|
أمراض الفيسبوك
الهيموت عبدالسلام
الحوار المتمدن-العدد: 6514 - 2020 / 3 / 14 - 02:55
المحور:
الصحافة والاعلام
1/ الذات الكمية:المرض الأكبر من الطبيعي أن تطغى في عصر الرأسمالية المتوحشة الفردانيةُ والذاتية والرقمية والتقييم والبيانات والتبضع والاستهلاك والصورة والفرجة وحب الظهور وغيرها إلى أن جاء الفيسبوك ليُوطد عملية تقدير الذات وتقييمها وتسليعها وتسويقها ،وتحولت الروابط الاجتماعية المباشرة والواقعية إلى روابط افتراضية ومصطنعة إذ أصبح الفرد يقيس نفسه و يُقيم ذاته كَميا بعدد الإعجابات التي يحصل عليها ،هذا الهوس بالقياسات الكمية للذات ليس مجاله فقط فضاءات التواصل الاجتماعي بل كذلك المقاولات والشركات وحتى المؤسسات العمومية التي أضحت تتعامل مع الإنسان كأداة لإنتاج الأرقام والتي جعلت العامل والموظف والمستخدم يقضي حياته في تقييم نفسه وفقا للمعايير الكمية ، تقول الكاتبة " بينيديكت فيدايي" في مقالها الشهير " قيٌمني " إن الهوس بالذات جعل الفرد يقيس نبضات القلب ومستوى ارتفاع الكوليستيرول في الدم وعدد الخطوات أثناء عملية الركض بفضل الأساور الرقمية ويقول الفيلسوف"كارلو سترينجر" في كتابه " الخوف من عدم الأهمية " إن خوفنا من عدم إثارة اهتمام الآخرين قد يدفع البعض للجنون أو الانتحار إذْ شهدنا في عصر الإنترنيت والفيسبوك ما يُعرف بمحفظة الأنا العالمية حيث تصبح ذواتنا مثل الأسهم في بورصة "وول ستريت" ترتفع قيمتها وتنخفض في اليوم الواحد وربما في الساعة الواحدة ، أصبحت ذواتنا ترتفع قيمتها وفقا لعدد النقرات وللتعليقات والآراء المؤيدة، وتكتئب مع قلة النقرات والإعجابات مما يولد معه المرضَ الذي يسميه "كارلو سترينجر" الخوف من عدم الأهمية أو عدم اعتراف الآخرين بنا. ربما يعود هوس التقييم للذات بسبب الجراح النرجسية والآمال المجهضة ومحاولة التنفيس السيكولوجي عن دوامة المعاناة والآلام التي جلبتها الرأسمالية المتوحشة ،وربما يعود هذا الهوس لهشاشة الحياة المعاصرة ولسيادة الهرمية والاستبداد ولانحسار المعايير الإنسانية الحقيقية كالتضامن والتواصل والحياة الجماعية . إن الانتصارات الرقمية المصطنعة هي واقعٌ اليوم فالمراهقون والمشاهير ورؤساء الدول يعرضون ذواتهم على شبكة الإنترنيت طمعا في جلب الإعحابات والثناء بل وهناك من وصل به الهوس لِيحصد أكبر عدد من الإعجابات وذلك بأن يشتري الأتباع للنقر كما فعلت الوزيرة الفرنسية السابقة "نادين مورانو" . قد وصل أمر الهوس الكمي بالذات والبحث عن الاعتراف الاجتماعي أن يصطنع مستخدِم الفيسبوك واقعا ورديا جميلا غير الواقع الذي يعيشه استجداءً لأكبر عدد من الإعجابات، ويضع المستخدِم صورا في أماكن لم يسبق له أن زارها ،ويأخذ صورا مع وجبات باذخة ومع شخصيات شهيرة بل ويتعرى ويعرض خصوصياته فتصبح صوره على مائدة الأكل وفي سرير النوم وأماكن الاستجمام وحفلات الرقص والتصدق والتبضع والحج والصلاة ومراسيم الدفن والمَعارض والاجتماعات وزيارة المرضى... إذ لم تعد هناك حدود ما بين الحياة الخاصة والحياة العامة . نحن بالتعريف تقول "" بينيديكت فيدايي" "كائنات هائمة ،فاقدة للثقة بنفسها ، هناك جوانب مظلمة في أنفسنا نحاول الهرب منها ،والتقييم الذاتي الكمي يسمح لنا بالهروب من هذا الغموض الوجودي"، أما الفيلسوف الفرنسي "باسكال بروكنر" فيرى أن التقييم للذات عبرالأرقام تشكل بلسما وعزاء للذات ،وتُشعر الشخص بطمأنينة كمن سجل هدفا كرويا،كما قد تعود جذور ذلك عند الإنسان في العصور الوسطى الذي طالما ربط دخوله للجنة بعدد الحسنات على حساب عدد السيئات، إن الانشغال بالأنا الكمية ناتج كذلك عن تلوث الحياة الفردية بواسطة البحث المحموم عن الربح إذ أصبح إنسان اليوم شركةً صغيرة تُختزل في رسوم بيانية تتضمن نسبة الكحول في جسمه وعدد ساعات نومه وعاداته وكل ما من يضمن للشركة الزيادة في إنتاجيته . 2/ الفايسبوك شركة للأمراض كذلك يوفر الاتصال الرقمي إمكانيات كبيرة لتلبية العديد من الاحتياجات الوجودية والنرجسية والاجتماعية التي يصعب تحقيقها في الحياة الواقعية وغالباً ما يتم تحقيق هذه الحاجيات الافتراضية بشكل تُولد تضخما في الأنا الفردية ، ومن ناحية أخرى تولد هذه الحاجيات حاجيات أخرى جديدة حتى تغذي جوع النرجسية أكثر فأكثر والتي يكون المراهقون والشباب والمشاهير أكثر من غيرهم في الحاجة إلى الشعبية والاعتراف الاجتماعي وغالبا ما يتحول الانحسار في الشعبية والاعتراف إلى إحباط واكتئاب. أن يقضي المراهق الكثيرَ من الوقت في الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي فهولا يعتبر مشكلا على الفور كما يرى الباحثون في هذا المجال ولكن أن تتحول متعة التواصل إلى قيد ويصبح المرء غير قادر عن الاستغناء عن الفيسبوك ويفقد بالتالي معه حرية التصرف بل ويصبح حاجة يومية حياتية ينام الشخص ويستيقظ عليها عندها يدخل المراهق وغير المراهق كذلك دائرة الإدمان بكل تداعياته النفسية والمرضية. أفادت دراسة أن أكثر من نصف الأشخاص قلقون من فقدان هواتفهم الذكية ، قلقون من أن يضطروا على إيقاف تشغيله ، قلقون من عدم القدرة على استخدامه إما بسبب ضعف تغطية الشبكة أو بطارية ضعيفة ، إضافة إلى ذلك تقول نفس الدراسة أن 42٪ من المراهقين إنهم يشعرون بأنهم سيتحطمون إذا ما اضطروا إلى مغادرة منازلهم لعدة أيام دون هواتفهم، هذا القلق هو أصل ظهور اضطراب جديد متعلق بالهواتف الذكية اسمه الرهاب المتنقل للهواتف الذكية . ويتفق الكثير من الباحثين النفسيين على أن إدمان الفيسبوك لا يقل خطورة عن تناول المخدرات القوية والإفراط في شرب الخمر ولعِب القمار إذ يعتقد المدمنون أن فضاء الشبكات الاجتماعية هي مجالات للمقارنة الاجتماعية إذ يميل الكثير للاعتقاد بأن الآخرين الذين يستعرضون صورا عن حياتهم اليومية هم أكثر سعادة منهم وأكثر استمتاعا بالحياة. وغالبا ما يكون لدى المدمنين على شبكات التواصل الاجتماعي خوفٌ من فقدان شيء ما إذ يخشون أن يكون للآخرين تجارب غنية ومتنوعة ويولد هذا الخوف مزاجا سلبيا وضعفَ الإقبال على الحياة وأعراض الاكتئاب ، وتصبح الإعجابات والتغريدات والتقاسم من علامات الاعتراف الاجتماعي بهم وعُملة حقيقية للتبادل العاطفي. إضافة إلى ذلك يصل الأمر إلى أن الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي يرتبط بأمراض الهلوسة المسموعة وإشارات الأشباح التي تأتي من الهاتف الذكي ، وتَوَهم تلقيهم لمكالمات ورسائل ، وتحصل هذه الاضطرابات للأشخاص الذين يسعون لشعبية كبيرة حيث يعتبرون أدنى إشارة من الهاتف الذكي مؤشرا على درجة الشعبية والاعتراف الاجتماعي . لا يجادل أحد في أن التواصل والالتقاء بالآخر من أعظم الملذات الإنسانية ولكن مع التواصل الرقمي وطغيان الفردانية وتسليع الإنسان وتشييئه أصبح التواصل الافتراضي يملأ فراغا وجوديا ويرمم ذاتا منكسرة محبطة في الحياة الاجتماعية الحقيقية فقط ولا جديد بالمقابل التأكيد على أن الذين يعيشون حياة اجتماعية واقعية يكونون أقل إنفاقا لوقتهم في شبكات التواصل الاجتماعي أظهرت دراسة حديثة حول تأثير شبكات التواصل الاجتماعي والسلوك الفردي أن الفيسبوك يشتغل بمفهوم نظام مكافآت الدماغ والتي تسمى " النواة المتكئة " إذ يتأثر نظام المكافآت الأربعة هذا بالطعام والنشاط الجنسي وجمع المال والبحث عن القبول الاجتماعي ، في نفس السياق كشفت دراسة في جامعة شيكاغو لصاحبها "ويلهيم هوفمان" أن الرغبة الجاذبة للفيسبوك أصبحت أكثر من الرغبة الجاذبة للسجائر وأكثر من الرغبة في ممارسة الجنس والتي هي رغبة غريزية بيولوجية.
3/اللباس لا يصنع راهبا حين تنتصر الصورة على الفكرة وتطغى الفرجة على الإبداع وتٌغطي البلطجة على الحوار وتسود الغريزة على العقل ويقيس الشخص قيمته بعدد الأصدقاء الافتراضيين والأرقام والتعليقات والإعجابات في شبكة افتراضية يحاول فيها الكثير اصطناع الفرح واصطناع السعادة واصطناع الإبداع واصطناع النضال واصطناع الوعظ فاعلم أننا أصبنا بمرض اسمُه الفيسبوك ويسميه البعض الآخر بالتمظهر الرقمي تقول المحللة النفسية الكندية "خوسيه موريل سينك مارس" في كتابها "جانب من شخصيتي " إن المجتمع الرأسمالي لايعطينا سوى الانطباعات ، انطباعات افتراضية عن ذواتنا القوية والمسيطرة والأسطورية والمقبولة والبطلة " ويقول البروفيسور"سير سايمون ويسلي" رئيس الكلية الملَكية للأطباء النفسيين:"أنا متأكد من أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا في التعاسة لكن لها العديد من الفوائد ونحتاج إلى تعليم الأطفال كيفية التعامل مع الجوانب السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي لإعدادهم لعالم رقمي مطرد " لا خلاف إذن في أن الفيسبوك وفر فضاء واسعا للتواصل الاجتماعي وسوقا للأفكار والنظريات والمدارس الفكرية ووفر الملايير من المعلومات في جميع المجالات كما شكل أداة تعبوية لنضال الشعوب ضد الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية والعشائرية والطائفية ولكن جلب معه العديد من أمراض الكراهية والتوحد الرقمي والاكتئاب وهوس الذات والحسد والغيرة والبلطجة والعدوانية والاحتقار والقبلية والشوفينية ... هل الفيسبوك كما يرى العديد من الباحثين مجرد مرآة تعكس كل ما يعتمل داخل المجتمع الإنساني من أمراض وتوجهات وحساسيات وتطلعات ونزعات ومزاجات الشعوب والأفراد؟ وهل سيظل منصة عالمية للتواصل وحرية الرأي والتعبير والإبداع أم أصبح جهازا إيديولوجيا للرأسمالية المتوحشة لتنميط الأذواق والأفكار والتوجهات وكل أشكال الحياة والعيش بدليل حجب وإبعاد العديد من الآراء والأقلام المستقلة واليسارية والقومية مقابل السماح لأقلام وآراء اليمين المتطرف في نشر ما يريد.
#الهيموت_عبدالسلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وباء كورونا أم وباء الفقر؟
-
أمبراطورية الفايسبوك : معطيات إحصائية
-
لعب الكبار
-
حول جرائم البنوك
-
التفاهة المغربية
-
لدعاة التطبيع
-
من المسؤول عن تهديد الكرة الأرضية بالزوال : النظام الرأسمالي
...
-
إحصائيات حول الإرهاب والعنف والكراهية والاندماج والتعايش...
...
-
حول سيكولوجية الجماهير
-
عندما يسقط ديكتاتور يُغلَق بنكٌ في سويسرا
-
الأساتذة المتعاقدون والفئوية ورهان الشارع
-
المجرم قوة إنتاجية
-
النظام الأمريكي وكرونولوجيا تدخلاته العسكرية في العالم
-
نظام التفاهة
-
قراءة في كتاب -الجوع في العالم كما شرحتُُه لابني- لمؤلفه -جا
...
-
تجار الفتاوي
-
الحسين بن علي :الشجرة التي تخفي الغابة
-
المقاطعة عبر التاريخ السياسي المغربي
-
واتِّحاداااااه
-
حول انسحاب أمريكا من مجلس حقوق الإنسان
المزيد.....
-
عراك في -أول اجتماع للحكومة السورية الجديدة-.. ما حقيقة الفي
...
-
شاهد اكتشاف مقر لصناعة الكبتاغون في وحدة عسكرية تابعة لشقيق
...
-
في استئناف أهالي -سيدي براني- ضد سجنهم… -الجنايات المستأنفة-
...
-
ماذا نعرف عن هضبة الجولان المحتلة وما أهميتها الاستراتيجية؟
...
-
مسلحون من المعارضة يحرقون ضريح الرئيس السوري السابق حافظ الأ
...
-
تداعيات زلزل سقوط الأسد على إيران داخليا وخارجيا
-
الدفاع الروسية: قوات كييف تستهدف مطارا عسكريا في روستوف بصوا
...
-
الجيش الإسرائيلي يرسل تعزيزات إلى القنيطرة السورية ويرفع أعل
...
-
غوتيريش يؤمن بقدرة الشعب السوري على تحديد مصيره
-
موسكو: نحن على اتصال مع القوى بسوريا
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|