية وهي تشرف على حمام وغرفة صغيرة تم تصميمها كمكتب للسعدية ، ثم باب كبيرة حديدية ،ذات نمط روماني مخرج الى شرفة هي فضاء هوائي ضوئي يشرف على الساحة السفلية وغرفة النوم الكبيرة ..
كانَ عمر يفضل ان يكون زفافه عائليا ،لكنه كان يخشى ردة فعل من قبل حليمة التي حكت له يوما ان عرسها الأول كان "كعشاء المعزيين في بيت جنازة ، أولا لضيق ذات يد أبيها الذي لم يكن غير صاحب دكان للتموين صغير ، وثانيا لادعاءات الزوج انه يكره الفيش وللي "غادي ياكله الطبيب يأكله المريض " مما جعلها تقبل على مضض خصوصا وابوها كان يمتنع عن طلب قرض بريبة من أجل وليمة لايتعدى زمنها لحظة من عمر ؛حين فاتحها عمر في الموضوع قالت :
ــ عمر ياحبيبي ماعدنا صغارا نفكر بعقل المباهاة والفيش على الناس ، عرسنا هو سعادة ليلتنا نحن، وما غيرنا الا حضور لمراقبة اثر التوافق والفرح والرضا في عيوننا ،عمر نحن لا نريد شهودا على رضانا عن بعضنا كل واحد منا حجة على نفسه .. ضحكت وقالت :طيب اريد حفلة كبيرة على شرط ان أكون والسعدية قلب ميدة واحدة ..
ضمها اليه وقال :ومن هذا الفيل الذي يستطيع رفعكما معا ؟
قالت : حب عمر لنا
اقتصرت حفلة زفاف عمر وحليمة على عشاء صغير كلف به احد الممونين لا يتعدى مائدة واحدة ، حضرته السعدية وخالها مع زوجته ،وأخ عمر وعمه ، وزوجتاهما ، وقد أتوا من السنغال .. كانت الدردشة على المائدة فيها نوع من "حك الدبرة" على حليمة التي تسلحت برزانة اثارت الانتباه ،كأنها أنثى من اسرة عريقة ذات ماضي عريق ، كما أن إلمام أخيها بأنساب المدينة لخبرته السياحية قد جعلته يتعرف على زوجة عم عمر التي بدأت بثرثرة وفيش وانتهت بصمت طويل ، أما السعدية فقد اثارت الاعجاب بلباقة حديثها وثقافتها ، فلم يخرج المدعوون الا وقد ايقنوا أن عمر محظوظ و لم يخطئ الطريق ولا الاختيار ؛ عمر نفسه انبهر من سلوك زوجته وربيبته ، وقد عانق السعدية بالشكر الذي ابهرته بإجابة مقنعة وقوية : أبي العزيز !! .. كان جدي لأمي يرحمه الله يقول : "اذا لم نعش في الخير فقد خمسنا على أهله "، فأنا وامي نعرف طبائع أهلك ، وقد اتفقنا أن نكون في موقف يشرفك كرجل أكرمنا بخيره وحبه ..جدي لأمي لم يكن غنيا ، لكن كان رجل ذوق ،عرافة بالأنساب والأصول..
ليلة العروسين لم تكن ليلة فرح وكفى ، بل كانت متعة عمر، ما تذوقت حليمة قبلها نشوة مثل ما تذوقته مع عمر ، وما احس عمر بنفسه الا محلقا في السموات العلى من قبل أنثى أدركت حرمانه وما عاناه من مرض زوجته بالصبر وقوة الاحتمال ،فقدمت له اطباقا من السعادة والوانا من فنون الحب ..
كانت ترقص له وتتلوى بفتنة طاغية ،حتى اذا حاول أن يشدها تفلتت منه .. ثم تعود لتسقط بين يديه ، عند كل سقطة كان يقبلها ثم يحمد الله على بذرة قد سخرها الله لتينع في حقول عمره ..
وكانت حليمة كمن تشهد ميلادها مع رجل يقطر رجولة وطيبة ، اتى ليفك عقدها القديمة والتي كادت ان تترسخ في اعماقها مذ ربط ابوها مصيرها ببائع الألبسة ..
عاشت حليمة ليلة غبطة وانتشاء بين أحضان رجل أحبته ، وبه صفعت ماض كم ارقها ..ثم نامت وهي تدعو لهذا الجوهر أن يحميه الله من شر ماخلق ...
بدأت حليمة مع الأيام يظهر عليها اثر من السمنة التي اضافت اليها اشراقة وجمالا ،فهي ما عادت تقوم باي عمل متعب بعد ان وفر لها عمر خادمة تأتي يوميا للتنظيف والترتيب ، في حين أن حليمة لم تعد تهتم الا بالطبخ رغبة من عمر أن يأكل فقط من يديها ، ثم الجلوس في الحديقة لمتابعة الدراما السورية على هاتفها أومطالعة مجلات الموضة والفن ، أو الخروج للتجوال والتبضع ..
أبانت السعدية في المدارس التحضيرية الخاصة بالاقتصاد والتي دخلتها بايعاز من عمر عن قدرات هائلة وذكاء اثار انتباه أساتذتها ،وقد استطاعت من الدورة الأولى أن تحصل على تنويه من الإدارة لما تتميز به من قدرات .. عملية وابتكارية
اِستطاع عمر أن يتغلغل في السوق وقد اكتسب ثقة كل من يتعاملون معه دون ان تكون له نية تنافسية على زعامة أو تقلد مناصب في الغرف التجارية أو المجالس النيابية ،فسعيه الدائب لم يكن لجني الأرباح ،وانما لتشغيل أكثر من عاطل بشواهد عليا ، يجوب بها الوطن بحثا عن عمل فلا يجده ،مما يجعله ضحية مافيات التهجير ، أو وسيلة سهلة للاقتناص من قبل تجار الدين الذين جنوا على الكثير من الشباب بغيبيات لم يأمر بها كتاب ولاسنة..
هكذا بادر الى شراكات مع غيره لفتح معامل تحرك دواليب الاقتصاد وتشغل الشباب..
بعد خمس سنوات تخرجت السعدية بماجيستر في التجارة الخارجية بميزة جيد جدا ، وبأكثر من شهادة تنويه عن التداريب العملية التي مرت بها والبحوث التي أنجزتها وهي طالبة في المعهد، كما استطاعت أن تحصل على منحة لسنتين في بريطانية للحصول على شهادة متقدمة في التجارة والعولمة بالمعهد الملكي للتعليم العالي العالمي ،وما أن عادت حتى عرض عليها عمر ان تتكلف بأعماله وتسيير تجارته ، فالشهادة العالمية التي تحملها دليل خبرة تمكنها من توليد أفكار لتوسيع آفاق تجارته ، وفعلا فقد تخلت عن عروض كثيرة من شركات كبيرة وفضلت العمل مع عمر اعترافا بفضله عليها ، وقد أظهرت قدرة على تنمية تجارة عمر وبدأت تفتح ملحقات خارج المدينة مما جعل عمر يسلم لها كل السلطات مكتفيا بالسفريات مع حليمة او استقبال ضيوف أجانب فتحت لهم السعدية بوابة لقاءات دعائية لمنتوجات معاملها الكثيرة من عطور وتغذية وتعليب و عصائر ، وقد استطاعت أن تعقد شراكة مع أحد أبناء صاحب شركة عالمية من تركيا يهتم بصناعة الألبسة الداخلية للنساء والرجال ، ثم تطورت العلاقة بينهما الى ان هاما ببعضهما فتزوجا ، وقدم لها كمهر فندقا هدية من والديه في مرمرة ..كما اضافت لها والدته صندوقة يسمونها "بوهجة " تحتوي على الكثير من الهدايا الذهبية والجواهر والملابس الخاصة بالزواج وقد اثار "بوهجة" شهقات الانبهار من النساء اللواتي حضرن الزفاف لما يحتويه من نفائس أسالت لعابهن اذ من العادة ان يتم عرض "بوهجة " على كل الزوار في منزل الزوجية ..
هام اوغلو بجمال السعدية وطموحها ، وذكائها وقد استطاع هو نفسه أن يثيرها بتلقائيته التي تصورتها في بداية تعارفهما فضولا لكن مع الأيام أدركت انها من طبيعة التركي الذي يسأل عن كل شيء في حميمية وتلقائية ، ويوم زارتها أمه أحست السعدية كأنها تعرفها من قديم ، تتعامل معها وكأنها أمها حليمة ، لم تقلق الا من شيء واحد هو عادة أم أوغلو لان تقبل السعدية يدها كلما التقتا ، وهذا ما لم تكن متعودة عليه السعدية خصوصا قبل ان تتم خطبتها لأوغلو ، وهي عادة مترسخة في الأتراك تبرز احترامهم للكبار ..
كانت حليمة يوم عرس السعدية حمامة تطير بجناحين ، بنتها وعمر ،
عاشت مالم تكن تحلم به أبدا ، لا تسعها فرحة ،تتحرك بين دموعها وغبطتها ورغم أن الطقوس لا تختلف كثيرا بين الشعبين سواء يوم الخطبة أو ليلة الحنة او نهار الزفاف ، فقد كانت تدقق في كل شيء وتتابع كل شيء وكأنها تجمع في السعدية بنتها كل ما راته في أفلام النجوم فحلمت به ،وضاع من عمرها ، وقد كانت ترى الحاج عمر وهو يتابع بالمراقبة والحرص الممون بأن يزاوج بدقة وترتيب بين فقرات الاحتفال :تركي/مغربي وقلبها يطير معه حتى انها تمتمت لنفسها : آه ياحبيبي ياعمر لو كنت عابدة غير الله لكنت انت معبودي !! ...
خمَسة عشر ة سنة من زواج مرت كطيف جميل أو حلم ممتع لذيذ ، حجت حليمة خلالها مع عمر مرتين ، واعتمرا في رمضان خمس مرات ، وسافرا فيها الى أكثر من مدينة داخل الوطن وزارت أكثر من دولة أجنبية ،ترافقهما السعدية قبل زواجها ..
كان ما يؤرق حليمة أنها لم ترزق بذرية مع عمر ، كانت تشعر برغبته وألمه وتدرك أن عمر يعرف عقمه ، ويحاول أن يعوضها عن ذلك بحبه الجارف لها وللسعدية ، وبالعمل على إرضائها بكل ما يحقق لها وللسعدية سعادة الوجود والحياة، كان عمر يحس ألمها قدر إكباره أنها لم تحاول أن تثير الموضوع معه ، فقد كان يمني النفس بطفل يخلد ذكره فيكذب تحليلات سابقة ابان زواجه الأول ، لكن هو أمر الله كيف شاء فعل ...
قال لها ذات صباح وهما لازالا في السرير ، وقد أخذ يدها يقبلها كعادته:
هل انت قلقة على عدم الخلفة ؟
وضعت يدها على شفاهه ، لثمت يده ثم قالت :
ــ أنا لم أكن انتظر منك شاهد رجولة او قدرة ، فانت قد حركت في نفسي كل ما ضاع من عمري ، أنت لي كفاية ياحبيبي ، فيك زوجي وحبيبي وابي وأمي واطفالي ، بل عوضت بك حتى السعدية التي رحلت مع زوجها عني ،انا لا اريد أن يملا سمعي وبصري غيرك ، لا اريد غمامة ولا غلالة تبعدني عن رؤيتك والتفكير فيك ، انت حب يا عمر نبضة من عطاء الله لايدركها الا من عاش كما عشت قبل ان أعرفك ..
ضمها اليه وقال : وهل وفيت لك بما وعدت وما تستحقينه ؟
انغرست بين أحضانه وقالت : حرام عليك ،انت وفيت بما لم يستطعه إنسان ، ضمني حبيبي ، ففي صدرك مدفني ..
ضمها اليه وقال :والله لن تعيشي الا ملكة في خير انت صاحبته
قبلته وقالت : أميرة ملك هو أنت ،كل شيء منك واليك
نهَضتْ حليمة ذات صباح فلم تجد عمر بجانبها ، ظنت أنه في الحمام لكن منامته معلقة على المشجب تعلن خروجه؛ بحثت في الحديقة ،لا اثر، أخذت الهاتف وادارت الرقم ، هاتفه مشغول أو خارج التغطية ، بدأ قلبها يصعد الى حلقها وهي صاعدة نازلة تدور بين أركان البيت ، أين ذهب ؟ ليس من عادته ان يخرج دون ان يخبرها بوجهته ويتناول فطوره .. مرت ساعاتان ، ثلاثة ، لا خبر . لم يبق امامها غير السعدية ، اتصلت بها، ردت كاتبتها ان السعدية سافرت أمس هي وزوجها الى باريس ، تذكرت حليمة أن عمر من يومين وهو يخفي عليها شيئا كان يشغله ، فتوهمت انه من الأرق الذي يصيبه .. بلغ بها القلق أقصاه ،وقبل أن تغيب عن صدرها طاقة النور التي كانت تتسلح بها رن الهاتف ، وكلمتها ممرضة ان السيد عمر قد خرج من البلوك بعد عملية جراحية ، وباستطاعتها زيارته ثم اعطتها عنوان العيادة ..
ركبت سيارتها وأسرعت اليه ..
كالمجنونة دخلت عليه الغرفة في العيادة ، ارتمت عليه وهي تشهق من بكاء :
ـ حرام عليك ، لماذا لم تخبرني ؟ مابك ؟ لماذا هذه العملية ؟
كان ينظر اليها من بين ابتسامة باهتة ودمعة نازلة على جانب خده الأيمن ؛ادركت انه تعب ، فصمتت وشرعت تقبل يده ظهرا وبطنا ..
اقبل الطبيب الذي شرح لها انه لو تأخر دقيقة واحدة كانت مرارته ستنفجر ،وقد تم استئصالها بصعوبة بالغة ..
بعد أسبوع سمح له بمغادرة العيادة ، قالت له حليمة ضاحكة وهو يودع الطبيب ويشكره :
مع السلامة الحاج عمر "جيتي بوحدك ارجع بوحدك .".
تبسم ومد يده اليها وهو يقول للطبيب :
ــ يشهد الله أني احبها ، وأكره ان ابلغها ما يؤلمها ، قبل العملية بيومين وانا اعاني في صمت وما تجرأت على أخبارها ..
قالت : أحسست بك ، لكن توهمت تقلبك في السرير هو عادة الارق التي تصيبك ...
عادت السعدية من باريس بعد ان بلغها الخبر، أتـت وكما وصفت نفسها :
ــ لما اخبرتني الكاتبة صرت "بحال شي هبلة مشيرة بالغراف " أبحث أنا وأوغلو على وسيلة نقل تحملنا اليكم بأي ثمن ..
أمَّن زوج السعدية على قولها وقال : مارأيت في حياتي انثى تحب اباها حب السعدية للسيد عمر ، هنيئا لك يا رجل !! .. أنا مجرد ظل أمامك !! ..
قال عمر وهو يمزح مع صهره : يجب ان تكون الحاج عمر ، ويرضى عنك الله ببنت مثل السعدية ،وأم مثل حليمة ،عندها ستدرك معنى ان تحبك أنثى مثل السعدية ، تململ في مكانه ثم تابع :
انت حكمت من خلال واقعة بسيطة في لحظة أو لحظات ، وحكمك هو تحليلك الخاص ، وربما هو اللاوعي الذي لم يجعلك تميز بين حب السعدية لي وهيامها بك ، فالسعدية وعي من طين اصيل ،وجذر عميق ،من تربة حضارية تجانس فيها الدين بالتقاليد، فصيَّرها حضنا مفتوحا لكل من يصدقها ويخلص لها .. واذا أحبتك السعدية فقد احبك الله..
تماثَل الحاج عمر للشفاء وبدا يخرج للحديقة يتمشى ذهابا وإيابا ،
و يقرأ التقارير التي تقدمها له السعدية عن أرباح شركاته ، يزور مصانعه ويحيي الرحم مع عماله . ما أسعد ه بما حققته السعدية !!نملة شغالة ، وعقل جبار ،وفاء وصدق ..
اقترح عمر على حليمة قضاء أيام في تركيا ، كانت غايته ان يغير الجو
و يتأكد من اثر السعدية في نفوس أهل زوجها .. لقد اسعده ما حققته خارج الوطن ، فعبقرية المغربي حاضرة أنى وضع القدم ، كما راقه اثرها الطيب عند حميها ..
كانت حليمة والحاج عمر موقع ترحاب وتقدير كبير من عائلة زوج السعدية لم تترك أم اوغلو وأبوه مكانا سياحيا في إسطنبول وبورصة وأنقرة ومرمرة لم يزوروه ..حتى ان الحاج عمر كان يخجل من تصرف صهرة وفائض كرمه ..
بعد نصف شهر من التجوال والراحة عاد عمر وحليمة بعد الحاح من السعدية التي هدها الوحم وصارت في أمس الحاجة لخبرة أمها ..
اِمتنع الحاج عمر أن يدخل بيته قبل أن يمر على بيت السعدية ، هاتفها وهو لازال في المطار أن تعد عشاء معتبرا يليق بفخامة الجدة والجد القادمين ليباركا وحم ابنتهما ..
في الطريق دخل عند أحد المشهورين بصياغة الذهب واشترى خلخالا انبهرت له حليمة وقالت : هذا كثير ياعمر ، آخر ذلك الى الوضع ..
نظر اليها نظرة لا تخفي صرامة وقال: أول حمل لابنتي ولا ادري ان كان حفيدي سيجدني حيا ام ميتا ؟
اهتزت حليمة بقوة وقالت : حرام عليك ماذا أصابك ؟ بعد عمر طويل يا حبيبي..
لم يكن استقبال الحاج عمر في بيت السعدية عاديا. فالممون الذي تكلف بالعشاء أكدت عليه السعدية ان يجلب فرقة عيساوية تكون في استقبال الجدين بأمداح وأهازيج..
ما ان وصل الجدان الى الحي حتى شرعت جلاجل عيساوة تشق سكون الحي السكني الهادئ وصارت باب العمارة التي تسكنها السعدية كركح استضاء بشموع المولى ادريس الضخمة وتضمخ بأدخنة العود والجاوي وسرغينة تتصاعد من مباخر نحاسية كبيرة ،واختلطت الحناجر بالزغاريد والجاه العالي ومدح الرسول تحت وابل ماء الزهر والورد من مرشات فضية لامعة .. ..
اول المستقبلين كان زوج السعدية وقد بادره الحاج عمر :
-"شكون المختون"؟
لم يفهم زوج السعدية قصده وقد تفاجأ بضحك كل من حوله وزاد استغرابا حين قالت السعدية:
"زوجي أوغلو ،واش جئتوا تكملولو الختانة"
عندها تنبه اوغلو فشد على حزامه وتراجع الى الخلف ضاحكا وكأن الامر حقيقة وقال:
لا والله مختون من اليوم السابع من ازديادي..
كانت حليمة تجذب على نغمات غيطة عيساوة وكأنها مسحورة بها مما دفع السعدية الى ان تلازمها خوفا عليها من السقوط على الارض فهي تعرف عشق أمها لعيساوة وتفاعلها مع أنغامهم وأذكارهم..
دخل الحاج عمر وتبوأ وسط الصالون ويده اليمنى لا تترك يد السعدية ،واليسرى تشد على يد أوغلو ؛ ما ان استقامت السعدية بجانبه حتى قال لها:
ـ هات رجلك اليمنى
تفاجأت لماذا ؟فكرر العبارة وقد ادركت الغرض..
تذكرت حلما كانت قد رأته قبل زواجها ،الحاج عمر يعقد لها خلخالا بقدمها اليمنى ،حين حكت الحلم على مائدة الافطار وعدها لئن تزوجت وحملت ليكون هو من يشد اجمل خلخال في رجلها وها هو يفي بوعده؛
مسك قدمها ورفعها الى شفتيه مما جعلها تصيح قائلة:
"حرام عليك بابا باغي تفلسني"
كان زوج السعدية لا يفهم ما يدور حوله حين شرع الحاج عمر يعقد على قدم السعدية خلخالا بخيوط من ذهب وترصيعات لؤلؤية أبهرت العيون ، وقد تنبه الى الدمعات وقد تحجرت في عيون حليمة فقال لها :
ـ "انا مشغول مع بنتي ،وانت اشرحي لنسيبك قبل ما يخرج له النفير احول"
ضحكت حليمة وقالت:" رآك تدير ما بغيتي"
عانقت السعدية الحاج عمر وطبعت على خده ثم يده قبلة جعلت الدمعات المتحجرة في مآقي حليمة تتسربل على خديها ،كانت .تقارن بين عهدين للسعدية .عهد بكت فيه أباها يوم طردهما من المنزل وعهد يقبل زوج أمها قدمها فرحة بحمل لم يحظ به هو نفسه ..
في لحظات الفرح الغامر قد تداهمنا ذكريات الرعب أو المذلة فلا نملك غير الحمد والتسليم ...
كان الحاج عمر يحس بألم حليمة ويدرك ان مايقوم به قد حرك غيرتها ، مد يده اليها ضمها الى صدره وقال:
هذا مافاتنا ياحبيبتي فصار ابناؤنا احق به واجذر ..
لما عادا بأيام عاود عمر التعب ففرضت عليه حليمة راحة اجبارية
وقد ظل الطبيب يزوره في البيت مرتين كل أسبوع ..
نهضَتْ حليمة ذات ليلة على انفاس عمر القوية ، تحت الضوء ظهر وجهه ممتقعا بصفرة أرهبتها ، كما تنبهت الى بطنه المنتفخ جدا ، بسرعة استدعت الطبيب ، بعد فحصه طلب نقله الى العيادة فرفضت حليمة وقالت :
ـ إذا كان نقله من أجل عملية لاباس ،لكن ان كان غير ذلك ارجو ان يتم كل شيء في بيته ،
وافق الطبيب ووعد بارسال ممرضة تلازمه ..كانت حالته تتفاقم يوما بعد يوم ، وبعد فحوص كثيرة صارح الطبيب حليمة الا أمل في الشفاء لان كبده قد صارت مجرد خيوط واهية .. فهو مصاب بتليف الكبد في مراحل متطورة جدا ..
صارت حليمة في البيت أنثى بلاعقل ، لم يستطع اخماد ما يشتعل في اعماقها من ألم وخوف طبيب بمهدئات ،ولا السعدية وزوجها بملازمتها ،
صارت تحس انها نهايتها قبل نهاية عمر وتلك أمنيتها ، فهي لن تتخيل لحظة تعيشها بدونه ..
نهضت بعد غفوة سرقتها بعد أن هدها الصوم عن كل شيء، على صوت الممرضة وهي تقول لها :
ـ البركة في راسك ،الدوام لله !! ..
صاحت صيحة ألم مزقت السكون من حولها "كيف تنطفئ شموعك ياعمر ؟؟ !! ..
غابت وما عادت ترى الا ضبابا رماديا يحجب عنها كل شيء ، فشرعت الممرضة تسعفها الى أن استعادت وعيها ، اتكأت على أريكة ، تنفست بقوة ،مسحت وجهها بماء بارد ثم فكرت :البكاء بعد الميت خسارة يجب ان تكون متيقظة ، طلبت من الخادمة ان تسد أبواب الغرف وتحتفظ بالمفاتيح عندها ثم أخبرت السعدية التي أتت بوجه ملطوم ظلت لطماته وسما ازرق على خديها ، ثم بعد هدوئها تكفلت بإعلان وفاة عمر الى أهله عبر الهاتف ، مبلغة أياهم أن الدفن سيتأخر الى الغد حتى يتمكن أهل عمر حضور مراسيم الجنازة والدفن ؛ استدعت ممولا ليقوم باللازم وكل ما يجب اعداده في مثل هذه الحالات ..
كانت حليمة والسعدية لاتنبسان بكلمة دموعهما تتسربل ولسانهما صامت تستمعان الى ترتيلات القراء بقلبين يتفتتان كمدا وحسرة..
كانت أم أوغلو التي حضرت الجنازة تلازم السعدية خوفا عليها وعلى حملها ،تمنعها عن أية حركة ..
حضر الكثيرون ممن عرفت حليمة ومن لم تعرف ، و تكلفت السعدية باستقبال وتوديع زوار العزاء من أصحاب الشركات والعمال في حين أن حليمة كانت ترد على التعازي بحركة من راسها ، أما اللسان فقد انخرس ،ولا ترى أمامها غير ظلال اشباح تدخل وتخرج ..
بعد الدفن عاد عم عمر وأخوه من المقبرة ، وقبل أن يودعاها ،اخبراها أنهما سيعودان بعد أيام من أجل تقسيم الإرث .. أرتعش جسمها وقد أحست كأن عمر يهمس في مسامعها بما قاله ذات يوم : "لا اتحدث عنك ولا عن السعدية ، ولكن عن مستقبل ليس موضوعه الآن .."
ـ لقد أدركت ياعمر ، ادركت الآن ماكنت تحتفظ به لنفسك، وما كنت توثقه بعيدا عني .. تذكرت مرة قال لها قبل أن يفقد وعيه وقدرته على النطق "يوم موتي لا تبدي رايا أو تشرحي لطالب معلومة ، كل شيء عند المحامي " :
لم ترفع اليهما وجها ولم تزد عن القول :
ـ مرحبا بكم متى شئتم ،البيت بيتكم ..
صارت حليمة تعيش وحدها في بيت عمر ، كمتبتلة عزفت عن الدنيا ومافيها ، تداهمها أمواج الشوق لعمر ، فتطغى على ذاتها وتظل تبكي الى أن تغيب ، تخرج صباح مساء الى مكانهما في الحديقة فتظل هناك الى ان تغفو ثم تعود متثاقلة الى غرفة نومها ، ترتمي على السرير وروحها لا تناجي الاعمر .. تزورها السعدية يوميا ، وكلما سافر زوجها تأتي اليها تؤنسها الى ان يعود الزوج ،كانت هي نفسها كالغارق في بحر يتطلع الى السماء خوفا على أمها التي هزلت ، وعلى حملها الذي يزداد ثقلا .... فقد صارت حليمة لاتفارقها ممرضة تسعفها من غيبوبة تصيبها بين حين وآخر ..
بعد غسل عدتها انتقلت من لباس ابيض الى آخر اسود لا تزيحه عنها ،
اقبل عم عمر وأخوه بعد خمسة أشهر من وفاته ، وكأنهما كانا يترقبان نهاية عدتها ، أو اليأس من خلو بطنها من جنين ، رحبت بهما حليمة على قدر ما استطاعت ، وحين سألاها كوريثين شرعيين عن تقسيم الإرث ، أحست كأنهما يصبان عليها ماء باردا يوقظها من نوم .. سبقتها دموعها وهي تقول بصوت اشبه بالهمس :
أنا لا اعرف شيئا ولم ابحث في أي شيء ، سأستدعي بنتي السعدية لتدلكم على محامي الشركة يمكن تجدون عنده ما يفيد ..
كانت السعدية تقرأ في وجوههما لهفة لمعرفة ما تركه المرحوم ، وما نصيبهما من تركة عريضة ،واسعة ، فالنفوس عطشى، والفرح يطل من العيون بوميض ، فالفقيد لم يترك غير زوجة لا يظهر عليها أثر من حمل ، ولن يتعدى نصيبها الربع مما ترك والباقي سيكون بينهما ..
فتحَ المحامي ملف وصية عمر وشرع يقرأ وثيقة بعد أخرى وجد ان أخا عمر مدين لأخيه بخمسة ملايين درهم لم يؤدها لعمر منذ ان اقرضه إياها من ثماني سنوات ، وتوجد بالملف رسائل تبادلاها تكشف عدم سداد هذا الدين آخرها رسالة من الأخ تقول : الم تحاول ان تنسى هذا الدين وقد وسع الله عليك وورثت من زوجتك الملايين ؟ لا تقلق ذات يوم سأؤدي اليك ما بذمتي ..
أما العم فلا زال يحوز 96 هكتارا هي نصيب أب عمر من جد عمر وبعد ان داهم الموت والد عمر بشهرين من موت الجد بقي العم يحتفظ بالأرض الى يومنا هذا ، وبالملف الذي بين يدي المحامي نسخ من استغلال تلك الأرض في الزراعة المغطاة مع كشوفات مدخولها السنوي ..
أما الشركات والمعامل والأموال فثلاثة ارباع من جميع ما خلفه الحاج عمر في اسم زوجته موثق ومسجل ومحفظ في اسمها وهي من كانت المتصرفة وباسمها يتم البيع والشراء والشراكات ينوب عنها الهالك السيد عمر بتوكيل من قبلها ، وان الربع المتبقي قد شاركته فيه ربيبته السعدية مناصفة ، ومعنى هذا فما عاد للحاج عمر غير الثمن هو ما تبقي للارث بعد خصم الربع كحق زوجته الشرعي و خصم الثلث الذي كتبه هبة لربيبته السعدية ، ولا يسلم الباقي من التركة الا اذا أدى عمه واخوه ما بدمتها عن آخر درهم؛أما البيت فهو في ملك للسيدة حليمة زوجته وبنتها بعقد موثق ،مسجل ومحفظ في اسميهما بكل مافيه ،وقد اقتنته منه اثر ضائقة مالية اصابت الحاج عمر ففضل ان يكون المشتري زوجته وربيبته بدل أي غريب حسب ما بالملف من وثائق موقعة من قبلهما ..
تفاجأ العم والأخ بما سمعا وقد أحسا بالضيق حين طالبهما المحامي بسداد ما بذمتهما مع الفوائد فاقترحا عليه مخارجة بلا نزاع ولا محاكم والسداد على مراحل ؛ هنا نطقت السعدية قائلة :
نحن أبناء أصول ، ولايمكن في غياب عمر ان يقع ما يحرك راسه بقلق في قبره، كان رحمه الله يد خير تسبق قلبه ..ارجو من السيد المحامي ان يكتب تنازلا مني وأمي عما في ذمة السيدين ، وتنازلا من قبلهما عن حقهما في الإرث المتبقي ، وهكذا "مريضنا ماعنده بأس" والله يسامح علينا دنيا وأخرى ..
بدأت حليمة تعتاد حياتها الجديدة وان كانت الغصات لا تفارقها ،وكلما تذكرت عمر بكت ، فما تركه في نفسها لم يتركه أب ولا ام ،فعمر هو من فتح عيونها على إنسانية الانسان في الحياة كان يعطي ولا يطلب ، يبذل ولا ينتظر جزاء ، كان عمر هدية عمرها من ربها وكأنه ما أتى الا ليؤدي رسالة في حقها وحق ابنتها ثم يتوفاه الله ..
استطاعت السعدية أن تخرج أمها من وحدتها ، تحبب اليها السفر معها ، تعتمر معها في رمضان ، وتعرجا على تركيا للراحة والاستجمام ، وقد كان لازدياد عمر الصغير لدى السعدية أكبر أثر في نفسية حليمة ،فصار هو شغلها اليومي واهتمامه



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -اخدم ياتاعس للناعس -
- العاشق أعمى
- بسمة خضراء
- لا حب يعتقل ،لا عشق يبقى
- انكسارات
- عناد ينكسر
- استفسار من طريق السلام
- انتهى مشهد كورونا الأخير
- لحظة فرح
- قصة من وحي صورة
- ارحل
- نوافذ القيود
- ابقي معي
- نصوص للصغار
- هرمت ..لكن ..
- حين تكلمت عائشة وعي ووعي
- ماشاء الله فعل
- الواو..
- وله في راية بيضاء
- رضوض - من ذكريات الكتاب-


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - عمر ..رجل لعمري ...(الجزء الثاني من لحظة فرح )