أمير بالعربي
الحوار المتمدن-العدد: 6272 - 2019 / 6 / 26 - 01:23
المحور:
الادب والفن
في العاشرة سألت ماما : "هل أخبرت بابا قبل وفاته ؟" فأجابتني أن لا ....
حصل ذلك في الصيف الذي توفي فيه بابا , كنت قد نجحت بتفوق في سنتي الأولى الابتدائية , وكان بابا قد وعدني بالاصطياف في مكان آخر دون مدينتنا , لكنه لم يستطع أن يفي بوعده ...
أصرّت ماما على إمضاء الصيف في منزلنا لأنها كانت قد دعت صديقة لها مع عائلتها , زوجها وابنها وابنتها . وعندما علمت بالأمر غضبت , وذكّرت بابا بوعده لي , فوعدني بالذهاب لمكان آخر بعد أن تمضي صديقة ماما شهرها , لكنه توفي في غضون ذلك الشهر ...
توفي ولم يسمح لي باللعب بمسدسه , كان يرفض كلما طلبت منه ذلك ويقول لي أنه سيشتري لي مسدسا أحسن من الذي عنده ... وقد اشترى لي مسدسات كثيرة , لكنها لم تكن تطلق النار كما أريد !
بعد أن عدنا من حفل التأبين , قلت لماما : "سرقوا منا مسدس بابا وأعطونا مكانه وساما , ماذا سنفعل لو جاءنا لص ؟ هل سنطلق عليه النار بالوسام ! لقد ضحكوا علينا ! على الأقل ...... كانت الحلويات لذيذة وأكلت منها الكثير , لكنك تركتها لهم !! "
كنت أحب مدينتي طوال السنة , لكن أكرهها في الصيف لأنها تمتلئ بالغرباء . كنت أقول لماما أننا يجب ألا نسمح للغرباء بالسباحة في بحرنا فتقول لي أنه بحرهم أيضا فلا أقبل جوابها . لم أكن أحب أولئك الناس , وكنت كثيرا ما أبتعد عنهم وأسبح قريبا من الفنادق لأراقب السياح الذين لم أكن أتذمّر من وجودهم ....
زوج أمينة , صديقة ماما , كان ضخم الجثة ثقيل الدم , لم يكن وسيما على عكس زوجته . ابنه وابنته كانا مثله .. كنت أستغرب لماذا تزوجته أمينة , وكيف أنجبت منه ذلك الولد القبيح الشكل وتلك البنت السمينة , بطنها كان كبيرا كبطن أبيها وكانت كثيرة الأكل والبكاء ...
كنت أرى أن المرأة الجميلة لا يجب أن تتزوج إلا رجلا جميلا , مثلما فعلت ماما , وكلما رأيت جميلة متزوجة من قبيح لا أفهم وأتساءل وحدي .... لم أقبل جواب ماما التي قالت لي أن الجمال ليس كل شيء والأهم هو الحب , لم أصدقها لأن بابا لم يكن قبيحا ولو كان كذلك ما كانت تزوجته ...
زوج أمينة كان الوحيد القبيح بين كل أزواج صديقات ماما , كنّ كلهن جميلات ومثلهن أزواجهن , لذلك لم أصدق كلامها عن الحب , وكنت أقول أنها كانت تختار صديقاتها وتشترط فيهن أن يكنّ جميلات ... وعندما سألتها : "ماما , لماذا كل صديقاتك جميلات ولا يوجد بينهن قبيحة واحدة ؟" ابتسمت لي ولم تجبني ...
ابتسامة أمينة كانت جميلة , لكني كنت أرى ابتسامة ماما أجمل , وقلت لها ذلك عديد المرات ....
على الشاطئ , كان زوج أمينة يكلمني ويحاول أن يلعب معي لكني لم أكن أهتم له , وعندما كنت أشوي الذرة على الفحم كنت أعطي واحدة لماما ثم واحدة لزوجته وواحدة لي وأقول لمن بقي منهم أي هو , أخي , ابنه وابنته : "اشووا وحدكم !" ... كنا نشعل النار أمام الخيمة , وكانت ماما تسمح لي بشواء الذرة فقط , أما اللحم أو الحوت فلا لأنها كانت تخشى أن أحرقه فتتكفل هي بذلك وتبتعد إلى الخلف عن خيمتنا وعن الناس ....
لم نكن نستعمل خيمة الحرس الوطني .... فقط تلك الصائفة , نصبها أبي لأن معنا ضيوف , وكان من يعملون في مقهى الشاطئ يحرسونها في الليل ولا يسمحون لأحد باستعمالها . لكن حكى لي أحدهم , وكان صديقي , أنه أمضى فيها عدة ليالي هو وصديقته , وطلب مني ألا أفشي سره لأبي فوعدته ولم أقل شيئا ...
كنا نذهب يوميا للبحر ولا نغادر إلا مع الغروب , كانت ماما وأمينة وزوجها عندما يمضي بابا الليل في العمل يخرجون ليلا فنسهر جميعنا في مقهى الشاطئ , وكنت عندما أعلم بذلك منذ النهار أعلم صديقي ... كنت أحبه كثيرا لأنه كان يعطيني آيس كريم كلما أردت ولا يطلب مني مالا .... كان يقول لي أنه لا يأخذ مقابلا من أصدقائه , وكنت اصدقه ولا أخفي عليه عودتنا إلى الشاطئ ليلا ...
بابا لم يكن يستطيع الحضور معنا ... كان يعمل طول النهار ولا يعود إلا ليلا , وليالي كثيرة كان يرجع للعمل بعد أن يعود إلى المنزل بوقت قصير ... ماما لم تكن تغضب منه , وكانت دائما تفتخر به وبعمله وتقول لي أن بابا بطلنا جميعا , لكني لم أكن أهتم .... والحقيقة , كان غيابه يروق لي لأني كنت كثير الشغب وكنت أرى أن دروس ماما تكفي لأُجبر على غيرها من بابا ....
من ضمن تلك الدروس درس ألقته بعد ثلاث سنوات من حدوث فِعلته , لم تُعلم بها بابا , ربما كانت ستفعل بعد انتهاء شهر أمينة لكنه مات , قتله المجرمون وهو يدافع عن الوطن , مات شهيدا كما قالوا يوم تأبينه ..
يوجد حمامان في حديقة منزلنا نستعملهما في الصيف بعد العودة من الشاطئ , بينهما فاصل ألومينيوم سميك لكنه لا يصل إلى الأرض ... كان النظام أن يستحم الصغار ثم الكبار , آخر من تستحم كانت ماما ....
يوم الفِعلة عندما فتحت ماما باب الدش لتستحم , فوجدتني أسترق النظر لأمينة من تحت الفاصل .... كان صراخها دون صراخ وغضبها "وضع الاهتزاز" , المسكينة لم تستطع الكلام لكي لا تكتشف أمري صديقتها ....
لم تضربني ماما يوما , كان تلك اللحظة سببا كافيا لتضربني لكنها لم تفعل . ضربت ماما أخي الأكبر مرات قليلة لكنها لم تفعل ذلك معي أبدا ... لأنها كانت تحبني أكثر منه , هكذا كنت أقول ....
اكتفت ماما بالغضب دون كلام , بيدها أومأت لي أن أخرج وألا أنبس بحرف , ففعلت وخرجت .... استحمّت ماما واستحمّت كريمة , ثم التحقتا بنا داخل المنزل , تعشينا ثم خرجنا إلى الشاطئ , لم يحضر بابا تلك الليلة ... كان يدافع عن الوطن كما قالوا , في الغد حضر رفاقه إلى الشاطئ ... كنت أسبح بجانب كريمة وزوجها , وماما كانت أمام الخيمة ....
لم تستطع إعلامه بسري لو كانت قد فكرت في ذلك لأنه لم يعد , لكني لم أكن أعلم هل اتصلت به أم لا تلك الليلة , لذلك سألتها بعد ثلاث سنوات من وفاته فأجابتني أن لا .
الدرس كان مختلفا تلك المرة , عادة ماما أن تصرخ في وجهي , تهددني بحرماني مما أريد وأطلب , ألا تكلمني بعض الوقت حتى ترضى وتلك أقسى العقوبات عندي ... هكذا كانت عادتها , وكانت عادتي أن أعتذر وأن أعدها ألا أعود لما صنعت ...
عندما سألتها بعد مرور الثلاث سنوات , نظرت لي طويلا وبكت , ثم أدارت لي ظهرها وقالت أنها لم تفعل ....
نفس تلك النظرة رأيتها في عينيها بعد سنوات عندما أعلمتها ابنة سارة بعلاقتي بأستاذة الرياضيات -فاتن- , لم أفهم ما أرادت بنظرتها عندما كنت صغيرا لكني سنة الباكالوريا فهمت أنها كانت تراني منحرفا وربما تمنت لو كنت مثليا , ربما كان ذلك سيكون أهون عليها ....
لذلك لا أزال مرعوبا من ابنة سارة التي لم تقبل أني لا أهتم لها , كنت كذلك مذ كنا صغارا ولم تتغير نظرتي لها , مثلما لم تتغير نظرتي لأمها , الجميلة سارة , صديقة ماما وطبيبتها النفسية .... وأمي الثانية , كنيتها التي أرد بها على قولها لي أني مهووس بمن هنّ في عمر ماما وأني يلزمني طبيبة نفسية تراقبني مدى الحياة : "كم أنا محظوظ , بأمي الثانية , الطبيبة النفسية التي تريد لها ابنتها المعذبة أن تصبح حماتي" .
#أمير_بالعربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟