أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - أحمد إبريهي علي - إقتصاديات الوباء وصدمة كورونا















المزيد.....


إقتصاديات الوباء وصدمة كورونا


أحمد إبريهي علي

الحوار المتمدن-العدد: 6542 - 2020 / 4 / 20 - 00:52
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


تعرض هذه المقالة القصيرة حقائق نمطية عن أضطراب الأقتصاد زمن الأويئة، والآثار اللاحقة، إعتمادا على بيانات من التاريخ الكمي ودراسات أعدت أخيرا. وتبقى تبعات التعطيل الأقتصادي لوباء كورونا يكتنفها عدم التأكد، إذ لا تكفي المعلومات المتاحة في هذه المرحلة من سياق الأزمة لمعرفة العمق المحتمل ان تصل اليه، ونتائجها فيما بعد. بل هي محاولة للأقتراب من صدمة الوباء، والتي بلغت الى الآن مديات لا يستهان بها. ومن ثم النظر في السياسات الجارية على المستوى الدولي. وتلي هذه المقالة حلقة مختصرة لتغطية جوانب أخرى.
الأمراض المعدية والصحة في السياسة العامة:
لقد أحرز الطب تقدما كبيرا، في المعرفة والممارسة، متناسبا مع تطور علوم الأحياء والكيمياء، والتكنولوجيا والصناعة، وتتزايد مكانة قطاع الصحة في الأنفاق الحكومي والسياسات العامة للدول في مختلف مراحل التطور. ومع ذلك لازالت الأمراض المعدية تهدد المجتمع والأقتصاد على المستويات الوطنية والعالم. ومنها تتجاوز النطاق المحلي Endemic لتنتشر بالعدوى وباءا على نطاق جغرافي واسع Epidemic أو جائحة Pandemic مثل كورونا عام 2020 وقبلها إنفلونزا عام 1918. ومنذ نهاية القرن العشرين شهد العالم ظهور وانتشار امراض معدية جديدة تكاليفها إلأقتصادية والبشرية موثقة جيدا. والقطاع الصحي أول ما يتأثر بالوباء وغالبا ما يبدو دون القدرات الكافية لأستيعاب الأنتشار السريع للمرض. ونظرا للمحتوى التخصصي العالي في المهن الطبية تواجه الحكومات صعوبات تعبئة المزيد من الموارد البشرية استجابة للحاجة الملحة للعناية والعلاج. وبينت تجربة التعامل مع جائحة كورونا عدم كفاية الوسائل الضرورية للفحص والتشخيص السريع، ونقص حاد في الأجهزة الضرورية للعناية المركزة، وخدمات الرقود والأدوية. وايضا، يتعرض الكادر الطبي للمخاطر؛ وحتى صعوبات في تعبئة الموارد المالية الأضافية للقطاع الصحي.
وعدا الخسائر البشرية، وهي الأهم، وصعوبات إدارة الأزمة في مجالها المباشر، يتأثر التعليم وقطاعات النقل والسياحة والزراعة والصناعة، ولقد ضربت كورونا النفط واسعاره ايضا؛ ولتلك الصدمات نتائج في الموازنات العامة والمصارف وأسواق الأسهم والأوضاع المالية للشركات وسواها. وبحكم الترابط الوثيق في الأقتصاد المعاصر يربك الوباء سلسلة حلقات الأنتاج والتجهيز في العالم، والنشاط الذي لا يقيّده نقص الطلب يعاني عدم كفاية المدخلات أو موانع تعرقل تشغيل طاقاته الأنتاجية. وقد أثبتت التجربة لجميع الدول ان الوقاية من مخاطر الأوبئة تتطلب تعاونا دوليا اوثق بما فيه تبادل الخبرات والتنسيق والدعم المالي للدول الفقيرة.
وعلى صعيد الأبحاث ذات الصلة بالسياسات، في السنوات القليلة الماضية، يلاحظ الأهتمام في إقتصاد الصحة، والتاريخ الأقتصادي للأوبئة من ذوي الأختصاص والخبرة الى جانب البنك الدولي. ومن المفيد التركيز على النتائج المحتملة للجوائح وذلك لأنها، ورغم فداحة آثارها الأقتصادية، لم تكن من الموضوعات الرئيسة في التاريخ الأقتصادي. ولا يخفى ان الأضطرابات والأضرار الأقتصادية للاوبئة، حتى وان إقتصرت على نطاق جغرافي دون العالم بأسره، فسوف تنتشر نتائجها الى كل الأرض وبسرعة متزايدة. وذلك لكثافة الصلا ت والأعتماد المتبادل بين الأنشطة الأنتاجية عبر الحدود والتجارة الخارجية واسواق المال ... وكل ما تعنيه وحدة نظام الأقتصاد في المعمورة. ان دراسة الأويئة وعواقبها الأقتصادية لا زالت، ضمن نطاق توفر البيانات الكافية للوقوف على تبعاتها. والمهم إستدعاء مثل هذه الصدمات الكبرى الى دائرة الوعي، وإضافتها الى التفسيرات المحتملة لتحولات بارزة في مجرى تاريخ بلادنا والمنطقة والعالم.
وقائع الأصابة بجائحة كورونا:
بدء الأعلان عن إصابات بفايروس Covid 19 في يناير، كانون الثاني، 2020، وحتى بداية شباط وصل مجموعها 12 ألفا، وبداية آذار 88 ألفا، وفي الأول من أبريل، نيسان، 827 ألفا؛ تلك لأقرب عدد صحيح. وحتى نهاية يوم 18 نيسان 2332004 مصابا أو 2.332 مليون نسمة تقريبا في 212 دولة أو كيان مستقل. عدد الأصابات الجديدة ليوم 18 نيسان 83141 واليوم السابق 86496 والذي قبله 16 نيسان 90254 وهو ذروة موضعية سبقتها أخرى يوم 10 من نفس الشهر 93740، وقبلها يوم 3 من نيسان 96031، وقد تفيد هذه الوقوعات الأقتراب من طور بداية النزول، ثم نتفاءل أكثر لنفترض ان الجائحة موجة واحدة قد تنتهي مطلع سبتمبر، أيلول، إستنادا إلى فرض آخر وهو التماثل بين وتيرتي الصعود والنزول؛ وربما، على اساس ذلك التفاؤل، لا تزيد مجموع الأصابات عن 4.7 مليون على الأكثر إحتمالا حسب هذا النمط الأحصائي المتصور.
ولمّا كان مجموع الوفيات حتى يوم 18 نيسان 160767 نسمة برحمة الله، قد لا يزيد مجموعها عن نصف مليون نسمة حتى نهاية الموجة؛ لكن بعض الدراسات بالغت في الوفيات المحتملة بحيث وضعتها في نطاق 2.5 مليون نسمة للولايات المتحدة وبريطانيا فقط، وعلى قياس هذه الخسائر تتجاوز مجموع الوفيات في العالم 7 مليون نسمة؛ وكأن تلك الدراسات إنطلقت من تصور الوباء أكثر من موجة ومسار الوقائع لم يزل بعيدا عن مغادرة الذروة حسب فهمهم. من جهة أخرى لا زال تقدير منظمة الصحة الدولية للموقف بأنه بالغ الخطورة، وتؤكد ضرورة الألتزام بالتدابير التي أوصت بها للحد من إنتشارالوباء.
وعلى اساس بيانات المجموع العالمي المتراكم للأصابات حتى يوم 17 نيسان توزعت على الدول كما يلي: حصة الولايات المتحدة الأمريكية 31.6% من مجموع الأصابات؛ تليها على التوالي أسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وهي مجتمعة لديها 33.8%؛ وفي الصين وإيران وتركيا 10.7%؛ أي ان الأصابات في الدول التسع،آنفا، 76.1% من المجموع العالمي. وفي بلجيكا والبرازيل وروسيا وكندا وهولندا وسويسرا والبرتغال والنمسا 10% من الأصابات في العالم. تلك الدول، عددها 17، تركزت فيها الأصابات بنسبة 86.1%؛ وفي 95 دولة أخرى 13.7% من المجموع ؛ و0.3% او ثلاثة من الألف في 100 دولة أو كيان مستقل.
أي ان كثافة انتشار الوباء ليست متماثلة في حغرافية العالم، ولا متناسبة مع سكان الدول: الهند، 1387 مليون نسمة، أعلنت حوالي 14 ألف إصابة وهي مجاورة للصين منطلق الوباء؛ بينما في بلجيكا، دون 12 مليون نسمة، أكثر من 36 ألف إصابة.
كما يلاحظ ان الدول الأكثر تطورا والأعلى رفاها أصيبت أكثر من دول نامية وفقيرة. ولا تُفسّر كثرة الأصابات في تركيا وإيران بعوامل واضحة، وهما يختلفان في وضعهما الأقتصادي وعلاقاتهما الدولية. ولا يمكن وصف الأنتشار بأنه عشوائي بالمعنى الأحصائي الدقيق، لأن السلوك العشوائي يقترب في المجتمعات الكبيرة من التوزيع الطبيعي المعروف، أي التناظر في إحتمال الأبتعاد عن الوسط ، فوقه أو دونه، والوسط في هذه الحالة 303 إصابة لكل مليون من السكان حتى نهاية 18 نيسان.
وباء الموت الأسود:
لقد حظي وباء الموت الأسود Black Death ،في القرن الرابع عشر1347- 1352، بأهتمام يساعد على فهم أو تخمين صدمته الأقتصادية. وتقدر ضحاياه في نطاق 75 مليون نسمة وتمثل هزة ديموغرافية عنيفة بمقياس حجم سكان العالم آنذاك إذ يقدر 350 مليون نسمة عام 1400 بعد الوباء وكان 360 مليون نسمة عام 1200 قبل الوباء بقرن ونصف. لقد عاود الموت الأسود الظهور في الأعوام 1362، و1368، و1381، وتكررت موجاته حتى القرن الثامن عشر على نحو شبه دوري وهذه الخاصية هي الأخطر في الأمراض المعدية. ويذكر ان الأصابة تبدأ بأعراض شبيهة بالأنفلونزا ثم أورام تحت الأبط ، ويتدهور وضع المصاب سريعا. وتوصف منطقة النورماندي الفرنسية بأنها فقدت بين 70% - 80% من سكانها في الوباء. ذلك الزمن، قبل الوباء، عاشت اوربا استقرارا لم يكن معهودا لها وانتعشت تجارتها الخارجية، وكانت دويلات المدن الأيطالية، خاصة جنوا والبندقية، رائدة هذا التوجه، ويعتقد ان الوباء وصل الى الموانئ عبر طفيليات تحملها القوارض. وأول ما اصاب الناس في القسطنطينية، إسطنبول الحالية، كانت عاصمة الدولة البيزنطية. ومن الناطقين باليونانية انتقل الى شمال أفريقيا والشرق الأوسط ، وفي عام 1347 وصل ميناء مرسيليا الفرنسي ثم انتشر شمالا وغربا، وعم أوربا كلها. وتشير بعض الدراسات الى موت نصف سكان أوربا، آنذاك، بالوباء، وانه لم يميّز بين الناس لثرائهم او مكانتهم الأجتماعية او السياسية. ويذكر ان الميل للعنف قد إشتد، بعد الموت الأسود، وغادرت اوربا هدوئها النسبي الى حروب وقسوة. وقَلَب الوباء الأقتصاد الأوربي راسا على عقب واضطربت التجارة وتقلصت الصناعة لفقدان التجار وذوي المهارة. وثمة إعتقاد بأن الموت الأسود من اسباب النهضة Renaissance لأن الأرض أصبحت وفيرة والتراتبية الطبقية لم تعد بتلك الصرامة، وانتعشت الصناعة في الأرياف، فيما بعد، وأخذ الناس بالتطلع نحو حرية أوسع في التفكير والحياة اليومية.
وقد إقترن ذكر الموت الأسود بتمرد الفلاحين في بريطانيا الأمر الذي عجّل بزوال الأقطاع. كما أدت التغيرات الديموغرافية بسبب الوباء الى إنخفاض عرض القوى العاملة بنسبة تقدر بين 25% الى 50% ، في أنكلترا، ما ساعد على تحسين الأنتاجية، وارتفعت الأجور الحقيقية بنسبة 100%؛ مع تقوية الموقف التساومي للقوى العاملة. وايضا انخفض العائد على الأرض لصالح العمل ورأس المال بفعل انخفاض السكان.
أن إنخفاض حجم القوى العاملة نتيجة الوباء، وكما سلف، يرفع متوسط راس المال للعامل والمتوقع نظريا إرتفاع الأجر الحقيقي مقابل نزول عائد راس المال. وقد بينت دراسة Jorda وزملائه فعلا هذه النتيجة لأربعة عقود لاحقة لوباء الموت الأسود في أوربا من بيانات ست دول مجتمعة وكل على حدة: فرنسا، المانيا، إيطاليا، هولندا، أسبانيا، وبريطانيا. وقد إفترضت الدراسة ان سعر الفائدة الحقيقي يعبر عن عائد راس المال. ويبدو ان الوباء أدى الى تحول لم ينعكس حتى بعد إنقضاء المدة التي افترضتها الدراسة لمتابعة الأثر. وهذا النمط من النتائج الأقتصادية قابل للتكرار مع الأويئة الأخرى، كما بين التحليل، ولا يقتصر على الموت الأسود.
إنفلونزا عام 1918:
ظهرت وانتشرت في السنة الأخيرة للحرب العالمية الأولى، بثلاث موجات: الأولى في ربيع عام 1918، والثانية وهي الأقسى بين سبتمبر، ايلول عام 1918 وكانون الثاني عام 1919، والثالثة بين فبراير، شباط، عام 1919 ويونيو، حزيران، عام 1920. وتسمى خطا "ألأنفلونزا الأسبانية"، وتنتقل عدواها بالهواء، والفايروس يصنف من الأنفلونزا A وفرعها H1N1. وتقدر خسائرها 39 مليون نسمة تعادل 2% من سكان العالم حينها. وانتشرت في 43 دولة منها مصر وتركيا والهند واندونيسيا والصين واليابان وكوريا وماليزيا والبرازيل وغيرها، إضافة على الدول الأوربية وشمال أمريكا. وتقدر الخسائر البشرية للهند جراء الوباء 16.7 مليون نسمة والصين 8.1 مليون نسمة وكانت الوفيات في جنوب أفريقيا واندونيسيا عالية، أي ان أضرارها البشرية خارج البؤرة الأولى للوباء اكثر. وفاقت ضحاياها خسائر الحرب، من العسكريين والمدنيين. ويذكرThomas A. Garrett بان الوفيات في الولايات المتحدة من الوباء عشرة امثال خسائرها في الحرب. وأضافت اوضاع معيشة المتحاربين، في جبهات القتال والمعسكرات، وحركات الجيوش عوامل أخرى لأنتشار الوباء، ولم يكن الجنود بمنأى عنه، فصُدِمت الأنسانية التي عذبتها الحرب بكارثة الوباء. وتركزت وفيات الأنفلونزا في فئة الأعمار الشابة 18-40 سنة وفي الرجال أكثر من النساء ضمن هذه الفئة. ويرى المختصون ان السبب الرئيس للوفيات ليس فايروس الأنفلونزا ذاته بل رد الفعل المناعي Immunological Reaction ولذلك كان الأقوياء أكثر عرضة للموت. والفئة العمرية المصابة هي الأكثر حيوية، ولقد تضرر إقتصاد الدول بأثر مضاعف نتيجة تركز الخسائر البشرية، من الحرب والوباء، في الفئة الشابة.
ويُذكر ان الأجتماعي الألماني المعروف Max Weber قتله هذا الوباء، وكذلك جد الرئيس الأمريكي الحالي Frederick Trump. واصيب الكثير من المشاهير ونجوا منها ومن بينهم الملك الفونسو الثالث عشر ملك أسبانيا، ورؤساء وزراء بريطانيا وفرنسا، ديفيد لويد جورج وكليمنصو، وغيرهم. ومن المصادفات ما ذكره Barro وزملاؤه في بحثهم من ان الرئيس وودرو ولسون أصابته الأنفلونزا بقسوة فاقعدته عن المشاركة في مفاوضات مؤتمر فرساي، ومن نتيجتها فرِضَت شروط قاسية على المانيا، " وبذا ربما كان وباء الأنفلونزا سببا غير مباشر للحرب العالمية الثانية" على رأيهم.
لقد تزايدت ضحايا الأنفلونزا في مدة قصيرة وتجاوزت إمكانات الجهاز الصحي في بعض المدن حتى تكدست الجثث في شوارعها. وأفادت دراسات للبيانات الأمريكية وجود إرتباط، يُعتد به إحصائيا، بين الكثافة العالية للسكان في وحدة المساحة وإحتمال الأصابة بالأنفلونزا عام 1918. لأن الوباء ينتقل عبر الأتصال بين البشر ولذا تزداد نسب الأصابات في النطاق المكاني المزدحم، وفي 16 من 18 ولاية أمريكية كانت نسب الأصابة في المدن أعلى من الريف وفي إحدى الولايات نسبة الإصابة في سكان المدن 166% من المتوسط للولاية بأكملها، وأدنى نسبة وفيات في الريف تعادل 48 % تقريبا من نسبة الوفيات في مدينة المقاطعة. وبينت، نفس الدراسات، عدم ووجود إرتباط بين الوضع الأقتصادي والمناخي والجغرافي للمناطق ومعدلات الأصابة بالأنفلونزا، لكن نسب إصابة البيض أدنى من غيرهم في جميع الولايات المبحوثة.
وإن لم تبرز فروقات بين المناطق في معدلات الوفيات، تعزى الى أوضاعاها الأقتصادية، لكن التفاوت بين الناس في الوصول الى الخدمات الصحية لا شك فيه نتيجة لأختلاف قدراتهم في تحمل تكاليف العلاج آنذاك.
ومع ان البيانات الأقتصادية التجميعية لا تكاد تفصح عن الكثير من آثار الوباء بطبيعتها لأن أضرار الحرب قد إختلطت مع الأنفلونزا، مع ذلك توصل التحليل الأحصائي الى إثبات علاقة عكسية بين الوقيات من الأنفلونزا وكل من النمو الأقتصادي ونمو الأستهلاك؛ وأيضا كانت العلاقة عكسية بين وفيات الوباء واسعار الفائدة الحقيقية على حوالات الخزانة ؛ بينما أسهمت زيادة الوفيات في رفع التضخم. ويستفاد من الأخبار الصحفية تماثل تلك الوقائع مع بعض الأحداث الأقتصادية لصدمة كورونا، إذ بشير البعض الى ان اعمالهم قد تعطلت بنسبة الثلث أو 40 بالمائة او حتى ثلثين ... وفي نفس الوقت يزداد الطلب على أسِرّة الرقود والمستلزمات الطبية. أيضا، واجهت انشطة الأستخراج والتعدين صعوبات وبعضها تقلصت الى نصف ما كانت عليه بسبب إنتشار الوباء في مواقعها. والمصانع كانت اصلا قد تضررت بسبب التجنيد الأجباري. وحتى السكك الحديد تشكو من نقص الكادر. إضافة على الأضرار الكلية للوباء، على المستوى الجزئي لاحظت دراسات إستقصائية إستمرار ضعف الأداء والأنتاجية للأفراد الذين تعرضوا للوباء؛ وتلكؤ التحصيل الدراسي لأطفالهم فيما بعد. وفي المناطق التي شهدت ارتفاع وفيات النشطين إقتصاديا نتيجة الحرب والوباء ارتفعت الأجور وثمة دلائل على دور لشحة العمل في زيادة راس المال للعامل اي محاولة توظيف تكنولوجيا مقتصدة بالعمل. ويعتمد الحجم التجميعي لهذه الآثار على نسب النقص في القوى العاملة أو مدى انتشار إنخفاض القابليات البدنية نتيجة التعرض للوباء.
أظهرت معالجة Correia وزملاؤه لبيانات الولايات المتحدة الأمريكية ان وباء 1918 كانت سلبياته الإقتصادية من جانبي العرض والطلب، إتضحت في خفض ناتج الصناعة التحويلية ورصيد السلع المعمرة والأصول المصرفية. وان المناطق التي إعتمدت التدابير والأجراءات غير الدوائية، مثل التباعد الأجتماعي وتقييد الأتصال البشري للوقاية والحد من انتشار الوباء، لم تتكبد، فيما بعد، أضرارا في إقتصادها أكثر مما شهدته المناطق التي لم تتخذ تلك التدابير. ان الوباء يبثّ الأضطراب في الأقتصاد وتَبيّن ان المبادرة لمواجهته في الوقت المناسب لم تقتصر فوائدها على خفض الوفيات بل تقليل الضرر الأقتصادي أيضا.
الصدمة الأقتصادية لكورونا بالمجمل:
أصبح إقتصاد العالم مقيدا من جانبي العرض والطلب بفعل تدابير الوقاية من فايروس كورونا. فالتباعد الأجتماعي، وملازمة المساكن والمنع الجزئي او الشامل للتجوال، حجّمت أو عطّلت الكثير من الأنشطة لاسيما النقل والسياحة والفندقة بل وتجارة المفرد وحتى الصناعة، وأغلب مشاغل العاملين لحسابهم الخاص وارتفعت معدلات البطالة. ويؤدي التقلص الكبير في المبيعات الى خسائر لعدم تمكن الشركات من خفض نفقاتها بما يتناسب مع المستويات الواطئة للنشاط . وتبعا لذلك يشتد الطلب على القروض في حين تواجه الشركات التي تدهورت مراكزها المالية صعوبات في التمويل او بتكاليف أعلى. يضاف الى هذه الصورة الأنخفاض الحاد في اسعار النفط وعجز الموازنات العامة وموازين المدفوعات للدول النفطية. كما ان شركات الطاقة تراجعت اسعار اسهمهما وأسعار الأسهم، بصفة عامة، واسعار الفائدة. وأنخفضت إيرادات حكومات الدول غير النفطية، ايضا، في حين تلتزم بتقديم الدعم للعاطلين عن العمل والشركات الخاسرة ولذا سوف ترتفع أرصدة الدين الحكومي في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.
ويتوقع صندوق النقد الدولي في تقرير نيسان 2020 ان ناتج العالم سينخفض هذا العام بنسبة 3% والأنخفاض في الدول المتطورة 6.1%، والولايات المتحدة الأمريكية 5.9% ومنطقة اليورو 7.5%، وأسبانيا وإيطاليا الأكثر تضررا. وينخفض ناتج الدول الناهضة والنامية بمجموعها بنسبة 1%، والصين لا يتقلص حجم نشاطها الأنتاجي بل يتراجع نموه الى 1.2% وهي التي كانت معروفة بمعدلات النمو المرتفع، والهند ينمو ناتجها بنبة 1.9%، اما روسيا والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا فتتقلص نواتجها المحلية بين 5.5% و 6.6%. وينخفض ناتج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى مجتمعة بنسبة 3.3%.
عند مقارنة هذه المؤشرات مع الأزمة المالية الدولية 2007- 2009 يبدو وباء كورونا أشد، وتوصف هذه الصدمة بأنها الأعنف بعد الكساد الكبير 1928-1932. ومن ملاحظة مجريات مقاومة الوباء وفي حالة عدم تناقص الأصابات حتى نهاية مايو، ايار، واستمرار تقييد حركة النشطين إقتصاديا يستنتج بأن الأضرار الأقتصادية ستكون اشد مما بينته مؤشرات تقريرالصندوق. ولا يستبعد إحتمال موجة ثانية للوباء إوعدم أنحساره حتى في عام 2021. وطالما ان العامل الرئيس للأضطراب هو الوباء الذي يصعب التكهن بمساره أو إحتمال إكتشاف لقاح، قابل للاستخدام خلال مدة قصيرة أوعلاجات فعالة يزداد عدم التأكد. وايضا، يبقى التفاؤل الذي بدأت به المقالة أحد المسارات المحتملة. وكلما إتسع نطاق الاضطراب وتكاثرت خسائر الشركات، وفشل الديون وصعوبات الأقتراض، في الدول المتقدمة تطول مدة الأزمة وتعاني الدول النامية والنفطية من نتائجها.
من جهة أخرى يفترض الصندوق تحسنا طفيفا في سعر النفط عام 2021 بنسبة 6% عن مستوى عام 2020 ليكون سعر البرميل حوالي 38 دولارعام 2021، ولا يرتفع في السنوات القريبة القادمة سوى بمقدار يعادل معدل التضخم. ان التغير المحتمل لسعر النفط يتطلب تحليلا آخر، وقد وصف الصندوق تقديره للسعر بأنه إفتراض ولم يتوصل اليه من خلال محاكاة العلاقة بين سعر النفط ومحدداته.
إن ارتباط تشغيل القوى العاملة بالناتج من طبيعة الأشياء، ولذا لا بد ان تزداد نسب البطالة والتكاليف المالية لأعانة العاطلين عن العمل. وتبقى مشكلة تعطل العاملين لحسابهم الحاص، وعمال القطاع غير المنظم، تتحدى السياسة الأقتصادية وخاصة أيام الأزمات الصعبة مثل أزمة كورونا. والدول التي تعاني أصلا من بطالة فوق المعدلات الوسطية بكثير مثل اسبانيا واليونان تشتد خطورة تقلص نشاطها الأقتصادي. وترتفع البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2020 الى اكثر من ثلاثة أمثالها عام 2019. وتحاول الولايات المتحدة وبعض الدول التي تستطيع تحمل مديونية اعلى تقديم إعانات سخية للشركات للأحتفاظ بالقوى العاملة. إن مشكلة البطالة في الدول النامية أعقد بكثير منها في المتقدمة لسعة نطاق المنشآت الصغيرة والفردية، ولأن الأمكانية الأقتصادية والمالية العامة كلاهما لا يتحملان ضمان شامل للمشتغلين لتعويض البطالة أوالتقاعد، علما ان البطالة وصلت في بعض الدول متوسطة الدخل الى ربع أو ثلث القوى العاملة.
وسوف تستمر أسعار الفائدة على العملات الأحتياطية الدولية منخفضة: سعر الفائدة على الدولار في سوق لندن لما بين المصارف LIBOR، إيداع لستة أشهر، 0.7% و 0.6% سنويا أي دون الواحد بالمئة لسنتي 2020 و2021 على التوالي. وسعر الفائدة على اليورو، في نفس السوق، لثلاثة أشهر سالب (0.4%) للسنتين؛ والين في نفس السوق لستة أشهر سالب (0.1% ) للسنتين. لكن الدول النامية لا تنتفع من إنخفاض أسعار الفائدة هذا لأن هامش المخاطرة مرتفع على ديونها.
والتجارة الخارجية للسلع والخدمات، والتي شهد نموها انخفاضا قبل ازمة كورونا ، في عام 2019 إزدات بأقل من الواحد بالمئة، سينخفض حجمها هذا العام بنسبة 11%؛ وتنخقض إستيرادات الدول المتقدمة بنسبة 11.5% وصادراتها بنسبة 12.8% أي ان إقتصاد الدول المتقدمة سيعمل بعجز في ميزان المدفوعات تجاه الدول الناهضة والنامية، ما يعني تحويل موارد من الأخيرة الى مجموعة الدول المتقدمة تعادل 1.3% من ناتج إقتصاد العالم. ومعدل التضخم في الدول المتقدمة كان 1.4% عام 2019 وهو واطئ ويشير الى فتور في النشاط الأقتصادي، وسينخفض أيضا الى نصف الواحد في المئة عام 2020. وافترضت تلك التقديرات ان حجم النشاط الأنتاجي في الفصل الرابع من هذا العام 2020 أعلى من الفصول الثلاث ما يمهد لتحسن عام 2021. وحسب هذا السيناريو يعود حجم الأنتاج في الدول المتقدمة في الربع الأخير من عام 2021 الى مستوى الربع الأول من عام 2019 مع ان التقرير لم يغفل الأشارة الى عدم التأكد حول إمكانية إستئناف الوصع الأعتيادي نهاية عام 2021.
وتلك الحسابات تستند الى تصور إتجاه الأزمة نحو الأنفراج او تصبح وطأتها أخف في الربع الأخير من هذه السنة*.
_________________________________________________________
Worldometer.info/coronavirus. (1)
(2) Garrett, Thomas A., Pandemic Economics: The 1918 Influenza and Its Modern- Day Implications.
(3) Jorda, Oscar, et al, Long- run economic Consequences of pandemics,
Federal reserve bank of San Francesco, Working Paper 2020-09, March 2020.
(4) Barro, Ropert J., et al, The Coronavirus and the Great Influenza Pandemic: lessons from the “ Spanish Flu for the Coronavirus’s Potential Effects on Mortality and Economic Activity, NBER Working Paper 26866, March 2020.
(5) Correia, Sergio, et al, Pandemics Depress the Economy, Public Health Intervention Do not: Evidence from the 1918 Flue, April 10, 2020, Federal Reserve Board USA, … .
(6) European Parliament, Economic Impact of Epidemics and Pandemics, February , 2020.
(7) IMF , World Economic Outlook, Chapter One, 2020 April.
* تتناول الحلقة المختصرة القادمة اوضاع المالية العامة في ظل صدمة كورونا ومسائل أخرى ذات صلة.



#أحمد_إبريهي_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على الأرض7.7 مليار إنسان: نتيجة التطور الشامل؛ كورونا حدث عا ...
- تحديات التنمية الأقتصادية وخطاب الدافع السياسي والأستعراضي:
- كلمة حول الأقتصاد اللبناني والتحول المرتقب
- تقصير السلطات التنفيذية والفساد المالي
- قانون مجلس الأعمار: ملاحظات
- الأقتصاد الفرنسي : تحليل مقارن في ضوء الأحتجاجات
- تجربة التنمية التونسية وازمتها الأقتصادية في السياق السياسي
- قيد المورد المالي يتحدى الحكومة في العراق
- اللامركزية المالية
- السودان في مأزقه الأقتصادي
- التطور والرفاه في الدول كبيرة الحجم السكاني: مؤشرات مختارة
- إعادة إعمار سوريا ونموها الأقتصادي بعد الحرب
- مسائل في النزاعات التجارية للولايات المتحدة وتنافسها مع الصي ...
- لتنمية الحضرية والإشغال غير الرسمي للأرض في العراق
- الهجرة من الريف الى المدينة هل تختلف في العراق عن النمط العا ...
- الأقتصاد المصري بين فجوة الموارد وسياسة سعر الصرف وصعوبة الت ...
- حجم السكان في مسار التاريخ ودلالاته: مصر ودول أخرى
- الأقتصاد الأيراني والعقوبات: الحلقة الثانية ( العقوبات والأت ...
- الأقتصاد الأيراني والعقوبات الأمريكية: الحلقة الأولى (السمات ...
- مشكلة الأقتصاد التركي في عجز الميزان الخارجي وتدهور قيمة الع ...


المزيد.....




- صندوق النقد: حرب غزة ضغطت اقتصادات المنطقة بدرجات متفاوتة
- ارتفاع الاحتياطيات الدولية لروسيا إلى 600.7 مليار دولار
- مديرة صندوق النقد الدولي تعرب عن قلقها من الوضع -المروع- في ...
- صندوق النقد الدولي يتوقع نمو الاقتصاد العربي 2.6% في 2024
- جدل متزايد في الأردن بعد عفو عام شمل إصدار شيكات بدون رصيد
- لبنان، أزمة اقتصادية وسياسية عميقة
- أولويات تخصيص الإنفاق في مصر ومشكلة عجز الطاقة
- هل تأثرت السياحة الروسية في مصر بسبب الضربات الإيرانية لإسرا ...
- وزير ألماني يتحدث عن -البؤس- الاقتصادي في بلاده
- صندوق النقد الدولي: عجز الميزانية يحمل مخاطر على الاقتصاد ال ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - أحمد إبريهي علي - إقتصاديات الوباء وصدمة كورونا