أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - مسرح اللامعقول:في انتظار غودو صموئيل بيكيت نموذجا















المزيد.....


مسرح اللامعقول:في انتظار غودو صموئيل بيكيت نموذجا


بلال سمير الصدّر

الحوار المتمدن-العدد: 6431 - 2019 / 12 / 7 - 23:53
المحور: الادب والفن
    


جملة على لسان استرجون في المسرحية:نجد دائما شيئا يا ديدي لنوحي لأنفسنا بأننا نعيش...ألا ترى

تتحرك الأحداث (بمنطقية) حيث تحمل صفة بنيوية تتابعية لما سيسمى لاحقا بالحرب العالمية الثانية،وبما أن هذا المنطق التراكمي يفتقد ألى منطق يبرره،فمن الصعب جدا قبوله أو اضفاء شرعية على تحركه المنطقي إذا أخضعناه للصفة الجمالية والاخلاق البشرية التي ينادى بها منذ ملايين السنين وقبل ظهور الديانات اصلا.
فهذا المعقول بذاته،هو غير معقول في اساسه،فإذا كانت الشخصيات البشرية في المسرح العالمي الحقيقي الواقعي تتحدث ضمن منطلق جمالي أخلاقي بينما تخفي في داخلها الحسية الحيوانية غير المحكومة أبدا بطابع الكبح الأخلاقي،فأي نوع من الحوار هنا سيصبح اشبه بالعبث.
وفي حالة اصطدام الفكرتين الرئيسيتن في الأعلى،وهو ليس اصطدام متناقضات-على أية حال-بل هو اصطدام منطق مع ما يفقد هذا المنطق تبريره عندها سيتحول العالم الى شيء أشبه بجنون مطلق.
مثل شخص مجنون يتحرك بهدف تطبيق فكره ويخالفها في داخله أو كالعربة التي تجرها قاطرتين كل واحدة منهما مخالفة لأتجاه الأخرى-فهو يتحدث مع الآخرين تارة ومع نفسه تارة أخرى ولكن بالنقيض هذه المرة،وسيكون الحوار عندها هو لمجرد الحديث غير المترابط لأنه يفتقد الى الأساس الاخلاقي الذي ينادي به بل ينكص الى فكرة داخلية في الانسان أكثر حقيقية وأكثر وحشية في نفس الوقت،وبذلك لابد ان يتحول الحوار الى شيء مقتضب لغاية تعبيرية ليس أكثر،أو يتحول الحوار الى ثرثرة صاخبة تفتقد الى العقلانية أو الهدف-كلعبة السورياليين تماما-عابثة لاتعبر عن اي شيء وتصبح اللغة مجرد فعل عابث غير مفهوم.
ونتوصل الى نتيجة أن مسرح اللامعقول أو العبث هو طريقة أخرى للتعبير عن مفاهيم الفلسفة الوجودية معتبرة أن اللاوعي الانساني اكثر صدقا من الوعي نفسه،اذا كان الانسان يرفض الاعتراف بلاوعيه وفي نفس الوقت يدرك مصداقيته كمحرك أخلاقي للفعل الانساني المنادي بالوعي الاخلاقي-وهو في حقيقته غير اخلاقي-الظاهر النفاقي.
في مسرح اللامعقول الوعي هو مجرد تبرير لحياة الانسان وتصرفاته ولن نصل من خلاله الى نتيجه،فأما أن نقتضب الاحاديث لأن اللغة المعبرة عن الوعي هي مجرد فعل للتواصل فقط،ونحن غير مستعدين أصلا لأستخدامها للتعبير عن الحالة البشرية برمتها.
شخصية اللامعقول تصف الحالة البشرية بتحديد الوعي فقط دون الخوض في الاسباب ولافي النتائج،لأن الاسباب وما تقود اليه من نتائج هي مجرد توضيح للوعي الانساني الداخلي(اللاوعي) الذي لايرغب الانسان أصلا في التعبير عنه لذلك سيتحول الحوار الى مجرد ثرثرة غير متماسكة وغير متربطة ولاتعبر عن اي شيء،فالفعل البشري يوصلنا الى أن الآخرين هم الجحيم بشكل أو بشكل آخر.
على ان اللامعقول لايرتبط بلآخر فقط،بل يتعلق أيضا بالحياة نفسها،بحيث تشعر شخصية اللامعقول بالحس الوجودي المألوف عند الوجوديين الموصوف عند البير كامو بالعبث،من تكرار الحياة لنفسها ووعي الانسان بالزمن وشعوره باقتراب الموت الحتمي الذي بدروه-أي الموت-لايضفي على الحياة أي منطقية،وبالتالي تصبح الحياة بالنسبة اليه عبارة عن عبث،فحياة تنتهي بالموت فما الجدوى بأن نحياها أصلا.
وهذه الجملة الأخيرة وجدناها مكتوبة حرفيا في مسرحية (في انتظار غودو) من دون ان نتعمد أقتباسها.
هذا السؤال هو موضوعي واضح بالنسبة للامعقول،فالموت بالنسبة اليه ليس فظيعا ولامرعبا بل مفتقدا للمعنى بحد ذاته ويجعل الحياة الذي سبقته مجرد شيء أدعى للسخافة بحيث تكاد تكون مسرحيات اللامعقول اعمالا بلا شخصيات مسرحية بل مجرد شخصيات تعبأ فراغا في الحياة من دون أن يكون لها وجود بسبب النكوص وفقدان الأمل،كما أنها ترفض اللغة كوسيلة للتواصل مع الآخرين محتكمة الى الدليل التاريخي الاسود،بالاضافة الى تعاملها الشاذ الغريب مع عنصري الزمان والمكان ضمن المنطق المتعارف عليه،فالمكان على الغالب هو مكان واحد غير متغير،مثل القفر في مسرحية انتظار غودو بحيث يبدو المكان أيضا وكأنه لحظة وجودية تختصر حياة الانسان برمتها(هنا بدأنا وهنا سننتهي) وبالنسبة لعنصر الزمن،فالزمن دائما متوقف بحيث اطلق النقاد على مسرح اللامعقول بدراما الساعات المكسورة،وشخصيات مسرحية في انتظار غودو تبدو وكأنها تعيش في عالم متوقف الزمن...
لنعمد الى هذا الاقتباس من الدكتور يحيي البشتاوي(ازمة الانسان في أدب اللامعقول):
مما يجعله كمن يجوب عالما-اي شخصية مسرح اللامعقول-غير واقعي انعدم فيه الزمن وكأنه في حلم أو كابوس وهذا نابع من النظرة التشاؤمية من الحياة،إذ أن توقف الزمن يرتبط بحالة من السأم التي يعاني منها انسان هذا العصر في ظل توقف مسيرة الحياة نحو الطمأنينة والتقدم،هذا التوقف للزمن يشكل في حد ذاته مغايرة للواقع ومحاولة للوقوف في وجه مشيئة القدر.
الحقيقة الثابتة وهي ما ندعو اليه،وهي ايضا ما توصلنا اليه من دون أن نجد أحدا كان قد كتب ذلك سابقا:
فإذا كانت النظرة التشاؤمية والقلق لازمت كتاب اللامعقول،فمسرح اللامعقول ليس سوى طريقة أخرى للتعبير عن وجودية سارتر وكامو وكيركغارد وغيرهم من الوجوديين ومن الممكن بالنسبة لي ان انسب(صاموئيل بيكيت) تحديدا ومن ثم (اوجين أونسكو) الى التيار الوجودي مبتكرين طرق مسرحية عبرت واقتفت التعبير عن تشاؤمية الوجودية وانسان القرن العشرين بالذات،فلانقول عنهم بأنهم أكثر تشاؤمية،بل هم توصلوا الى ابتداع الطريقة التي ابتدعوها التي كانت-ربما اشد تكثيفا-لتوصيل شدة هذه التشاؤمية الى المتلقي ومن خلال المسرح،فبالتأكيد لو قرأنا في انتظار غودو وقارناها بالغثيان لوجدنا أن غودو هي أكثر تشاؤمية ليس بأفكارها بل لأنها أصبحت تلامس الحسية البشرية وليس مجرد فكرة تبعث التقزز أو اليأس في الانسان .
حسية اللامعقول...الفكرة أصبحت محسوسة أكثر عند المتلقي...تلامس شيئا من شعوره وليس مجرد جملة يقرأها بعينيه.
يتسائل بول شاؤول)في انتظار غودو نسخة دار الجمل ترجمة وتقديم بول شاؤول):
...والابعد من هذه الهواجس والكوابيس عند شكسبير مثلا-ورائحة ملوك شكسبير تفوح في شخصية هام نهاية اللعبة-فكما قلنا فاللامعقول هو وسيلة خارقة مبتدعة للتعبير عن عبثية تشاؤمية سابقة.
ونتابع من المقدمة المذكورة:
فأنه قبل كل شيء ليس مسرحا مطلقا،بمعنى أن يرتبط بمرحلة وبتاريخ وفي هذا الاطار يبدو هذا المسرح (تاريخا)يسجل حساسية ما وارهافا ما انقرض أو هو في طريقه الى الانقراض...
وخصوصا نصوص المسرحية التي لاتنتهي كي تبدا،او بالاحرى لاتبدأ كي تنتهي واذا بدأت فنهايتها فيها،واذا انتهت فبدايتها منقوصة...لهذا بالذات لاتتحرك مسرحياته او نصوصه من مكان الى مكان،أو من زمن ألى زمن تماما كالقصيدة.
فالاختلاف بين عمل مسرحي وعمل آخر ليس في التطور(بيكيت ينفي الزمن،أذ ينفي التطور) وليس في الطبيعة،انها في الدرجة أي في حدود المسافة المختلفة ازاء اللحظات الاخيرة.
مسرح بيكيت هو مسرح الوحدة،وحدة الانسان ازاء مصيره وقدريته،بل ويبد مستسلما لأنه لم يطرح الالتباس الوجودي كاشكالية فلسفية ولا كاشكالية سياسية ولا كاشكالية دينية،كأنما المسرح هو هروب من منطق الاشكالية،اعتراف بعجز الفكر والمنطق عن مواجهة هذا الالتباس واعتراف بعدم صلاحية هذه الادوات للتعامل معه....
لهذا فهناك عند بيكيت سلاح يكاد يكون وحيدا وهو الفكاهة،فالفكاهة والبؤس تتصلان اتصالا مصيريا.
هنا يجب علينا ان نطرح السؤال التالي:
كيف نعلق على مسرحية في انتظار غودو،وكيف نبدأ بالكلام عنها اذا كنا قادرين على تلخيصها في سطرين لا أكثر:شخصان غريبا الأطوار لانعرف عن ماضيهما أي شيء ينتظران شخص مجهول الهوية هو الآخر يدعى غودو،وفي خضم هذا الانتظار يلتقيان بشخص يدعى بوزو غريب الاطوار هو الآخر ويحاولان الانتحار ولايستطيعان والنهاية كما هي معروفة فغودو لن يحضر ابدا...
علينا أن نقتبس هذا الاقتباس الأخير من المقدمة المشار اليها قبل أن نبدأ:
....ونظن أن الشخصية الرئيسية والبطل في المسرحية هو الكلام...انفصل جويس عن بيكيت بحيث آمن الاول بامكانات اللغة غير المحدودة بينما آمن الثاني ايمانا صارما تاما بعقم اللغة ومن هنا نبدأ...
مسرحية في انتظار غودو هي ليست مسرحية بالمعنى المقبول للكلمة،فهي ليست كوميديا موقف بحيث ان الحدث المخلوق تصادفيا يخلق كوميديا عفوية أوتراجيديا متتابعة ذات مقدمة ونهاية وخاتمة وحدث مركزي،بل هي مسرحية تتعمد التهكم كتعظيم للتفاهة،متوقفة الزمن بقصد حصر الشخصية في لحظة ومكان وجودي لايمكن الفكاك منهما،وكأن التاريخ انتهى فعلا عند بيكيت بكل امكانياته...
فالجوهري هو ان التاريخ اي الاستمراية ليس من أي امل من خلالهما ان يقدمان أي حلول للمعضلة البشرية الكبرى فلماذا يستمر التاريخ من أساسه.
والجوهري ايضا انه لايمكن الانطلاق من أي حدث لأنه لن يقود الى شيء،فالحياة برمتها ليست إلا أحاديث لامعنى لها بين اناس لايؤمنون بالجوهر العبثي للقضية موضوع الحوار مهما كانت القضية كبيرة وكأن الحياة برمتها ليست سوى انتظارا.
فالاحاديث الهامشية محور المسرحية ليست الا تعبيرا عن الحياة برمتها،وغودو بالذات كلمة من الممكن تغليفها بكثير من التأويلات والمعاني منها المادية ومنها الميتافيزقية فالأمر مفتوح على مصراعيه،على أننا نرى فيها حتمية الانتظار على أمل لن يأتي أبدا وموضوع التأويل قادم على علاته.
كما يقول صاحب المقدمة:يؤسس بيكيت للضحكة العدمية،تلك التي تفتح فجوة على العدم والفراغ وعلى الموت الداخلي.
خلفيات المسرحية معدومة كأنها قادمة من العدم،والمسرحية تبدأ في لحظة وتنتهي في نفس اللحظة،فهي متوقفة تماما في لحظة لاشيء قبلها ولا شيء بعدها.
لقاء متكرر:
فلاديمير متألما ببرود:هل يمكن أن نعرف أين قضى حضرة السيد ليلته؟!
استرجون:في حفرة
فلاديمير:متعجبا،حفرة أين؟! ويتابع:ولم يضربوك؟!
استرجون:بلى،وبالتأكيد ضربوني...ولكن ليس كثيرا
فلاديمير:اياهم كالمعتاد؟
استرجون:اياهم...لا اعرف
هذا الحدث قادم من ماضي معروف لكلا الطرفين،على انه يبدو مجرد حدث عابر متصف بالتكرار،ولكن هذا لايدفعنا الى التساؤل لماذا نام بحفرة،ومن هم الذين ضربوه؟
الأمر مفتوح وهو يخص فقط مصطلحات الوجودية العدمية؟!
فربما خرج من حفرة الموت-الحل الابدي النهائي-على أمل وصول جودو الذي ينسى موضوع انتظاره طويلا،فهو يسأل فلاديمير لأكثر من مره:ماذا سنفعل؟ فيرد الأخير:نحن في انتظار غودو
وغودو بالنسبة الينا لن يكون سوى واحد
غودو هو الانتظار المحمل بالأمل ...الأمل بكل شيء قادم ...الوعود لمستقبل أفضل ...الوعود الالهية كافة من دون استثناء وبالتالي -ونحن نعرف وفقا للرؤية المطروحة ان هذه الوعود لن تتحقق-فغودو هو الموت اي اخر شكل من اشكال الانتظار...
في الحقيقة يضفي بيكيت شيئا من التشكيك في صحة الكتب الالهية حينما يعرج على قصة المصلوب مع السيد المسيح والذي فاز بالخلاص بأنها لم تذكر سوى في رواية واحدة من الاربعة على الرغم من ان الرواة الاربعة للأناجيل كانوا في نفس المكان وهذا بحد ذاته تشكيك في صحة انتظار مبني على تأويل ديني،وربما تكون هذه الخدعة مبنية على البشر انفسهم لأنهم اخذوا بالرواية المروية في انجيل واحد دون كل الاناجيل واعتبروها معتمدة لأنها مطابقة الى منطقهم العاطفي اكثر،هذا المنطق الذي قلنا عنه بأنه يفتقد الى منطق يبرره،وحين يشير –كما رأى بعض النقاد- بيكيت أن غودو هو الاله فهو يشير الى الخدعة التي فرضها البشر على انفسهم فهل من الممكن اعادة تشكيل المعرفة...أذا كان الجواب هو لا فجملة (انها الرواية الوحيدة التي يعرفها الناس)اشارة الى تفاهة المعرفة البشرية المتفق عليها برمتها قبل ان تكون اشارة الى تفاهة وسيلة المعرفة وبذلك يكون الحوار هو لتمضية الوقت ليس الا فالانتظار هو مصير البشرية جمعاء...لم يقصد بيكيت الذات الالهية بل الوعد الالهي المغلف بالأمل ورؤيته هي شاملة للدين ككل وليس ديانة واحدة بحد ذاتها.

اذا الانتظار ذا معنى شمولي كلي وهي حيلة الأمل المفروضة على البشر من جهة ميتافيزيقية،وليس ذلك فقط بل الحياة برمتها عبارة عن سلسلة غير منتهية من الانتظار العبثي وهي التي ستقود الى الموت بالتأكيد فترد مقدمة الموضوع الى نهايته:فحياة تنتهي بالموت فما الجدوى من حياتها أصلا
فسلسلة الانتظار لو كانت منطقية فهي ستقود الى حتمية لاغية للسلسة من اساسها ألا وهي الموت
إذا الشخصيات ذات خلفية تاريخية مرتبطة ولكنها معدومة،فاللحظة هامشية خارج مدار الزمن هي اهم لحظة في المسرحية برمتها،وكما قلنا فالمسرحية معدومة الزمن ولايعني تتابع الليل والنهار بالمسير الزمني بل كل ما يحدث هو خاص باللحظة..
ومن ثم ننطلق الى حدث آخر...خلع استرجون لحذائه الذي يسبب له الألم وهو ايضا ماضي متكرر معروف بينهما...يعلق فلاديمير بعد أن نجح استرجون في خلع حذائه:هذا هو الانسان يشكو من حذائه والعلة في قدمه
فلاديمير:ماذا لو ندمنا فلاديمير:أوه(يبحث عن الكلمة المناسبة)...ليس علينا ان ندخل في التفاصيل
استرجون على ماذا؟ استرجون:على أننا ولدنا
ينفجر فلاديمير في ضحكة طويلة ثم لايلبث ان يكتمها ضاغطا بيده على عانته ووجهه منقبض...
المسألة-كالعادة عند الوجوديين والتفكير الوجودي-التي تطل برأسها ألا وهي الخيار او الفخ الوجودي،فنحن لم نملك الخيار الوجودي ...لم نمتلك القدرة على الوجود أو على اللاوجود،فالمؤشر الوجودي يشير الى وجود معدوم الخيار ،أي وجود قسري وهذا تكرار لأفكار سارتر وميلان كونديرا...
لاريب أن صموئيل بيكيت عالق تماما بالمسألة الوجودية-شاء ذلك أم أبى-فصحيح تماما أن نفسر بيكيت بناءا على مصطلحات الوجودية فكلاهما أشترك في نفس المسألة وان اختلفت وسيلة التعبير.
في حوار آخر:
فلاديمير:هل قرأت التوراة...؟
استرجون:التوراة...يفكر..لابد أني ألقيت نظرة عليها
فلاديمير:بدهشة...في مدرسة الاله؟
استرجون:لا أذكر تماما أن كانت ب أو بدون اله
فلاديمير:لابد بأنك تخلط بينها وبين السجن...
هناك ماضي(السجن) ولكن ليس هناك ما يبرر الرجوع اليه،فالموضوع برمته يفرض الاستغناء عنه
ولكن:هل مسرحية جودو في صميمها مسرحية دينية؟
لو أراد الوجوديون أو بيكيت تحديدا أن يخضع للدين لوجد حلا لكل مسألته ضمن قوالب جاهزة،ولكن لم تذكر التوراة هنا إلا لتأكيد عقم الدين ومن قبله اللغة،فغودو هو شيء محسوس مادي حتى لو كان الموت،وهذه النتيجة تؤكد |أن غودو ليس الاله ابدا بل هو الاهمال أي عقم ديني من جهة أخرى هذه المرة،فغودو هو الموت بطابعه المادي المحسوس المغلف بالخلاص وليس الطابع الميتافيزيقي...هو الجواب على جملة فلاديمير المتكررة:ليس هناك من شيء يمكن فعله
الشنق....أو لنقل جزئية الصمت
فلاديمير:طيب,ولكن اثناء انتظارنا استرجون:ماذا لو نشنق أنفسنا
فلاديمير:قد يؤدي ذلك الى الانتشاء الانتشاء؟!
ف:مع كل ما ينتج عن ذلك؟ أذا فالنشنق أنفسنا حالا
تفشل المحاولة...في نهاية الحوار بعد الفشل:
فلاديمير:ما العمل إذا؟
استرجون:لاشيء
فلاديمير:فالننتظر ماذا سيقول لنا
استرجون :من؟
فلاديمير:جودو
استرجون:فكرة جيدة
فلاديمير:لننتظر حتى نعرف
ولكن لماذا تفشل محاولة الانتحار دائما؟
ستفشل المحاولة لأن الانتحار لن يقدم أي حل للبشرية سوى لشخص المنتحر...هكذا باختصار شديد
لاحقا يضفي استرجون الصفة البشرية على غودو ويخرجه من الحيز الميافيزيقي
وهكذا دواليك،بامكان ان نحل شيفرات المسرحية بالمصطلحات الوجودية وضمن التفكير الوجودي ولانجد في ذلك مجانبة للصواب،بل هي مجرد احتمالات لأحتمالات أخرى سبقتها وستلحقها أيضا
فهل من الداعي اذا ان نفسر جملة استرجون عندما يقول:نحن مقيدين؟
ولكن هناك سؤال مهم أيضا،من هما بوزو ولاكي؟
اللذان يظهران عرضيا في المسرحية مرتين،ولنلاحظ أن اسم بوزو مرادف لأسم غودو ايقاعيا حيث يظن استرجون ان بوزو هو غودو فقط لتشابه ايقاع الاسم وهذا ايضا دليل على ان استرجون لم يرى غودو لو مرة واحدة في حياته...هل علينا أن نبحث عن غائية في مسرحية عبثية من وجود بوزو ولاكي؟
بالتأكيد نعم
فبوزو هو السيد ولاكي هو العبد الذي يقوده بوزو بحبل ملتف حلو رقبته كالدابة تماما ويتلقى الأوامر بآلية مطلقة،ولاكي لايستطيع التفكير الا اذا لبس قبعته
يوحي المشهد ربمأ...ان بوزو هو الاله ولكن هذا ينتفي عندما يظهر أعمى ويطلب المساعده في المرة الثانية..
نعتقد أن بوزو هو السطوة...السطوة التاريخية،قد يكون هو سطوة الفكرة كالشيوعية مثلا،او سطوة بشرية كنابليون بونابرت أو هتلر،وبالتالي لابد لهذه السطوة من نكوص فيحضر بوزو في المرة الثانية مصابا بالعمى ...أي ان المسار التاريخي ليس ديالكتيك هيغل ولاصراع طبقات ماركس،بل ربما هو التاريخ من وجهة نظر ابن خلدون،أو ربما نيتشه بالعود الابدي
فالأمة لها عمر،والحضارة كذلك ومن ثم تبدا بالموت التاريخي،ففلاديمير واسترجون لايحاكمان التاريخ،بل يعاملان التاريخ بعبثية شديدة لأنه تاريخ موصوم بالتكرار سواء عند نيتشة أو عند غيره،وهما أصلا خارج حيز التاريخ أو التطور التاريخي في نقطة وجودية خارج نطاق الزمن...لايوجد طبعا أي احتكام لأي مسار تاريخي ولايوجد هناك أي مثل أعلى في التاريخ.
في الحقيقة كنا نرغب بالاطالة أكثر من ذلك،والهوامش التي كتبناها عن المسرحية تقريبا وصلت فقط الى النصف،ولكن بيكيت حكم بنفسه على هذا النص النقدي بالنهاية،لأننا سنقع في تكرار لاطائل من تحته،وسنؤطر الحوارات المقتضبة بنفس المصطلحات،فمسرح اللامعقول تقريبا انتهى بعد أن وصل الى ذروته التعبيرية عند اونسكو وبيكيت،وحتى لو قمنا بالكتابة عن نهاية اللعبة التي هي بالنسبة الينا افضل من غودو على ان هذا لايعني ان نجرد نص غودو من قيمته التاريخية،فنحن لن نكتب شيئا جديدا مختلف جذريا على الاقل مما كتبناه عن غودو.
نعم،لن يبقى لمسرح المعقول شيئا ليقوله خاصة بعد أن اطلق بيكيت عليه رصاصة الرحمة بعد أن اوصله الى ذروته التعبيرية في مسرحية دعيت ذات يوم بافضل مسرحية في القرن العشرين.
لااعتقد أن بيكيت استطاع ان ينتج شيئا اصطلاحيا خارج نطاق التاريخ وان عطل الزمن،فغودو هو الفردوس المفقود الذي كان ينشده الانسان منذ بداية الخليقة وله مسميات كثيرة عبر التاريخ ثقافة القارئ تغني عن ذكرها.
غودو:هو الفردوس المفقود،هل يخالفني أحدا في ذلك؟
اضافة:ميلان كونديرا يتماهى مع صموئيل بيكيت
في صفحة 19 من كتاب فن الرواية لكونديرا ننقل الفقرة التالية:
....يضعنا كافكا وكاسيك أمام هذه المفارقة الهائلة:كان العقل الديكارتي يقوض خلال حقبة الازمنة الحديثة كل القيم الموروثة عن القرون الوسطى،الواحدة تلو الأخرى،غير ان اللامعقول الخالص(أي لاتريد القوة سوى أرادتها) هو ما سوف يستحوذ لحظة الانتصار التام للعقل على احداث العالم،لانعدام اي منظومة قيم متعارف عليها قادرة على التصدي لهذا اللامعقول.
إذا يختصر ميلان كونديرا مبررات مسرح اللامعقول بجملة واحدة:لاتريد القوة سوى ارادتها
هل هي سرعة القرن العشرين التي جعلت من كونديرا يصوغ هذه الجملة أم هي انتحار المشاعر الشخصية...في الحقيقة هي الفرق بين ثقل جريمة راسكولينكوف في الجريمة والعقاب وخفة جريمة أي بطل ويسترن امريكي تافه...هي المقارنة بين روايتين عن الحب قرأتها في احد كتب كونديرا-ربما الحياة في مكان آخر-احداهما تجري احداثها في القرون الماضية واخرى تجري في العصر الحاضر،وبهذا ينكص مبدأ التبرير والمنطق في مسرح اللامعقول الى قرون ماضية،أو على الأقل قبل ان يصيغ نيتشه مصطلح أرادة القوة.
30/11/2019



#بلال_سمير_الصدّر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخالدة 1963(الن روب غرييه):مثل الذي قلناه ذات مرة عن الماضي ...
- الرجل الذي يكذب1968(الن روب غرييه):الفن عندما يكون قابعا في ...
- حفلة التفاهة(ميلان كونديرا):تفاهة خط مستقيم
- فكرة التكرار عند كيركغارد
- مسرحية بيت الدمية 1879(هنريك ابسن): أدراك واعادة تنظيم السلو ...
- قلب الظلام(جوزيف كونراد): حساسية مارلو المفرطة اتجاه ادراك ا ...
- القرين (دوستيوفسكي): عندما يتماهى دوستيوفسكي مع الجنون
- الغرفة(جان بول سارتر): مقدمة الغثيان
- رواية البعث (ليف تولستوي): (وعاد ففكر في ان البعث المعنوي ال ...
- الذباب أو الندم(جان بول سارتر):العود الأبدي للفكر
- سجناء الطونا(جان بول سارتر):محاكمة للفرد نفسه
- فرانز كافكا والمسألة الوجودية:الصراع هم الآخرون
- ماكبث1948(أورسون ويلز):دراسة أدبية
- إمرأة من شنغهاي1947(أورسون ويلز):هكذا بالتأكيد بدأت قصتي...أ ...
- الرجل الثالث1949(من اخراج كارل ريد وتمثيل اورسون ويلز):عودة ...
- آل امبرسون الرائعون1942(أورسون ويلز):عن صدمات اورسون ويلز
- 1000عين للدكتور مابوس:فيلم في غاية الروعة ولكن في نفس الوقت ...
- M1931(فريتر لانغ): فيلم ممتاز متكامل في الحبكة وفي التصميم و ...
- الفيلم الايطالي(عاقبة الحب Consequence Of Love ) :تقاطع الاد ...
- وصية الدكتور مابوس1933(فريتر لانغ):عبقرية اجرامية مبنية على ...


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - مسرح اللامعقول:في انتظار غودو صموئيل بيكيت نموذجا