أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الداهي - صحوة الحواس ( في تأبين روح الأديب الراحل محمد غرناط)















المزيد.....

صحوة الحواس ( في تأبين روح الأديب الراحل محمد غرناط)


محمد الداهي

الحوار المتمدن-العدد: 6334 - 2019 / 8 / 28 - 20:32
المحور: الادب والفن
    


كنت أتابع-عن كثب- القصص التي ينشرها محمد غرناط بالملاحق والمجلات الثقافية قبل أن تتاح لي فرصة التعرف عليه في منتصف الثمانينات. وقد لعب صديقنا محمد البكري دورا أساسيا في تعارفنا أول مرة بأحد المقاهي المحيطة بساحة باندونغ.. وقُبيل هذا الحدث أخبرني محمد البكري إثر مرورنا بمقهى في درب عمر أن محمد غرناط يؤثر احتساء كأس القهوة هنا لاصطياد شخصياته الخيالية وسرد القصة " الجميلة الندية" حسب تعبيره .. ألقينا نظرة سريعة على أرجاء المكان الذي كان غاصا بعينة من البشر، يأتون تباعا من الأحياء الهامشية بحثا عن أجواء التسرية والمكاشفة والمُسارَّة. ومن ثمة تبين لي مدى حرص محمد غرناط فيما يكتب على الواقعية رغم إلمامه بالمدارس الأخرى واستفادته منها. ولم يتخذ الواقعية مرآة لعكس ما يجري في الواقع، وإنما اعتبرها وُصلة لمعاودة تمثيل ما تلتقطه الحواس بطريقة فنية، وهو مهووس بأسطورة أصمودي (Mythe d’Asmodée) أسوة بأمثاله. وعندما توطدت علاقتي به كنا نلتقي بين الفينة والأخرى في الدار البيضاء.. كان يؤثر ركوب سيارة أجرة تقله من حي مولاي عبد الله إلى قلب البيضاء ( ما يحيط بفندق حياة رجنسي )، وهو يتأبط جريدة ورواية جديدة وحزمة من المُسوَّدات. كان يتكلم – على جري عادته- بتقتير شديد، وهي السمة التي برُع وحذق في صناعتها، وجعلت منه قاصا متميزا. لم يكن من طينة من يسهب ويخوض في الكلام طولا وعرضا. يحرص في جلساته أن يقول ما قل ودل دون أن يمس أحدا بسوء. وعندما استهوته الرواية- على غرار غيره - ظل وفيا لمعذبته القصة القصيرة، مؤثرا التكثيف والاقتصاد والإيحاء على غيرها من الخصائص التي يستوعبها الفضاء الروائي الفسيح.
عندما استقر به المقام بالرباط (حي الفتح) ثم بتمارة (رياض أولاد مطاع)- بعد حصوله على معاش المغادرة الطوعية- أضحى أكثر إيثارا للعزلة والتقوقع على الذات كمن زهد في الحياة الدنيا. وبقدر ما أهله هذا " السبات" إلى الرفع من وتيرة إصدار الأعمال الروائية والقصصية، ومداومة النشر في الملاحق الثقافية بقدر ما أسعفه، أيضا، على إعادة النظر في جدوى الحياة والصداقة، وتبني فلسفة جديدة في الكتابة تقوم أساسا على المكاشفة، للتعبير- بطريقته الخاصة- عن مظاهر التردي والتقهقر التي استفحلت في المجتمع ، تزامنا مع انهيار كثير من المشاريع المحلوم بها، والتي كان يعتبرها جيل غرناط دانية القطوف، فإذا بها تنساب من بين الأصابع كمن يبسط كفيه للماء. وجد في هذه العزلة عزاء ومَسْلاة لمداراة المرض الذي ألم به، و التعايش معه متفاديا أن يقلق راحة الآخرين أو يستدر عطفهم وشفقتهم. كان يتألم داخليا من جراء منغصات المرض وأعراضه، لكنه يعطي الانطباع لمن يزوره أو يتصل به أن حالته عرضية لا تبعث على القلق. لم تفارق البسمة الصادقة بشائر وجهه من شدة تفاؤله بالحياة. ظل- وهو في جفن الردى -وفيا لعاداته وخاصة مداومة القراءة والكتابة، متشبثا بالأمل إلى آخر رمق. وقُبيْل وفاته بدقائق معدودات طلب من إحدى بناته أن تساعده على الصعود للطبق الأول ليختلي بنفسه في المطالعة، لكنه أسلم الروح لباريها بعد أن تخطى أدراجا معدودات.
آثر أن يعيش خلال السنوات الأخيرة على خلوة، متخليا عن تدابير الحياة الرتيبة والمكرهة، ومستمتعا برنين الصمت الذي يحف به من كل جانب. كم كان يشعرني بسعادته وهو ينصت إلى عظامه، ويعود إلى ذاته بعد سنوات قضاها في الجري واللهث وراء الضوء الهارب منه ومنا باستمرار. مكنته " استراحة المحارب" من رؤية الأشياء عن بعد وبتجرد، و معاودة النظر في كثير من اليقينيات والأوهام الخادعة، ومعاينة بعض الأشياء البسيطة في الوجود كحفيف الأشجار، وهسيس الجيران، وانقشاع الليل، وصراخ طفل، ونباح كلب ...وقد تضمنت مؤلفاته الأخيرة صحوة حواسه في التقاط تفاصيل الحياة اليومية، واستوعبت عصارة حياته لتشخيص " حساسية الإخفاق" التي اتسعت-على إثرها- الهوة بين الروح ومطالبها، وارتدت القيم الأصلية المنشودة إلى الدرك الأسفل.
من بين الأحداث التي ظلت راسخة في ذهنه، وصول روايته " تحت ضوء الليل"(2010) إلى القائمة القصيرة ضمن الأعمال المرشحة لنيل جائزة الشيخ زايد للكتاب في صنف " الفنون والدراسات النقدية". أعادت له الاعتبار رغم أنه كان يعرف-مسبقا- من شدة المنافسة وملابساتها أن إحرازَها ضربٌ من المستحيلات. ومع ذلك ظل مسترسلا في أحلامه التي غمرته بمشاعر طفولية إلى أن حُجب صنف الجائزة لبواعث مجهولة. كانت هذه الالتفاتة الرمزية كافية لتبديد السحب الدكناء التي تراكمت في قلبه بسبب عدم حصوله على جائزة المغرب. كان أولى بها وخاصة في مجال القصة القصيرة التي أبلى فيها البلاء الحسن، واضطلع –رفقة صفوة من الفرسان، يتقدمهم عميد القصة القصيرة بالمغرب أحمد بوزفور- بتجديد نُسغها، والحفاظ على استمراريتها رغم انحسار المقروئية، وقلة المتابعة النقدية، وإحجام دور النشر عن طبعها و نشرها بدعوى" كساد بضاعتها".
وفي هذا السياق، بادر فرع اتحاد كتاب المغرب بتمارة- بموازاة مع مبادرات متفرقة- بتنظيم لقاءين احتفاء بإصداريه الروائيين. حضر اللقاء الأول (الاثنين 17 يناير2011)عندما كان في منتهى قوته وعنفوانه. وعندما فرغ المتدخلون(محمد الدغمومي، أحمد حافظ، محمد معتصم) من ارتجال مداخلاتهم وشهاداتهم، تدخل محمد غرناط لإبراز مدى اهتمامه- في الأعمال الأخيرة- بالحوارية باعتبارها تمثيلا للتعدد اللغوي والتنوع الإيديولوجي، ثم أشاد بفكرة لكونديرا، ومفادها أن مؤسس الحداثة ليس رونيه ديكارت فحسب وإنما ميغيل سرفانتيس أيضا، لأنه هدم اللغة الأحادية والنمطية وبنى على أنقاضها لغة أخرى أكثر انفتاحا على التنوع الاجتماعي، وعلى تطلعات المهمشين في المجتمع. وقد أسعفه هذا الصنيع على إنزال اللغة من البرج العاجي لتصبح أداة من أدوات تحديث المجتمع ودَمقْرطته.
لم يتمكن من حضور اللقاء الثاني(الجمعة 4 نونبر 2016) بسبب متاعب المرض. بعث إلي ورقة بخط يده يطلب الاعتذار من الحضور من جراء نوبة برد ألمت به.. هكذا كان يداري مرضه بشجاعة، مفضلا أن يتألم وحده في صمت إلى أن حان أجله.. وهي الخاصية التي عاينتها في الراحل أحمد فرشوخ في كثير من أسفارنا أو لقاءاتنا..كان يعلل تعبه وإعياءه بحالة طارئة وعابرة متفاديا أن يخوض في تفاصيلها كما لو كان أمرا شخصيا يهمه وحده.
ألح الراحل محمد غرناط- في الأيام الأخيرة- على لقائي ليسلمني كتابا جماعيا عن تجربته التخييلية الثرة (في التجربة السردية لمحمد غرناط، المنسق بوشعيب الساوري، 2017). ولم نلتق فميا بيننا لانشغال كل واحد منا بهمومه وانشغالاته اليومية، وتواعدنا على اللقاء في أقرب وقت. لم نتوقع أن الأمور ستأخذ منحى معاكسا، وستقلب موازين الحياة رأسا على عقب. وبادر ابنه مشكورا بموافاتي بنسخة الكتاب بعد أسبوع على وفاة والده.



#محمد_الداهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من يعيش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم (احتفاء بعيد ميلاد محمد ب ...
- تأصيل سلوك القراءة
- المصالحة بين التراث والحداثة
- بلاغة الإطفاء
- جمالية البين بين حوار مع الباحثة ستنفاني مشينو
- تشييد نظرية شعرية موسعة بمنهاجية سيميائية مركبة
- رجع الصدى في رواية وليمة الكذب للروائي أمين زاوي
- الأصعب من أين نبدأ؟ وكيف نصل؟
- التربية على القيم في المدرسة
- التراث والحداثة في المشروع الفكري للراحل محمد عابد الجابري
- نهاية محتملة لحكاية - عنزة السيد سوغان
- قراءة في كتاب-اعترافات روائي شاب- لأمبرتو إيكو
- نظام التربية والتكوين: واقع وآفاق، حوار مع د.عبدالله الأشقر
- اللباس موضوعا شعريا
- الرواية والسياسة
- تطلعات الملاحق الثقافية بالمغرب
- مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة التخييلية
- بئس اليأس
- صورة المغرب في متخيل الآخر
- تقديم كتاب - التفاعل الفني والأدبي في الشعر الرقمي-


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الداهي - صحوة الحواس ( في تأبين روح الأديب الراحل محمد غرناط)