أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - عبد الرحمان النوضة - نَقد الدعوة إلى إنشاء حزب يساري جديد















المزيد.....



نَقد الدعوة إلى إنشاء حزب يساري جديد


عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)


الحوار المتمدن-العدد: 6528 - 2020 / 4 / 4 - 18:38
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
    


‏▪ محمد السّاسي هو مناضل معروف بِنَزَاهته، وباجتهاداته ‏القَيِّمَة، في كثير من الميادين الأكاديمية والسياسية. ونُكِنُّ له ‏الاحترام والتـقدير. لكن الاحترام لا يُلْغِي الصّراحةَ، ولا يمنعُ النـقدَ، ‏خاصّة في حالة وجود خِلَاف حول قضايا سياسية، قَد تكون لها ‏انعكاسات هامّة على مصير الشعب. وفي نهاية شهر فبراير 2020،‎ ‎دَعَى محمد الساسي إلى «إنشاء حزب يساري جديد»(‏1). ورغم عدم ‏توفّر المُعطيات الكافية، تَسْتَدْعِي هذه الدَّعْوَة السياسية العُمُومية ‏النـقاشَ، بل حتّى النـقدَ، نظرًا لِمَا يمكن أن يَنتُج عنها من مُخَلَّفَات ‏سلبية على اليسار. وَيُوَفِّرُ لنا نقاشُ هذه الدعوة فُرْصَةً لتناول بعض ‏مشاكل اليسار بالمغرب. وهذا المقال الحالي هو مجرّد اجتهاد ‏شخصي، ولا يُلزم أحدًا غير كَاتِبِه. والأفكار المنسُوبة هنا إلى محمد ‏الساسي مأخُوذة من الفيديو الذي دَعَا فيه عَلَنِيًّا محمد الساسي إلى ‏‏«تأسيس حزب يساري جديد»(‏‏2). ‏
‏1)‏‎ ‎كانت أحزاب اليسار الثلاثة بالمغرب [وهي "حزب ‏الطليعة"، و"حزب الاشتراكي المُوَحَّد"، و"حزب المُؤتمر الاتحادي"]، ‏المتحالفة في «فيديرالية اليسار»، كانت مُتّـفـقة مبدئيا على مشروع ‏اندماجها في حزب واحد. وكانت تتصوّر توحيدها، أَوَّلًا، عبر إقدام ‏كل واحد من هذه الأحزاب الثلاثة على حلّ نفسه أثناء مؤتمر ‏استثنائي خاصّ به، وثانيًا، عبر انخراط أعضاء كل هذه الأحزاب ‏الثلاثة في مؤتمر تأسيسي للحزب اليساري الجديد المُوحّد. وإلى ‏حدود قُرابة يناير 2020 كان محمد السّاسي مُتّـفـقا، ومُشاركًا في ‏تنـفيذ هذا التصور. لكن في نهاية شهر فبراير 2020، دعى فجأةً ‏محمد الساسي إلى «تأسيس حزب يساري جديد»، يُضَافُ إلى ‏أحزاب اليسار الأربعة [وهي: ‏«حزب الطليعة»، و‏«حزب الاشتراكي ‏الموحّد»، و‏«حزب المؤتمر الاتحادي»، و‏«حزب النهج»].‏ وهذا الطّرح ‏الجديد لمحمد الساسي يختلف عن السَّيْرُورَة التي سبـق لأحزاب ‏‏«فيديرالية اليسار» أن اِتَّـفـقت عليها. ولم يوضّح محمد الساسي ‏الأسباب التي جعلته ينتـقل من الإجماع الذي كان سائدا داخل ‏‏«فِيديرالية أحزاب اليسار» حول اندماج الأحزاب الثلاثة، إلى الدّعوة ‏‏«لتأسيس حزب يساري جديد».‏
‏2)‏‎ ‎هل مُعالجة مشاكل قِوَى اليسار سَتَتَحَـقَّـق عبر «تأسيس ‏حزب يساري جديد»؟ في حالة تنفيذ دعوة محمد الساسي ونجاحها، ‏أي في حالة إنشاء «حزب يساري جديد» بالمغرب (مُغَايِر للحزب ‏الذي كان يُنْتَظَرُ أن يَنتج عن اندماج أحزاب الفيديرالية الثلاثة)، ‏سيكون هذا الحزبُ هو الحزب اليساري «الخَامِس». وَسَيُضِيفٌ هذا ‏الحزب الجديد مشاكلَ جديدةً إلى مشاكل اليسار، دون أن ‏يُساعد على مُعالجة أيّ مُشكل من بين مشاكل اليسار القديمة أو ‏المُزمنة. وإذا كان مَعْقُولًا تأسيس حزب يساري «خَامِس»، لماذا لَا ‏نـقبل أيضًا إنشاء حزب يساري «سَادِس»، و«ثَامِن»، و«تَاسِع»، الخ؟ ‏الحقيقة العَنِيدَة هي أن مشاكل اليسار لَنْ تَزُولَ عبر تَرْكِ أحزاب ‏اليسار القديمة، وعبر اللُّجُوء إلى خلق ‏‎"‎أحزاب يسارية جديدة‎"‎،‎ ‎‏ ‏وإنما ستزول عبر إِقْدَام المناضلين اليساريّين على فهم هذه ‏المشاكل، وعبر تـقيِيم وَتـقوِيم وَتَثْوِير أحزاب اليسار القديمة. ‏وبالتالي، فَلَا فائدة من إنشاء «حزب يساري جديد». وكل محاولة ‏تُريد الانطلاق من جديد من الصّفر، عبر محاولة «إعادة بناء ‏اليسار»، أو عبر «تأسيس حزب يساري جديد»، سيكون مآلها هو ‏الفشل. لأن الحلّ الوحيد، الجِدِّي والثوري، يَـقْتَضِي الانطلاق من ‏أحزاب اليسار كما هي حاليًّا في الواقع، ويَسْتَوْجِبُ تـقيِيم وَتـقوِيم ‏وَتَثْوِير هذه الأحزاب، وليس تجاهلها، أو تجاوزها. [وعندما يكون ‏الابن مُتَّسِخًا وفَاشِلًا، لَا يَكْمُنُ الحلّ في رميه في المزبلة، وإنتاج اِبن ‏آخر، وإنّما يَكْمن الحلّ في تنظيف هذا الابن، وإعادة تربيته]. ‏
‏3)‏‎ ‎في دَعوة محمد السّاسي إلى «تأسيس حزب يساري جديد»، ‏لا تُوجد اقتراحات، أو إجراءات، أو مناهج، تَضْمَن بأن يكون هذا ‏‏«الحزب اليساري الجديد» خَالِيًّا من مشاكل أحزاب اليسار الحَالية ‏أو القديمة. وعليه، فالاحتمال الأكبر، هو أن هذا «الحزب اليساري ‏الجديد»، سَيُعِيدُ إِنْتَاجَ مشاكل اليسار القديمة، دون أن يقدر على ‏مُعالجتها.‏
‏4)‏‎ ‎كان محمد السّاسي عضوًا في قيّادة "الحزب الاشتراكي ‏الموحّد"، خلال أكثر من عِقْدَين. وحسب علمي، لم يسبـق لمحمد ‏الساسي أن أنتج تَشْخِيصًا مَوضُوعيًّا، ودقيقا، ومُقْنِعًا، ومَـقْبُولًا، ‏لمشاكل اليسار الحقيقية. ومن المُستبعد أن يقدر مَن لَا يتوفّر على ‏تشخيص سَلِيم، ودقيق، ومُقْنِع، لِمشاكل اليسار، أن ينتج عِلاجًا ‏مُلائمًا، وفعّالًا، لهذه المشاكل. ‏
‏5)‏‎ ‎لم يُوضِّح محمد الساسي، بما فيه الكفاية: ما هو نوع الخط ‏السياسي الذي يُريده ‏لهذا الحزب «الخَامِس» اليساري الجديد؟ وما ‏هي نوعية الأعضاء المُرشّحين للعضوية في ‏هذا «الحزب اليساري ‏الجديد»؟ وما هي المرجعية الفكرية لهذا الحزب؟ كما لم يوضّح ‏الساسي كيف ستكون مَهَام هذا الحزب الجديد، ومُمَارَساته، ‏وأساليبه، وتَكْتِيكَاته، وتحالفاته، وأهدافه الاستراتيجية، ألى آخره. ‏
‏6)‏‎ ‎‏لم يحدّد محمد الساسي شُروط العضوية في «الحزب ‏اليساري الجديد». وما دام أصحاب مشروع ‏‏«تأسيس حزب يساري ‏جديد» لَا يَطلبون من الأشخاص المُرشّحين للعضوية في هذا الحزب ‏أن يَتَوَفُّروا ‏على خصال نضالية من مستوى عَالٍ، فهذا التسامح قد ‏يعنى أن أصحاب هذا المشروع مستعدّون لِمَنْحِ ‏العُضوية في هذا ‏‏«الحزب اليساري الجديد» لِأيّ شخص كان. لأن هدفهم ليس هو ‏‏«الجودة اليسارية» للحزب، وإنما ‏هدفهم هو «الضَّخَامَة العَدَدِيَة» ‏للحزب، بُغْيَةَ الفوز في الانتخابات البرلمانية والمحلية المُقبلة. ‏ومنح ‏العضوية في «الحزب اليساري الجديد» لأي شخص كان، ‏وبدون شروط صَارمة، سَيُحَوِّلُ هذا الحزب إلى ‏تَجَمُّع مائع، وفاتر، ‏وضعيف. ‏الشيء الذي يُفاقم مشاكل اليسار، ولا يُعالجها.‏
‏7)‏‎ ‎ومِنْ أين سيحصل محمد الساسي على أشخاص مُؤَهَّلِين ‏لكي يَكُونُوا أعضاء في «حزبه اليساري الجديد»؟ هل هؤلاء الأعضاء ‏سيأتون من أحزاب اليسار الأربعة القديمة؟ هذا الاعتـقاد غير ‏واقعي. هل سيأتون من "حزب الاتحاد الاشتراكي"؟ هذا غير ممكن. ‏ولماذا؟ لأن أعضاء كل حزب قديم يَتَشَبَّثُون بالوفاء لحزبهم الخاص ‏العَتِيد. وغايتنا كثوريّين، ليست هي إخراج مناضلين من حزبهم ‏القديم، وإدخالهم في حزب آخر، سواء كان هذا الحزب جديدا ‏أم ‏قديما. وإنما هدفنا هو أن نرفع مستوى الجودة النضالية ‏والثورية لكلّ المناضلين، حيثما كانوا موجودين. وَلِحَلّ مشكل ‏الحُصول على أعضاء جُدد في الحزب الجديد المُرتـقب، قال محمد ‏الساسي أنه يتمنى أن يلتحق بحزبه الجديد «أشخاص يأتون من ‏‏"المُجتمع المدني"، ومن الجمعيات، ومن "التنسيقيّات"، ومن رُوّاد ‏شبكة "الفِيسْبُوكْ" على الإِنْتِرْنِيت، إلى آخره». لكن محمد السّاسي ‏نَسِيَ أن هؤلاء الأشخاص (الذين ذكرهم) هم مواطنون عَادِيُّون، ‏وليسوا بالضرورة مناضلين تـقدُّميين، أو اشتراكيين، أو يساريّين، أو ‏ثوريين. ولَا يَصْلُحُون بالضّرورة لتكوين «حزب يساري جديد»، أي ‏لِتكوين حزب قادر على مُنافسة أحزاب اليسار الأربعة القديمة. ولم ‏يُوَضِّح محمد الساسي ما هو السِرُّ الذي سيدفع أشخاصًا اختاروا ‏العمل في «المُجتمع المدني»، وفي «الجمعيات»، إلى تغيير اختيارهم، ‏وإلى الالتحاق بِـ «الحزب اليساري الجديد». وعلى ما يظهر، لا يَهتمّ ‏محمد السّاسي بالمناضلين الثوريين. ربّما لأنه يهتمّ أكثر ‏بالأشخاص القادرين على التصويت في الانتخابات العامّة، وعلى ‏الإتيان بأصوات انتخابية إضافية تُساعد على الفوز بأكبر عدد ممكن ‏من المقاعد التَمْثِيلِيَّة (في البرلمان، وفي الجماعات المحلّية).‏
‏8)‏‎ ‎‏ طرح محمد الساسي مفهومًا «لليسار»، غير موضوعي، ‏وغير مقبول. لأن محمد الساسي دَعَى ضِمْنِيًّا إلى أن يكون «حزب ‏الاتحاد الاشتراكي» الحالي هو القُطْب الأساسي لِقِوَى اليسار ‏بالمغرب. بينما هذا الحزب أصبح، منذ عُقُود، حزبًا يمينيًا، وغيرَ ‏مبدئي، بل أصبح حزبًا انتهازيًا، ومُعاديًّا لنضالات الجماهير، ‏ومُعاديًّا للثورة المُجتمعية، ومُعاديًّا للاشتراكية. ولم تبـق على ‏العُموم في «حزب الاتحاد الاشتراكي» سوى أُطُر تُريد انتهاز فُرَص ‏الانتخابات العامّة، والوُصول إلى مناصب المسؤولية، ربّما بهدف ‏استغلال النفوذ، والتَسَلُّق الطبـقي، وَجَنْي الرِّيع، والامتيازات. ومثل ‏هؤلاء الأشخاص، ليسوا مناضلين، ولَا يساريِّين، ولَا اشْتِرَاكِيِّين، بل ‏هم جزء مِن خُصُوم الشعب.‏
‏9)‏‎ ‎ولا ننسى أن القمع والاضطهاد الذي سُلِّطَ على الطبـقة ‏العاملة، وعلى عامّة الكادحين، وعلى الكثير من المتظاهرين، ‏والمعارضين، والصحفيّين، خلال العُقُود الأخيرة، مُورِسَ من طرف ‏حُكومات كان يتواجد فيها وزراء أعضاء في «حزب الاتحاد ‏الاشتراكي»، وفي «حزب التـقدم والاشتراكية». فهذان الحزبان، ‏مثلهما مثل الأحزاب «المَخْزَنِيَة» الأخرى، ومثل الحزب الإسلامي ‏‏«حزب العدالة والتنمية»، كلّهم ساهموا في استغلال الشعب، وفي ‏خِدَاعِه، وفي قَمْعِه، وفي قَهْرِه، واضْطِهَادِه، فَأصبحوا جزءًا من بين ‏خُصُوم الشعب. ‏
‏10)‏‎ ‎توجد في الساحة السياسية بالمغرب قرابة أربعين ‏‏«حزبا». وهو عدد ضخم. ونجد ضمنها أربعة أحزاب يُمكن وصفها ‏بأنها «يسارية» [وهي "حزب الطليعة"، و"حزب الاشتراكي المُوَحَّد"، ‏و"حزب المُؤتمر الاتحادي"، و"حزب النهج"]. وهذه الأحزاب تَتَـفَاوَتُ ‏نِسبيًّا في خُطوطها السياسية، وفي مُمارساتها، وفي أساليبها، وفي ‏نوعية الأعضاء المتواجدين داخلها. وفي كلّ شهر، أو في كلّ سنة، ‏يكون عدد مُجمل المواطنين المُنخرطين فعلًا في هذه الأحزاب ‏عَدَدًا محدودًا، وَمُسْتـقرًّا. وفي الفترات العادية، لا يتطوّر هذا العدد ‏إلّا بِبُطْءٍ شديد. لكن في الفترات التاريخية السَّاخِنَة، أو الثورية، ‏يمكن لهذا العَدَد أن يتـغيّر بسرعة نسبية (بالزِّيَادَة أو النـقصَان). ‏وتخضع أَعْدَادُ أعضاء هذه الأحزاب بالضرورة إلى قانون «الأحواض ‏المَوْصُولَة» فيما بينها (‏les vases communicants‏). بمعنى أنه، في ‏كلّ فترة زَمانية وَجِيزة، لا يمكن لعدد أعضاء حزب مُحدّد أن ينمو ‏إذا لم ينـقص، في نفس الوقت، عدد الأعضاء في واحد أو أكثر من ‏الأحزاب الأخرى. وبالتّالي، فإن محمد السّاسي، الذي يدعو إلى ‏‏«تأسيس حزب يساري جديد»، يَـفْتَرِضُ ضِمْنِيًّا أن المواطنين ‏المغاربة يحتاجون إلى حزب يساري من نوع جديد (مُختلف عن ‏أحزاب اليسار الأربعة الحالية)، وذِي خطّ سياسي من نوع جديد، ‏وذِي مُمَارسة سياسية من نوع جديد. ويفترض أيضًا محمد ‏السّاسي أن أعضاء من أحزاب اليسار الأربعة القديمة سَيَنْتـقلُون ‏من حزبهم اليساري القديم إلى الانخراط في هذا «الحزب ‏اليساري الجديد». وهذا الطَّرْح غير مُثْبَت، وغير مضمون، وغير ‏مُؤَكَّد. وعدد أعضاء هذا «الحزب اليساري الجديد» (في حالة ‏النجاح في إنشاءه) سيكون بالضرورة مَنـقوصًا من أعداد أعضاء ‏الأحزاب اليسارية القديمة. بينما لا يُوجد بعدُ، في الواقع، مَا يُبَرِّرُ ‏انتـقال أعضاء من أحزاب اليسار الأربعة القديمة إلى هذا الحزب ‏اليساري «الخَامِس» الجديد. ‏
‏11)‏‎ ‎قال محمد السّاسي أثناء دعوته إلى «تأسيس حزب ‏يساري جديد» أن الخِلَافات والصّراعات السياسية الجارية فيما بين ‏مناضلي اليسار، حول قضايا استراتيجية، أو مُستـقبلية بعيدة، غير ‏مطروحة للتطبيق آنِيًّا، أو على المَدَى القريب، هي قضايا غير مُفيدة، ‏بل مَضْيَعَة للوقت. ومن الأحسن عدم طرح هذه القضايا ‏الاستراتيجية البعيدة، أو نـقاشها، أو الصراع حولها. وما يجب فعله ‏‏(حسب طرح الساسي)، هو أن نُحَدِّدَ في كل فترة زمانية قصيرة ‏المدى الأهدافَ المُبْتَغَاة، وأن نتّـفـق حولها، وأن نُحاول إنجازها. ‏وبعد الانتـقال إلى فترة زمانية وجيزة أخرى، نفعل نفس الشيء، ‏وهكذا دَوَالَيْك. ومعنى طَرح السّاسي هذا أنه لَا يُـفِيد أن يُدَقِّـق ‏الحزبُ الأهدافَ الاستراتيجية المشتركة، وأن يتأكّد من التوافـق ‏حولها، وإنما يجب على الحزب أن يحصر نـقاشاته في الأهداف ‏القصيرة المَدَى. وتُذَكِّرُنَا هذه الفكرة بِمَـقُولَة بِيرْنْشْتَايْن ‏‏(‏Bernstein‏)(‏3) : «الحَركة هي كلّ شيء، والهدف النهائي هو لَا ‏شيء»(‏4‏). وقد أدّت هذه المقولة إلى خَسَارَة كلّ من «الحركة» الآنِيَة، ‏و«الهدف النهائي». وينسى محمد الساسي الترابط العُضوي الموجود ‏بين الأهداف القصيرة الأمد، والأهداف الاستراتيجية البعيدة الأمد. ‏لأن الأهداف الاستراتيجية هي التي تُحَدِّد نَوْعِيَة التَكْتِيكَات ‏المطروحة للتنـفيذ على المدى القصير. والأساس المُمَيِّز لِأيّ ‏حزب، ليس هو أهدافه القصيرة المَدَى، وإنما هو أهدافه ‏الاستراتيجية. كما أن هذه الأهداف الاستراتيجية تُسَاهِمُ في تحديد ‏نَوعية النضالات المطروحة لِلتَنْـفِيذ على المدى القصير، وَتُحَدِّد ‏كذلك أشكالها، وأساليبها. ‏
‏12)‏‎ ‎أفكار محمد الساسي، واهتماماته، واقتراحاته، تَدُور أساسًا ‏حول «الانتخابات البرلمانية والمحلية»، رغم أنه يقول بأنه يهتمّ ‏أيضا بنضالات الجماهير. وبعض رفاق محمد الساسي يُعيبون عليه، ‏ومنذ سنوات، أنه لا يهتم في تَـفْكِيره، وبِـما فيه الكفاية، بِـ ‏‏«النضالات الجماهيرية المُشتركة»، وبِـ «الحِرَاكَات الشعبية» ‏وبالأهداف الثورية. ‏
‏13)‏‎ ‎هناك فرق كَيْفِي بين المشاكل التي يريد محمد الساسي ‏معالجتها بِواسطة «تأسيس حزب يساري جديد»، والمشاكل ‏الملموسة المطروحة على أرض الواقع، التي يتصارعُ معها مُنَاضِلُو ‏أحزاب اليسار الأربعة. فَمحمد الساسي مَهْوُوس بشيء رئيسي، هو ‏تهيئ الانتخابات العامّة، والفوز فيها بنصيب مُعتبر، والوصول إلى ‏تحمّل مسؤوليّات في الحُكومة. وهو طُموح مَطْلُوب، وَمَشْرُوع، لكنه ‏لا يكفي وحده. وليس هو الطُمُوح الأساسي. بينما يهتمّ مناضلو ‏أحزاب اليسار الأربعة بـقضايا أخرى، كثيرة، ومُعقّدة. مِنها مثلًا: ‏الانطلاق من واقع أحزاب اليسار الأربعة كما هي في الواقع، وابتكار ‏وتنفيذ الآلِيَات المُلائمة لِتـقوِيَة أحزاب اليسار، ورَفْع مُستوى الوعي ‏السياسي لدى الجماهير الشعبية الكادحة، وتَحْرِيضِهَا، وتَعْبِئَتِهَا، ‏وتنظيمها، وإنجاح نضالاتها الجماهيرية المُشتركة، وإنضاج شُروط ‏ثورتها المُجتمعية التحرّرية الشاملة. وقد لَا تَهُمُّ كثيرًا هذه المهام ‏محمد الساسي. ‏
‏14)‏‎ ‎مُعظم الأطر السياسية الموجودة في المُجتمع تُؤْمِنُ ‏بـقاعِدَة اِنْتِخَابِية مُطْلَقة. وَمَضْمُون هذه «القاعدة» هو أن الأحزاب ‏الوحيدة التي لها حُظوظ الفَوْز في الانتخابات العامّة (سواءً كانت ‏برلمانية، أم محلية)، هي فـقط الأحزاب «المُحافظة»، أو «الوَسَطِيَة»، ‏أو «اليَمِينِيَة». بينما الأحزاب «اليسارية»، أو «الثورية»، فإنها لا ‏تَتَوَفَّرُ على أية حُظوظ للنَّجَاح في هذه الانتخابات العامّة. هذا ما ‏تَـعْتـقدُه مُعظم الأطر السياسية. وهذه «القاعدة الانتخابية» لم تنزل ‏عَفْوِيًّا من السماء. وإنما النظام السياسي القائم هو الذي فرضها. ‏كيف ذلك؟ يعمل النظام الرأسمالي (والسياسي) القائم، بهدف ‏تَـكْـيِـيـف المُجتمع كُلِّه، وبشكل مُسْبـق، ومُتواصِل، بِواسطة صناعة ‏القانون، وَوَسَائِل الإعلام، وقانون الانتخابات، والأجهزة القمعية، ‏والأجهزة الأَيْدِيُّولُوجِيَة، والأجهزة الدّينية، والمُعتـقدات السّائدة في ‏المُجتمع، إلى آخره. ويهدف هذا التَـكْـيِـيـفْ للمُجتمع إلى تـقلِيل قِيمَة ‏الأفكار الثورية، وإلى منع القوى الثورية من الحصول على أيّ حظّ ‏في الفَوْز في الانتخابات العامّة. ويُخْضِعُ باستمرار النظامُ السياسي ‏القائم عُقولَ المواطنين (سواءً كانوا نَاخِبِين أم غير ناخبين)، ‏لِعَمَلِيَّات التَكْيِيف (‏manipulation‏)، والتَهْيِئَة (‏formatage‏). وبالتالي، ‏فإن مُجمل الأطر السياسية التي تطمح إلى تَسَلُّق المَرَاتِب ‏المُجتمعية، وإلى الوُصُول إلى مناصب المسؤولية في أجهزة ‏الدولة، أو التي تطمح إلى استغلال النُّـفُوذ، أو جَنْيِ الامتيازات، أو ‏قَطْف إمكانيات الاغتناء السَّريع، فإنها تختار دائمًا ومُباشرةً ‏الانخراط في الأحزاب «المُحافظة»، أو «اليمينية»، ولو كانت هذه ‏الأحزاب رَدِيئَة، أو مُنافـقة، أو فاسدة، أو مُتَخَلِّفَة، أو خائنة. ‏
‏15)‏‎ ‎إذا كان محمد الساسي قد اِخْتَارَ «تأسيس حزب يساري ‏جديد»، فإن الاحتمال الكبير هو أن هذا الحزب سيكون «وَسَطِيًّا»، ‏أو «مُحَافِظًا»، أو «يَمِينِيًا». ولماذا؟ رُبَّمَا لأن محمد الساسي يُدرك ‏جَيِّدًا أن أيّ حزب «يساري»، أو «ثوري»، لا يَمْتَلِك حُظُوظًا كَافِيَة ‏للفوز في الانتخابات العامّة. ورُبَّما لأن محمد الساسي أخذ يَبْتَـعِدُ ‏عن أحزاب اليسار القديمة. وربّما لأنه يعتبر هذه الأحزاب «يسارية»، ‏أو «ثورية»، أكثر من مِمَّا هو مُتَحَمَّل، أو أكثر مِمَّا تُوجِبُه «الوَاقِعِيَة». ‏وبشكل عام، فإن الأطر السياسية الوُصُولية تَهْرُبُ، أو تَنْـفُرُ، مِن كل ‏حزب لا يتوفّر على حظوظ كَافِيَة للفوز في الانتخابات العامة. بل ‏تَهرب الأطر الوصولية من هذه الأحزاب «اليسارية» كأنها مُصابة ‏بالطّاعون. ‏
‏16)‏‎ ‎يُمكن لمحمد السّاسي أن يُنْشِئَ حزبًا جديدًا، لكن هذا ‏الحزب سيبـقى بالضّرورة «صغيرًا»، و«إصلاحيًّا»، وَ«مُحافظًا»، وَذَا ‏تَوَجُّه «وَسَطِيّ»، أو «يَمِينيّ». ولن يقدر هذا الحزب الجديد على أن ‏يتميّز فعلًا بالقُوّة، وبالفعالية، وبالثوريًة. ‏
‏17)‏‎ ‎محمد السّاسي هو مِن بين المُدَافِعين المُتحمِّسِين عن ‏أُطْرُوحَة مَنْـع الطُمُوحات الشعبية، والنضالات الجماهيرية، من تَجَاوُز ‏‏«سَقْف المَلَكِيَة البرلمانية»، ومن تجاوز سقف الرأسمالية. وهذا ‏‏«التسقيف» يَكْبُتُ الطُمُوحات الشعبية، ويُكَبِّلُ الطَاقات الثورية، ‏لدى الجماهير الكادحة، بدلًا من تَعْبِئَتِها، وتَحْرِيضِهَا، وتشجيعها، ‏وتحريرها. ‏
‏18)‏‎ ‎يَدْعُو محمد السّاسي إلى النضال، وإلى التضحية، من أجل ‏تحقيق هدف دقيق، هو «المَلَكِيَة البرلمانية». ويغدو عنده السَّبِيل ‏لِتحقيق «الديموقراطية» هو إنجاز «المَلَكِيَة البرلمانية». وعلى ما ‏يظهر، لم يتساءل محمد السّاسي: مَنْ هو الطَرَف الذي سَيكون ‏المُسْتَـفِيد الأكبر من نظام «المَلَكِيَة البرلمانية»؟ هل سيكون الشعب ‏هو أوّل مُسْتَـفِيد من هذه «المَلكية البرلمانية»؟ ربّما يعتـقد محمد ‏الساسي أن نَزْع السلطات المُطلقة من الملك أثناء الانتـقال من ‏‏«المَلَكِيَة المُطلقة» إلى «المَلَكِيَة البرلمانية»، سَيُؤَدِّي آلِيًّا إلى انتـقال ‏هذه السُّلُطَات إلى مُنْتَخَبِي أحزاب اليسار المُتواجدين في البرلمان، ‏وفي الحكومة، إلى آخره. وهذا اعتـقاد خاطئ. لماذا؟ لأن الأفراد ‏المؤهّلين أكثر من غيرهم للاستحواذ على السُّلطات القديمة للملك، ‏سواءً من خلال الحُكومة، أم من خلال غيرها من مُؤَسَّـسَات الدولة، ‏هم أفراد الطبـقة البرجوازية الكبيرة. بل نرى منذ الآن أن عددًا من ‏أفراد الطبـقة البرجوازية الكبيرة، يَجْمَعُون بين الثَّرْوَة والسُّلْطَة، ‏ويستولون على مناصب في الجماعات المحلية، وفي البرلمان، وفي ‏الحكُومة، ويُسَخِّرُون بَاقِي مؤسّـسات الدولة لِخدمة مصالحهم ‏الخاصّة. ونرى منذ الآن أن نـقابة المُقاولين الكبار (‏CGEM‏)، ‏ونـقابة البَنْكِيِّين الكِبار (‏GPBM‏)، هم الذين يُـفْتُون على الحكومة مَا ‏ينبغي فعله، وما لَا يُجُوز فعله. وفي مجال الانتخابات العامّة، في ‏إطار «المَلَكِيَة البرلمانية»، مَن سيقدر على الترشّح للانتخابات ‏العامّة، وعلى تمويل حملاته الانتخابية، والفوز فيها؟ هل سيقدر ‏مناضلو أحزاب اليسار على منافسة، أو هزم، مُرَشَّحِي أحزاب ‏‏«المَخْزَن»، والمُقَاوِلِين، والوُصُولِيِّين، والانتهازيّين، والأثرياء ‏الفاسدين؟ أَلَيْسَت البرجوازية الكبيرة، الغَشَّاشَة والانتهازية، التي ‏ترفض حاليًّا المشاركة في أيّ نضال من أجل انتزاع «المَلَكِيَة ‏البرلمانية»، أليست هذه البرجوازية هي التي سَتَسْتَـفِيد أكثر من ‏غيرها، في حالة إذا مَا استطاع اليسار أن يفرض الانتـقال إلى هذه ‏‏«المَلَكِيَة البرلمانية»؟ ويظهر كأن السيد محمد الساسي نَسِي أنه، في ‏حالة إذا ما ضَحَّى اليسار من أجل فرض «المَلَكِية البرلمانية»، لن ‏يكون الشعب أو الطبـقات الكادحة هي من سَيَسْتَـفِيدُ من هذا النظام ‏السياسي الجديد، وإنما نفس «الأحزاب المَخْزَنِيَة»، ونفس «الأحزاب ‏الإدارية»، والأحزاب اليمينية، والفِئَات البرجوازية الكبيرة (وهي كلها ‏انْتِهَازِيَة وَمُفْتَرِسَة)، هي التي سَتُسَيْطِرُ على كلّ الانتخابات ‏المُستـقبلية، وهي التي سَتَـفُوزُ فيها، وهي التي سَتَسْتَـغِلُّ نظام ‏‏«المَلَكِيَة البرلمانية» الجديد، وهي التي سَتَسْتَـفِيدُ منه أكثر من ‏غيرها، لِإِدَامَة الرأسمالية التبعية للإمبريالية، ولِفَرْضِ استمرارية ‏الاستغلال الرأسمالي الفَاحِش، والرِّيع، والغِشّ، والاضطهاد، والقهر، ‏والاستبداد. ولماذا سَنَطْلُب من مناضلي اليسار أن يُناضلوا، وأن ‏يُضَحُّوا، من أجل تحقيق «المَلَكِيَة البرلمانية»؟ بينما نحن نعلم أن ‏البُرجوازية الكبيرة، والبرجوازية المتوسطة، هما اللّتَين سَتَسْتَـفِيدَان ‏من هذه «المَلَكِيَة البرلمانية». وحتى في البلدان الأوروبية التي توجد ‏فيها «مَلَكِيَة برلمانية»، مثل اِسْبَانْيَا، وهُولَنْدَا، وإِنْجَلْتْرَا، وبلجيكا، ‏إلى آخره، أَلَيْسَتْ البرجوازية الكبيرة المُفْتَرِسَة هي التي تـفرض ‏دِكْتَاتُورِيَتَهَا الطبـقية، واستغلالها الرأسمالي، وقِيَمَهَا السِّلْعِيَة، ‏وتصوّرها الاستهلاكي للمُجتمع؟ وهل استـفادت حقًّا قوى اليسار ‏الثوري مِن إمكانيات فِعْلِيَة وكَافية موجودة داخل البلدان التي ‏تَحَقَّـقَت فيها «المَلَكِية البرلمانية»؟ يظهر من خلال تَهْمِيش ‏واضطهاد القوى اليسارية الثورية في هذه البلدان أن الجواب هو لَا. ‏فلماذا إذن سَنُرَكِّزُ، أو سَنـقلِّص، نضالنا الاستراتيجي على هدف ‏إنشاء نظام «مَلَكِيَة برلمانية»، لن نَجْنِيَ منها أيّة فوائد استراتيجية ‏لصالح تحرّر الطبـقات الكَادحة والمُسْتَـغَلَّة؟ ومن ميزات اليسار ‏الثوري أنه «يُخضع النضال من أجل الإصلاحات، إلى النضال الثوري ‏من أجل الحرية والاشتراكية، مثلما يَخْضَع الجزء للكل»(‏5). ‏والمُشاركة في الانتخابات، أو النضال من داخل مؤسّـسات الدولة، ‏هو الجزء؛ بينما النضال من أجل التحرّر والاشتراكية هو الكُلُّ. ‏ويُوجب المنطق الثوري أن يخضع هذا الجزء، إلى هذا الكُلّ، وليس ‏العكس. ‏
‏19)‏‎ ‎ما هو الأكثر أهميةً: هل النضال الانتخابي (من خلال ‏المشاركة في الانتخابات العامّة، والنضال من داخل المؤسّـسات ‏التمثيلية)، أم النضال السياسي الثوري؟ أكيد أن النضال الانتخابي ‏يحظى بِأهميته. لكنه يبـقى ثانويا بالمقارنة مع النضال السياسي ‏الثوري. والإصلاحات التي يمكن انتزاعها من داخل المؤسّـسات ‏التَمْثِيلِيَة في الدولة تَبـقى دائمًا محدودة، أو شكلية. أمَّا النضال ‏السياسي الثوري، فَـيُمَارَسُ خُصوصًا من خلال: 1- الدِعَاية ‏السياسية الثورية؛ 2- كَشْف الفضائح السياسية؛ 3- تَعْبِئَة الجماهير ‏لاستنكار الفضائح السياسية؛ 4- ‏التحريض السياسي الثوري؛ ‏‏5- ‏حَثُّ الجماهير على الدفاع عن مصالحها الطبـقية. 6- تشجيع ‏الجماهير على تغيير المُجتمع، وعلى الطُمُوح إلى التحرّر ‏والاشتراكية. وَتُؤَكِّد التجارب استحالة إِيصال الوعي السياسي ‏الثوري إلى الطبـقات الكادحة، من داخل المؤسّـسات التمثيلية ‏‏(كالبرلمان والجماعات المحلية). ‏
‏20)‏‎ ‎مِن طبيعة النظام السياسي في المغرب أنه يُسخّر ‏إمكانات الدولة، أوّلًا وقبل كلّ ‏شيء، لتـقوية وإدامة نظام ملكي ‏يُهَيمن على كل شيء. وقد دخل هذا النظام في ‏تحالفات ‏استراتيجية وأمنية غير شفّافة، مع دول قوية، مثل ‏الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، ‏ومملكات الشرق الأوسط، مثل ‏السعودية والإمارات والأردن، إلى آخره. ومن المُستبعد أن يَـقْبَلَ ‏هذا ‏النظام السياسي بأن يتحوّل من نظام يُسيطر على كل السُّلط، ‏إلى نظام «مَلكية ‏برلمانية» لا يكتسب رئيس الدولة داخلها أية ‏سُلطة حَاسِمَة. وفي حالة إحساس هذا النظام السياسي بخطر فرض ‏هذا التغيير عليه، سَيَلْجَأُ إلى حُلفاءه المذكورين لِطَحْن مُعارضيه. ‏وليس صُدْفَةً أن تكون أجهزة مُخابرات أجنبية (أمريكية، فرنسية، ‏إسرائيلية، الخ) تنشط بحرّية داخل المغرب. فَمِن غير الواقعي ‏الاعتـقاد بسهولة إصلاح النظام ‏السياسي بالمغرب (عبر تحويله إلى ‏‏«مَلَكية برلمانية»)، بل يَـكْمُنُ الحَلّ الناجع في تثويره وتغييره. ‏
‏21)‏‎ ‎كانت قيادات أحزاب «فيديرالية اليسار» بالمغرب ‏مُنْهَمِكَة في التفكير في كيفية توحيد أحزاب اليسار الثلاثة في حزب ‏واحد. ثمّ دَعَى فجأةً محمد الساسي إلى «تأسيس حزب يساري ‏جديد». فَلماذا قام السّاسي بهذه الدّعوة المُفاجئة؟ لَا ندري. قال ‏البعض أن محمد الساسي أراد أن يتجاوب مع حاجة جديدة لَدَى ‏النظام السياسي القائم، الذي يَرْغَب في تجديد «المُمَثِّلِين ‏السياسيين» العاملين في المَشْهَد السياسي المتأزّم بالمغرب. وقال ‏البعض الآخر أن محمد الساسي أحسّ أن كثيرين من رفاقه في ‏حزبه لَا يتـّفـقون معه على تبنّي التوجّه السياسي الذي يُسَمَّى في ‏أروبّا الغربية بِـ «الاشتراكية الديموقراطية» (‏sociale démocratie‏). ‏وهذا التَوَجُّه تـقدّمي في مظهره، لكنه في جوهره رأسمالي، ومُحافظ. ‏وهو التوجّه الذي طُبـق في بعض بلدان أوروبا الغربية، منذ نهاية ‏‏«الحرب العالمية الثانية» في سنة 1945. ولم يُؤَدِّ هذا التوجّه ‏السياسي (الاشتراكي الديموقراطي) في بلدان أوروبا سوى إلى ‏اِسْتِلَاب (‏aliénation‏) الكادحين، وإلى تعميق الاستغلال الرأسمالي، ‏وإلى تعميق الفوارق الطبـقية، وإلى تثبيت الهيمنة السياسية ‏للبرجوازية الكبيرة الجَشِعَة. ‏
‏22)‏‎ ‎يتّـفـق جزء من أعضاء أحزاب «فِيديرالية اليسار» مع ‏محمد الساسي، وجزء منها يُعارضه. واندلاع أيّ صراع حادّ بين ‏هذين الاتجاهين حول إشكالية «تأسيس حزب يساري جديد» قد ‏يُضَيِّع جزءًا من طاقاتهما المحدودة، في قضية غير مُفيدة. وسيكون ‏أكثر إِفَادَةً تركيز البحث، والنـقاش، وحتى الصّراع، حول السُّبُل التي ‏تُساعد حَقيقةً على تـقوِيَة قِوَى اليسار، وتـقوِيمها، وتَثْوِيرِهَا(‏6‏). ‏
‏23)‏‎ ‎المُحَدِّد الأَسَاسِي لِآرَاء محمد الساسي هو موقعه الطبـقي ‏‏(‏situation de classe‏)، وليس عقله المُنَظِّر. وأُطْرُوحات محمد ‏السّاسي تنسجم أكثر مع طموحات البرجوازية الصغيرة, ‏والبرجوازية ‏المتوسطة، ولا تخدم بالضّرورة طُموحات الطبـقة العاملة ‏وعامّة الكادحين. ‏ونعرف من خلال دراسة تاريخ الصراع الطبـقي في ‏بلدان العالم، أن طبقة البرجوازية لا تـقدر على الإعلان المَكْشُوف ‏عن أهدافها المُجتمعية الحقيقية. لأن هذه الأهداف تتجلّى في تملّك ‏ثروات البلاد، وفي فرض هيمنة الاستغلال الرأسمالي. فتلجأ ‏البرجوازية إلى إخفاء نواياها السياسية خلف أهداف نظرية غامضة ‏مثل «الديموقراطية»، و«الحريات العامّة». وقد تدّعي البرجوازية أن ‏تحقيق هذه الأهداف المُغْرِيَة، يتطلّب، ليس ثورة مُجتمعية جذرية، ‏وإنما يحتاج فـقط إلى «ثورة هَادِئَة»، و«مَحْدُودَة»، و«مُسَـقَّـفَة»، ‏تَنْحَصِرُ في حدود «مَلَكِيَة برلمانية» رأسمالية، تنتـقل فيها السلطات ‏من المَلك إلى البرجوازية الصّاعدة. لكن إذا أحسّت البرجوازية أن ‏النضال من أجل هذه «المَلَكِيَة البرلمانية» قد يُهَدّد مصالحها ‏الأساسية، فإنها سَتُنَاصِرُ بِـقُوَّة «المَلَكِيَة المُطلقة». وحينما سَتُـقْدِمُ ‏الطبقة العاملة وعامّة الكادحين على الصّراع من أجل السّلطة، ‏والتحكّم في المصانع، وفي الإنتاج، سَيَتَـغَيَّرُ كل شيء(‏7).‏
‏24)‏‎ ‎‏ ليس محمد الساسي هو وحده الذي يعمل حاليًّا من أجل ‏‏«تأسيس حزب يساري جديد». بل يُوجد أيضًا أشخاص آخرون، ‏يعملون هم أيضًا، من أجل «إنشاء حزب يساري جديد». ومنهم ‏مثلًا مجموعة صغيرة تُسمّي نفسها «تنظيم اليسار المُتعدّد». كأن ‏اليسار المكوّن حاليًّا من أربعة أحزاب يساريًّة، بكل تنظيماته، ‏وتوجّهاته، وتياراته، وخطوطه السياسية المُتـفاوتة، ليس «متعدّدًا» ‏بما فيه الكفاية! ولا يعلمُ أحدٌ ما هي الأشياء التي تَتَوَفَّرُ في مثل هذا ‏التنظيم ولا تَتَوَفَّرُ في أحزاب اليسار القائمة حاليًّا. وإذا سمعتَ ‏خطاباتهم، أو قرأتَ مقالاتهم، فَإِنّك لَا تفهم مَا يَعْنُون. ويلتـقي هذا ‏التنظيم مع محمد الساسي في الإيمان بِـ «الثورة الهادئة»، وبِمَشروع ‏‏«الوصول إلى السُّلطة عبر الانتخابات». وقد سبـق لِكَارْل مَارْكْس أن ‏اِنْتـقدَ مثل هذه الأطروحات في كُتَيِّبه «نـقد برنامج جُوطَّا»(‏8‏). وتُوجد ‏تنظيمات أخرى صغيرة تَحْلُم، هي أيضًا، منذ أكثر من عشرين سنة، ‏بأنها «سَتَتَمَكَّنُ في مستـقبل قريب من بناء حزب يساري جديد» ‏خاصّ بها. وتتسابـق أحيانًا بعض هذه التنظيمات المُتَـعَدِّدَة إلى ‏المُطالبة بِعُضْوِيَّتها في «التنسيقيّات»، وفي «الاِئْتِلَافَات»، وفي ‏‏«الجبهات»، الخ. وتُطالب بِنَصِيبِهَا في اقتسام الكَراسي القِيَادِيَة في ‏إطار قِسْمَة المُحَاصَصَة المُمْكِنَة فيما بين الهيئات السياسية. وحتّى ‏بعض الجماعات، المُكَوَّنَة من بضعة أصدقاء قُدَامَى، تـقدِّمُ نفسها ‏على أنها تُشكّل «تنظيما سياسيا يساريا». فهل يُعقل أن نـقبل ‏التعامل مع أيّة جماعة من الأصدقاء باعتبارها تُشَكِّلُ «حزبًا ‏سياسيا»، أو «تنظيمًا ثوريا»، أو «تِيَّارًا سياسيًّا»؟ هذا عَبَث غير ‏معقول. بينما لا تتوفر هذه «التنظيمات» المزعومة على خط سياسي ‏مُتميّز، ولا على مؤتمرات دورية، ولا على هيكلة تنظيمية على ‏صعيد وطني، ولا على وثائق نظرية تأسيسية، ولا على أُطْرُوحَات ‏سياسية مُخالفة، ولا على مشروع سياسي مُغاير. ولا على ممارسة ‏نضالية دَالَّة أو وَازِنَة، إلى آخره. وفي معظم الحالات، لَا يوجد وراء ‏هذه المشاريع الرَّامية إلى «تأسيس حزب يساري جديد» سوى أفراد ‏يَطْمَحُون إلى بناء «زَعَامَتِهِم» الشخصية. ويستعملون أحيانًا ‏سُلُوكِيَّات غير مبدئية لِتَحْـقِيق طُمُوحاتهم «الزَّعَامِيَة». ويستـغلّ ‏بعضهم في ذلك نفوذه المهني، أو يحوّل العلاقات المهنية إلى ‏علاقات سياسية. بينما في أوضاع اليسار الحالية، المُتميِّزَة ‏بالضُّعف، أو الارتباك، أو التَأَزُّم، سيكون من العبث التفكير في ‏‏«تأسيس حزب يساري جديد». لماذا؟ لأن تأسيس أحزاب يسارية ‏جديدة غير قادر على الإتيان بأشياء جديدة. ولأن كل محاولة ‏لتأسيس حزب يساري خَامِس أو سَادِس أو سَابِع، سَتُؤَدّي إلى ‏تكرار، أو إلى إعادة إنتاج، نفس المشاكل التي تُعِيقُ حاليًّا أحزاب ‏اليسار الأربعة القديمة القائمة. بينما الحَلّ المطلوب هو الانطلاق ‏من الواقع الحَالِي لِقِوَى اليسار، وخوض ثورة ثقافية مُتواصلة، ‏والعمل من أجل إنجاز مَهَامّ تَـقْيِيم، وَتَـقْوِيم، وتَثْوِير(‏9‏)، قِوَى ‏اليَسَار. ‏
‏25)‏‎ ‎وإذا كان كل هؤلاء المناضلين صادقين، وَمَبْدْئِـيِّين، فلماذا ‏لا يلتزمون بالتَوَاضُع، وبِالتَعَاوُن، وَبِالتَكَامُل؟ ‏
رحمان النوضة (10 مارس 2020).‏
الــهــوامــش :
‎ ‎‏(1) تُوجد دعوة محمد الساسي إلى "تأسيس حزب سياسي جديد"، في هذا الفيديو على موقع "يوتيوب": ‏https://www.youtube.com/watch?v=wBFX75hSgqo‏.‏
‎ ‎‏(2) نفس المرجع المذكور أعلاه (‏https://www.youtube.com/watch?v=wBFX75hSgqo‏).‏
(3) ‏ إِدْوَارْدْ بِيرْنْشْتَايْن (‏Eduard Bernstein‏)، 1850-1932، منظّر اشتراكي ألماني، كان عضوًا في "الحزب ‏الاشتراكي الديموقراطي لألمانيا.‏‎ ‎
‏(4) ذكر لِينين هذه المقولة في كتابه "ما العمل؟"، [‏Vladimir Lénine, œuvres, Tome 5, Que faire?, Editions ‎Sociales, Paris, Editions du progrès, Moscou, 1976, p.413.‎‏]. ‏‎ ‎
(5) ‎ ‎‏ ‏Vladimir Lénine, œuvres, Tome 5, Que faire?, Editions Sociales, Paris, Editions du progrès, ‎Moscou, 1976, p.441..‏
(6) ‎ ‎‏ أنظر مقال رحمان النوضة: "كيف نـقوِّي اليسار؟" ‏‏(‏https://livreschauds.wordpress.com/2020/01/04‎‏/كيف نـقوّي اليسار ؟). وانظر كذلك: محاضرة رحمان ‏النوضة تحت عنوان "آليّات تـقوية اليسار"، بتاريخ 8 مارس 2020.‏
(8) ‏ المصدر: [‏https://les7duquebec.net/archives/251738Anton Pannekoek, "sur la religion", ‎‏].‏‎ ‎
(9) ‎ ‎‏ ‏Karl Marx, Critique du programme de Gotha, (ou critique du programme du Parti Ouvrier ‎Allemand), écrit en 1875.‎


.‎



#عبد_الرحمان_النوضة (هاشتاغ)       Rahman_Nouda#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نَقد الحركات الأَمَازِيغِيَة
- بَلَادَتُنَا المُشتركة
- كَيْف نُقَوِّي اليَسَار؟
- هل نَقد الأَحْكَام القَضائية جريمة؟
- التركيبة الطبقية للتنظيمات الإسلامية
- هشاشة التنظيمات الإسلامية
- رِهانَ بعض اليساريين على الإسلاميين انحراف
- كيف التَعامل بين اليساريين والإسلاميين؟
- مَزْحَة لَا تُصَدَّقْ: الإسلام هو الحل!؟
- هل يُمكن لحزب إسلامي أن يُصبح دِيمُوقْرَاطِيًا أو ثوريًّا؟
- أَلَا يُعَادِي الإسلاميّون اليساريين؟
- هل التناقض بين اليساريين والإسلاميين رئيسي أم ثانوي؟
- لَا يَدْعُو لِلتَّحَالُف بين اليساريين والإسلاميين سِوَى من ...
- سُوءُ تَفَاهُم سياسي مُدْهِش
- نقد تعاون اليسار مع الإسلاميين
- أين وصلنا؟ وإلى أين نسير؟
- الحَلّ هو فَصْل الدّين عن الدولة
- هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات ...
- نقد شعار ”المَلَكِيَة البَرْلَمَانِيَة“
- كل الجماعات الإسلامية خطر على الشعب


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟... / محمد الحنفي
- عندما نراهن على إقناع المقتنع..... / محمد الحنفي
- في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة / عبد الرحمان النوضة
- هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟... / محمد الحنفي
- حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك ... / سعيد العليمى
- نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس ... / سعيد العليمى
- نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقواعد العمل السرى فى ظل الدولة ال ... / سعيد العليمى
- نِقَاش وَثِيقة اليَسار الإلِكْتْرُونِي / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - عبد الرحمان النوضة - نَقد الدعوة إلى إنشاء حزب يساري جديد