أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي الذيب - الأشرار الأربعة: وأولهم يوسف زيدان















المزيد.....



الأشرار الأربعة: وأولهم يوسف زيدان


سامي الذيب
(Sami Aldeeb)


الحوار المتمدن-العدد: 6565 - 2020 / 5 / 16 - 18:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ذكرت في مقال سابق
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=677132
أن الأستاذ الدكتور محمد المزوغي اصدر كتابا عنونه: في ضلال الأديان
يمكنكم الحصول عليه من الدار الليبرالية بإرسال رسالة لرقم الواتس أب الخاص
الرقم : 0950598503
وللقراء خارج سوريا لاسيما في الدول الأوروبية أصبح بالإمكان طلب كتب الليبرالية عن طريق موقع صفحات ناشرون السويد
https://www.safahat-publishers.com/product-tag/dar-lebralye/

وقد كرس المزوغي الجزء الأكبر من هذا الكتاب لسحق فكر اربعة من أشرار مجتمعنا:
يوسف زيدان
يوسف الصدّيق
محمد عابد الجابري
ومحمد الطالبي
.
بعد ان نشرت في مقالي المذكور اعلاه مقدمة كتاب المزوغي قي ضلال الأديان
اعود اليكم اليوم لكي اعرض ما ذكره مؤلفه، بعد طلب اذنه، عن الشرير الأول يوسف زيدان، دون ذكر الهوامش

الأشرار الأربعة: وأولهم يوسف زيدان (تحت عنوان: يوسف زيدان وأقباط مصر)
-----------------------

يوسف زيدان وأقباط مصر
================

1. انفتاح القرآن على الكفّار والمُبالغة في القتل
--------------------------------
للوهلة الأولى يبدو أن الجَمْع بين الانفتاح والقتل هو أمر مُنافٍ للعقل والأخلاق، لأن مفهوم الانفتاح يعني تقبّل الآخر مهما كانت ديانته وعرقه ومكانته الاجتماعية، أما القتل أو المبالغة فيه فهو فعل اجرامي ضد الإنسانية. المفكر المصري، يوسف زيدان، صاحب كتاب اللاهوت العربي، ورواية عزازيل، الذي سنتطرّق لأفكاره في هذا الموضوع، استطاع أن يجمع بين هذه المتناقضات. ابتدأ بأطروحة عامّة مفادها أن القرآن دشّن عهدا جديدا من الانفتاح على الآخر، لم يسبقه إليه لا التوراة ولا الإنجيل، حيث أنه عدَّ «الكُفر دينا، حسبما تؤكده سورة الكافرون التي ورد فيها (لكم دينكم ولي دين) ». وهذا دليل ساطع، في رأيه، على أن القرآن يعترف بكل الأديان، ولا يستثني قبليّا أيّ منها، بما في ذلك الأديان الوثنية الشّركيّة، رغم أنه جاء لكي يقوّضها من الأساس.
لكن الرجل لم يلبث برهة على مبدئه هذا، ولم يذهب به إلى مداه الأقصى لأنه في نفس الصفحة، بل في نفس السّطر، يعود أدراجه لكي يُكرّس فكرة اقصائية شرّيرة، ويَنقض بالتالي، من الأساس، كل ما قاله عن انفتاح الإسلام وتسامحه مع الديانات الأخرى: «إلاّ أن آيَ القرآن أكّدت بوضوح (إن الدين عند الله الإسلام) (ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) ».
إذن، دين أوحد، وإقصاء كُلّي لكل الأديان والملل الأخرى. أين الانفتاح على الآخر؟ أين الاعتراف بالأديان السابقة، وبالكفر والشرك والوثنية حتى؟ فالآيَتان الأخِيرتان واضحتان وصريحتان: الإسلام هو الدين الإلهي الوحيد، وهو الأحق بأن يُتّبع، وما عداه لاغٍ وغير مقبول. لم يكتف زيدان بهذا التناقض بل إنه ذهب أبعد، وانتصب مدافعا عن الوثنية ضد اقصائية الأديان التوحيدية، بما فيها الإسلام بالدرجة الأولى: «معروف أن الديانات المُسماة اعتباطا بالوثنية، كان كل دين منها يفسح مساحة لغيره من الديانات الوثنية الأخرى المختلفة عنه ». ديانة مسالمة، إذن ومنفتحة على التجارب الرّوحية الأخرى؛ لم تُكَفّر أحدا ولم تقتل شخصا من أجل معتقده. السيد زيدان يعمّق الهوّة ويبالغ في مدح الوثنية، دون أن يتفطّن إلى أنه يَحفر لنفسه جُبّا عميقا. قال: «ولم نَعرف، تاريخيا، أن هؤلاء الوثنيّين تقاتلوا فيما بينهم، من أجل إعلاء ديانة وثنية فوق ديانة وثنية أخرى».
الجُبّ الذي حفره لنفسه هو أن الأديان التّوحيدية فَعلتْ العكس تماما، أرغمت بحدّ السيف، اضطهدت وقَتلتْ ودمّرت وأحرقت. السؤال ما الفائدة منها؟ ما الخير الذي قدّمته لنا حتى نواصل في التشبّث بها؟ أليس من الأفضل أن نتخلّى عنها ونتركها لمحكمة التاريخ؟ هذا الخيار، بالنسبة لزيدان، مستبعد مبدئيا، لأن الرجل يُعيد ويكرّر، دون تمعّن، الأحاديث العنيفة التي يَسير على هديها الارهابيون المسلمون منذ سيد قطب إلى داعش.
ورغم أن الموضوع المطروح ـ علاقة الأديان التوحيدية ببعضها ـ لا يمتّ بأي صلة لمسألة الغزو والقتل، فإن الرجل يعمد، بكل أريحيّة، إلى القول، دائما في نفس الصفحة، إن المسلمين «خرجوا في الغزوات والفتوح لنشر دين الله، انطلاقا من الحديث الشريف: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله"، ومن الآية القرآنية (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار)، والآية الكريمة (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض) ».
ما معنى كلمة "يُثخِن"؟ لا أدري بالتدقيق، لكن من المحتمل جدا أنها كلمة قاسية، دمويّة لأنها وردت في سياق عنيف جدا، ومن الأفضل تفاديها. لكن السيد زيدان، للإفادة، يتوقف عندها لكي يفسّرها للقارئ، قائلا: «ومعنى يثخن في اللغة العربية: يطعن بالأسلحة، ويبالغ في القتل ».
المسألة إذن هي مسألة: "نشر دين الله"، "حديث شريف"، "آيات قرآنية كريمة"، شرح كلمة عنيفة بعبارات أعنف منها، بل إجرامية ومنافية للإنسانيّة، ثم المرور عليها مرّ الكرام دون أن تستفزّ مشاعره. فعلا، السيد زيدان لا يستنكر هذا العمل الوحشي المذكور في القرآن، لكنه يستنكر وحشيّة التوراة، ويُدِين إله العبرانيين على مجازره، ويصمت صمتا رهيبا أمام عبارات القرآن الصريحة التي تُحرّض على قتل الأسرى، بل يتوسّع في تفسير كلمة "يُثخن" ويقول إنها الطعن بالأسلحة والمبالغة في القتل.
أنا لا أفهم خطاب هذا الرجل، ولا الأغراض التي يصبو إليها؛ لا أدري هل أوكِلَت له مهمّة تثقيفيّة صريحة، أم لديه نيّة مُبيّتة في بثّ خطاب سلفي عنيف. فمعلوم أن المسلمين الحداثيين يخجلون من الاستشهاد بحديث: "أُمرتُ أن أقاتل الناس"، البعض منهم يرفضونه تماما ويعتبرونه منافيا لروح الدعوة المحمدية، والبعض الآخر يُنَسّبونه في زمانه ومكانه، ولكن لا أعلم واحدا من الحداثيين أورد بكل أريحية آية (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخن)، إلاّ يوسف زيدان في كتاب اللاهوت العربي، والاسلاميون في مؤلفاتهم الإرهابية.

2. لاهوت الوهابية
------------
المُصادرة اللاهوتية الأولى التي بنى عليها زيدان فكرة "اللاهوت العربي" هي أن الإسلام هو أفضل الأديان على وجه الأرض، وبدون هذه المصادرة فإن كتابه يفقد من معناه تماما. ذلك أن هذا العمل، لا هو بعمل فلسفي منسّق يمكن تتبّع أفكاره والوقوف عند مراحل استدلاله، ولا هو بعرْضٍ كلاميّ كلاسيكي رشيق وواضح، وإنما فسيفساء من الخطابات المشوّشة يربطها رابط واحد: أفضليّة الإسلام على الأديان الأخرى.
اليهود والمسلمون والمسيحيون هم في صراع دائم لأن كل واحد منهم يُنكر الآخر ويُقصيه، لكن كرونولوجيا بروز هذه الأديان تَفتح باب التّفاضل. ذلك أنه إذا اعتبرناها من حيث التدرّج الزمني فإن الأفضل بينها هو الأخير، يعني دين الإسلام. فعلا، في الوقت الذي تعترف فيه اليهودية بذاتها فقط، والمسيحية تعترف بذاتها وباليهودية ، فإن الإسلام يتجاوزهما لأنه يعترف بكليهما. وكما يعلم الجميع فإن هذه المصادرة التبسيطية جدا هي، في الحقيقية، مصادرة سلفية وهابية قحّة، أعني الزعم بأن الإسلام يَفضُل على الدينين السابقين لأنه يُقرّ بهما ولا يُقصي أيّ منهما مسبقا.
وقد اعتمد زيدان هذه الأطروحة التي، كالتّابل، لا تغيب عن أي كتاب عقيدة اسلاموي، ولكن للتّنويع أو للخروج عن المألوف، طاف في البدء بالقارئ في دهاليز لغوية وجُمل مبتورة بلا معنى. لاحظوا الأسلوب التبسيطي السطحي الذي يستعمله في كتابٍ تنظيري، من المفروض أن يكون أكاديميا ومُوثقا بدقّة: «مَهما كان من موقف المسيحية الحانق على اليهود لأنهم أدانوا السيد المسيح ... ومهما كان من موقف الإسلام الذي أدان اليهود لأنهم حرّفوا الكلام الإلهي وقتلوا النبيّين بغير حق، وزعموا أن يد الله مغلولة ... وغير ذلك من عظائم الأمور ».
وبَعدها؟ لا شيء. لم يَستخرج أي عبرة؛ لم يستنبط أيّة نتيجة منطقية، ولم يستخلص أية اعتبارات أخلاقية، إذ رغم هذه التهجمات المُتقاطعة والتكذيب المتبادل، فإن الرجل غضّ الطرف وقفزَ بسرعة إلى التّحقيب المعروف في كتب الاسلاميين وفي الوعي العمومي: المسيحية تَفْضُل على اليهودية، والإسلام يشترك معها في هذه الأفضلية، لأنهما «اجتمعتا على الاعتراف بالديانة اليهودية ونَظَرَتا بكل تبجيل إلى أنبياء اليهود (الكبار) ... وبتأكيد ارتباطهما بهؤلاء الأنبياء ».
لكن القرآن يسمو عليهما نظرا لموقفه المُنفتح على كليهما، والدليل على ذلك الآيات الأولى من سورة البقرة التي تؤكد على أن المُتّقين يُكوِّنون وِحدَةً هم (والذين آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك). ليس هذا فقط، بل ثمة في القرآن تصريح واضح أن أنبياء اليهود والمسيحية هم (ذُرّية بعضها من بعض) «مؤكدا بذلك الطابع العائلي للنبوة والأنبياء ».
وكالعادة، لكي يَفسَخ كل ما قاله، ويبدأ في ممارسة الاقصاء والتعنيف، اكتشف هذا القانون العامّ الذي مفاده أن «الدين اللاحق يؤكد الدين السابق، بينما الدين السابق يُنكر اللاحق ويستنكره ». وهكذا عُدنا للفكرة الوهابية من أن الإسلام يعترف بالدينيْن السابقين في الوقت الذي لا واحد منهما يعترف به. وبالجملة، جدلية الأديان تتلخص في هذا المبدأ: «الجوهر الجامع بين اليهودية والمسيحية والإسلام، هو تأسيس اللاحق منهم لذاته على السابق، وتأكيد نبوّة الأنبياء (الأوائل) في الديانات الثلاث مجتمعة، مع بعض الاختلافات في صورة هؤلاء الأنبياء بين اليهودية والمسيحية من جهة، والإسلام من جهة أخرى ... المهم هو الاجماع على نبوّتهم، والتأكيد على جوهرية النبوة ».
أمّا علم مقارنة الأديان الذي اكتشفه زيدان وبدأ يُسطّر مَعالمه، في كتاب اللاهوت العربي، فقد بناه على مجموعة من المسلمات المختارة من قاموس الوهابية. العملية التي قام بها مخاتلة جدا: التوراة أمرُها محسوم دون رجعة، ولا ينبغي التوسّع في الحديث عنها، لأنها على المستوى اللاهوتي قد مسّت من التنزيه الإلهي وأنزلت الإله إلى منزلة إنسانية. في العهد القديم، يقول زيدان، الله يَظهر «قلقا، حسودا، حقودا، غضوبا، نادما، ناسيا، مُنتشيًا برائحة الشواء، مغلوبا ... وهي صفات إنسانية رديئة، ألحقتها التوراة بالإله بكل وضوح ومن دون أي مواربة ». إن اليهودية جعلت من الله كائنا أرضيا لا سماويا «فهو ينزل إلى الخيمة فيصير قريبا من الإنسان ويشاركه وقائع حياته».
غنيّ عن القول أن هذا التصوّر يمثّل سقطة كبرى في منظومة الديانة اليهودية، لأن الله، بالنسبة لزيدان، يسكن في السماء وليس في الأرض، وهذه بداهة يعرفها الجميع: «مع أن الله بداهة ينتمي إلى السماء لا الأرض ».
ما هي السماء؟ كيف يَصحّ استعمال كلمة "ينتمي" لوصف الكائن الأعلى؟ وفي أي مكان من السماء يتموقع هذا الإله؟ هل يُغطّي كل أطرافها وكل شِبْرٍ منها أم يَقبَع في موضع مخصوص؟ لم يطرح على نفسه هذه الأسئلة، بل لم تخطر بباله قطّ، لأن الرجل لا يتفكّر في ما يقوله، ولا يَضبط قَلَمه بإحكام، وإنما يصرّح هكذا بإطلاق أن الله "ينتمي" إلى السماء، يعني أن الله كائن ممتدّ يتموقع في مكان ما.

3. العرب مُوحِّدون بالطبع والمسيحيون مُشركون بالجِبِلّة
-----------------------------------
بعد أن حسَمَ الموقف بسرعة مع اليهودية، التَفتَ إلى المسيحية، وهي موضوعه المفضّل والمرمى الأخير من كل تحليلاته: في البداية يجب أن يقول، عن مَضض، كلمة "معسولة" في حقها لكي يُخفي عداءه الدفين لها. المسيحية، حسب زيدان، تجاوزت التشبيه اليهودي «وأكّدت وجود الله مع الإنسان في الأرض »، يعني أن المسيحية بدل أن تَقذف بالله إلى السماء أنزلته إلى الأرض، لكن مِن دون أن تُدخله إلى الخيمة، كما فعل اليهود. إلاّ أنها سُرعان ما انتشلتْه من مكانه الطبيعي ورمت به إلى السماء خوفا عليه من نور الشمس.
هذه الفذلكة، أقول، هذه الأمثولة الفُكاهية، هي لبّ المُصادرات العلمية التي تجشّم صاحبنا عناء تأسيسها وتقديمها للقارئ العربي. لقد أنزَلتْ المسيحة الله إلى الأرض «ثم رفعتْه ثانية إلى السماء، حيث الموضع الذي يليق به ».
لكن عالِمنا يخطئ، أو يجهل معنى كلمة "إنجيل"، حيث يقول إن الإنجيل: «يعني لفظه حرفيّا: البشارة». وهذا خطأ لا يمكن أن يقترفه أي طالب مبتدئ له معرفة بسيطة باللغة اليونانية، لا بل يكفي القيام ببحث بسيط في انترنت حتى نعلم أن "إنجيل" منحوتة من كلمتين يونانيتين: (ευ) وتعني "سارة، مُفرحة" و (αγγελιον) بشارة، وبالتالي إنجيل تعني حرفيا: بشارة سارة.
بعد الكلمة المعسولة، أخذ يستدرج القارئ بعبارات تبدو وكأنها محايدة، لكن سرعان ما سيكتشف أنها مخادعة، فضلا عن كونها خاطئة تاريخيا: فلسطين هي مهد المسيحية، وهذا أمر معلوم؛ لكن مِصر مَثّلت المهاد اللاهوتي الأوّل لنشأتها، يعني أنّ تصوّر الاله في المسيحية منقول حرفيا عن الوثنية الفرعونية، وبالتالي فإن هذه الديانة قد أسّست لاهوتها «على الفهم المصري القديم لعالم الآلهة ذي الأبعاد الثلاثية ... وإمكان تمازج البشر بالآلهة ... وجواز القيام من الموت وانتظار الحساب ... والانجاب من دون نكاح حسي».
وهذه طعنة في ظهر المسيحية، لأنه يُماهي اعتقادات المصريين القدامى باعتقادات المسيحيين في ألوهية المسيح، وكأنه يريد القول: الوثنية المصرية كانت الحاضنة الأولى للمسيحية لأنهما كدِيانتيْن وثنيّتين يتطابقان من حيث تأليه البشر والحيوانات ... الخ. لم يكتف بهذا، بل إنه التَفتَ إلى أقرب الكنائس منه، الكنيسة القبطية، لكي يرشدها إلى هذه الحقيقة الفاقعة، طالبا منها أن تَقبلها وتَقتنع بأن أصل معتقداتها هي وثنية الفراعنة.
ماذا كان من نتائج هذا التماثل بين الوثنية والمسيحية الوليدة؟ يتساءل زيدان. الجواب: انسِيَاب المسيحية إلى القلوب «انسيابا سهلا، فتحوّلت البلاد المصرية فيما بعد إلى الديانة الجديدة، وبذلك تأسست على ضفاف وادي النيل أول دولة مسيحية في العالم».
الكلمات الأخيرة استقاها من الكاتب المصري منير شكري: "قراءات في الكنيسة المصرية"، والذي وصفه زيدان بأنه «معروف بصلابة عقيدته الأرثودكسية القبطية ».
إذن، شهادة قَيّمة من قبطي متعصّب، نزلت لكي تؤكد موقفه، وتُتيح له استدراج القارئ لتقبّل نتائج فكره اللاهوتي. إلاّ أنه لا يوافق تمام الموافقة على خاتمة كلام المؤرخ القبطي: «لا نوافق على ما جاء في خاتمة هذه الفقرة، من ذلك الانسياب المسيحي في مصر، وأنها الدولة الأولى للمسيحية! ». هو لا يوافق على البعد التاريخي السياسي أمّا البعد العقائدي، أي التماثل اللاهوتي بين الوثنية والمسيحية، فهو يقبله بكل سرور، ويعتبره كسبا ثمينا يُبرّر ضرْبه للمسيحية في العمق: «بقيّة ما جاء في الفقرة من مماثلةٍ بين الديانة المصرية القديمة والمسيحية، نراه صائبا تماما ومؤَكَّدا بشواهد إضافية كبيرة ».
ثم مِن المصريّين حوّل قِبْلته شطر اليونانيين القدامى، وقال إنهم أكثر الشعوب استعدادا لتقبّل فكرة التجسّد المسيحي، وذلك واضح من خلال كتابهم الميثولوجي الإلياذة، وحكاياته المَلحميّة التي تجمع «بين البشر والآلهة، وبين العمالقة وأنصاف الآلهة، حيث نرى كثيرا من آلهة جبل الأولمب، خاصة كبيرهم زيوس، يغرمون بنساء من بني الإنسان، ويعاشرونهنّ فيلدن لهم (أنصاف الآلهة) ».
وهكذا عن طريق كُتب التاريخ المدرسيّة واستذكار ما تَعلّمَه في صباه وسَردَه بطريقة طفولية، يريد السيد زيدان أن يقنع قرّاءه بأن اليونانيين القدامى كانوا، عبر تاريخهم، مجموعة من البُله السذّج، الذين يعتقدون في آلهة تعشق النساء وتلد منهنّ أبناء وبنات. لم يُعرّج على أفكار الفلاسفة الأيونيّين الذين انتقدوا الوثنية وآلهتها، ولا انتقادات أفلاطون للاهوت هوميروس، أو تصوّرات أرسطو التنزيهيّة في كتاب اللام من الميتافيزيقا، ولا ثيوفراسطس، ولا ستراتون المشّائي الذي "أحال الآلهة على التّقاعد"، كما يقول شيشرون.
لكن على القارئ أن يعلم شيئا واحدا، وهو النتيجة العملية المباشرة التي يريد الوصول إليها زيدان. بعد أن مَاهَى بين المسيحية والوثنية، قال إن الديانة القديمة في الجزيرة العربية والهلال الخصيب «تُعلي من مرتبة الآلهة، وتتصوّرهم مفارقين تماما لعالم البشر ».
هذه هي النتيجة النهائية، ولبّ الأطروحة التي يريد زيدان أن يمرّرها لقُرّائه: العرب لا يمكن أن يكونوا مسيحيين بالطبع، لأنهم استقروا منذ آلاف السنين على فكرة التعالي الإلهي «اعتقدوا بوجود مسافة شاسعة بين الله والإنسان». ولكن الفراعنة واليونانيين، على العكس من ذلك، ونظرا إلى أنهم متمرّسون بالوثنية وطُبعوا عليها، فقد تقبّلوا المسيحية بانسياب وسهولة.
إن الخطورة العملية المباشرة لهذه الأطروحة تتمثّل في التّحجير التام على الإنسان العربي اعتناق المسيحية، ومَنْعه مَنعًا باتّا من الإيمان بإله متجسّد، وبعذراء أنجبتْ إلهًا. لكن إذا اعتُرض عليه بأن العرب تقبّلوا المسيحية منذ بدايتها الأولى، وآمنوا بألوهية المسيح وبعُذرية مريم أمّ الله، وهم متشبّثون بمسيحيّتهم إلى اليوم، فإن زيدان يستخرج المورد الوحيد من جعبته، والسلاح السري للمسلمين قاطبة: التّحريف.
صحيح أن العرب تقبّلوا المسيحية، يقول زيدان، لكن عقليّة العرب تدخّلت لكي تُقوْلب حتى المسيحية ذاتها: «نرى العقلية العربية التي شاعت في هذه المنطقة من العالم، تتلقّى المسيحية بفهم آخر يخالف الفهم المصري اليوناني ».
ويَجب التذكير بأن الفهم المصري اليوناني للمسيحية، هو الفهم الوثني، يعني، بِلغة المسلمين، الشرك بالله، عبادة الأصنام، أي أن المسيحية التي يؤمن بها المسيحيون الآن، وآمنوا بها عبر تاريخهم هي عين الوثنية.
لكن مِن رَحم المسيحية العربية الصافية النقيّة وُلِدت فِرَقٌ هرطوقيّة، مثّلت الإرهاصات الأولى لبروز الإسلام، ومن صلب الهرطقات الأصلية، ولدت المسيحية المحرّفة التي يؤمن بها المسيحيون الحاليّون، خصوصا الأقباط في مصر.
اللخبطة على الشكل التالي: الفَهم الوثني للمسيحية هو الفهم القويم الأرثوذكسي (فَهْم المسيحيين الحاليّين)، أما الفهم العربي المتعالي، فهو الصحيح، رغم أنه اعتُبر من طرف الأرثوذكسية غير صحيح: «ولأن الفهم الأخير هو القويم، فقد صار الفهم المخالف له، هرطوقيا ».
والشاهد الأقوى على أنّ الفهم المتعالي للإله قبْل الإسلام كان مُتَجذّرا في أذهان العرب، هو الشِّعْر الجاهلي، وقد تجلّى ذلك في مُعلّقة زهير ابن أبي سلمى «حيث نقرأ من أبياتها المشهورة، ما يدلّ على صورة الله التي تطابق التصورات اللاهوتية العربية، وسوف تشابه الصورة الإسلامية المثلى لله ».
لكن، أليس الشعر الجاهلي، كما أثبت طه حسين، كله منحول وأنه اصطُنع ما بَعديّا من طرف العرب لكي يفسّروا ما استُغلِق من القرآن؟ ألم يخترعوه في الحين لكي يُبرّروا تناقضاة القرآن أو يجدوا مخرجا لأخطائه اللغوية؟ صحيح، لكن طه حسين هو هرطوقي، بإجماع شيوخ المسلمين، وعلى كل حال، فقد تاب في آخر حياته، وعاد إلى الإسلام وصَلُح حاله.
لكن لا ضير، إذا لم تؤمنوا بالشعر الجاهلي وبالمعلقات الكبرى، فهناك وثائق أقدم منها، تغور في غياهب التاريخ، حيث أنّ «في زمن أقدم من ذلك بكثير، وإلى الشمال من منطقة الجزيرة العربية، عاشت في أذهان الناس أساطير وخرافات كثيرة، صاغتها ملاحم كانت قبل سيادة الثقافة العربية هناك، مشهورة، وفيها نرى عالم الآلهة مستقلا تماما عن عالم البشر، حتى لو كانوا ملوكا ».
والآن أصبحت الأساطير والخرافات حجة تاريخية ولاهوتية، لإثبات أن العرب القدامى كانوا مُوحّدين قبل التوحيد (الإسلامي)، وكانوا دائما يتصوّرون الله ككائن مُتعالٍ، يسكن السماء.
إن القارئ العربي الذي كان ينتظر من مفكر شهير، أن يتقيّد بالحدّ الأدنى من المنهجية العلمية، وأن يبرهن على أقواله ويدعّم تحاليله بحشد من النصوص والاحالات الدقيقة، وإذا به يجد أمامه حطاما من الأفكار وجردا من الأحكام الاعتباطية، والتخمينات المشوّشة القابعة في الهواء. فالسيد زيدان لا يعبأ بالقارئ، ولا بمطلب التدقيق والتّحقيق، لأنه يستنتج دون أن يُقدّم أيّ نص، دون أن يذكر أيّ شهادة من التراث القديم، بل طفق يَشرح كلمة خرافة فكتب في أسفل الصفحة: «الأصل كلمة خرافة قصّة عند عرب ما قبل الإسلام، مفادها أن رجلا من قبيلة جُهينة، كان اسمه خُرافة، اختطفته الجن زمنا، فعاش بينهم حينا من الدهر ثم عاد إلى أهله، فأخبر الناس عمّا رآه هناك، فوصف العربُ كلامه وما يشابهه مما هو غير معقول، وغرائبي بأنه: حديث خرافة». الخرافة ليست خُرافة وإنما اسم عَلَم: وسلّملي على الدقة والموضوعية العلمية.
العرب القدامى، إذن، كانوا موحدين أقْحاح، لم يؤلّهوا أحدا من البشر، على عكس ما سيفعل المسيحيون في وقت لاحق، أو مثلما فعل وثنيّو العصور القديمة من غير العرب، كالفراعنة واليونان. إن أميز ميزات الذهنية العربية، وهذه ثابتة يُعيد ويكرّرها زيدان إلى حدّ الهوس، هي أنها تَنفر من التجسد الالهي ولا تعترف إلا بالنبوّة، يعني بالوسيط الذي يتكلم مع الله، مثل الملك حامورابي الذي استمدّ شريعته من الله. هذه هي روح الثقافة العربية التي سادت في جزيرة العرب وصولا إلى الشرق، ما عدا مصر الفرعونية واليونان الوثنية، حيث أن الذهنية العربية «تحتفي بالحكماء من البشر، وبالكهنة المُلهمين من الآلهة. وهؤلاء جميعا كانوا في وعي العرب، بمنزلة أدلاّء يُعرّفون الناس بالإله، ويملأون المسافة الهائلة الفاصلة بين اللاهوت والناسوت، .. بعيدا عن أي ادّعاء من هؤلاء الوسطاء بأنهم هم والله شيء واحد ».
إلى من يوجّه زيدان خطابه هذا؟ دون أدنى شك إلى المسيحيين الأقباط المُقتنعين بأن دينهم المسيحي هو الدين الأصح وإلههم هو الإله الحق، وأن تصوّرهم للألوهية المتجسدة في المسيح هو تصوّر متطابق مع الإيمان القويم.
لكن زيدان يريد أن يحطّم هذا المعتقد المسيحي بكل الوسائل، يريد أن يَمْسَحه من ذاكرة العرب وأن يقصي كليا أي معتقد مناف لدينه. لن أشطّ إنْ قلت بأنّ هذا الرجل يُبدي حقدا وازدراء وعنفا تجاه الأقباط لا مثيل له، وكأنه كُلّف عن قصد للقيام بهذه المُهمّة، وكأن طرفا ثالثا حرّكه لفعل ذلك. ولا يمكن أن نفسّر "عزازيل" و "اللاهوت العربي" و "كلمات" إلاّ بهذه الخلفيّة.

4. أنت عربي إذن أنت مسلم موحّد
----------------------
نعود إلى أطروحة زيدان: الثقافة العربية الأصيلة هي مبدئيا ثقافة توحيدية، مضادة للمسيحية في الجوهر، لأنها تُعلي الإله، وترفض فكرة التجسد، وتحصر التواصل بين الله والبشر في أشخاص الأنبياء. وإذا غابت الأدلة والشواهد النصّية الصريحة، فيمكن الالتجاء إلى "الانثربولوجيا"، للبرهنة على أن العقلية العربية كانت دائما متشبثة بفكرة التعالي الإلهي. فالعرب، بالنسبة لزيدان، ليس من اليوم أو من وقت بروز الإسلام، بل من القرن الخامس قبل الميلاد، يعني منذ ثلاثة آلاف سنة، لهم عقلية براغماتية، مصلحية، تعتبر الحق والصدق والجمال، معايير ظرفية محايثة للواقع ومرتبطة بالحياة العملية المباشرة، بحيث إن كل ما يجلب المصلحة هو حق، وكل ما ينفيها هو باطل. ومن فضائل هذه البراغماتية العربية هي رفض فكرة تجسّد الله: «السّمات الثقافية العامية المميّزة لمَا يمكن أن يُسمّى العقلية العربية هي سمات، تمتاز بأنها: ثقافة عمليّة (براجماتية) ... لا تقبل فكرة الامتزاج والتداخل بين الآلهة والبشر، وتعتقد بوجود كائنات وسيطة بين العالمين الإلهي والإنساني، كالجن والكهّان والأنبياء المُلهَمِين ».
عَوِّضوا كلمة "آلهة" بكلمة "الله"، فسَتَحْصلون على الإسلام الصحيح: الله مُتعالٍ ومفارق للعالم، لا يتواصل مع البشر إلاّ عن طريق وسائط، وهم الأنبياء، وويح لمن يقول إن الله تجسّد في إنسان (يسوع المسيح) أو حملت به امرأة بالجسد.
لكننا، نعلم أن هذا التصوّر النبوّي موجود عند اليهود قبل الإسلام بقرون، وبالتالي ليس مخصوصا بالعرب وحدهم. السيد زيدان لا يقدر أن يُنكر مُعطى تاريخيا من هذا القبيل، ولذلك فإنه اضطرّ إلى توسيع الرقعة الجغرافية والإثنية للموحّدين، وإدخال اليهود في حضيرة العرب، فأصبحوا عربا أقحاح، أو على الأقل يتقاسمون أعزّ ما يملكه العرب في التاريخ، ألا وهو فكرة التوحيد، والتعالي، ووساطة الأنبياء. قال: «ومن هذه الزاوية، واعتمادا على شواهد كثيرة تُميّز العرب من غيرهم، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن الجماعات العَربية والعِبْرية، كانت تُعنى بالنبوّة والأنبياء ». لكن لا تعقدوا أن اليهود اكتشفوا شيئا جديدا، يستدرك زيدان، رغم أنه أكّد أن «فكرة النبوة في أساسها عبرانية الروح والمنشأ »، لا ليس صحيحا، بعدها بكلمة واحدة، قال إنهم جلبوها «إلى نصّهم المقدس، استنادا إلى موروث شفاهي سابق على تدوين التوراة، وامتدادا لما كان معروفا زمن أسرِهم الشهير بأرض بابل، حيث عاشت من قبلهم هناك، أفكار مماثلة عن أنبياء الفرس القدماء، خاصة النبي الفارسي الشهير: زرادشت ».
لاحظوا، أرجوكم، الأسلوب الذي يستخدمه الكاتب لعرض أفكاره، والفَقر المدقع من حيث الدقة العلمية، والاستشهاد بالمراجع، والمصطلحات التقنية والفحص الجّدي. بعد دخول اليهود في لعبة التوحيد والنبوة، وانضمامهم إلى العرب الأقحاح، الآن زاد في توسيع الدائرة وأدخل فيها الفرس، الذين هم آريون ـ كما صنّفهم علماء الانثربولوجيا ـ في حضيرة العرب. لكن الرجل متأكّد، ومُصِرٌّ على موقفه، ـ دون أن يتفطّن إلى تناقضاته حينما يحصر فكرة الاله المتعالي ومفهوم النبوة في العرب (والعبرانيين) ـ من أن فكرة النبوّة «عاشت وعشّشت زمنا في وجدان اليهود بتأثير الزرادشتية الفارسية». لكن اكتشافا باهرا يفيدنا به للتوّ وهو أن النبوة انسابت من اليهود إلى العرب «انسربت الفكرة من الثقافة العبرانية إلى العربية ». هكذا، بضَربة سِحريّة، خلعَ العرب من الصدارة، وانحدر بهم إلى الدرجة الثانية، أو الثالثة، لأن السلسلة هي: فُرس، يهود، عرب.
أنا أعجب حقا، كيف يمكن لشخص يكتب أشياء بهذا القدر من التناقض والاختلال، أن يَحوز على شهرة واسعة في العالم العربي؟ كيف يمكن للقارئ أن يتحمّل هذا الكم الهائل من الأخطاء المسترسلة، والخرافات، والبلبلة الفكرية، والأسلوب المتهافت؟
لو كنتُ من أصحاب فكرة المؤامرة لقلتُ بأن هذه الشّهرة تمّ فبْرَكَتها بعناية وحذق من أطراف ثالثة، وتمّ التسويق لها من طرف الصحافة الوهابية، نظرا إلى أن هذا الكتاب قدّم لها خدمة ثمينة، في وقت أصبحت فيه محلّ لعنٍ من طرف العالم أجمع. وهذا دليل على أن الوهابية تتدخل في ميدان الثقافة، ولها اليد الطّولى في تشريط انتاجاتها، حيث تَصطفي من يخدمها، وتُغيّب من يُعارضها.
***
الدليل الذي يُثبت اثباتا قاطعا أن العرب لهم باع في ميدان النبوة هو القرآن نفسه، ذلك أن الدين الجديد، حسب زيدان، ويعني به الإسلام، أكّد «نُبوّة بعض العرب السابقين، على اعتبار أن العرب أمة من الأمم التي كان لا بدّ أن ينذرها »، الآية هي هذه: (وإنْ من أمة إلاّ خلا فيها نذير). لكن هذا فخ آخر نصّبه زيدان لنفسه، لأن أي عارف باللغة العربية، يدرك أن هذه الآية تقصد البشرية كلها: الصيني، الياباني، الهندي، الأمريكي، الاسترالي إلخ، "وإنْ مِن أمة"، يعني كل أمة من أمم العالم، إلا وأرسل فيها الله رسولا نذيرا. هذا هو تاريخ الأديان كما يراه القرآن، والذي يتناقض رأسا مع تاريخ الأديان الذي يريد أن يخطّه زيدان، حاصرا التوحيد والنبوّة في شعوب الشرق، باستثناء مصر، التي ألحقها باليونان. فالرجل يسير قدما، لا يلتفت إلى أحد، لا يُبرهن ولا يُدقق، لا يستشهد بالمراجع (ما عدا جوّاد علي، استشهد به من البداية إلى النهاية)، فهو من الغرور بنفسه، والوثوق من خطابه وأفكاره، بحيث يتكلّم وكأنه نبيّ موحى إليه.

5. أنت مسيحي، أنت لست عربيا، أنت وثنيٌّ ابن وثنيٍّ
----------------------------------
ونعود إلى الرّقعة نفسها، إلى الثابتة التي ترى أن العقلية العربية السائدة منذ ثلاثة آلاف عام، زائد البراغماتية (الأمريكية)، تَنْفُر وتَجْفُو أشدّ الجفاء من فكرة أن يكون الله إنسانا. والدليل هذه المرة هو دليل فيلولوجي لساني اختصّت به لغة العرب دون سواها. ويجب التذكير أن الغاية من وراء هذا المدخل الفيلولوجي (السطحي جدا) هي ضرب المسيحية، وإخراجها من بلاد العرب: «أما لفظ الله فلا يقال في العربية إلاّ للمعبود الأعلى، ولا يجوز بحال إطلاقه بالاشتراك بين الخالق والمخلوق؛ إذ الجمع بينهما في العقلية العربية مُحال .. وهكذا تُفرّق اللغة العربية بحسم بين ثلاثة معان محددة (النبوة، الربوبية، الألوهية)، ولا يجوز التمازج بينهما أو التداخل ». ثم استشهد بالمؤرخ العراقي جواد علي وقال: «راجع ما ذكره جواد علي عن تصوّر الله عند العرب، وعند اليهود والسريان في المجلد الأول من كتابه المُمتع: المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 16 وما بعده».
وقد رَجعنا إلى كتاب "المفصّل" لجوّاد علي، الجزء الأول، وفَتحْنا صفحة 16 واسترْسَلنا في القراءة إلى حدود الثلاثين صفحة، لكننا لم نعثر على كلمة واحدة حول تصوّر العرب لله، فكلّ ما وجدناه هو فصلا كاملا مخصصا للبحث في كلمة "عرَب" و"عربي" و"أعراب" .
ثمّة دليل أنثربولوجي إضافي يُدعّم الأطروحة التي تقول إن العقلية العربية لا تقبل بفكرة الولادة العذرية، خصوصا إن كان المولود إلها. وهذا الدليل نجده، من جهة، في الحديث النبوي التالي: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ومن جهة أخرى، في وَلَع العرب بالأنساب والتفاخر بأجدادهم. أنتم تقولون ما دخل الحديث النبوي، وأنساب العرب باللاهوت المسحي؟ لهما دخل وكيف! فعلا، كيف تريدون أن يضرب المسيحية دون أن يُعرّج على ولادة يسوع؟ مولودٌ مجهول لا يُعرف له حَسبٌ ولا نَسب. لقد ضمّن السيد زيدان لنفسه في البداية التخلّص من اليهودية وإلهها بأسهل السّبل، والآن، تحالف معها، ظرفيا، لضرب المسيحية.
قال إن العرب لهم عادات راقية وشمائل متفرّدة، تتمظهر في أخلاقهم العفيفة وحرصهم على حماية أعراضهم وأنسابهم: «اهتم العرب بالأنساب وبالأبوّة ». ومن عادتهم أنهم أينما حلّوا «يتعارفون دوما بالنّسَب ». وهكذا فإن الطريق الآن أصبحت مُعبَّدة لكي يُقيم التفاضل بين الإسلام والمسيحية والإعلاء من شأن دينه على حسابها.
العرب وحدهم لديهم العادة، إذا الْتَقى أحدهم بالآخر يسأله ـ أنقُلُ كلام زيدان ـ : «مِمّن أنت؟ مستفسرا بذلك عن أبيه وقبيلته، إذ هُما عند العرب أساس التعرف إلى البشر، وقاعدة التعارف فيما بينهم ». النّسب إذن هو العامل المحدّد لهويّة الإنسان العربي، وهنا يتنزّل ذلك الكلام القبيح، العنيف، الذي سمّاه «الحديث النبوي الشهير: "الولد للفراش (أي لا بد من أب له) وللعاهر الحجر" ».
لا يُقلقه هذا الكلام المُهين، ولا تَستثير انسانيّته شحنة التعنيف الكامنة في هذه العبارات، كل ما يهمّه هو اثبات أن العرب، من دون الشعوب الأخرى، مُتمسّكون بالعفّة والنّسب، ويَرجمون، دون رحمة، المرأة التي تُنجب ولدا خارج الزواج. ومرة أخرى، تدعيمًا لهذه السّمات المميزة للعقلية العربية، يعود إلى تاريخ العرب لجوّاد علي (صفحة 260 من الجزء الأول)، ثم يُحيل على أحمد أمين، ضحى الإسلام (الصفحة 35 من الجزء الأول)، لكن جواد علي هو الذي أحال على أحمد أمين في نفس الصفحة التي استشهد بها زيدان. يعني نحن هنا أمام نَقْل مِن نقل، نوعا مِن قَصٍّ ولصق بطريقة بدائية. وأنا لا أستغرب هذه العملية المستهترة من شخص جعل هدفه الأوحد هو ضرب الأقباط، والتهجم الشرس على عقيدتهم، والاعلاء من دين الإسلام على حسابهم.
العذراء مريم أنجبَت ولدا دون أب، وهذا مُنافٍ للعرف العربي القحّ، ومناقض لمنطقهم البراغماتي، الذي توسّع السيد زيدان في ابراز خصائصه، لكن القرآن يقرّ بأن مريم أنجبتْ ولدا دون أن يمسسها رجل. ماذا نفعل بهذه "الحقيقة" المقدّسة؟ أنرفضها، ونكذّب القرآن؟ أم نُنَسِّبها؟ أم نَقبلها على حرفيتها حتى وإن كانت مخالفة للعقلية العربية الأصيلة؟ الحل هو قبولها ورفضها في نفس الوقت. فعلا، العرب أو بعض العرب (يقصد المسلمين)، كما يقول زيدان، تقبّلوا «أن تَلدَ العذراء بمعجزة إلهية، إذ المعجزات صنو النبوّات ». وهذا تَكَرُّمٌ من السيد زيدان على المسيحيّين، مُجبَر عليه، لأن القرآن يقرّ بذلك. لكن، مهما تقبّل من معجزات فإن العربي لا يمكن أن يَقبل روح المسيحية، يعني إنسانا ـ إلها، مولودا يجمع في ذاته الطبيعتين: اللاهوتية والناسوتيّة. وإلى هذه النقطة بالذات، بعد المقدمات المختلّة والإطالة المرهقة، يريد أن يَصل زيدان، أي أن العرب «بطبعهم، لم يستسيغوا أن يَترتّب على ذلك أن يكون المولود هو ابن الله ».
المسألة إذن هي مسألة طبْع، ولا دخل لها بالإيمان أو بالقناعة الحُرّة؛ إنها فطرة جُبل عليها العرب، انتَقلت بالوراثة من جيلٍ إلى جيل، حتى وصلت للإسلام. ولكن في الحقيقة كل هذه الزوبعة، وهذا السّيْر خلسة والتسكّع هنا وهناك، غرضه هو تدعيم التصوّر القرآني، لا الاعتناء بالمبحث العلمي أو التقصّي النظري المتجرّد. اعتقاد المسيحيين في ألوهية يسوع، في نظره، هو تطرّف وخروج عن صواب العقلية العربية القحّة، وهذا الكلام الجارح المستهتر يقوله صراحة ودون مواربة: «أما التطرّف بالقول، إلى الحدّ الذي نجعل فيه الإنسان إلها، خاصة أن هذا الإنسان تعذّب وقتل مصلوبا ومات »، فهو أمر غير مقبول ومُناف للذهنية العربية التوحيدية.
وهكذا فإن معتقدات الملايين من الناس في أرجاء الأرض أصبحت، في نظر زيدان، تطرّفا وخروجا عن العقل والقانون، وذلك من خلال مرجعيّته الإسلامية (الداعشية) التي رشّحها كمعيار أوحد للحكم على الأديان الأخرى.
لسان حاله يقول: لستُ أنا الذي يرفض هذا التأليه، بل العقلية العربية المجبولة على التعالي هي التي ترفضها. وكأنه سَبَر العقلية العربية منذ آلاف السنين واطّلع على أدبيّاتها بكل دقائقها وتفاصيلها، كي يستخرج منها هذه النتيجة. لكن المغزى الأخير من كل هذا الهمز واللمز، كما قلت وأعيده من جديد، هو ضرب المسيحية في الصميم، واصطناع تعلّة للقول بأن الإنسان العربي لا يتماشى والمسيحي في الاعتقاد، وأن كل المسيحيين العرب الذين آمنوا بالمسيح هم خارج المنطق والقانون، وأنّ أتْعَس الناس وأكثرهم بؤسا هم المصريون، يعني الأقباط، وأرذلهم اليونانيون.
تصوّروا خطورة هذه التداعيات العنصريّة التكفيرية وانعكاساتها على أقرب المواطنين إليه، أعني أقباط مصر، وكيف تتسرّب خلسة، مُتلحفة بلحاف العلميّة. وهذه كلماته واحكموا أنتم بأنفسكم: إنّ تجسّد الله في الانسان هو «أمرٌ لم يكن من المنطقي بالنسبة للعقلية العربية، مهما كانت درجة قبولها للمسيحية، أن تتقبّله ... فهي العقلية التي ردَّدت دوما، ولا تزال تردّد إلى اليوم، عبارة الله غالب المأخوذ بنصّها من نص القرآن الكريم، العربي المبين، الذي يقول: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ».
إصرارٌ وتعنّت، ازدراء فاضح للعقيدة المسيحية، ليس من جانب عقلاني، لأن العقل يرفض الأديان كلّها، ولكن انتصارا لدينه، ومُجاراة لكتابه المقدس. ومفاد كل هذه الجولة الشاقة: أنتَ عربي، أنت براغماتي أمريكي، تبحث عن المرعى والكلأ والماء، تعيش عيشة ضنكا، تغور على القبائل، تغنم وتسْبي النساء والذراري. حروب تنطفئ لكي تشتعل من جديد، لكن ويحك أن تتجرّأ وتعتقد في ألوهية المسيح، فأنتَ عربيّ بالنهاية، لا تنس ذلك، والعربي الأصيل لا يمكن أن يكون مسيحيا بتاتا. الأمر هو جبلّة وغريزة، زائد عقل ومنطق. لكن الاستشهاد بآية (والله غالب على أمره ..)، هو في غير محله ولا يَفي بالمعنى المقصود، لأن الرجل خجل من الاستشهاد بآيات هجومية عنيفة، من قبيل: (لقد كفر الذين قالوا ...)، أو (انتهوا خير لكم..)، وما إلى ذلك من الآيات التكفيرية التي يزخر بها القرآن.

6. مسيح الإنجيل محرّف
---------------
وهل يخفى التحريف؟ اطلاقا، إن رأسمال الإسلاميين هو التحريف؛ بضاعتهم الدينية والفكرية ستبور في الحين لو تخلّوا طرفة عيْن عن الفكرة البغيضة اللاعقلانية التي مفادها أن اليهود والمسيحيين، فرادى وجماعات، تقابلوا في مكان ما وقرّروا تحريف كتبهم. إنها أخرق فكرة ابتدعوها، وما قدروا أن يبرهنوا عليها بتاتا، وزاد في تكذيبهم وقهرهم اكتشاف مخطوطات البحر الميّت. لكن الإنجيل الذي اطّلع عليه زيدان يُثبتُ قطعا أن المسيح هو نبيّ مثل كل الأنبياء، وليس الإنجيل فقط بل أحد مُفسّري الإنجيل من الأقباط المحدثين، الأب متّى المسكين، يصفه بأنه واحد من أجلاّء آباء الكنيسة القبطية المعاصرة في شرحه لإنجيل مُرقس، يقرّ بأن المسيح « لم يحزن لقول الناس الذين عثروا فيه، ولكنه فرح بالتلاميذ الذين آمنوا بسرّ الله ».
ليس تحريف الإنجيل فقط، المُتداوَل بين أهله منذ ألفي سنة، بل أيضا تحريف كتاب حديث كُتب منذ بضعة سنين في مصر. يكفي الرجوع إلى تفسير متّى المسكين حتى نرى بأمّ أعيُننا كيف أن زيدان يمحو ما سبق وما لحق لكي يتعلّق بأهداب جملة اقتُلعت من سياقها ويضرب المسيحية بالمسيحية، يعني عقيدة تأليه المسيح بأحد أبنائها البررة. فعلا، في السطر السابق قال متّى المسكين: «فالمسيح لم يطلب من أحد أن يؤمن بأنه مولود من عذراء، ولكنه يطالب كل مؤمن أن يدرك أنه ابن الله»، هذه الأولى، تتخللها جملة زيدان، وإثرها مباشرة، تأتي الجملة الثانية التي غيّبها ومَحاها من الوجود: «القديس مرقس آمن واعترف بسر الله، وافتتح انجيله بهذا الإعلان: "انجيل يسوع المسيح ابن الله"».
وقد كتب المفسّر المسيحي، متّى المسكين، عبارة "ابن الله" بالبند العريض، لكي يؤكد هذا المعتقد المحوري، والذي بدونه تنهار العقيدة المسيحية بالكامل.
لكن هذا ما يرغب فيه "فيلسوفنا"، فهو يَتنرفز، كعادته، ويتشنّج؛ يُصعّد من نبرته ويَخلق مشاكل من لا شيء. كيف يَحدث هذا؟ كيف يَتَمادى هؤلاء الرّهط في غيّهم وعمائهم، رغم أن مسيحيا جليلا أقرّ بأن المسيح لم يغضب من وصفه بأنه نبيّ؟ لماذا لا يراجعوا أنفسهم ويقرّون بالحقيقة؟ زيدان يُعبّر عن أسفه من تعنّت الكنيسة القبطية: «نجد الكنيسة القبطية وبقيّة الكنائس الأرثودكسية، تؤكّد بصرامة ألوهية المسيح، وتعدّها حقيقة لا يجوز انكارها بحال، وإلاّ خرج المنكر لها عن حدود الإيمان القويم والأمانة المستقيمة ».
ماذا يريد من المسيحيين؟ ما المطلوب منهم؟ هل يريد أن يمحوا ألفي سنة من اللاهوت لكي ينزلوا عند رغبته كمسلم، ولا يجرحوا احساسه التوحيدي الرّهيف؟ إن مشكلة زيدان الرئيسية، ودون أن أبالغ، هي الكنيسة القبطية؛ هي نصوص عقيدتها التي يسمّيها «كتابات عديدة تراكمت عبر القرون امتدّت لأكثر من ألفٍ وسبعمائة عام ».
وقد لفتَ انتباهه في هذه الكتابات العتيقة إصرار الأقباط، المتجذّر في عقولهم، على تأليه المسيح، تَكفّل زيدان شخصيا بمحاربته واجتثاثه، عن طريق ضرباته العشوائية وعقيدته الوهابية، مُطَعَّمة بقليل من التاريخ اللاهوتي المبسّط جدا والخاطئ على طول الخط: «ومع ذلك فإن جوهرية ألوهية المسيح عند الأقباط، ظهرت واضحة في التقليد السكندري [هكذا]، وبأنصع ما يكون، في رسالة البابا القبطي الرابع والعشرين، كيرلّس عمود الدين، الذي كان كبيرا لأساقفة مدينة الاسكندرية ... وهي الرسالة الموسومة في أصلها اليوناني بكلمة أناثيما التي تعني اللعنات، أو الحرومات ». ثم سَردَ هذه الحرومات بطريقة عشوائية لا تتوافق والترتيب الموجود في النص الأصلي، والذي يمكن الاطلاع عليه بسهولة من موقع الكنيسة القبطية.
جاء بمعلومة خاطئة، مفادها أن مناسبة إعلان هذه الحرومات كانت «تشكيك نسطور في كون العذراء مريم هي أم الإله، ثيوتوكوس». لن أبالغ مرّة أخرى إنْ قلت إنّ مشكلة هذا الرجل مع العذراء مريم، ومع عقيدة المسيحيين القائلة بأنها أمّ الإله المتجسد في المسيح. لكن من خلال بحثٍ سريع نعلم أن مناسبة إعلان هذه الحرومات التي أطلقها كريلوس كانت التمييز في المسيح بين أقنومين: واحد لاهوتي والآخر ناسوتي، مريم أمّ الإله هي موضوع ثانوي بالنسبة لكريلوس، لأنه مُتَرتّب عن الفصل بين الطبيعتين.
وهكذا نعود مجددا إلى المصريّين القدماء، ويتمّ الربط بين معتقد الأقباط الحاليّين ومعتقد كيرلس وأساطير الفراعنة، وتُنقل الرسالة إلى أقباط مصر القرن الواحد والعشرين: ديانتكم هي وثنية فرعونيّة وقِدّيسوكم مشركون.
فعلا هذه النتيجة تتمخض حتما عن رَبْطه الماضي بالحاضر في المسائل اللاهوتية، واسقاط همومه الدفاعية وهوسه التكفيري على المسيحيين الأقباط. والأمر مقصود وصريح، يقوله هو نفسه: «الأمر الذي أثار الكنيسة الإسكندرية آنذاك بشدّة، ولا يزال يثيرها إلى اليوم ». والغاية التي يصبو إليها، كما أشرنا سابقا، هي تنبيه الأقباط الحاليّين وتذكيرهم بأنهم وثنيّون من صُلب وثنيّين، وأن مسيحهم المتجسد هو أسطورة فرعونية: «إذ أن الفكر الديني للمصريّين، كان قد درج من قبل المسيحية بقرون على الإيمان بأن الإلهة إيزيس كانت قد أنجبت الإله حورس من دون اتصال حسّي مع أبيه أوزيريس ممّا جعل المصريّين يتقبّلون فكرة أن العذراء هي والدة الإله، ثيوتوكوس، وأن المولود بالمعجزة هو الربّ المعبود». والنتيجة: «انقلب هذا التّقبّل اعتقادا، ثم صار إيمانا عميقا، ومَلمَحا أساسا للأرثودوكسية القبطية ».
وهكذا مجموعة من المواطنين المصريّين المُسالمين الذين يعيشون في بلدهم منذ ألفي سنة يأتي اسلامي وهابي يَدّعي العلم الشامل والتصوّف والفلسفة، والفيزياء الذرّية، لكي يدوس عمدا على معتقداتهم، ويُعلن لهم في وجوههم أنهم في ضلال مبين وأن دينهم هو محض وثنيّة فرعونية. وكأنه لم يَشبعْ من أعمال التفجير والتقتيل والتهجير التي يخضع لها الأقباط منذ عهد السادات، والمتواصلة بوتيرة متصاعدة إلى اليوم؛ وكأنه لم ير أمام عينيه تطبيق شريعة الإسلام عليهم وفرضهم الجزية، ولم يقرأ في الصحف خَطف الفتيات القبطيّات ثم ادخالهن عنوة في الإسلام. هذه كلها لا تَروي ظمأ انتقامه، يجب أن يَقضي نهائيا على دينهم، أن يُشعرهم بالخجل من عقيدتهم، وأن يبثّ ضمنيّا للسلفيين رسالة مفادها أنهم حينما يحرقون كنيسة أو يقتلون راهبا فكما لو أنهم حَرّقوا معبدا وثنيا أو قتلوا مشركا بالله. هذه هي الرسالة الأولى والأخيرة من كل أعمال هذا الرجل.

7. بين اللاهوت والجنس
-----------------
منذ الرواية الشهيرة القبيحة "عزازيل"، والسيد زيدان يُكابد باستمرار ضد المسيحية، ومُنغمس للنّخاع في صراع دامٍ مع الكنيسة القبطية ورموزها. صحيح أن هذا العمل، أعني "عزازيل"، هو مجرد رواية، ولكن إذا تَمعّنا جيدا في محتواها فستبدو لنا وكأنها اعترافات شخص حانق على المسيحية عموما، وعلى الأقباط بصورة خاصة، ولا يُواري ذلك وإنما يُسرّبه على شكل جرعات طفيفة. ولكي يُضفي على الأحداث مسحة من المصداقية، جعل من بطل الرواية راهب مسيحي، اسمه هيبا، وهكذا يتسنّى له ضرب المسيحية من المسيحيين أنفسهم طبقا للمثل: من فمك أدينك.
قناعته المسبقة هي أن معتقدات المسيحيين مقتبسة من "الوثني" أفلوطين، وها هو الراهب هيبا يعترف بذلك: «إنني أفكر كثيرا في أفلوطين وفي مصر، فأرى أن كثيرا من أصول الديانة أتتْ من هناك، لا من هنا! الرّهبنة، حب الاستشهاد، علامة الصليب، كلمة الانجيل ... حتى الثالوث المقدس، هو فكرة ظهرت أولا بنصوع عند أفلوطين ». وهذه المقدمات الروائية أعاد تأصيلها بشيء من التوسّع والخبط في كتاب اللاهوت العربي وانتشرت على نطاق واسع بين الشباب، حتى استحسنها الإسلاميون أنفسهم، رغم ما يَحْدوهم من الشكوك حول صدق إيمانه. أما اختلاف نسطور وكيرلس، وتغليبه النسطورية على الأرثودوكسية، لاعتقاده بأنها عربية، أو اسلامية، قبل الكلمة، فتَجدونه حرفيا في عزازيل.
لقد تماهى زيدان بكل كيانه مع هذه المسألة، واستَبْطنها في قرارة نفسه، جاعلا منها قضيّته المركزية، ومن أجلها لاحق المسيحيين الأقباط في كل مكان وحاصرهم وقعد لهم. المسيح، من هو المسيح؟ «سألتُ نسطور: يا سيّدي هل تعتقد أن يسوع هو الله، أم أنه رسول الإله؟ ». الجواب الفصل للقرآن وللراهب نسطور: «المسيح، يا هيبا، مولودٌ من بشر، والبشر لا يلد آلهة ... كيف نقول إن السيدة العذراء ولدت ربّا، ونسجد لطفل عمره شهور، لأن المجوس سجدوا له! ». وكما أشاد بآريوس في اللاهوت العربي فقد فعل بالمثل في رواية عزازيل: «مَجمَع نيقيّة الذي حُرم فيه آريوس لقوله إن المسيح إنسان لا إله، وإن الله واحد لا شريك له في ألوهيته ».
إن آريوس هذا، (الناطق بالشهادة [الاسلامية] "الله واحد لا شريك له")، خلّص الديانة المسيحية الحقيقية (يعني الإسلام) من الديانة المصرية الوثنية، يعني المسيحية الأرثودكسية. تذكّروا ما قاله أعلاه حول تماهي الأرثودكسية القبطية والوثنية الفرعونية: «أجد أن آريوس كان رجلا مُفعما بالمحبة والصدق والبركة.. أما أقواله فلستُ أرى فيها إلاّ محاولة لتخليص ديانتنا من اعتقادات المصريّين القدماء في آلهتهم، فقد كان أجدادك يعتقدون في ثالوث إلهيّ، زواياه إيزيس وابنها حورس وزوجها أوزير الذي أنجبت منه من دون مضاجعة. فهل نعيد بعث الديانة القديمة؟ ».
أسَمِعتُم؟ الديانة المسيحية هي "إعادة بعث الديانة القديمة"، يعني الفرعونية، وأجداد الأقباط الأرثودكس هم وثنيّون. وما المانع من تفجير بُؤرِ الوثنية وحَرْق كنائس الكفار على المذاق وذبح الرهبان على المباشر؟ القرآن نفسه يأمرنا بذلك، وبالتالي أيّ إرهابي، يُفجّر نفسه في كنيسة أو يُلقي بزجاجة مولوتوف يحرق كل من فيها، هو مُبرّر لأنه يحطّم رأس الكفر.

8. فلم إباحي طويل
--------------
إن كتاب "اللاهوت العربي" أعاد صياغة كل ما جاء في عزازيل، مع حذف فقط لقطات النكاح، لأن الرجل في عزازيل، لكي يُلهي القارئ عن خطورة أقواله ويَحجب نوعا ما مُعاداته للديانة المسيحية، حَلاّها بلقَطات إباحية، من قبيل: «كنتُ أظنّ قَبْلها أن الرجل إذا خلا بالمرأة فإنه يَعتليها. لكن الذي جرى لحظتها، هو أنها اعتَلتني ... ليْلتُنا كانت حافلة بالشهوات المحرّمة ».
وقد أدخل معه القارئ للحمّام كي يستعرض له حِذقه الجنسي وخياله الايروتيكي، وكيفيّة تذوّق مداعبة عشيقته، حيث كانت «تَدلك أكتافي برفقٍ وبشهوة طاغية. أغمضتُ عيني محاولا أن أتذكّر شيئا ممّا مَرّ بي، لأنشغل به، وأهدأ. غير أن الذكريات انفلتت كلها من رأسي، إذ كانت لمسات أُوكْتافيا تمسح عني كل ما رأيته قبلها ».
وتتواصل وليمة النكاح مع الجَميلة أوكتافيا «بلطفها الآسر، أمَالتني إلى الأمام كي تدلِّك ظهري، مِلتُ مع كفّيها وقد هدأ الجزع.. ». وبعد الاستراحة من النكاح (يسميها فعل الفواحش)، يعود إلى اللاهوت ويمارس رياضته الثانية، التهجم على المسيحية. وبعدها يسرع بالعودة إلى النكاح، متوسّعا في وصف الأوضاع الجنسية بالتدقيق: «التَصَقتْ بي أوكتافيا وأخذتْ شفّتي السفلى بين شفتيها، ثم راحتْ تُمَرِّر لسانها على حافتها، حتى أوشكتُ مع ارتجافة اللذة أن يُغمَى عليّ ».
مُشوّق أليس كذلك؟ كيف لا وعشيقته مُتلهّفة عليه حتى الموت، تجسّ عظْمَه ولحمَه في كل ركن وفُرجَة من جسده، ولم تَترك حتى إبِطه وشحمة أذنه: «بينما أهبط إلى الدرجة التالية دسّت كفّها اليسرى في فتحة جلبابي، فاعتصرتْ إبطي اليمنى، وأحكمتْ التصاقي بالجدار بالتصاقها بي. كانت تعلوني بدرجة، فمالتْ بعنقها نحو أذني والتقَمتْ شحمتها، فكأنها رضيعٌ يلتَقم الحَلَمة عن غير جوع. لمّا تنفّستْ في أذني، سَرتْ بباطني رعشة. ترنّحتُ مع القبلة التالية، وكدتُ أتدحرجُ من فوق الدرج، فجلستُ وقد سرى في الخدر، فتركتُها تفعل بي ما تشاء. ألقتْ عنها ثوبها، فألقيتُ عن ثوبي وقد أخذني الوهج .. القبلات التالية لا يجوز ذكرها. عند نهاية الدرج كنّا قد التحمنا تماما .. كانت تمور تحتي وفوقي، مثل قطة برية تَفترِس وتُفترس ».
هل هي ذكريات تجارب شخصية أم خيال خصب أم تأثّر بمشاهدة الافلام الإباحيّة؟ بعد فاصل النكاح يعود للتهجّم على المسيحية والمسيحيّين: «يا حبيبي، لا تتحدث هكذا مثل أهل الصليب، فأنا أكرههم ». والمتكلّم هنا ليس الراهب هيبا المزعوم، وإنما يوسف زيدان، لأن الرجل فعلا يكره المسيحيين، وإلاّ لما قال كل تلك الخزعبلات عنهم وعن دينهم. وأظنّ أن هذه الكلمة تُعبّر، بصيغة لاواعية، عن شعوره الشخصي تجاه أهل الصليب "أنا أكرههم"، على أساس مبدأ الولاء والبراء، لا بل أكثر من ذلك، المسيحيون يجب دعسهم لأنهم حشرات فَتّاكة «لأنهم كالجراد، يأكلون كل ما هو يانع في المدينة، ويملأون الحياة كآبة وقسوة ».
رأس الشيطان هو كيرلس عمود الدين الذي معه «الكنيسة أظلمت العالم »؛ قاتَلَه الله، هذا المسيحي القبيح الشيطاني «عَجّلتْ الآلهة بنهاية أيّامه السوداء، لقد جعل المدينة كئيبة كالخرائب، منذ تولّى أمرهم ». ثم يعود، بين شتيمة وأخرى، للنكاح: «جرَفتْني بروحها المرحة ولم أجد معها سبيلا، إلاّ الاستسلام لجذبها لي نحو السرير .. ورأيتُ منها يومها، حقا، ما لا يمكن أن يجده أحد في أي كتاب، فقد كانت لأوكتافيا فنونٌ لم يسمع عنها مؤلفو الكتب! بقينا من بعد ذلك عاريين ... شدّت فوقنا دثارا، وأحاطت صدري بذراعها، وتهيّأت للنوم ».
ويتواصل فيلم البورنو، وتتفتّق مواهبه الجنسية: «أدرْتُها من كتفيها حتى ولّت وجهها نحو الجدار، ثم أزحتُها بضغطة من كفّي على جانبيْ ظهرها، فانزاحتْ مستسلمةً لي. نفختُ شعلة القنديل فانطفأت، ولفّنا الظلام. كان صدرُها إلى الجدار الرطب، وصدري إلى ظهرها الدافئ. تحسّستُ في الظلام جسمها، فوجدتها مستسلمة تماما وقد أسندتْ يديها إلى الحائط، ومالت برأسها قليلا إلى الأمام. رفعْتُ عنّي جلبابي، وأنزلتُ السروال، ورفعتُ عنها ثوبها، ولم يكن تحته شيء لأُنزله. صرنا عاريَين تماما ».
وهنا بدأتْ لقطات الهَارْد: «علا صوتها، وهي تئنّ طالبة منّي شقّها لنصفين .. يا إلهي »، فلبّى طلبها وشقّها إلى نصفين. لا ينقص هذا الفِلم "الهارد" إلاّ تَعاطي المخدّرات، لكن هيبا ـ زيدان عَوّضها بالنّبيذ، فاحْتسَى منه قِنّينة كاملة، وهو يأكل ويشرب ويُسَافد. ويستمرّ الهيجان الجنسي في التصاعد، فعشيقته أوكتافيا مُتلهّفة عليه، لا تصبر على فراقه، وتذكّروا أن الشخصية التي تقمّصها زيدان هي شخصية راهب مسيحي، نَسِيَ رهبانيّته وغاص في النكاح بكل جوارحه. وهكذا فهو ينسج على منوال القرآن، ويصدّق ما جاء فيه من أوصاف معيبة للرهبان: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ... وكثير منهم فاسقون). والراهب المسيحي هيبا هو واحد من أولئك الفاسقين الذين تحدث عنهم القرآن.
على أية حال النكاح متواصل وأوكتافيا متعطّشة: «يا حبيبي. أرجوك، لا تفجعني ثانية برحيلٍ مفاجئ من جِوَاري .. لقد كاد خوفي عليك يَقتلني، هيّا لنصعد إلى غرفتنا .. هيّا يا حبيبي ». أجل هيّا بنا، وعلى الفور ألْقَتْ بنفسها في حضنه «لم أحسّ ساعتها بِعُرْيها، قدر ما شعرتُ بالتِياعها ... أخذتني إلى سطح المنزل من دون أن نقول شيئا ».
ولا ينسى، في الأثناء، إلقاء شتيمة على الرهبان: مجرمون، هم وقادتهم، وخصوصا رهبان الاسكندرية الذين يكرههم شخصيا، وله معهم حزازيات دفينة، وما حديثه عنهم في الماضي إلاّ اسقاط على الحاضر. القدماء منهم، كانوا يقتلون ويُدمّرون «باسم ربّهم العجيب، وببركات الأسقف ثيوفيلس المهووس، وخليفته كيرلّس الأشد هوسا». طعنة أخرى في مقدسات المسيحية، مُردَفَة بشتيمة وتوصيف قبيح: المسيحيون جراد: «إنهم يتكاثرون حولنا كالجراد، ويملأون البلاد مثل لعنة حلّت بالعالم ».
وانتهت قصة النكاح الأولى حينما علمتْ أوكتافيا أنه راهب مسيحي، فَنَال ما يَستحقّه من الشتائم: «اخرجْ من بيتي يا حقير، اخرج يا سافل ».
بعد أوكْتافيا جاء دور الفيلسوفة العظيمة هيباتيا، تابعَ دروسها بشغف، أحبّها حبا جما لكنه لم يتسنّ له مضاجعتها وفقَدْنا فيلم بورنو مشوّقا، لأن الرهبان المسيحيين افتكّوها من بين يديه وقتلوها أبشع قتلة، وهكذا حطّموا أحلامه الجنسية. وبينما هو على تلك الحال من اليأس والضّيم، عاد إلى هوايته المفضلة وهي ضرب المسيحية: بعد يسوع ومريم العذراء جاء دور الأساقفة الأقباط والرهبان، ومن بين ألدّ أعدائه كيرلّس الذي هو محلّ تبجيل من طرف الأقباط الأرثودكس، لكن زيدان لا يتحدّث عنه إلاّ لكي يَشتمه ويُهينه بأقذع النعوت. ولكي يُرسّخ في ذهن القارئ تلك الأوصاف السلبية فقد اصطنع فرصة قابَل فيها كيرلّس شخصيا، فأصِيب بالذهول والاستغراب. لماذا؟ لأن هذا القديس يعيش في البذخ بينما يسوع كان يعيش في الفقر . وأنكى من ذلك، كيرلس هو جهادي داعشي، قبل الكلمة، يدعو للحرب والقتل، وقد استمع زيدان نفسه إلى خُطبِه الناريّة التي يحرّض فيها على الجهاد ضد الكفار .
ومِن مَوقعه الإسلاموي (ماح أخيرا إلى نوع من الانفتاح، لأنه شكك في المسجد الحرام، وشكك في المعراج، وهي أشياء قالها المسلمون قبله بألف عام)، فهو يَتَلعثم حتى من قراءة أن مريم هي أم الله: «تبعثرتْ منّي الحروف. سَكَتُّ برهة، وسكتوا .. فأكملتُ قراءة الرسالة النارية». والرسالة هي من الشرير كيرلس، يقول فيها: «إننا نقر بكل تأكيد، بأن الكلمة اتّحدت بالجسد أقنوميا، ولذلك نسجد لابن واحدٍ، الربّ يسوع المسيح، فلا نُجزّئ ولا نفصل الإنسان عن الله ... المسيح واحد، ابنٌ وربّ .. فهو إله الكلّ وربّ الجميع، وليس هو عبدا لنفسه، ولا سيّد لنفسه ». وكيف كان وَقْع هذه الكلمات على شخص كاره للعقيدة المسيحية حتى الموت؟ «كانت كلمات الرسالة ومعانيها قد أنْهكتْني ».
أن يكون المسيح «هو الله بالحقيقة، ومن ثم فإن العذراء هي والدة الإله»، فهذه، بالنسبة إليه، دائما من موقعه ككاره للمسيحية، كلمات «وقْعها كاوٍ للأكباد ».
كاد أن يُغمَى عليه حينما اكتشف هذه الحقيقة: «كُنتُ أشعرُ بضيق في التّنفس كأن جَبَلا حطّ فوق صدري ». ويأتي كلامه هذا، مرة أخرى، مُصدّقا لموقف القرآن الذي هجم على المسيحيين بعبارات مماثلة: (وقالوا اتّخذ الرحمان ولدا. لقد جئتم شيئا إدّا، تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتهدّ الجبال هدّا). كل هذا الكاتاكليزم، كل هذه الكارثة الكونية، لأن مجموعة من الناس اعتقدوا بأن الله هو يسوع، وأن مريم وَلَدته. السيد زيدان لا يعادي فقط المسيح المتجسد بل مريم العذراء أيضا، كما يتصوّرها المسيحيون: لقد شتّتتْ أفكاره، بلبلت عقله، ونَغّصت عليه حياته، إلى درجة أنه لا يُفوّت أيّ فرصة، في كتبه ومحاضراته، للتعبير عن نكده. أن تكون مريم أم الله فهذا مروق عن الدين الحق وخروج عن العقل السويّ، وبالتالي يجب الوقوف في وجه «القائلين بأن العذراء هي أمّ الإله (ثيوتوكوس) ». محال أن تكون مريم أم الله. من هي إذن؟ هي العذراء الإسلامية: «فالعذراء امرأة من النساء، مجرّد امرأة من النساء، ومن المستحيل أن يولد الله من امرأة ».
تصوّروا الفتنة الطائفية التي يمكن أن يُحدثها هذا الشخص في أذهان الناس خصوصا وأنّ هذا الكلام وضعه على فم راهب شهير في المسيحية: نسطور. لقد حمّله، عن عمد، همومه الإسلاموية، وسجّل كلامه عن يسوع، وذهنه مُلتفت إلى القرآن، حيث قال "المُبجّل نسطور" في خطبة سَمِعها زيدان ـ هيبا شخصيا: «يسوع إنسان وتجسّده هو مصاحبة بين الكلمة الأبدية والمسيح الإنسان، ومريم هي أمّ يسوع الإنسان، لا يصحّ أن تسمّى والدة الإله، ولا يجوز أن يُقال لها: ثيوتوكوس ».
فعلا، لا يجوز، فالقضية هي قضيّته الشخصية، لقد تبنّاها بكل جوارحه، وردّد كلام الوهابيّين، ما عدا كلمة ثيوتوكوس التي يَجهلون مَعناها تماما: «لا يجوز تسمية العذراء مريم ثيوتوكوس؛ فهي امرأة قدّيسة وليست أمّا للإله. ولا يجوز لنا الاعتقاد بأن الله كان طفلا يخرج من بطن أمه بالمخاض، ويبول في فرشه فيحتاج للقماط، ويجوع فيصرخ طالبا ثدي والدته .. هل يُعقل الاعتقاد بأن الله كان يرضع من ثدي العذراء، ويكبر يوما بعد يوم، فيكون عمره شهرين ثم ثلاثة أشهر ثم أربعة! الربّ كامل، كما هو مكتوب، فكيف له أن يتخذ ولدا، سبحانه، ومريم العذراء إنسانة أنجبت من رحمها الطاهر، بمعجزة إلهية، وصار ابنها من بعد مَجلىً للإله ومخلّصا للإنسان ... صار كمثل كوّة ظهرت لنا أنوار الله من خلالها، أو هو مثل خاتمٍ ظهر عليه النقش الإلهي. وظهور الشمس من كوّةٍ لا يجعل الكوّة شمسا. كما أن ظهور النقش على خاتم، لا يجعل من الخاتم نقشا ».
المسيحيون الأقباط الذين يعتقدون في هذه الأشياء هم مَجانين: «لقد جُنّ هؤلاء تماما، وجعلوا الله واحدا من ثلاثة! ». "واحد من ثلاثة" لا تجدونها في كتب المسيحيين لكنه استمدّها من القرآن: "ثالث ثلاثة".
إن حقد هذا الرجل على الأقباط، على رهبانها، وعلى بَابَا الكنيسة القبطية شخصيا يُبْديه دون مواربة في محاوراته التافهة في عزازيل: «هل تعتقد يا هيبا أن رهبان الأديرة المصرية الكثيرة في وادي النّطرون وفي صحراوات مصر، يوافقون كيرلس فيما يقول؟ إنهم يوافقونه في أي شيء، فهم جيش الكنيسة المرقسية، والجنود المخلصون لبابا الاسكندرية ـ بابا، هه ... إذن ليكن ما يكون ».
لا تلهينا هذه الضحكة الهستيرية عما يريد تسريبه من أفكار خطيرة، وعن الرسائل التي يريد إرسالها إلى قرائه: تهجّم على الرهبان الأقباط، وتعيين أماكنهم: "في وادي النطرون"، وبالتحديد في هذا الوادي بالذات، وأنتم تعلمون ماذا حدث للرهبان في هذه الأديرة. ومن له آذان فليسمع.
هدأت لبرهة حميّته الجنسيّة، لكن عاد لها بأكثر قوة بعد أن طردته أوكتافيا وانهالت عليه شتما. والآن فاضت مكبوتاته الجنسية وعبّر عنها بكلام مقزز، لا يوصف . ولم تسلم من غريزته الجنسية حتى الطيور فهو لا يرى في الطبيعة إلاّ الجنس، إلا الوطء والمسافدة: «الحَمَامُ كثير السِّفاد »؛ «إن الحَمَام يثير الشهوات، ويبعث على ارتكاب الخطية ».
وقد جاءته فرصة المُسافدة مع فتاة اسمها مرتا «أجمل امرأة تمشي على الأرض ». استفرد بها في الدير، فلامسها وداعبها، وعمل معها ما يسمّيه القرآن اللّمم . لكنه في فترة تالية لم يكتف باللمم بل فعل فعلته، بعد أن قدّمت له خالة مَرتا "الشّرْبات"، مثل الخطوبة في مُسلسل مصري: «قدّمت لنا الخالة مشروبا باردا »، ومباشرة تَوكّلَ على الله ونكحها: «رفعتُ عن ساقيها ثوبها بكلتا يديّ، فأسلّتْ هي الثوب من عند كتفيها بكلتا يديها. وقفت مرتا أمامي عارية تماما، ونثرت بأناملها شعرها، فانخطف قلبي من سطوة الجمال. ألقيتُ عنّي ثوبي، وكان بيننا ما يكون بين الرجل والمرأة، حين يطرحان رداء الحياء ».
بعد "الشّرْبات" والخُطوبة الوهمية والتمتّع بالعُسيلة، اقترحت عليه الزواج، تماما كما نشاهده في المسلسلات والأفلام: «تَعال لنعمّر البيت ونعيش هناك بقيّة عمرنا معا، ونأخذ خالتي معنا فتُعنى بأطفالنا، وأفرغ أنا للعناية بك ».
وفي الأثناء لا يَنسى التهجّم على المسيحية وإلحاقها بالوثنية المصرية: «أترانا نردد في كل صلواتنا اسم الإله المصري القديم آمون، مازجين اسمه بين الواو والياء؟ سألتُ نفسي »، ولا يستثني البابا شنودة زعيم الكنيسة القبطية الذي ادّعى في حواراته التلفزية أنه صديقه، لكن في عزازيل جعله صنو كيرلّس، عدوّه اللدود لأنه قال بألوهية المسيح: «إن الأسقف كيرلس وصل إلى بلدة إفسوس، ومعه الراهب الأخميني الشهير، شنودة رئيس المتوحّدين ». تذكروا البابا شنودة.
وبالاعتماد على القرآن، الذي قال إن المسيحيين يتجادلون في طبيعة المسيح ولا علم لهم به، فإن زيدان، بين العُسَيلة والأخرى، يعود للتهجم على المسيحية، مُتّبِعا خُطى كتابه المقدس، حيث يضع على فم راهب مسيحي هذا الكلام: «إنكم لم تُصدّقوني حين قلتُ لكم إن خلافنا حول طبيعة المسيح، هو جوهر ديانتنا. وأن الجوهر ذاته دقيق ومشكل، وينذر بالانشقاق والفرقة ... الكل مختلفون في هذا الأمر. المصريون مُصرّون على أن الله تجسّد بكامله في المسيح، من يوم صار ببطن أمّه، فلا انفصال في المسيح بين الألوهية والإنسانية، فهو إله وربّ كامل تامّ، ولا ناسوت له مستقلا عن اللاهوت. عبارات الأسقف كيرلّس في رسالته الأخيرة حاسمة: جسد المسيح لم يتحوّل إلى طبيعة إلهية، ولم يتحوّل الله إلى طبيعة الجسد، حتى حين كان المسيح طفلا مقمَّطا ».
إذن، دَبَّ الشّقاق واستفحلت الفرقة بين المسيحيين حول طبيعة المسيح حتى جاء الإسلام وفَضَّ المشكلة من الجذور ولَقّنَ المسيحيين درسا في اللاهوت لن ينسوه أبدا. ورغم الولوج في ما لا يعنيه فإن الرجل يعود للنكاح بكل تلهّف، ويرتمي في حضن مارتا التي يسميها «عصفوري الصغير ».

9. من فِلم البُورنو إلى النقد الدّيني
----------------------
إن هذا الفلم البُورنو تمّ التّعتيم عليه في كتاب اللاهوت العربي، وتمّ حذْف المقاطع الخليعة، لكنه حافظ على انتقاداته للمسيحية، لا من وجهة نظر عقلانية، كما يجب أن يكون عليه الأمر في أي عمل فكري، لكن من وجهة نظر إسلامية، يعني تغليب دين على آخر وإعلاء عقيدة على أخرى، وهذا هو المرمى الأخير الذي يصبو إليه الإسلاميون جميعا.
تحدّثَ عن الحرومات، ووصفها بأنها «حمّى الحرومات (الأناثيما) في الكتابات المقدسة »، يقصد بها حرومات كيرلس، وصوّر الخلاف في صُلب المسيحية على أنه خلاف بين عقليّتين «عربية من الهلال الخصيب والجزيرة، وغربية في مصر واليونان وسواحل الشام ». وهكذا انقسمت المسيحية حسب انقسام جغرافي، عرقي، طائفي، إلى درجة أنه أَلحَق مصر بالغرب. والمسألة المركزية التي تشغله باستمرار هي المسيح وطبيعته. الأرثودكس الأقباط يؤمنون بأن الله حل في المسيح، وهو كمواطن مصري، يعيش في دولة متعددة الأديان وينص دستورها على حرية الاعتقاد، من واجبه أن يحترم عقيدة المسيحيين، ويتركهم في حالهم، كما أنه هو حرّ في الاعتقاد في نبوة محمد وقدسية القرآن. لكن معتقدات الآخرين تجرح إحساسه كمسلم وبالتالي ممنوع عليه أن يبقى محايدا وإنما يجب أن يتدخّل ويهاجم الكنيسة القبطية بالاسم والمسمّى: «الفهم الأرثودكسي لطبيعة يسوع، وهو الفهم الذي توغّلت فيه كنيسة الأقباط، وهيمن على روحها عبر التاريخ، فظلّت دوما تؤكد عقيدتها في لاهوت المسيح حتى يومنا هذا ».
كل شيء مُباح للأقباط إلاّ الاعتقاد في ألوهية المسيح، والأقباط غير مُستعدّين للتنازل عن عقيدتهم لهذا المعتوه، ولذلك فهو يَتَنرفزُ عليهم، ويؤنّبهم لتَعنّتهم، خصوصا إذا اطّلع على أحد الأقباط وهو يعرض عقيدته بكل اعتداد وثقة بالنفس: «وفي أيامنا الحالية، يكتب واحد من اللاهوتيين الأرثودكس، الأنبا بيشوي، مُعبّرا عن العقيدة القبطية المرقسية، وشارحا لعقيدة الثالوث من وجهة نظره، فيقول في موقعه على الانترنت، ما نصه: الآب هو الله من حيث الجوهر، وهو الأصل من حيث الأقنوم، والابن هو الله من حيث الجوهر، وهو المولود من حيث الأقنوم، والروح القدس هو الله من حيث الجوهر، وهو المنبثق من حيث الأقنوم ».
موضوعيا ما دخله هو في عقيدة الأقباط؟ ما الشيء الذي يُؤذيه؟ هل تَجرّأ واحد منهم على التدخّل في دينه أو مناقشة أركان عقيدته؟ هل العقيدة، في حد ذاتها، هي مسألة مساومة وموضوع أخذ وردّ؟ لكن هذا ما يرغب فيه زيدان بالفعل؛ فهو يريد أن يُساوم الأقباط على عقيدتهم، لا بل تَعدّى المساومة لكي ينتصب كمخلّص لهم من أخطائهم. وقد أفصح عن موقفه هذا جهارا، بحيث إن أولئك الذين اتّهموه بمعادات الكنيسة القبطية وشخصنة الصراع معها لم يخطؤوا بتاتا، يقول حرفيا إن الأقباط: «يرفضون دوما أي مساومات أو حلول وسطيّة في مسألة الطبيعة الواحدة للمسيح، بما في ذلك الحل الملكاني الذي ظل في الإطار العام للأرثودكسية، لكنه توسط بين المذهبين، مذهب النبوة الرافض لألوهية المسيحية، ومذهب النبوة القائل بوحدة الطبيعة ».
هذا ليس نقاشا وإنما تهديد واضح للأقباط، وليس الأقباط فقط، بل المسيحيين على جميع طوائفهم، مَنسوج على شاكلة منطوق القرآن: (انتهوا خير لكم). لكن الأقباط، في رأيه، ماكثون في تعنّتهم، لا يقبلون المساومة ولا النصيحة: «لم يرض الأقباط بهذا الفهم لطبيعة المسيح، وعَدُّوه فهمًا أريوسيا للديانة. وقد أصرّوا طيلة تاريخهم على فهمهم الخاص الذي يُلخّصه لنا قدماء الآباء والمحدثون منهم ».
ماذا يطرح زيدان كحَلٍّ للمسألة اللاهوتية الخاصة بالمسيحية؟ الإسلام. الإسلام هو الحل. وكيف يكون الإسلام حلاّ؟ ولأية قضيّة؟ لكل شيء، بما في ذلك صراعات المسيحيين حول طبيعة يسوع. والشاهد على ذلك هو القرآن نفسه الذي قال واصفا نفسه بنفسه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). ولا خيار أمام الأقباط، إن كانوا عقلاء ومُتفهّمين، إلاّ بتصديق هذه الشهادة الذاتية للقرآن لأنه، حسب قناعة زيدان الراسخة، هو الحق المطلق، أي «ببساطة شديدة، هو اليقين الموحى به من رب العالمين ».

10. ما دخلك أنت؟
-------------
من حقّك كمسلم أن تعتقد بأنّ القرآن "هو اليقين الموحى به من ربّ العالمين"، نُقَدّر موقفك ونَتفهّمه، ولكن ليس من حقّك ـ يَعترضُ المسيحي ـ أن تفرض مُعتقدك على غير المسلمين، أو تتدخّل في اعتقادات الآخرين وتقتَرح عليهم كيفيّة إيمانهم. يجب عليك، كباحث جدّي، أن تلتزم الحياد العلمي وأن تعرض بكل تجرّد وأمانة تاريخ الأديان ولاهوتها، دون الزجّ بقناعاتك الشخصية. وإن كنت مؤمنا، تُسوّق لدينك على حساب المسيحية، فمن واجبك أن تبوح بذلك للقارئ، دون مواربة أو تَخفّ، لكن أن تجمع بين الإيمان والعلم فهذا مُحال. إذا كان المنهج التاريخي النقدي يفرض عليك، قبل أن تخوض في دينك وتؤرّخ لعقيدتك بطريقة علمية، أن تقوم ببحث معمّق، تجْمع فيه المعطيات التاريخية، وتُقابل الآراء المختلفة، بالعودة إلى النصوص الأصلية أو الانتفاع من أعمال المؤوّلين السابقين، فما بالك إذا تعلّق الأمر بديانة أخرى وبلاهوت مغاير، أشد تعقيدا ربّما وأكثر تشَعّبا؟ لا يكفي تبسيط المسألة والتسرّع في الاستنتاج وترجيح شق على آخر، فالأمر يتطلّب منك ضِعف المجهود البحثي الذي تخصّصه لدينك.
لكن السيد زيدان، من خلال نصوصه، لم يُخصص للمسيحية، لا ضعف ولا نصف المجهود البَحثي المطلوب، لأن الرجل بعيد عن روح التحقيق والتدقيق. لقد هام بالثنائي آريوس ـ نسطور، وبالغ في الثناء عليهما وكأنهما قُطبان من أقطاب التصوّف أو عالمان من علماء الكلام الإسلامي، دون أن يقوم ببحث جدّي، أو يرجع إلى النصوص الأصلية، أو ينتفع حتى من أدبيات ثانوية يُعتدّ بها. كل ما يهمّه هو الاعلاء من شأن نسطور لأنه رفض فكرة أن تكون مريم أم الله، ضد كيرلس عمود الدين الذي ألّه مريم ويسوع. لكن إذا دقّقنا في المسألة وقمنا ببحث محايد بالرجوع إلى النصوص الأصلية وإلى أدبيات ثانوية لرأينا أن المماحكة بين هذين الرجلين لها أبعاد فكرية ومعان دينية أخرى.
ولِقولِ كلمة في هذه المسألة، بعجالة، سأستعمل ما كتبه الفيلسوف بيار بايل (Pierre Bayle) في مقال "نسطور"، من قاموسه التاريخي النقدي، مُقتَصرا على الملاحظة ("A" آ) والملاحظة ("M" مآ) . لكي يَضع القارئ في لبّ الموضوع استشهدَ بايل بنصّ رسالة كتبها نسطور إلى سليستين أسقف روما يقول فيها: «لقد وجدتُ في القسطنطينية أشخاصا يعملون على تخريب العقيدة الأرثدوكسية، فحاولتُ أن أداويهم بطُرق ليّنة، رغم أن هرطقتهم تقترب من هرطقة آريوس وأبوليناريوس، لأنهم يختزلون ترابط الطبيعتين في يسوع المسيح باضطراب وخلط، مُولّدين من مريم الطبيعة الالهية، ومُحوّلين جسد يسوع إلى ألوهيته؛ وعلى هذا الأساس يُطلقون على العذراء، أمّ المسيح، صفة أم الله؛ إن هذا اللّفظ، رغم كونه غير مناسب، يمكن قُبوله من أجل وحدة اللوغوس والبشرية، على شرط أن لا يُفهم بمعنى الألوهية، وأن لا يُفترَض في العذراء أنها أم اللوغوس الإلهي، وهو ما لا يمكن قبوله ».
وفي رسالة أخرى، يُثني على كيرلس لكونه اعترف باختلاف الطبيعتين في يسوع المسيح؛ لكن يتهمه بأنه حطّم، في ما بعد، هذه الحقيقية، وجَعَل الإله كائنا مُنفعلا ومائتا. نسطور هو بدَوره يعترف بأن الطبيعتين متّحدتين، لكنه يعتبر أنه من غير الممكن، بسبب هذا الاتحاد، أن يُنسب إلى الواحدة صفات لا تنتمي إلاّ إلى الأخرى؛ ويزعم أن في كل مرة تكلمت فيها الكتب المقدسة عن آلام يسوع المسيح وموته، إلاّ ونسبتها إلى الطبيعة الإنسانية، وأبدا إلى الطبيعة الالهية. القديس كيرلس يعترف بأن نسطور يقرّ بأن اللوغوس تجسّدَ، وأنه كان في أحشاء العذراء مع الإنسان الذي ولد من مريم؛ لكن هذا الإنسان ليس هو الله بالطبيعة وإنما الإنسان الذي مات وقام. نحن نؤمن، يقول كيرلس، أن اللوغوس الالهي أزلي وهو الحياة عينها؛ لكننا نعتقد أنه تجسّد، وأنه اتّحد بجسم مُتنفّسٍ بنفْسٍ عاقلة، وقد تألّم في جسده، كما قيل في الكتاب، وبما أن جسده قد تألّم نقول إنه هو أيضا تألّم رغم أنه كان من طبيعة غير مُنفَعِلة، وبما أن جسده قام، نقول إنه قام.
لكن نسطور ليس على هذا الرأي لأنه يقول إن الإنسان هو الذي قام وإن جسم الإنسان هو الذي يُقدَّم لنا في الأسرار المقدسة. نحن نعتقد على العكس من ذلك أن جسد ودم اللوغوس هما اللذان يُحييان كل شيء.
على هذه المعطيات يعلّق بايل: «من الهَيّن إدراك أنه لا يوجد بينهما إلا مماحكة لفظيّة؛ ذلك لأن كيرلس لا يزعم بأن اللوغوس، بما هو لوغوس، خضع للموت: هو يعترف بأن اللوغوس له طبيعة غير منفعلة؛ لكن نظرا إلى أن جسدا إنسانيا اتحد باللوغوس، فمات وقام، يمكننا القول إن اللوغوس مات وقام. الأمر إذن ليس إلاّ طريقة في التّعبير؛ المماحكة لا تجري أبدا على عين الشيء: نسطور وكيرلس يتّفقان كلاهما على أن اللوغوس بما هو كذلك لم يولد أبدا من مريم، ولم يمت أبدا على الصليب، وإنما اتّحد بجسد تكوّن في أحشاء القديسة العذراء، وأنه صُلب. لقد كانا يتجادلان لمعرفة هل أن، عن طريق نتيجة هذا المعتقد، يمكن استعمال نوع خاص من العبارات. نسطور لا يريده، لأنه يخشى استتباعات ألفاظه؛ كيرلس يريده لأنه يخشى استتباعات رفض هذه العبارات. وهكذا، إذا حكمنا بالقسط، فإن كليهما كان أرثودوكسيّا وكليهما متحمسان للإيمان؛ لكن من سوء حظّهما أنهما لم يُعبّرا عن نفسهما بوضوح، ولم يَفهم أيّ منهما الآخر. بعض الأنفس المعتادة على اعطاء الأشياء وجه سلبي، ربما ستقول إنهما يفهمان بعضهما جيّدا، لكن بوجودهما في نفس المهنة كبَطليْن شهيرين، لم يرغبا في أن يشهدا بأن مماحكتهما تتعلق بتفاهة، وإلاّ فإنهما سيفقدان تعلّة الصراع [...]
على أية حال يمكن تقبّل كامل عقيدة الاتحاد الجوهري، ورفض مع ذلك صفة أم الله، سواء لأنها تمنح للخصوم فرصة للاستهزاء، مثلما كان يفعل المسيحيون، بأكثر حدّة ضد الإلهة الوثنية سيبيلياس. (ألا يقدرون أن يقولوا إن الله، حسب المسيحيين، له أب وأم، جدّ وجدّة، جدّ جدّ وجدّة جدّة، وهكذا دواليك بحسب درجات القرابة، المباشرة أو الجانبية؟ أو يقولون مثل شيشرون: إذا كان ساتورنوس هو إله يجب أن يكون إلها أيضا الفضاء السماوي، أبوه، وإذا كان كذلك فأبوي الفضاء السماوي يجب اعتبارهما آلهة، يعني إيتيرا والنهار، وهكذا أيضا إخوانهما وأخواتهما ... وبالتالي إمّا أن يُقبل بهذه الكيانات الغريبة كلّها أو يجب رفض الأوّلين).
وبمعنى أدقّ، يواصل بايل: ليس صحيحا أن العذراء القديسة هي أم الله. من الممكن جدا أن يتّحد مَلاك مع جسم إنساني في لحظة الولادة، بحيث إن ذاك الملاك وذاك الجسد سيُشكّلان إنسانا، مثلما أن جسم آدم وروحه يشكلان انسانا واحدا. المرأة التي ستحمل وستُغذي في بطنها الجسم الذي سيتّحد به هذا الملاك، ستكون بالفعل أمّ الشخص المتكوّن من الاتحاد الجوهري لهذا الملاك بهذا الجسد، لكنها لن تكون أمّ الملاك. ولا يمكننا حتى أن نقول إن حوّاء كانت أمّ روح هابيل رغم أنها أمّ هابيل. نقول نفس الشيء بالنسبة للعذراء المقدسة: هي أم يسوع المسيح ولكن ليست أم اللوغوس الذي باتحاده مع جسدٍ كوّن وحدةً نسمّيها يسوع المسيح. إذن، القول بأن العذراء يجب أن تكون أم الله، لا يُمثّل على الاطلاق حجة لكي نرفض الوحدة الجوهرية، هذا فقط دليل على أننا نُفضّل استعمال اللغة الدقيقة للفلاسفة على اللغة الشعبيّة، وعلى استعارات الخُطباء.
أعتقد، مع ذلك، يواصل بايل، أن نسطور كان مُعابا لمعارضته التيّار؛ كان عليه أن يكتفي بأن يُفسّر للخصوم ماذا يقصد بـ"أم الله"؛ كيرلس من جهته مُعاب جدا لكونه لم يوضّح جيدا ما يَعنيه بـ"أم المسيح". كان من شأنهما أن يُجنّبا الكنيسة العديد من الاضطرابات، لو أنهما اتّفقا على المعنى المقصود؛ كان على كل واحد منهما أن يعطي تعريفا دقيقا للكلمات. أذكرُ هنا فصلا من "فن التفكير" حيث يبرهن صاحبه على أن هناك ألف مماحكة كانت ستنتهي لو تَحمّل المماحكون عناء تحديد بدقّة معاني الألفاظ التي يستعملونها. وأظن، علاوة على ذلك، أن الإفراط في تقديس العذراء يجب الخوف منه، سواء بتسميتها "أم يسوع المسيح"، أو بتسميتها "أم الله". لأنه، بلا شك، من المحال على الأتقياء الأكثر غلوّا أن يعتقدوا في أن اللوغوس، بما هو كذلك، استمدّ من القدّيسة العذراء حياته وجوهره، كما يَستمدّها الأطفال من أمّهاتهم. ومن الأكيد أننا لو اخْتزلنا استتباعات لَقَب "أم يسوع المسيح"، كما اختُزلت استتباعات لَقب "أم الله"، لوصلنا فورا إلى عبادة القديسة العذراء كما فُعل، ولأمكن الوصول إلى الدّعاء التالي: "يا أيتها الأم السعيدة، التي تكفّري عن جرائمنا، بسُلطتك كأمّ أُؤمري المخلص (O felix puerpera Nostra pians scelera Jure matris impera Redemptori)". وهذا من شأنه أن ينقض أولئك الذين يجدون في تصرّف نسطور شيئا قادرا على الوقاية من الوثنية.
وإليك حدث يمكنه أن يقنعنا بأنه في العمق كان أرثوذكسيا وهو أنه كان مستعدّا أن يسمي مريم العذراء أم الله على شرط أن يُدان خطأ أبوليناريوس الذي دعّمه كيرلس ».
ثم عاد بايل، في الملاحظة (مآ)، لكي يتعمق في المسألة عن كثب ويضيف إليها بعض التّدقيقات التي سأسردها الآن. قال: إن خصومات نسطور وكيرلس لم تساهم إلاّ بالعرض في الاعلاء من مجد العذراء المُطوّبة. هذان الأسقفان لا يتخاصمان على نقطة تخص التقوى؛ وبافتراض أن منذ تلك اللحظة يُتَوجّه إلى العذراء بالدعاء، نسطور لا يدّعي أبدا تغيير هذه العادة، وكيرلس لا يطلب تضخيمها. المسألة بينهما تتعلق بالعقيدة: أحدهما يخشى من خَلْط طبيعتَي يسوع المسيح، بينما الآخر يخشى تنصيب، كشخص، الطبيعة الإنسانية للربّ. العبادة لا دخل لها في هذا الشأن: «إن نستوريوس، رغم بقائه عنيدا على رأيه، أذعن أخيرا وأراد أن يُضفي على العذراء المقدسة التكريم الذي يقام لها شعبيا بحيث إنه في خضمّ بلائه يبدو أنه كان مستعدّا لإعادة استخدام صفة أم الله، بدلا من إتاحة الفرصة لخفض تقديسها بمواصلة رَفْضِه لها ».
هذه الخاطرة استقاها بايل من كاتب كاثوليكي، وعلّق عليها كالتالي: «إنّ هذه الكلمات هي لقسّ فرنسي درس ظاهرة تقديس العذراء بقدرٍ من العقلانية لا يستطيع القيام به إلاّ شخص مثله متمكّن من مهنته. فهو يعترف بأن نسطور لا يطلب أي إضعافٍ للطقس، وكان بإمكانه الاعتراف بأن هذا الهرطقي حافظ على كل أسس الطقس الذي أراد كيرلس أن يُرسِيَه؛ لأننا لا يمكن أن نؤسس طقس القديسة العذراء إلاّ بافتراض أن الله فعل إزاءها في السماء ما سيفعله ملك على وجه الأرض إذا أعلن أنه يريد ويرغب في أن يَخلَع على المرأة التي مَنحتْه الحياة، مهما كانت وضعيّتها سابقا، صفة ملكة ـ أمّ. من ذلك الحين فصاعدا فإن مثل هذه المرأة ستُرفَع إلى مرتبة عالية، فوق الدوقات والأميرات، وجميع رعايا المملكة، باستثناء المَلك؛ نفوذها سيكون بلا حدود. التّشريفات التي ستُحظى بها، ستفوق تشريفات كل الأشخاص الآخرين، ولا أحد سيتسلّى بالبحث هل هي أمّ روح الملك أم جسده؛ سيُكتَفى بالاعتراف بها كأمّ مَن يملك، وأنها تمسك بيَدها مقاليد السلطة التي تخوّلها لها مكانتها تلك.
إن تطبيق هذا المبدأ على نسطور ليس بالأمر الصعب. إذ برفضه لقبَ أم الله، وبحِفاظه على لقب أم يسوع المسيح، فقد أبقى على أسس التقديس كلّها؛ لأنه سيقول: أن تكون أمّ مَن "دُفِع إليه كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض"، والذي يُهيمن على كل شيء، على الملائكة كما على البشر، وبالتالي إذا أراد الله أن تُخلع على أمّ المسيح صفة الملكة ـ الأمّ والملكة الوصيّة، وتَنْعَم بسلطة الأُمومة على ابنها، فهي أعلى من كل المخلوقات، وقادرة أن توزّع على الجنس البشري كل الخيرات التي تريد. أنا لا أرى بتاتا، يقول بايل، أن كيرلس بإمكانه أن يُعطي إلى تقديس العذراء قاعدة أكثر متانة من هذه. ليس أبدا إزاء الطبيعة الإلهية، التي أعلن يسوع المسيح في يوم صعوده أن كل السلطات مُنحت إليه؛ لأنه كإله، لا يمكن أن يستفيد أيّ شيء؛ كان من الأزل سيّد الأشياء كلّها، فهو من حيث هو إنسان قد فُوِّضت له كل السلطات؛ لقد منح الله إلى روحه هذه القوة من حيث إنه أراد أن تكون كل رغبات هذه الروح فعّالة وعاملة، وبالتالي للتّأكّد من النفوذ الكوني للقديسة العذراء، يكفي الاعتقاد أن بشريّة يسوع المسيح لا تأبى شيئا لأمّه، وأنه خاضع لها مثل أفضل ابن ... لو أن السيّد باييه (Baillet) تحمّل عناء التفكير في ما قلتُه، لغَيَّر بالتأكيد شيئا ما في هذا المَوْضِع من كتابه: "حينما حافظت الكنيسة للعذراء القديسة على صفتها كأمّ الله، في مجمع إفسس، ضد جور الهرطوقي نسطور، الذي أراد أن يخطف منها عنوان المجد هذا، لم تكن تفكّر في المحافظة على أسس التقديس الذي يؤديه المؤمنون لهذه العذراء الأم بقدر ما كانت تفكّر في ارساء الإيمان بوحدة الشخص في يسوع المسيح ".
ربما يُفيدني هذا الكاتب ـ يواصل بايل ـ بآراء لا أملكها والتي قد تجعلني أغيّر من رأيي. لكن، إليكم كيف أرى أن مماحكات نسطور وكيرلس ساهمت بالعرض في زيادة تكريم العذراء القديسة على وجه الأرض. إن عنوان أمّ الله الذي اعتُرض عليه ورُفض لبعض الوقت، وأخيرا انتَصر وأكّدته قرارات المَجامع الكنسيّة، أثار ضجّة أكثر مما كان عليه في السابق؛ أصبح قضية محورية؛ الحزب المغلوب نُظِر أليه ككافر، الحزب المنتصر رأى نفسه كأنه الوصيّ على التقوى؛ انتصاره استهوى العديد من الناس؛ وقد عُزّز هذا الجزء من العقيدة كما تُعَزّز ثغرة دُحِر منها العدوّ، لكنه يستطيع في كل لحظة أن يقوم منها بهجوم جديد. اسبروا تاريخ الكنيسة، سَتَروا أن في كل العصور المماحكات التي لم تنتصر لم تساهم إلاّ في مضاعفة التجاوزات [..]
ولكي نؤكد ما قلناه من أن أولئك الذين يهاجمون أخطاء دينية عتيقة غالبا ما يكونون سببا، بالعرض، في زيادة ترسيخها، نلاحظ أنّ أتْبَاع طقسٍ خاطئ يمكن أن يُتَصدّى لهم إمّا في لحظة الذروة من تعصّبهم، أو عندما يقودهم الفتور إلى نوع من اللامبالاة. في الحالة الأولى اخْشَوا ما يحدث حينما تُعارَض هيَجانات شخص في قمّة غضبه، مقاومته لا تعمل إلاّ على تصعيد غيظه ... في الحالة الثانية يجب أن تَخافوا من إيقاظ الكلب النائم، أعني إنعاش عاطفة في حالة احتضار.
اعتَبِروا مثلا بتَصرّف الأزواج الذين انطفأت فيهم تماما مشاعر الزوجية: يَعيشون مع زوجاتهم كأنهم لا يعيشون مَعهنّ؛ لديهم إزاءهنّ الكثير من اللامبالاة وربما الكثير من الكره، لكن إذا أراد أحد أن يَنتَزعهن، وإذا عَلموا، حين عودتهم إلى بيوتهم، أنهن لُذْن بالفرار مع أحد الغاوين، عندها يَفقدون صبرهم؛ يَشعرون بأنهم كلّهم حماس لاسْتردادهنّ؛ يَملؤون الدنيا تذمّرا: يا لزوجتي المسكينة، أوّاه! ماذا حدث لها؟ يُحرِّكون الشرطة والحرس؛ يَنخرطون في مُحاكَمات محرجة. ليس هناك بُرود في المشاعر؛ انتهت اللامبالاة في شؤونهم الشخصية. يتخلّصون من نسائهم طالما لم يُنازعهم أحد فيهنّ؛ لا يقدرون على التخلّص منهنّ في لحظة التنازع عنهن ».
هذه الخلاصة المقتضبة لبيار بايل، هي أفضل ما قرأت بخصوص النزاع بين نسطور وكيرلس، وقد اقتصرتُ منها على ملاحظتين، ومَن أراد المزيد فعليه بمقال "نسطور" في الجزء العاشر من قاموس بيار بايل. النتيجة التي أودّ الوصول إليها هي أن هذه المماحكة اللاهوتية، الغائرة في القدم، تخصّ المسيحيين بالدرجة الأولى، وتتعلّق بتاريخ معتقداتهم، ولا دخل لأهل الأديان الأخرى فيها، ولا يمكن أن تكون ذريعة للمسلم كي يهجم على المسيحية ويجرّح فيها.

11. حلول القرآن اللاهوتية: "أحسن القصص"
----------------------------
السيّد زيدان، الذي يتدخّل في معتقدات المسيحيين، دون أن يستشهد بمراجعهم، ويكتب وكأنّ كلامه وحي مُنزّل، يزعم أن القرآن قدّم «حلولا محددة لكل ما كان اليهود والنصارى يختلفون فيه من مشكلات عقائدية»، وهذه في الحقيقة هي سقطة كبرى من رجل يدعي أنه متضلّع في الفلسفة، لأن ليس هناك من كتاب ديني في العالم قدّم حلولا لمشاكل عقائدية تخص الأديان الأخرى. وإذا أردنا الدقة فإن المشاكل العقائدية، في حد ذاتها، هي مشاكل كاذبة، ومصطنعة، وشرّيرة لأنها لم تتقدّم بالبشرية في سبيل التحرر الفكري والانعتاق الجسدي وإنما أغرقتها في بحر من الجهل والعبودية والعنف.
كان من المفروض أن يعي زيدان بهذه البسائط الأولى، المعروفة عند المبتدئين في الفلسفة، وهي أن الكتب الدينية، خزّان للخرافات، معدومة الأخلاق والمنطق، لكنه بحكم تمكّن العقيدة الوهابية من دماغه، مُصرّ على أن القرآن حلّ كل المشاكل العقائدية بما فيها تلك التي تخص اليهودية والمسيحية. ولم يكتف بالمحتوى، بل تعدّاها إلى الشكل، لأن القرآن في رأيه قدّم تلك الحلول بإعادة بناء «التصورات الأساسية للألوهية والنبوة ».
على أي أسس بَنَى القرآن هذه الحلول؟ وأية براهين منطقية وعقلانية جاء بها؟ لا منطق ولا عقل ولا برهان، وإنما مجموعة من القصص، يعني روايات تروى هكذا في النوادي اللّيلية للتّسلية، ولِكُلٍّ أن يَستخلص العبرة حسب هواه.
لكن الرجل يحيطنا علما بأن القصص القرآني هو أحسن القصص ، ولا يمكن له أن يقول عكس ذلك لأن القرآن ينص عليها بالحرف (نحن نقص عليك أحسن القصص)، وهذه إشادة بالذات، لا تتوافق مع واقع الحال. وأراهن أنه لو رفض القرآن فكرة القصص وتهجّم على القُصّاص، كما فعل إزاء الشعراء، لَأمعن زيدان في تجريح القُصّاص، ولكَال لهم من النعوت القبيحة ما لا يتصوره الخيال.
القرآن استعار من العهد القديم حكايات أنبياء بني إسرائيل، ولمّح لحياتهم الأسطورية تلميحا، دون الدخول في التفاصيل أو التوسّع في دقائقها أو تنسيقها في خطاب مُوحّد، إلا الأسطورة الغرامية ليوسف، التي استهوته، فقام بسَردها مُضيفا إليها بعض التفاصيل التلمودية. أن يكون القرآن قد استمدّ موادّه من التوراة والتلمود فهذه حقيقة تاريخية فيلولوجية ثابتة ومُوثقة، وقد برهن عليها المستشرقون بفائض من الحجج والنصوص الدامغة.
لا يمكن أن نَعيب على المسلم العادي عدم وعيه بهذه الحقيقة، أو مُكوثه على الاعتقاد بأن القرآن جاء بتصوّرات جديدة، وقصّ تاريخ الأنبياء بصورة أفضل مما هي عليه عند اليهود، لكن من حقّنا أن نَعيبها على السيد زيدان: فهو عالم ضليع في اللاهوت، عارف بالكتب المقدسة؛ صاحب قلم غزير، وله صَوْلات في ميدان الفلسفة والمنطق والتصوف، وبالتالي فهو المؤهّل، أكثر من غيره، للاضطلاع بمهمّة تنوير العقول، وتثمين البحوث التاريخية الفيلولوجية. لكنه لم يفعل شيئا من هذا القبيل، بل مرّ وكأنّ الدراسات التاريخية والفيلولوجية لم توجد قط، وأخذ يعرض علينا السرديّات اللاعلمية التي يرددها الشيوخ في مواعظهم، من قبيل أن الإسلام «قدّم سيرة أخرى لمعظم أنبياء التوراة، الذين هم أنبياء اليهود الأوائل، بعدما أعاد رسم شخصياتهم بما يُناسب مكانتهم ».
فالرجل لم يكتف بتغييب المقاربة التاريخية، بل إنه افتكّ من أهل الأديان أرذل ما عندهم من أدبيات خرافية وقال، كما يقول كل شيوخ الفضائيات: «إن العرب أوْلَى بإبراهيم وبالأنبياء، من اليهود الذين ذكر القرآن الكريم في مواضع كثيرة، أنهم يقتلون النبيّين بغير حق ». لن أسأل زيدان: هل هناك قَتْل للنبيّين بحقّ؟ لقد أذهلني هذا الرجل بخوره واستهتاره المسترسل. والحال أن ما قاله أعلاه هو سطو على العهد القديم، وعلى أساطير أنبياء بني إسرائيل، إن لم يكن محاولة إدخالهم عنوة في بيئة مغايرة، وفي مجتمع طلّق الأديان نهائيا. فالمُتصفّح لردود العرب المخاطَبين في القرآن يدرك بسهولة أن القوم كانوا يعرفون مصدر القصص التي تُروَى عليهم، وقد نَبّهوه على أنه يستنسخ لهم أساطير العهد القديم، التي تجاوزوها منذ زمان، ولا يَودّون أن تُستعاد وتُسْكَب على ثقافتهم اللادينية، بل الدّهرية (الإلحادية) بأتم معنى الكلمة.
لكن هناك أمرا لم يتفطّن له المسلمون وهو أن القرآن هو الذي أنقذ اليهودية التلمودية من النّسيان، وهو الذي حماها من سطوة المسيحية التي اجتاحت كامل بلدان البحر الأبيض المتوسط ثم توسعت إلى شمال أوروبا وصولا إلى روسيا، وكادت أن تقضي عليها بالكامل. فجاء الإسلام وأعاد إحياء الخطاب اليهودي التوراتي مجتهدا لتطهير (نسبيّا) العهد القديم من شناعات القصص التي حيكت على الأنبياء، عن طريق الحذف والايجاز والتّعتيم والتحريف، تماما كما فعل في السابق مُدوّنوا التلمود. وهكذا فإن القرآن قدّم خدمة جليلة لديانة كانت في طور الانحصار والتدنّي، ونَفخ نفسا جديدا في كتابٍ لا يمكن لأحدٍ من الناس أن يقرأه دون أن يُصاب بالدّوار من كثرة العنف والهبل والتناقض والمجون والأكاذيب. ومع ذلك فإن العالِم زيدان لم يُعرّج، لا هو ولا الاسلاميون، على هذه الاقتباسات التلمودية، لأنها تنسف من الجذور أفكاره المسبقة عن جدّة الخطاب القرآني، وتقضي على الإسلام بالكامل، لأن الإسلام بدون خرافات التلمود لا شيء .
ورغم ذلك فهو يقول إنّ نبيّ الإسلام لم يكن جاهلا بالقراءة والكتابة، وإن كلمة أمّي، تعني أنه "لا ينتمي إلى اليهود". وهذه تنويعة من تنويعات بعض القرآنيين للالتحاق بالعصر، مع الإبقاء على القرآن مُعجِز، والحفاظ على كل الميثولوجيا الإسلامية . لكنهم لا يستنتجون من هذه المعلومة أي شيء، وكأنّ القول بأن محمدا كان عارفا بالقراءة والكتابة سيُبقي سالمة عقيدة إعجاز القرآن ونبوّته.
بَعد الطعن في كتب اليهود والمسيحيين يعود إلى أحسن القصص ويقول: «جاء القصص القرآني راقيًا في لغته، مترقّيا بالقارئ والسامع إلى حضرة علوية لا يشوّشها لفظ رديء ولا معنى غير لائق بالله أو بأنبيائه ». ومَن الشاهد يا ترى؟ القرآن نفسه. هذا الدّور المنطقي الذي يقع فيه الاسلاميون دون أن يتفكروا ولو لحظة في أساليب براهينهم، يَسقط فيه أيضا زيدان، العلاّمة بالمنطق وبتاريخ الأديان والفلسفة، لإثبات صدقيّة القرآن: «ولأن نص القرآن تنزيل أو وحي من الله نزل به الروح القدس ». هل يستطيع شخص يؤمن بأن القرآن وحي من الله أن يقول شيئا مخالفا لهذا؟ هل يجرأ على خَدْش حساسية المؤمن ونفي قدسية القرآن؟ هل له أن يشكك في قصة واحدة من قصص القرآن أو يُحيل على مرجعها الأصلي في التلمود؟ لا يمكن؛ هذا محال، لأن المقدمة لاعقلانية، وبالتالي الحد الأوسط والنتيجة هما لا عقلانية مضاعَفة. إذا كان القرآن كلام الله «فهو لا يفتأ يُذكّرنا بأنه (أحسن القصص) و (إن هذا لهو القصص الحق) في إشارة ضمنية إلى أن القص الآخر لا يبلغ هذه الدرجة القرآنية الراقية ».
لم يَدُر بخلده أن هذه شهادة ذاتية محتاجة إلى إثبات، أو ما يسميه المناطقة مصادرة على المطلوب، وهي حجّة واهية ومنافية لقواعد البرهان السليم، وبالتالي لا نستغرب إن كان استنتاجه خاطئا: «على هذا النسق من القصّ الأحسن بلاغا ومضمونا، حكى القرآن الكريم حياة الأنبياء، من دون أن يذكر نقيصة لواحد منهم ».

12. أحسن القصص الغرامية
-------------------
وقد استدل على هذا التنزيه الاستثنائي بقصة يوسف، وهي قصة مستمدة من العهد القديم مع بعض التَّحْليات الغرامية التلمودية . لكن لو كان هذا الرجل موضوعيا نزيها، وطالبا للحقيقة، ولو لم يَنْجرّ مع مقدّساته، ووسّع من اطّلاعه، وفتح أي كتاب من التراث الاسلامي، مثل "عصمة الأنبياء" للرازي أو "تنزيه الأنبياء" لابن خُمير، لعَثَر على جرد من الشناعات التي اقترفها النبي يوسف، نذكر منها التالي:
(ولقد همّت به وهمّ بها): بنصّ القرآن يوسف همّ بفعل الفاحشة مع امرأة العزيز. وفِعْلُ هَمّ في لغة العرب يعني العزم على الفعل، أي إرادة الفعل، ويعني أيضا، خُطور الشيء بالبال؛ أو الشهوة ومَيْل الطّباع. «والهمّ في هذه الآية مُعلّق بذاته وذاتها »، كما يقول الرازي، يعني بيُوسُف تجاه امرأة العزيز وبهذه تجاه يوسف، وإلاّ فلا معنى للقول التالي (لولا أن رأى برهان ربّه). السؤال: كيف يتسنّى لنبيّ مرسل من الله، جاء ليعلّم مكارم الأخلاق، أن يَهمّ بفعل الزنا؟
اعتراض آخر على قصة يوسف: «كيف يجوز على يوسف، مع نبوّته، أن يُعوّل على غير الله في الخلاص من السجن في قوله للّذي كان معه (اذكرني عند ربّك)؟ ». هذه مسألة لاهوتية دقيقة لم يتفطّن لها كاتب القصة. وقد بدت تصرفات يوسف، للنّقّاد القدامى، غير حكيمة، بل لاأخلاقية وقاسية، والدليل على ذلك أنه «طلبَ أخيه من إخوته، ثم حبَسَه عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحق أبيه من الحزن ». أين الحكمة في هذا التصرّف؟ أليس هذا فعلا مَجانيّا قبيحا من شأنه أن يَضرّ بأبيه؟
تصرّف آخر لا مبرر له، بل مخادع وشرّير هو وضع السّقاية، عن قصد، في رِحْل أخيه، وهكذا عرّضه لتهمة السرقة وتسبّبَ في ايذائه وحبسه. هذه القصة عوض أن تكون مشوّقة أو ذات معان أخلاقية راقية فهي سادية، لأن يوسف «لم يُعلِم أباه خَبَره كي تَسكُن نفسه ويَزول حزنه»، وإنما أطال المسرحية كأنه يتلذذ بتعذيب أبيه.
لكن هذا النبي سقط في خطيئة كبرى، خطيئة أشنع من الشرك بالله، ألا وهي تأليه الذات، حيث جاء في القرآن: (ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سُجّدا). ليست سهوا ولا دعابة وإنما حركة مقصودة ومدبّرة، اتخذ فيها صاحبها مكان الإله، وأهان والديه بالسجود له. أليس هذا تأليها متعمّدا للذات، قام به نبي من المفروض أن يكون عالما بأن السجود لله فقط؟ فعلا، اعتراض النّقاد القدامى هو هذا: «كيف رضيَ بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلاّ لله، وكيف رضي باستخدام الأبوين؟ ».
قلت بأنها حركة مقصودة لأن هذا النبيّ، حسب منطق القرآن، موافق على فعل السجود، والقرآن نفسه لم يجد أي حرج في ذلك، بحيث جَعَل السجود تصديقا نهائيا لرؤية سابقة رآها يوسف في المنام: (يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا).
وأخيرا: ما معنى قول يوسف لفرعون: (اجعلني على خزائن الأرض). كيف يجوز لنبيّ أن يطلب الولاية من قِبل ملك، وصَفه القرآن نفسه بأنه ظالم؟
كان على زيدان، قبل أن يَعيب على التوراة تقديمها للنبي يوسف في صورة مشوهة، ويُعيّرها بسبب التركيز «على الاتصال الجنسي الفجّ »، أن يَتقصَّى رواية القرآن بعقل نقدي، وأن يبحث في الكتب ويُدقق جيّدا في المسألة قبل أن يستنتج. ولو تمعّن في المغزى التاريخي من التِجَاء القرآن إلى أساطير اليهود لاستخلص الحقيقة التالية وهي أن القرآن أراد أن يُسوّق هذه الخرافات ويُعيد تصديرها للعرب الذين من المحتمل أنهم تخلّوا عنها، وربما اليهود أنفسهم تركوها وأصبحوا ملحدين.

13. شَتّان بين إله القرآن وإله الإنجيل
------------------------
لكن الرجل ثابت على فكرة أن القرآن هو كلام الله، وأنه فاق في روعته وإعجازه كل الكتب الدينية الأخرى، وأكثر المواضع التي تتجلّى فيها عظمته وعلوّه على كتب اليهود والمسيحيين (المُحرّفة)، هو تصوّره لله، وهنا فإن القرآن قد أبدع إبداعا لا مثيل له. ومع ذلك فإن السيّد زيدان لم يُبدع في التّعبير عنها، لأنه ضعيف في العربية، ليس له أسلوب سَلس نَقيّ، ولا منهجية أكاديمية صارمة، فهو يكتب وكأنه في حلقة مسجد، وأنا مُرغم على تَتبُّعه والصّبر على بلائه. لكني أود أن ألتزم بمخطط البحث لكي أبرهن عما ذهبتُ إليه من قبل، وهو أن المفكرين العرب (الحداثيين، العلمانيين) الذين استبشرنا بهم خيرا وانتظرنا منهم تَصدّيا لمظاهر الظلامية واللاعقلانية المستفحلة والعنف الطائفي، لم يلتزموا بمُهمّتهم العلمية وإنما تضامنوا مع الإسلاميين وردّدوا أطروحاتهم التقديسية حرفيا، ثم فتحوا النار على المسيحيين. وهم، عن وعي أو غير وعي، يجرّون العالم العربي إلى الفتنة الطائفية وإلى حروب دينيّة طاحنة لا نهاية لها، ويوفّرون بالتالي الذريعة لتحقيق مشروع ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، الذي خطّطت له إسرائيل من زمان.
وها هو يوسف زيدان يقدّم لنا عَيّنة من هذا المثقف الذي تَخلّى عن دوره الاستكشافي التنويري لكي يَسيح في المنافحة الشرسة عن دينه والحطّ من الاديان الأخرى. أن يكون الإسلام هو الدين الأسمى، الذي خلّف وراءه اليهودية والمسيحية، فهذا بالنسبة إليه حقيقة مبدئية لا جدال فيها، وقد تجلّى سُموّه في نقطة محورية، وهي تصوّره للإله: «في كلام الله القرآني ـ يقول زيدان ـ نرى الله يتجلّى بقوّة ابتداء من البسملة حيث يستهلّ القرآن دوما ببسم الله الرحمان الرحيم، ومرورا بالآيات الكثيرة التي أخبرت عن حضرته الأعلى وجعلت اسم الله تعالى: الأعلى، وانتهاء بالأسماء الحسنى والصفات الإلهية .. وبآيات سورة النور البديعة التي ضربت لله الذي هو (الله نور السماوات والأرض)، مثلا من حيث صفاته، لا ذاته (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة ... الآية) ».
لا تعتقدوا أن هذه الاشادة بالقرآن وإلهه، لازمة للقرآن فقط، ولكنها مُتَعدِّية بالتناسب العكسي على الأديان الأخرى، وغرضها الأساسي هو الطعن فيها وفي كتبها، وخصوصا في المسيحية وتصوّرها لله. وقائل هذا الكلام، أعيد وأكرّر، مُلزم على ذلك، لأنه لا يملك إطارا مرجعيّا غيره، وبالتالي فإن انحيازه الكلّي، للقرآن، ومُعَاداته حتى الموت للمسيحية وحنقه على الأقباط والكنيسة القبطية، هي نتائج طبيعية نابعة من خياره الديني. واستنادا إلى هذه الخلفية الايديولوجية فقد سهل عليه بث خطابه الوهابي والتبجّح بإله القرآن، بصورة هستيرية: «وهكذا سَطَعَ الله بقوّة في القرآن الكريم، حتى لا يكاد اسمه تعالى يغيب عن سطر واحد، ولا يكاد حضوره يفارق أي معنى من المعاني القرآنية. وبذلك عاد اللاهوت إلى صدارة المعتقد الديني ».
لقد أخذته الحماسة ونسي أنه وقع في الحشويّة والانثربومورفية، وأمْعَن في تشبيه إلهه بالمخلوقات بحيث إنه تَعدّى صفة "سطوع الله"، لكي يتحدث عن "شمسه الساطعة". تَصوّروا هذه التعابير الصحفية في كتاب أكاديمي من المفروض أن يلتزم فيه المؤلّف بأبسط معايير الكتابة العلمية: «وسَطعتْ شمس الله بقوّة »، هكذا لا يتوانى صاحبنا عن تشبيه الله بأحد الفنّانين المصريين الذين سطعت شمسهم على الشاشة.
إن هذا الخور الفكري، أقول، هذا التنطّع من مكان لآخر، ثم الإتيان باستعارات غير مناسبة، واستخدام مصطلحات لا علمية، هدفه الوحيد هو ضَرْب معتقدات المسيحيين، وذلك بنفس الآلية وبنفس التعابير الصحفية التي استخدمها لوصف إله الإسلام. فعلا، سَطعت شمس الله في القرآن «ومن الجهة الأخرى توارى الناسوت فلم يعد مطروحا كأصل إيماني ... مؤكدا تلك المفارقة التامة بين اللاهوت والناسوت، ومُعبّرا بوضوح عن بشرية النبي الكاملة، على نحو ما ورد بالآية القرآنية (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل)، وبالحديث الشريف: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ».
وهكذا خرج النصارى مَهزومين في ميدان اللاهوت، وقد تكفّل سلاح القرآن بالقضاء عليهم. فعلا، القرآن، يقول زيدان، أفاض في تأكيد «علوّ الله عن العالمين، فهو تعالى المفارق التام، الترنسندنتالي الذي (ليس كمثله شيء) ».
صحيح، القرآن يقول، مرّة أو مرتين، إن الله "ليس كمثله شيء"، لكن لماذا يصفه، في موضع آخر، بأنه شيء؟ لماذا يقول حرفيا: (قل: أيّ شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد)؛ أليس هذا تَشييئا صريحا لله؟ لا بل إعطاء حجم لهذا الشيء، ومقارنته بأشياء أخرى: "أكبر شيء له شهادة"، أو "شيء أكبر شهادة". إذن، قد يسأل المسيحي: هل الله شيء؟ أم أكبر شيء؟ أم لا شيء؟ أم هو شهيد؟ وشهيدُ ماذا؟ أم أراد أن يقول: الله شاهد؟ وهل يجوز إطلاق على الله مثل هذه الصفة؟ أسئلة عديدة لم تدر بخلد زيدان ولا أدري كيف بإمكانه أن يردّ عليها؛ ولا تعنيني المسألة لأنها خارجة عن موضوع البحث، ما يعنيني بالدرجة الأولى هو الكيل بمكيالين والعماء المذهل أمام الأقوال التشبيهيّة التي يعج بها القرآن، ثم تناسيها والتعتيم عليها، وأخيرا القول بأن الله مفارق (يقول ترنسندنتالي، رغم أن المرادف العربي موجود)، بينما في المسيحية الإله مُحايث.
ليس هذا فقط بل إن قارئ القرآن، مهما كانت ديانته، قد يعترض بأن المُحايثة، أي إنزال الإله إلى مستوى الإنسان، أو اعلاء الإنسان إلى مَكانة الإله موجود في القرآن، وبصيغة صريحة لا مراء فيها، في قوله: "إن الله وملائكته يصلّون على النبي"، ثم أضاف إليها دعوة للمؤمنين كي ينضمّوا إلى جوقة المُصلّين من الملأ الأعلى: "يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليما". واضح أن هذا الكلام، مهما راوغ المفسرون ومهما أضْنَوا أنفسهم لتأويل كلمة "صلاة"، هو ليس تأليها فقط، بل أكثر منه، هو تحطيم للألوهية وتدمير للعالم الروحاني العلوي، وإهانة للمؤمنين جميعا الذين يعتقدون بأن البشر هم الذين يصلّون ويبتهلون لله، لا العكس.
لكن زيدان لا يتفكّر في هذه المعضلات اللاهوتية الخطيرة، ولا يمكن أن يخطو خطوة جدّيّة في سبيل نقدها أو تفكيكها، وتحرير العقول من هذا التأليه الكوني لشخص محمد. والسبب في ذلك هو أن عَملا من هذا القبيل سيؤدّي حتما إلى أفول شمس الله، وانْكِدار نَجمه، وهكذا تسقط حتما الخاصية التي فاق بها القرآن الكتب الأخرى، ويذهب التنزيه الذي أفرده إلى إله الإسلام في مهبّ الرّياح.

14. واحْلل عُقدة من لساني
------------------
والحال أنه إذا ما تعلّق الأمر بالمعتقدات المسيحية ولاهوتها، فإن السيد زيدان يتجاوز حدود اللياقة، وتُحَلُّ عُقَد لسانه، ويُعطي أفضل ما عنده من تهكّمات وشتائم وتجريحات، دون أن يتفكّر طرفة عين في استتباعاتها على مواطني بلده من الأقباط.
تجريحاته تتمثل في القول بأن المسيحيين لا عِلم لهم بمَسيحهم، وأن القرآن جاء لكي يُعلّمهم دينهم ويُقشّع عنهم جهالتهم. وفي هذا فهو يستنسخ، بكل شراسة، تهجّمات القرآن، مع إضافة، من عنديّاته، تزويرات وتهويلات أخرى. يزعم أن القرآن «أعاد بناء التصورات الخاصة بالمسيح، ثم طرَحها من جديد، على نحو جدلي لا جدالي. أي على نحو فيه منطقٌ لتصاعد الوقائع، ولارتباط المقدمات بالنتائج؛ وليس على نحو اجتهادي سجالي ».
لقد نثرَ هذا الكلام الذي لا معنى له، لكي يقول شيئا ما، لكي يتدخّل في عقائد الآخرين ويَهجم عليهم ويُجَرّحهم بحجّة أنّ القرآن كلام الله، وبالتالي لا جدال في قدسيّته، وينبغي على الجميع أن يقبلوا بهذه العقيدة على عِلاّتها، وأن يعتبروها مطابقة للواقع التاريخي.
أمام القرآن زيدان يُخيّر الناس بين أمرين، إما الإيمان أو الكفر: «القرآن قول واحد، وحْيٌ مُنزّل، إما أن يُقبل بالكلية بفعل الإيمان، أو يُنكر تماما من جهة الضالين أو الكافرين ». وهذا الخطاب موجّه للعلمانيين وللمفكرين الأحرار في العالم العربي، ولكل من حاول الخروج من سجن المقدس. المطلوب منهم هو الرجوع إلى الجادّة، وتقبّل القرآن كليا، وعدم رفض أو تَنْسيب أي آية منه، بما في ذلك آيات القتل والسبي والجنس: «وفي كل الأحوال، لا يجوز مع القرآن أن نؤمن بشيء فيه، من دون شيء آخر. وقد استنكرت الآية الخامسة والثمانون من سورة البقرة، هذا التبعيض غير مقبول، بقوله تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ..) ».
وهنا تتنزّل المراجعات التي قام بها القرآن على المسيحية، والتي يعرضها زيدان بأسلوبِ "الحُدّوثة"، أو حلقات المساجد التي تكاثرت في فترة أنور السادات، وتسجيلات خطب الجمعة التي كان يلقيها عبد الحميد كشك. واستسمح القارئ في إيرادها على طولها، لأن الأمانة العلمية تحتّم علينا هذه التضحية: «حسبما جاء في القرآن، فإن المسيح (يسوع، عيسى) لا يُذكَر عادة إلاّ مُقترنا باسم أمه مريم، فباستثناء مرات ثلاث فقط أشير فيها إلى اسمه مجرّدا، لأسباب محدّدة وفي سياق خاص، كما في الآية (وقالت النصارى المسيح ابن الله)، نرى المسيح القرآني الوارد ذكره ثماني مرات، هو كل مرّة: المسيح عيسى ابن مريم. أما أمه، فقد ورد ذكرها مرات عديدة، عددها أربع وثلاثون مرة، وصار لها في القرآن سورة بديعة باسمها (سورة مريم)، وسورة أخرى باسم أسرتها (سورة آل عمران)، ولم تُسمّ واحدة من سور القرآن باسم المسيح ... وعلى هذا النحو عادت الأم العظيمة إلى الصدارة، وأعليَ ذكرها في أصل العقيدة، بعدما بَهَتَ بسبب الانهماك الكنسي في المساجلة الكريستولوجية ».
لا زلتُ بَهِتا أمام هذه التخريجات؛ لا أستطيع أن استوعب هذا النمط من التفكير، ولا أدري حقا، كيف يمكن لمثقف، ذاع صيته في العالم العربي، أن يكتب تَداعيات حرّة من هذا القبيل؟ كيف يسمح لنفسه بأن يجادل المسيحيين في عقيدتهم بهذه الطريقة الفجة؟ وكيف لا تكون فجّة، وقد وصل به الأمر إلى حدّ الزعم بأن مريم المسيحية هي مريم المحرفة.
قال إن مريم الإسلامية، يعني مريم الحقيقية، هي ليست مريم المسيحية، أي المُحرّفة المنتَحِلة للشخصية الأصلية، ومَرجعه الأوحد لتسويق هذه اللخبطة وهذا التزوير، هو القرآن: «ومريم القرآنية ليست ثيوتوكوس، وليست أم النور الحقيقي، وإنما هي صدّيقة (قدّيسة) وهبتها أمّها لله، من قَبل أن تلدها (فلمّا وضعتها قالت ربّ إني وضعتها أنثى ...) ... ثم إن هذه العذراء الصدّيقة كانت بتولا ».
هذا أقصى ما يقبله زيدان والمسلمون عموما من حياة مريم، خرافة صغيرة مقابل خرافة كبيرة (إذا قيّمناهما تقييما عقلانيا، وهو موقفي الشخصي): ولادة عذرية مقابل أم الله. لكن الكلام التالي هو كلام جارح للمسيحيين، لأن فيه لعبة الجنس، والفرج، والنفخ في الفرج، وهي تفاصيل غير لائقة، لكن بما أنها وردت في القرآن فإن زيدان لا يخجل من إعادة سردها.
دون أن نَخرج عن أسلوب "الحُدّوثة"، يواصل قائلا بأن مريم البتول «بتعبير قرآني (أحصنتْ فرجها)، فأرسل لها الله روح القدس أو الروح الأمين الملاك جبريل على هيئة بشرية، مثلما كان الله يرسله من بعد إلى النبي محمد ليعطيه القرآن (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) .. فأوصل جبريل النفخة الإلهية الخالقة إلى مريم، فحملت بالمسيح». النتيجة هي أن القرآن أَبْعدَ «أيّ شُبهة للاتصال المباشر بين الله والإنسان. فالله أرسل من عليائه رسوله السماوي ليهِب العذراء غلاما من عند الله، تماما مثلما كانت توهب من قبل طعاما وشرابا وهي بالخلوة، ومثلما سيأتيها من بعد البلح الطريّ».
لقد ساح زيدان في تفاصيل الأكل والشرب والفواكه ولكنه مرّ على شيء في غاية الاحراج، وأظن أن الرجل حرّف القرآن عن قصد، لأن القرآن يقول صراحة إن الله (بصيغة الجمع)، نفخ في فرج مريم والعبارة صريحة ومكشوفة إلى درجة أن المفسرين العرب أصيبوا بامتعاض شديد، فاصطنعوا كل ما يمكن أن يُتخيّل من تأويلات لكي يُبعدوا شبهة أن الله ينفخ في الفروج، في العضو الجنسي للمرأة. (فنَفَخْنا فيه): كلام واضح وصريح يصوّر الله وهو يكافئ امرأة على إحصان فرجها بنَفخةٍ فيه. هل يُعقل أن يقوم الله بعمل من هذا القبيل؟ أين هو الله المتعالي القدوس الذي ليس كمثله شيء، إذن؟ أين هو نور السماوات والأرض؟ وكيف يَنزل هذا النور لكي ينفخ في الفروج؟ هذه أقرب وأبسط اعتراضات المسيحيين على زيدان والقرآن والتفاسير الإسلامية كلها التي تفادت هذه المفارقات وحوّرت حتى كلمات القرآن عن مواضعها.

15. في عباءة حسن حنفي
----------------
لسائل أن يسأل: من أين جاءت لزيدان مثل هذه الأفكار؟ ما هي مصادره؟ كيف كان تكوينه؟ مَن هم الأساتذة الذين أثّروا في مساره الفكري وكان لهم الفضل عليه؟ من المحتمل جدا أنهم اسلاميون كلهم، لأن مفكرا عقلانيا حداثيا متوازنا، ذا نزعة إنسانية مسالمة، لا يمكن أن يُفكّر اطلاقا في التهجّم على الأديان الأخرى من أجل الانتصار لدينه. المفكر العقلاني بطبعه لا ينتمي إلى أي دين، ولا يُعلي من شأن أي منها على حساب الأخرى، بل يتّخذ إزاءها مسافة نقدية، هذا إن لم يعتبرها أفيونا فتّاكا ينبغي مداواة البشر منه.
أظنّ أن زيدان تَربّى على كتابات الإسلاميين، مُعتَدليهم ومُتطرّفيهم، وقد اعترف هو نفسه أنه حُظي بالرعاية من طرف حسن حنفي الذي، مَهمَا قال عن نفسه، يبقى إخوانيا سلفيا صرفا: «كان مَنْ يَرعاهم حسن حنفي من الصغار آنذاك كثيرون. منهم: علي مبروك، رمضان بسطاوي ... وكاتب هذه السطور ». وقد روى أنه لما أصدر حنفي كتابه الشهير "الاستغراب" الأوروبي أقيمت بآداب القاهرة جلسة لمناقشة الكتاب «وانهمكنا في نقده والرد على التفاصيل والتفاريع الصغيرة ».
إن ما يلفت الانتباه في كتاب حنفي "مقدمة في علم الاستغراب" هو انتهاجه النهج الاسلاموي في ضرب الأديان الأخرى، خصوصا اليهودية والمسيحية، ثم إعلاء الإسلام عليهما. لم أكن أتصوّر أنّ فيلسوفا عارفا بالفلسفة الألمانية، متضلّعا في الفينمينولوجيا، مُترْجما وشارحا لسبينوزا، لفيخته، لهيجل، يمكن أن يسقط في مستنقع المنافحة على الدين، على دينه الإسلامي.
في مقال له بمجلة عالم الفكر الكويتيّة، (المجلد العاشر 1979)، بعنوان "الاغتراب الديني عند فيورباخ"، قام بنقل فصول كاملة من كتاب جوهر المسيحة، ثم، بعد أن أرهق القارئ، خلص إلى نتيجة مفادها أن كل الانتقادات التي وجّهها فيورباخ للدين تنطبق على المسيحية، وفقط على المسيحية، أما الإسلام فهو يعلو على أي نقد، لا بل إن فيورباخ وصل، إلى ما كان قد وصل إليه الإسلام منذ ألف وأربعمائة عام.
والسبب في ذلك أن المسيحية، حسب قناعته، هي ديانة معدومة الإنسانية والواقعية والعقل، على عكس الإسلام الذي يتضمّن منذ البداية كل هذه الخاصيات الرفيعة. هذه الأفكار اللاّفلسفية، العنصرية الطائفية الشرّيرة، زعم أنه استقاها من كُتب فيورباخ وعلى رأسها كتاب جوهر المسيحية. يقول حرفيا: «هكذا ينتهي فيورباخ، من محاولته لإعادة الدين المسيحي، إلى الموقف الإنساني، وإعادة ملكوت السماوات إلى ملكوت الأرض، وهو ما حاوله الإسلام قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا، وكأنّ الفلسفة الغربية كلها، منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة وفلسفة التنوير، حتى فيورباخ والهيجليّين، ما هي إلاّ محاولة للاقتراب من إنسانية الإسلام وواقعيّته ورفضه للكهنوت والأسرار وتأكيده للعقل والتوحيد ».
ثم يضيف، بصلافة تُلحقه بصلافة محمد عمارة، أن المسيحية هي ديانة ناقصة، غير مكتملة، يعني مُحرّفة، في مقابل الإسلام الذي هو الدين المكتمل بامتياز، يعني، بلُغة الإسلاميين، خاتم الأديان: «سهام فيورباخ موجّهة إلى الدين قبل أن يكتمل وليس بعد اكتماله وتحقّقه». وأخيرا، يختمها بآية قرآنية، مُردَفة بـ"صدق الله العظيم": «"اليوم أكملتُ لكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا". صدق الله العظيم ».
وهكذا فإن حنفي، الذي درّس الفلسفة في مصر وفي بلدان عربية أخرى، وتَربّى على يديه ثلة من المفكرين الشبان، من بينهم علي مبروك ويوسف زيدان، ما فتئ منذ السبعينات من القرن الماضي يبثّ سمومه الطائفية، ويُمعن في التهجّم على الأديان الأخرى.
ولا يختلف الأمر مع الكتاب الذي تحدّث عنه زيدان: "مقدمة في علم الاستغراب"، حيث بعد أن كدّس أسماء مفكرين غربيين ونظريات متباينة تكديسا مُريعا، متنقّلا بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وصل إلى مرماه الحقيقي، وهو تقزيم الدينين السابقين والاعلاء من شأن دينه. ابتدأ باليهودية وقال إنها ديانة مُعابَة في بندها الأوّل والأساسي، أي في تصوّرها لله: «الله في التوراة، كما لاحظ برجسون إله غيور غاضب منتقم جبار يلعن بني اسرائيل ». أين قال برجسون هذا الكلام؟ لا ندري بالتحديد، يجب أن نصدّق حنفي على الكلمة، لأن الرجل لم يتكرّم على قرّائه، كعادة الإسلاميين، بذكر المرجع الذي استقى منه كلام هنري برجسون: فيلسوف فرنسي من خلفية يهودية، أظهر في آخر حياته ميولات كاثوليكية.
وفي نفس الوقت، يُغلّب (ظرفيّا) المسيحية على اليهودية ويبالغ في إظهار محاسن الأولى وعيوب الثانية، كما فعل زيدان في اللاهوت العربي. إله اليهودية شرّير دموي «في حين أن الله في الإنجيل إله المحبة والرحمة والمغفرة»؛ الدين كما تُعبّر عنه التوراة «مرتبط بشعبٍ معيّن وبتاريخ معيّن أي أنه خاص»، بينما في المسيحية «الدين عام للبشر جميعا ».
لن أسأل حنفي لماذا لم يَعتنق المسيحية إذن؟ إذا كانت ديانة كلية وشاملة للبشرية جمعاء، وهو واحد من هذه البشرية، لماذا لم يَقبل بها فورا؟ إذا كان الحلف الذي عقده الله مع بني اسرائيل هو حلف مُضيّق جدّا، والحلف الجديد «الذي عقده مع المسيح ... حلف عام»، لماذا لم يَنضمّ إلى عموم هذا الحلف؟ فالمسيحية، كما يصوّرها حنفي، هي منظومة عقائدية مُغرية جدا، ونافعة لكل نفسٍ باحثة عن الروحانيات وتائقة للخلاص الأخروي. فعلا، على عكس اليهودية، حيث «تسود التوراة النظرة التشريعية الخارجية»، فإن النظرة الطاغية في الإنجيل هي «نظرة روحية صرفة، تُعنى بتطهير القلب، وتعطي الأولوية للباطن على الظاهر ».
وهكذا، كما أن زيدان يَحْفر لنفسه الجبّ تلو الآخر، ويقع في التناقضات دون امكانيّة الخروج منها، كذلك حنفي من قبله، دون أن يتفكّر في ما يكتبه أو يتمعّن في أطروحاته، يحفر لنفسه الجبّ تلو الآخر. بعد أن أثنى على المسيحية ووصَفها بأنها دين «مَحبّة وسلام» في مقابل اليهودية «دين حرب وغزو »، تراجع وأخذ يجرّح في المسيحية واليهودية معا، وقد جمعهما تحت راية واحدة: اللاعقلانية. قال إن «نوعيّة المعطى الديني في المصدر اليهودي المسيحي واحدة وهي اللاعقلانية ».
نترك اليهودية، التي ما انفكّ يجرّح فيها رغم أن الإسلام هو يهودية مُعرّبة، ونتوجّه إلى المسيحية نظرا إلى أنه بالغ في مدحها، وفي ابراز خصائصها المميّزة وروحانيّتها الفائقة، كما لو كان آخر داعية مسيحي. لكن هذه التقنية معروفة وقد برع فيها الإسلاميون الأشرار، ومن السهل التفطّن إلى أنّ كل المدائح التي أطلقها في البداية هي مُجرّد تكتيك للتّورية، لأنه حينما يقتحم حقل المقارنة بين المسيحية والإسلام يبرز تحيّزه بصورة جليّة. فعلا، بعد جولة المدائح التَفّ على أقواله، وكذّب نفسه بنفسه، فوضَعَ في الصدارة معتقداته الإسلاموية، لكي يشنّ على المسيحية حملة شعواء: الإيمان المسيحي لا عقلاني بامتياز فهو «سرّ لا يمكن إدراك كنهه بالعقل، والمسيح ثالث ثلاثة، ولا يمكن فهم علاقة الأقانيم داخل الثالوث بالعقل. والكنيسة سلطة متوسطة بين الله والإنسان، تُفسِّر الكتاب المقدس، ويعترف أمَامَها المُذنب، وتَهِب الغفران. والإنسان يتحمّل خطيئة آدم ... الخ ».
وهكذا، عن طريق هذا الخبط العشوائي وهذا الجَرد من الكليشيهات الصحفيّة الساذجة، فإن المنظومة المسيحية، خرجت برمّتها ناقصة، ومُعابة، ومهترئة وفاشلة على طول الخط.
ما البديل إذن؟ البديل الذي يقترحه حنفي متوقّع جدا: إذا كانت اليهودية سافلة، وإذا كانت المسيحية بائرة، فليس أمامنا إلاّ الإسلام، ولا شيء غير الإسلام. ورغم أن الرجل مفكّر حداثي مختصّ في الفلسفة ودرّس هذه المادة لعُقود في الجامعات العربية، وليس لاهوتيا أو شيخا أزهريا، فقد نسي مهمّته الأساسية واقترح علينا اعتناق الدين الذي شبّ فيه، أي دين الإسلام.
وإذا قلنا الإسلام فهذا يعني بالضرورة سَيْلا من التّهم التي وجّهها القرآن ضد الأديان السابقة: مِن التحريف، المُسلّط على رؤوسهم منذ ألف وأربعمائة عام، إلى قتل النبيّين، إلى الأنانية وصولا إلى العنصرية الحديثة. والسيد حنفي يُعيد سرد هذه التّهم على مسامعنا، بكل أريحيّة، في كتابٍ فلسفيّ مُخصّص لتأسيس علم جديد مستحدث وهو علم الاستغراب: «تحدّثَ القرآن عن قضية التحريف والتبديل والتغيير في الكتب المقدسة، كما تحدث ثانيا عن تغيير العقائد، وإساءة فهم أقوال المسيح، وتبديل أقوال الأنبياء، كما تحدّث ثالثا عن سلوك أهل الكتاب وعن عدائهم لغيرهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وعدوانهم وعصيانهم وجحودهم. وحث على رفض التعاون معهم وموالاتهم لحقدهم وتعصّبهم واتباعهم الهوى، وإن شئنا بلغة عصرية قلنا لعنصريّتهم وأنانيّتهم وتمركزهم حول ذواتهم ».
كل هذه الموبقات موجودة في الكُتب "المقدسة" وملتصقة بمن أسماهم "أهل الكتاب"، من يهود ومسيحيين، وحنفي يدعو الباحثين الشبان لمُواصلة مشروعه وفتح ورشات عمل للقدح في أديان اليهود والمسيحيين وتجريح أشخاصهم وإظهار عيوبهم وفضحهم أمام الناس. وهذا العمل هو في العمق مواصلة لما جاء في القرآن، وتدعيما للتراث الإسلامي المقدس الذي يجب أخْذه كإطار مرجعي ثابت لشنّ الحملة.
ثم يشير على أبنائه الإسلاميين (والعلمانيين الذين سيتحوّلون فيما بعد إلى اسلاميين أقحاح) المجال الذي ينبغي أن يخوضوا فيه هذا الصراع، ويقترح عليهم القضيّة التي يجب أن يركّزوا عليها، ويجعلوا منها قضيّتهم المحورية: «يمكننا ... أخذ قضية التحريف في القراءة على أساس أنها افتراض علمي يمكن التحقّق تاريخيا من صدقه عن طريق علم النقد التاريخي للكتب المقدسة أو برنامج عمل لدراسة نشأة النص الديني وتطوّره موازيا وتعبيرا عن نشأة العقيدة وتطوّرها في القرون السبعة الأولى ».
وما الهدف من هذا المشروع الضّخم؟ الهدف يُعْلِمنا به حنفي نفسه: «يكون ذلك منهجا جديدا لتفسير الآيات [القرآنية] الخاصة بالتحريف خاصة، بل وآيات القرآن عامة عن طريق ايجاد الوقائع والحوادث التاريخية التي يصفها القرآن ». وهكذا فإن هذا الرجل يريد أن يُجنِّد جيلا كاملا من الشباب لكي يُثبتوا أن القرآن وحي صادق من الله وأن كل التّهم التي وجّهها للمسيحيّن صحيحة، وخصوصا أن كتبهم المقدسة هي كتب مكدّسة.
مازالتْ في جعبة فيلسوفنا مهمّة أخرى يقترحها على الشباب، وهي مهمّة أخطر، لكنها أسهل، نظرا إلى أن عملية تجريح الأشخاص وتلفيق التّهم ضدّهم وتشويه سمعتهم، هي أهون عملية بَرِع فيها الإسلاميون، وتميّزوا فيها عن جدارة، وبالتالي فإن السيد حنفي يفتح بابا مفتوحا. فعلا، في هذا المجال، فإن أبناءه من الاسلاميين، ينطبق عليهم المثل التونسي "ما توصّي يَتيم على نواح"، فهُم، من هذا الجانب، ليسوا رهن اشارته، لأنّ التراث الإسلامي لا يضاهيه أحد في مجال القدح والتعريض بأهل الأديان وسب الأشخاص والدعاء عليهم. المهمّة على أية حال هي هذه: «دراسة سلوك أهل الكتاب أي سلوك الغربيّين اليوم وتحليل أبنيتهم النفسية ومعرفة إلى أي حد يتمنّون الخير لغيرهم».
وهذا العمل، طبعا، ليس الغرض منه هو طلب الحقيقة لذاتها، ولا التقدّم بالبحث العلمي النزيه، وإنما تصديق القرآن وتثبيته في كل الشتائم التي كالها لأهل الأديان والتي تنطبق سواء على القدماء أو على المحدثين من الغربيّين (لأن المسيحيين، بالنسبة لحنفي، موجودون فقط في الغرب، ومكانهم الطبيعي هناك، أما المَحلّيون فهم نشاز، وربما سيأتي يوم يلتحقون فيه بإخوانهم، يعني يُهَجَّرون). السيد حنفي ساهرٌ على بث هذه الفكرة، في أذهان باحثي المستقبل، أعني صدقيّة القرآن في كل ما قاله عن أهل الكتاب، ويقول حرفيا، إن «وصْف أهل الكتاب في القرآن الكريم هو وصف ضمني لحال الغربيّين اليوم وصِلَتِهم بغيرهم، وكأن القرآن يقرأ تاريخ الوعي الأوروبي منذ نشأته في مصادره حتى نهايته في مصيره ».
ويبدو أن هذا المشروع قد حققه يوسف زيدان، في العشريّة الأخيرة، بوسائل بدائية جدا: قليلا من الأدب القصصي الصبياني، كثيرا من الخطابة، مزيجا من اللخبطة اللغوية، فَقْرا في المصطلحات العلمية وغياب للتحليل الأكاديمي، عدم ذكر المراجع، أو عدم التثبت منها (مثل فتوح البلدان للبلاذري، سماه فتوح الإسلام)، وبالجملة ـ إن لم أتجنّ على أحد ـ أقول: البذرة التي غرسها حنفي أينعت وأعطتنا يوسف زيدان.

16. ما جزاء الإحسان؟
---------------
حول أفكار يوسف زيدان وآرائه في المسيحية أكتفي بهذا القدر، ومن أراد المزيد فليرجع إلى مؤلفاته الأخيرة. استنتجُ من صريح نصوصه أن هذا الرجل هو إسلاموي سلفي وهابي حتى النخاع، فهو يُثني على الارهابي بن لادن، ويعتبر العلمانية خرافة، بل يصفها بأنها "الطنطنة (العلمانية) الجوفاء بانفصال الدين عن السياسة " والأقباط أعداء مصر. ولكن لسوء حظه، بعد أن أدّى خدمة جليلة للسلفيين في مصر، انتفضوا ضده وكفّروه بسبب كلمتين أو ثلاث قالها بخصوص المسجد الأقصى، والإسراء والمعراج. لم يَعترضوا بتاتا على أيّ من أقواله الطائفية ضد الأقباط، باركوا هجماته على المسيحية، بل إن الإعلام الإخواني أقام له برامج تلفزية وحوارات صحفية، أكْسبتْه شهرة واسعة وجعلتْ من كتاباته اللاعلمية والحُدّوثيّة، مَحلّ اعجاب المُغيّبين.
لكن مازالت نقطة أخيرة أودّ التطرّق إليها، وهي أن السلطات الكنسيّة العليا، التي تهجّم على أشخاصها وتحامل على إرثها الديني، من منطلق إسلامي بحت، وأشدد على هذه النقطة، أعني على مرجعيّته الإسلامية، كَافَأته على الاساءة بالإحسان.
سأذكُر حادثتين: الأولى بعد صدور رواية عزازيل استدعوه لإلقاء محاضرة في مؤتمر القبطيّات الدولي المنعقد بالقاهرة في سبتمبر 2008، عنوان المحاضرة: "اللاهوت العربي قبل الإسلام وامتداده في علم الكلام"، وهي خلاصة عاجلة للأفكار التي سيَسردها بعد سنة واحدة في كتاب "اللاهوت العربي"، وقد جاءت على شكل مُرَكَّز من التهجّم على المسيحية، الشيء الذي حدا بالأنبا بيشُوي للقول بأن زيدان يكنّ عداء شديدا للمسيحية، ومَوقفه هذا مبدئي لم يتغيّر اطلاقا، وهو إن دلّ على شيء «فإنما يدلّ على إصراره على نشر أفكاره المُضللة والتي كشفت بوضوح عن كراهيته للديانة المسيحية سواء في الرواية أو في بحث لمؤتمر علمي، مما يدل على خداعاته تحت ستار الأدب الروائي ».
كراهيته للدين المسيحي واحتقاره للمسيحيين وهجومه العنيف عليهم، هي أمور ثابتة ولا مراء فيها، لأن أيّ صفحة من صفحاته التي تناول فيها عقائد المسيحية، تقطر كراهية وعنفا. كل ما جاء في تلك المحاضرة أعاد سرده حرفيا في كتاب "اللاهوت العربي وأصول العنف". وقد ذكرها الأنبا بيشوي بالتفصيل في ردّه على زيدان، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية: «العرب القدامى رفضوا ألوهية الإنسان ... جاء الإسلام من قلب المنطقة العربية، منتصرا للرؤى المعارضة للإيمان الأرثودوكسي وأعلن الدين الإسلامي منذ بدايته الأولى، عبر عديد من الآيات الحاسمة المحكمة عن قبوله التام للمسيحية كدين، ورفضه التام للقول بألوهية المسيح ... قدّمت المسيحية حلاّ لهذه المشكلة بأن أكدت وجود الله في الأرض، لتتوافق بذلك أولا مع اليهودية، ثم رفعته ثانية إلى السماء ... امتزاج العروبة بالإسلامية وهو امتزاج بدأ بمقدمات واضحة أدت إلى نتائج محددة، أعني ... أن القرآن عربي مُبين وأن الأئمة من قريش .. الإسلام ... هو الدين مطلقا، بحكم: "إن الدين عند الله الإسلام" ... وقد أكد الإسلام مبكرا ارتباطه باللغة العربية على مستوى التمييز بين المؤمنين (المسلمين) والكفار (أهل الكتاب). فتوى ابن تيمية التي نصها: ... وقول الجهم أشرّ من قول اليهود والنصارى، الذين حكم الله تعالى بكفرهم».
وأخيرا خَتمَها بالتأكيد على أن العربي لا يمكن أن يكون مسيحيا، وهي الفكرة المحورية في كتاب اللاهوت العربي، وأردفها بالقول إن المسيحية مشتقة من الوثنية الفرعونية، وأن آريوس هو مسلم قبل الكلمة: «إن العقلية العربية ذات الطبيعة العَمليّة لم يكن من السهل عليها قبول فكرة الألوهية للمسيح، لأسباب تاريخية ونفسية يطول شرحها ... إذ تصوّر العرب الإله دوما على أنه مفارق للبشر، ومن ثم كان يصعب عليهم قبول التطابق التام بين الآب والابن، أو الايمان السكندري بالـ هو هو! أعني الإيمان الذي مهّدت له طبيعة الثقافة الفرعونية التي سادت في مصر لزمن طويل، وعاشت في الاسكندرية الهيلنستية عقودا طويلة، أعني الايمان بألوهية الحاكم ... نَسب المسلمون لآريوس ما يفيد بأنه كان مقدمة من مقدمات الإسلام، وأعطوه اسما إسلاميا هو عبد الله بن أريس ».
كل هذا التهجّم العنيف على المسيحية والتزييفات الفظيعة أطلقها السيد زيدان في مؤتمر الدراسات القبطية ومن داخل كاتدرائية البطريركية بالقاهرة في سبتمبر من سنة 2008. وأرى أن الأنبا بيشوي لم يُجحف بتاتا حينما لاحظ بكل أسف أن مُنظّمي المؤتمر لم يُوفّقوا في دعوة زيدان «لكي يهاجم العقيدة المسيحية من داخل الكاتدرائية! ».
لكن هذا لا شيء أمام الواقعة الثانية التي حدثت في لبنان سنة 2013، بعد خمس سنوات من الارهاب الفكري الذي نفثه زيدان في كتبه وبثه للقراء العرب. لقد تم تكريمه، مرّة أخرى، من طرف مسيحيين سبق له وأن أهانهم وسخر من دينهم ومن تعاليم مسيحهم، حيث أن أعلى سلطة كنسية، بابا الأقباط وبطريرك الكرازة المرقسية توادروس الثاني، أهداه درعا، تكريما له كمفكر قدير. وبعد الدرع تدخّلت مثقّفة لبنانية اسمها آسيا قاسم، وألقتْ خطابَ تِرحابٍ بيوسف زيدان جاءت فيه بما يفوق العجب من عبارات الاشادة والاطراء التي تقارب حدّ التأليه.
ونظرا إلى أن خِطابها تُحفة على مستوى الأسلوب اللغوي فقط، فلا بأس من سرده: «كنتُ أظن أن الساعة قد جاءت أشراطها وأن الزمن زمن الهرج والمرج وأنه توقّف عن انجاب المفكرين الكبار والعظماء الخالدين وأن الانحطاط الذي نعيشه اليوم والظلام الذي نقبع تحت سواده أصبح المسيطر والمهيمن، فأتيتَ مثل الفجر تثقب بنورك ليلنا المُدلهمّ وتُنير بشعاعك القسم الأكبر من الكرة الأرضية، فشعرنا بالأمل والأمان وأن الدنيا لم تزل بخير وأن القيامة ستقوم للخلاص وليس للهلاك "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى بك، لزرع مصرك الحبيبة إلى قلبك في كل مكان، أنّى توجّهنا فثمة كتبك ومخطوطاتك وآثارك ورمزيّتك المصرية والعربية. صحيح أنك العاشق لاسكندريتك الجميلة وتارك الدنيا لأجلها ولكن الدنيا أتت إليك لتخرجك إليها. وهؤلاء الأحبة الكرام الذين حضروا اليوم ليردوا لك التحية والاكبار لما قدمته للناس من فكر عظيم وعلم نيّر تُضيئ به سماوات العقول وتحطّم الأفكار المتحجرة. مصر الحبيبة عادت إلينا مزهوة فخورة بأن بطونها لم تزل تحمل بالعظماء وتنجب العباقرة».
ثم خَتمتْها بعبارة تقشعرّ لها الأبدان: «دعوني أفتخر بأرضي وعصري فأنا مولودة في لبنان وموجودة في عصرك يا يوسف زيدان ».
إن القولة الأخيرة تحاكي تلك المنسوبة لأفلاطون التي أعلن فيها إنه سعيد بوجوده في عصر سقراط. لكن أن تُقال على يوسف زيدان فهذا ما لا يمكن القبول به بتاتا. فهو كلام لا يستقيم وغير مطابق لواقع الحال، لأننا موضوعيا أين نضع إشادته، بالإرهابي بن لادن؟ كيف لشخصٍ يُوصف بأنه أعظم مفكر في العالم العربي أن يُثني على ابن تيمية وهو الذي تربّى على كُتبه الشرّيرة كل التّكفيريّين في العالم العربي؟ إن فَيْصل التّفرقة بين السلفي الارهابي وبين الإنسان العقلاني المسالم هو الموقف من ابن تيمية.
لقد اختار زيدان الانضمام إلى صفّ ابن تيمية والمُنافحة عن تراثه التّكْفيري، ولم يَتَوان من وصفه بأنه عالم جليل وأن نُقّاده جهلة مُتطرّفون، بل "كلاب شوارع". قال، في تصريح لجريدة "اليوم السابع" وردّده في مواضع أخرى: «إن الميديا دائما تريد وضع أشخاص في شكل معين مثلما يحدث حاليا مع العالم الكبير ابن تيمية الذى ينهال عليه الجهلة ويهاجمونه على اعتبار أنه راعي التطرف وهم المتطرّفون في الحقيقة، مؤكدا أن ابن تيمية عالم كبير وفاضل ولم يكن متطرفا على الإطلاق وله كتب وترك تراثا لا يمكن تجاهله أو الحكم عليها بالإعدام، لأن إعدام التراث جريمة، واصفا منتقدي ابن تيمية "بكلاب السّكك". وقال إنهم متطرفون في حكمهم على الرجل ».
لم يكتف بابن تيمية بل إنه انتقل إلى تلميذه المعاصر ورأس الإرهاب العالمي، أسامة بن لادن، وبالغ في مَدحه والثناء عليه، وتجميل صورته، كما يفعل السلفيون، لكنه أضاف خصلة جديدة وهي أن بن لادن شاعر حزين. قال، في حوار بقناة الميادين: أرى أن أسامة بن لادن هو شخص مسكين، وأقرب إلى طبيعة الشاعر، ومَلعوب به. وزاد مُقدّم الحلقة: هل هو رومانسي، يُشبِه المناضلين الرومانسيين؟ لا هذا ولا ذاك، زيدان مُتشبّث بصفة المسكين، لأنها أدقّ وأصوب. تصوروا هذا المسكين المتخرّج من المدرسة التّيميّة ـ الوهابية ـ القُطبيّة، الذي لا يتفوّه إلا بالحقد ولا ينفث إلاّ الكره للبشرية جمعاء. لكن بالنسبة لزيدان، هذا الإجرامي الذي تسبّب في قتل الآلاف من الأبرياء هو شخصية عجيبة، يقول: "انظر إلى عينيه، هذا الانكسار، وهذا الحزن الشديد، ليس متوافقا مع شخصية القاتل والارهابي. وأنا أشك أن أسامة بن لادن قتل شخصا في حياته".
المذيع، زاهي وهبي، يتظاهر بالاستنكار، رغم أنه اخواني صميم، ويسأل: «كيف أفهم أن شخصا مثل اسامة بن لادن جنّد المئات بل الآلاف من الانتحاريين ومن المجاهدين ليتوزعوا في أصقاع الأرض وصولا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحضرتك تصفه بالمسكين؟ هل هذا المسكين له كل هذه المقدرة؟».
أسامة بن لادن، يردّ زيدان: "تِسْعين بالمئة منه صناعة أمريكية، وعشرة بالمئة أمل رومانسي بإحياء دولة الإسلام، وفِعْله مقطوع الصلة تماما بأحداث سبتمبر. هذا الرجل الذي يعيش في مغارات طورا بورا هناك، لا يستطيع أن يدبّر افطارا جيدا لنفسه، هذه العملية شديدة التعقيد.
فالرجل "مسكين"، يُعيد هذا التّوصيف ويكرّره حتى التخمة وكأنه يبعث برسالة للمشاهدين كي يعيدوا النظر في موقفهم من الإرهابي "المسكين". لكن وصف المَسكنة لا ينطبق على أيمن الظواهري صديق بن لادن وعضده الأيمن في الإرهاب. فهو بالنسبة لزيدان اجرامي. وهكذا غطّى شناعة بن لادن بإلصاق الاجرام فقط بتلميذه، وبقي أستاذه الشاعر نظيف اليدين ومسكين، لا بل إن الظواهري في رأيه أشد اجراما. لماذا؟ لأنه تكوّن في نسق الاخوان المسلمين وأخذ تجربة طويلة وأكثر ذكاء وحنكة من أسامة بن لادين. «فأسامة بن لادن بسيط وخيّر. بدليل يا أخي. "أقلك حاجة حتْزعّل الناس"»، يعني شيء سيغضب الناس.
هكذا بحركة مسرحية، دون أن يتمّ الجملة، كعادته في كل محاضراته ومقابلاته التلفزية، انتقل إلى موضوع آخر، رغم أنه منذ بداية الحلقة وهو "يُزعّل في الناس"، ويستخف بعقولهم ويستهزئ بهم، ويَسحلهم في الحضيض، فقط لقول شيء ما والخروج عن المألوف.
وكيف لا يُغضب الناس وهو ما فتئ يَتهجّم على عبد الناصر في كل كتاباته ومحاضراته، على شاكلة الصهاينة العرب المحدثين، ويستنقص من قدره أمام إرهابي قتّال سليل الوهابية العالمية. انظروا إلى هذه المقارنة التي تنضح ازدراء وتعسّفا. قال إن: "بطل العروبة، بطلَنا المصري، جمال عبد الناصر، كان فعْله على أرض الواقع هو فصم مصر والسودان، وقَبِلَ أن تنفصم السودان عن مصر، وهي لا تنفصل، لا جغرافيا ولا تاريخا، وذهب ليحارب في اليمن، وبَنتْ مصر السد العالي وانقطعت الصلة بالسودان وهذا خطير، وقال العالِمون بالحقائق أنه لا بد من ربط مصر بالسودان ولو بطرق برية. مَن الذي قام بعمل طرق برية في شمال السودان؟ أسامة بن لادن على نفقته الخاصة، ومدّ طريقا، تكْلفته بالكامل تحمّلها هو من الخرطوم وأم دربان إلى عطبان، وكان يجب على هؤلاء الأبطال أن يكملوا الطريق ليتّصل الشّعبان".
وفقط لأن بن لادن عبّد طريقا (لتهريب المخدرات والسلاح وإيصالها إلى إرهابيّي حماس الإسلاميين الذين يشنّون هجومات على الجيش المصري وليس على جيش العدوّ الصهيوني)، فقط لأنه عبّد طريقا حتى أصبح في نظر المجنون السفيه زيدان بطلا عظيما يفوق في عظمته وانجازاته جمال عبد الناصر، بل إن هذا الطريق يَشفع له في كل ما قام به من أعمال إرهابية فظيعة. "والمسكين بن لادن، يضيف زيدان، ذهب إلى أفغانستان مطرودا من السودان بعد أن سلبوه أمواله، وأعطوه صمغا بدل ... وطلّعوه بالليل في الطائرة هو وزوجتيْه ولا يعرف أين سيذهب وبلده السعودية رفضت استقباله، وبالتالي لم يكن لديه اختيار آخر إلا اللجوء إلى الكهوف في أفغانستان ويرتضي لنفسه أن يصير بهذا الشكل الاعلامي الفقاعي الذي أراده الاعلام الغربي".
ولا كلمة إدانة لكل ما سبّبه هذا الإرهابي من مآسٍ للعالم، وللشبان المغيّبين العرب الذين التحقوا به وطُحنوا في محرقة الحروب، وللأعمال الإرهابية التي يقومون بها باسمه وبتعليماته في بلدانهم.
إن الدفاع الشرس عن هذا الإرهابي، وتحسين صورته عمدا، أمام آلاف المشاهدين الشبّان، كفيل بأن يجعل من زيدان شريكا في العنف ومشجّعا على الإرهاب ومحرضا على الطائفية، ومتقاسما للأدوار مع السفليين الذين يستهدفون الأقباط على أساس أنهم غرباء عن مصر وأنهم كفار يؤلهون المسيح، وهو ما نَظّر إليه طوال حياته وفي كل كتاباته.

17. مُلحَة الوداع
------------
قبل أن أغادر زيدان، افترضُ هذا الاعتراض من أحد أتباعه: أليس هناك من فضيلة معرفيّة بارزة ومرموقة ليوسف زيدان؟ ألا توجد مساهمة علمية واحدة أدخلها في ميدان الثقافة؟ أجيبُ وأقول: أجل له مساهمة ثقافية واحدة، وهذه المساهمة تتلخّص في الألف المَهْمُوزة، أعني في إسقاط هذا الحرف عن كلمة "الإسكندرية"، فأصبحت عنده "السّكندرية". إلاّ أنه أحيانا ينساها، ويعود لنُطقِها أو كتابتها باسْمها المتعارف عليه: "الإسكندرية" ، وهكذا فإن الحصيلة النهائية صفر، ومساهمته الثقافية هي لاشيء.
لكن أغرب ما قرأته في حياتي هو ما جاء في "شجون عربية"، صفحة 59 الطبعة الأولى، سنة 2016، فبَعْد أن كال للدّواعش كل ما يستحقونه من شتائم، قال، متحدثا عن الفتيات المَسبيات: إن التشويه الذي يعتري المرأة ينعكس على الرجل ومن نتائجه المباشرة «أن تصير النساء مبتذلات رخيصات، فيزهد فيهنّ المقاتلون بسبب وفرتهنّ، وتنطفئ الغرائز التي كانت هائجة بسبب الحرمان، ثم أشبِعَتْ فجأة وبغزارة، تؤدي بالضرورة إلى الزهد في النساء، والبحث عن شهوات أخرى، تكون في الغالب انحرافيّة. وفي تلك الحالة ينتشر نكاح الغلمان ... حيث يصير اللواط مَلمَحا أساسيا من مَلامح الجهاد ».
هل قرأتم شيئا أفظع من هذا؟ هل نزل عليكم خَطْبا أعظم من هذا؟ السيد زيدان لا تستفزّه حالة العبودية الجنسية التي أنزِلتْ إليها النساء، ولا التدمير الرهيب لنفسيّتهن وتمزيق حياتهن الأسَرية والاجتماعية، بقدر ما يَستفزّه، من موقعه الرّجالي، انطفاء غرائز وحوش الدواعش وزُهدهم في النساء، وبالتالي خطورة تحوّلهم إلى ممارسة اللواط.
بعبارة أخرى: على الدواعش أن يُواصلوا في اغتصاب الفتيات بانتظام وعقلنة، دون إفراط أو تفريط، كي يتفادوا السقوط في ما أبشع منه، وهو اللواط. هل ثمة شيء أكثر فَتْكًا بعقولنا من هذا؟ هل قرأتُم شيئا أكثر تدميرا لإنسانيّتنا من هذا؟
ثم يأتينا ويسبّ المصريين والعرب عموما، بكلمات مُرّة، قبيحة، من قبيل "غثاء الطير والسائمة"، يعني حيوانات، أو أن "الناس في بلادنا"، هم مجموعة من العته البلهاء، الذين "قليلا ما يَسمعون، وإنْ سمعوا، قليلا ما يتدبّرون"، وأنّ أخطر الأخطار التي تهدد العرب الحاليين، هو تحديد معاني الكلمات، وإن لم يفعلوا ذلك عاجلا فهم مُهدّدون "بالاندثار التام ".
لماذا لا يعتني هو بمصطلحاته ويُلملم أفكاره ويُحسّن من لهجته؟ لماذا لا يخجل من الدعوة الصريحة للتطبيع مع إسرائيل؟ لماذا يبالغ في مدح العدوّ الصهيوني بقدر ما يبالغ في إهانة الفلسطينيين وتحقيرهم وسلبهم حقّهم المشروع؟ احكموا أنتم بأنفسكم، على أساس كل ما عَرضته سابقا، أيّة مفاهيم فكرية راقية، وأيّة مساهمات علمية فريدة من نوعها أضافها هذا الرجل إلى الثقافة العربية.



#سامي_الذيب (هاشتاغ)       Sami_Aldeeb#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عزيزي المسلم 7: الخاتمة
- عزيزي المسلم 6: هوس التقديس
- هل القرآنيون يلجؤون للتقية أم مهووسون؟
- عزيزي المسلم 5: مجتمع المسلمين
- الأشرار الأربعة: يوسف زيدان، يوسف الصدّيق، محمد عابد الجابري ...
- عزيزي المسلم 4: ثقافة القطيع
- نزلاء العصفورية
- هل هناك أخطاء لغوية في القرآن؟
- عزيزي المسلم 2: تجربة فكرية
- تحريف القرآن
- عزيزي المسلم 2: تبادل الخرافة
- عزيزي المسلم 1: جغرافيا المسلم
- ردي على مسلم غيور: اتمنى لك خروجًا سريعًا من سجن الإسلام
- من هو مؤلف القرآن؟
- لماذا لا ينشر المسلمون القرآن بالتسلسل التاريخي؟
- هل عاد احمد حرقان للإسلام؟ ولماذا؟
- لا سلام للأشرار (اشعياء 48: 22)
- كتب: فقدت الحياة معناها
- تبرير النسخ عند المفسرين المسلمين
- تشنج مسيحي أمام النسخ في اليهودية والمسيحية


المزيد.....




- متى موعد عيد الأضحى 2024/1445؟ وكم عدد أيام الإجازة في الدول ...
- تصريحات جديدة لقائد حرس الثورة الاسلامية حول عملية -الوعد ال ...
- أبرز سيناتور يهودي بالكونغرس يطالب بمعاقبة طلاب جامعة كولومب ...
- هجوم -حارق- على أقدم معبد يهودي في بولندا
- مع بدء الانتخابات.. المسلمون في المدينة المقدسة بالهند قلقون ...
- “سلى أطفالك واتخلص من زنهم” استقبل دلوقتي تردد قناة طيور الج ...
- جونسون يتعهد بـ-حماية الطلاب اليهود- ويتهم بايدن بالتهرب من ...
- كيف أصبحت شوارع الولايات المتحدة مليئة بكارهي اليهود؟
- عملية -الوعد الصادق- رسالة اقتدار وردع من الجمهورية الإسلامي ...
- تردد قنوات الأطفال علي جميع الاقمار “توم وجيري + وناسة + طيو ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي الذيب - الأشرار الأربعة: وأولهم يوسف زيدان