أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد رؤوف حامد - حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى:5/3 الإشكاليات















المزيد.....


حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى:5/3 الإشكاليات


محمد رؤوف حامد

الحوار المتمدن-العدد: 6264 - 2019 / 6 / 18 - 20:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إذا كان الشارع العربى قد بدأ بالفعل يشهد تصاعدا فى منسوب المعرفة السياسية من ناحية, وفى التفاعل الإيجابى بين هذا التصاعد وحركية المعرفة من ناحية أخرى (كما تبين فى التناول الأسبق 5/2), فإن ذلك يدعو للإنتباه الى الإشكاليات المتداخلة مع حركية المعرفة, والتى هى متعاظمة ومعقدة, ومع الوقت تزداد تعقداتها أكثر وأكثر.
وعليه, يُعد فهم هذه الإشكاليات ضرورة قصوى لدعم تمكُن حركية المعرفة من التعامل معها, وبالتالى تحرر (وإنطلاق) العلاقة الإيجابية الممكنة بين منسوب المعرفة وحركيتها.
من أجل ذلك, كمدخل أولى لهذا الموضوع, يجتهد الطرح الحالى فى الإشارة الى إشكاليات رئيسية تتحكم فى حركية المعرفة.
أما عن سبب التركيز على "الإشكاليات", وليس المشكلات, فيرجع الى أن الإشكالية هى المعضلة التى تنضوى تحتها المشكلات, حيث مع الإحاطة بالإشكالية يمكن معرفة (وتقصى) المشكلات التى تتبعها, بالضبط كما تتبع الأجزاء الكل الذى يحتضنها.
بمعنى آخر, يظل التفاعل مع المشكلات عبثيا فى غيبة الفهم للإشكاليات, تماما كما التفانى فى التفاعل مع الجزئيات فى ظل جهل بالكليات.

أولا- إشكالية إنعدام التكاملية بين المنظومية والحرية:

فى أى كيان, وفى أى مجال, تكون المنظومية (كبنية ومعايير) ضرورة يستحيل فى غيابها تحقيق ما يفترض من إنجازات وتطويرات.
فى نفس الوقت, تتدهور المنظومية إذا ما تعرضت (أو خضعت) لأطر وسياقات عقيمة, الأمر الذى يحدث فى غياب درجات الحرية المناسبة. تلك التى يكون من شأنها أن تكفل التمكين, والتشابك, والإرتقاء لمكونات المنظومة من أفراد ووحدات وعمليات وعلاقات, ومن ثم الإرتقاء بمهام المنظومة (وبنيتها) الى حد الإبداع فى التطور وفى إستشراف ومجابهة التحديات.
وفى المقابل, تفتقد المنظومية للإستقرار إذا ما تحولت الحرية الى عشوائية (و/أوعشوءة), الأمر الذى يحدث عادة بفعل المصالح الخاصة ودواعى الفساد ومبرراته, ويؤدى تدريجيا للتحول الى اللامنظومية, حيث سيادة الجهل والتجهيل, وترعرع المفاهيم والممارسات المضادة للمعرفة, ومن ثم الدخول فى دوامات التخلف, والسقوط.
ولعل سمة الإفتقاد الى التوازن الصحى بين المنظومية و الحرية كانت (وستظل) المدخل الى فساد أنظمة الحكم. إنها تؤدى الى تفاقمات للشواش وللتعقيدات, ولإنسداد مسارات الحياة الآمنة لجماهير وكتل الإنسان العادى, فضلا عن تأخر التنمية, مما يقود الى الصحوات الجماعية لهذه الجماهير, بالقدر الذى شهدته (وتشهده) شوارع سياسية عربية.
وإذا كانت إشكالية إنعدام التكاملية بين المنظومية والحرية تمثل سياقا حاضنا للتخلف والفساد فى أنظمة الحكم, فإن نفس الإشكالية تتجسد – الى حد كبير – داخل (وعبر) الكيانات المعارضة فى الشارع السياسى.
وهكذا, تشتد حاجة الشارع السياسى المعارض الى تعميق قدر التنقيب والفهم والإستيعاب لهذه الإشكالية كمدخل تقويمى ذاتى لممارسات المعارضة, فضلا عن ممارسات أنظمة الحكم.

ثانيا- إشكالية سطوة الإنشغال الإنفعالى بالعدو المشترك:

إذا كان من الممكن تصنيف الإشكاليات الكبرى التى تواجه المواطن العربى الى إشكاليات داخلية, تتمركز فى (أو تنشأ من خلال) أنظمة الحكم, وأخرى خارجية, تتجسد فى حيودات أجنبية مزمنة تجاه المنطقة, وما ولدته من إستيطان لإسرائيل فى فلسطين, فإن الإشكالية الأعظم, والمهيمنة على السلوكيات والتوجهات العربية عند الشعوب والحكام معا, تظل هى التعاملات الإنفعالية فى عموم الأوضاع السياسية, داخلية وخارجية على السواء.

هذه التعاملات الإنفعالية تمثل "معكوس المعرفة", وبالتالى هى مضادة لها (وتُنقص منها). إنها تزيد من الجهل والغوغائية, و تقضى على فرص بزوغ ونجاح أية فعاليات معرفية ومسارات إيجابية محتملة, أو ممكنة, أولابد منها.
بمعنى آخر, تضمحل فرص إرتفاع منسوب المعرفة السياسية وإمكانات تحولها الى حركية لمواجهة المشكلات وتصحيح الأوضاع, و الخروج من التخلف, إذا لم يحدث تحجيم لسطوة التعاملات الإنفعالية (أى سطوة الشعارات والهتافات ...الخ).

أشد مجالات الخطورة لسطوة الإنشغال الإنفعالى تأتى عند إستخدامه (أو إباحته كآلية رئيسية للإستخدام) فى مجابهة العدو.
السبب فى ذلك ليس فقط أنه (أى الإنشغال الإنفعالى) يحيد بالشعوب عن المسارات الناضجة فى فهم وصياغة وتفعيل مستقبلياتها فى المجابهات مع أعدائها, لكنه أيضا يمثل المصدر الحامى لترعرع الفساد فى أنظمة الحكم, حيث هى تستمد من هذا الإنشغال الإنفعالى, وما ينسجه من شعارات وعواطف, حاميا (أو ساترا) لإستمرارية وجودها .
وفى كل الأحوال, وعلى مدى مايقارب قرن من الزمان, يمثل الإنشغال الإنفعالى السياق المُولد لفرص تمكين العدو المشترك من إشغالنا عن مستقبلياتنا كأمة, وعن المعالجات المنهجية لنقاط الضعف فينا كشعوب وكيانات عربية.
من المهم هنا إدراك أن مقاومة الإنشغال الإنفعالى فى تعاملاتنا مع عموم مشكلاتنا, سواء هى داخلية أو خارجية, تُعد مدخلا رئيسيا لتقييم, وتقويم, وإصلاح منظومتى الحكم والمعارضة معا, حيث تكون الهيمنة للعقل (وبالذات العقل الجماعى) الأمر الذى يدعم بناء المعالجات (والمسارات) الموضوعية للتقدم ولمجابهة العدو المشترك.


ثالثا- إشكالية إنحسار الجدلية بين الواقع و المأمول:

على مدى التاريخ, وفى كافة المجالات, يبزغ التقدم من قلب الإدراك النقدى للواقع, وقدر مايتولد عن ذلك من تعامل تصحيحى (بالتطوير و/أو التغيير).
بمعنى آخر, يكون التقدم حقيقيا عندما تتولد جذوره من قلب الواقع ذاته, أى Endogenously .
بغير ذلك, أى بالإعتماد الأساسى على إستيراد القوالب التصحيحية الجاهزة, ينشط الإرتكان الى الأجنبى, بإستيراد حزمة من أدواته وخبراته, فيكون التصحيح كالرسم على الرمال, الأمر الذى لايؤدى بالواقع الى تقدم أصيل.
أصالة التقدم ونجاحه ينبعان من التطويرات البشرية الذاتية المُولِدة للتغيير (والمصاحبة له والمتولدة عنه), والتى تُضيف الى الخبرات والقيم المحلية مايؤسس للرضا المجتمعى, وما يتبع من عزم وأمل وتفاؤل, وما ينجم عن كل ذلك من تأهلات وطنية "طويلة المدى".
كمثال لفكر إستيراد الحلول, يمكن الإشارة الى تقرير بعنوان: "مجلس علماء مصر يرفع توصية للرئيس بإنشاء مجمع علمى على غرار الجمعية البريطانية", والذى ورد فى صدر إحدى أهم الجرائد المصرية اليومية (المصرى اليوم - 17 نوفمبر 2018).
يذكر التقرير أن المجلس الاستشارى لكبار العلماء, التابع لرئيس الجمهورية, إستضاف المدير التنفيذى للجمعية الملكية للعلوم ببريطانيا, الدكتورة جولى ماكستون, والتى حضرت تلبية لدعوة أحد أعضاء المجلس, لبحث إنشاء هيئة مصرية على غرار الجمعية الملكية.
يوضح التقرير أن الدكتورة ماكستون قامت بشرح عمل ونتائج الجمعية الملكية لأعضاء المجلس, والذى قرر بعد نقاشات معها رفع توصية للرئيس بفكرة إنشاء هيئة مثيلة له فى مصر تكون مهمتها البحث العلمى, وذلك باعتبار المؤسسة المصرية القائمة (أكاديمية التكنولوجيا والبحث العلمى) غير قادرة على تقديم الخدمة الأصلية المفترض منها القيام بها....الخ.
وهكذا, يحدث قفز مباشر الى فكرالإستيراد والإستنساخ, دون معاناة الإجتهاد التفاعلى/ الإستكشافى/ التصحيحى (أو العلاجى) للواقع.
إنها إشكالية لاتتعلق بالأشخاص, وجميعهم أجلاء, وإنما تختص بالمنهج.
وعموما, وبصرف النظر عن النموذج الشكلى التناولى المشار اليه, يحتاج المنهج التصحيحى, فى أى مجال, لأن يقوم على ركائز على غرار مايلى:
● تجنب الإرتكان الى تقليد الآخرين, حيث الأسئلة والمشكلات والحلول تحتاج لأن تُشَيد أساسا بناء على ظروف الواقع المحلى , ومن داخله (أى من قلبه), الأمر الذى لايتعارض مع إستعراض التجارب والخبرات الأخرى والإستفادة منها.
● تنشيط الإبداع المجتمعى, بممارسة درجات الحرية المناسبة فى التعامل (الجدلى) مع الصياغات و الإختيارات, بشأن الأسئلة, والمشكلات, والحلول, والبدائل.
● دعم عمليات "التقييم وإعادة التقييم" للواقع والمشكلات, من خلال رؤى العاملين, والخبراء, وبالإستعانة بمراكزالبحوث والدراسات, وبالكيانات الأهلية (جمعيات وروابط ونقابات ... الخ).

وهكذا, فى ظل الإستعانة الرشيدة بجدلية الواقع والمأمول يتحول النقد من مصيدة للإتهام الى منصة للإبداع.

رابعا- إشكالية أنيميا "المرونة المجتمعية":

هنا يمكن تشبيه المجتمع بالدماغ. لقد توصلت الأبحاث الحديثة, وعلى العكس من إعتقادات سابقة,أن الخلايا العصبية فى الدماغ ,عند البالغين, تُجدد أنشطتها, وتُقوى نفسها, كإستجابة وموائمة لما تجابهه الدماغ, أو يتعامل معه العقل, من أسئلة وتحديات, وذلك من خلال بناء (وتجديد) الوصلات, والإتصالات, والتشبيكات بين الخلايا.
هذا الفهم بشأن عمل بلايين الخلايا العصبية فى الدماغ أضاف للمعرفة الطبية مفهوم "المرونة العصبية" Neuronal Plasticity , والذى يعنى موائمة (أو مرونة) ذاتية من الخلايا العصبية الدماغية.

وهكذا, المقصود بالمرونة, أو الموائمة المجتمعية (على غرار المرونة العصبية), أن يكون المجتمع قادرا (بواسطة التطوير المستمرللتواصلات والفعاليات البينية لأفراده ومنظوماته) على تحقيق أعلى مايمكن من الإستيعاب والمواجهة للواجبات المطلوبة منه وللتحديات التى تطرأ عليه.
من شأن هذه المرونة المحافظة على إستمرارية وتقدم الحياة, مجتمعيا, ومؤسسيا, ووطنيا.
ذلك يعنى مواصلة التطور والتقدم من خلال سلاسل من التقييم والتأهيل لكافة أوضاع وشؤن المجتمع, بواسطة جميع خلاياه (أى أبناءه), وباستخدام منهجيات منظومية معلنة, تعتمد جميعها على المنهج العلمى فى التفكير.
وعليه, يحتاج تحقيق المرونة المجتمعية – أساسا – الى "المساواة" فى السياقات والأوضاع النفسية/الإجتماعية لجموع المواطن العادى, والذى هو بالفعل, وعلى مدى التاريخ الإنسانى, "سر التقدم".
المساواة, كخاصية, توفر لكل مواطن (أو كيان) مايستحقه من تفهم ورعاية من كيانات الدولة, طبقا للمعايير الشفافة والوسائل المعلنة, كما تتيح له, أيا كان موقعه, فرصة التكافؤ فى العطاء الحياتى للمجتمع, الأمر الذى يحتاج الى المقاربات بين الجميع بالفهم, والنقد, والتشارك.
نهج المرونة المجتمعية هذا يمنع (أو يُحجم) الإخفاقات والحوادث نتيجة الإهمال وعدم الفهم, ويعظم من قيمة الزمن بتقليل (أو منع) إهداره فى المهاترات أو فى مناقضات وتناقضات وبيروقراطيات لالزوم لها, وبالتالى هو يرقى بأداء المسؤوليات وإنجاز الأعمال.
فى نفس السياق, وكمثال (من النموذج المصرى), تأتى وقائع "قانون الجمعيات الأهلية", و "قضية المعاشات", و "قانون التجارب السريرية".

لقد أوضحت هذه الوقائع أنه فى غياب "المرونات المجتمعية" تغيب المرونات الذاتية من جانب الشخصيات والكيانات المسؤلة (مثلا: وزراء وبرلمان ...الخ), ويحتاج التصحيح الى تدخلات فوقية (إدارية, أو قضائية, وربما رئاسية).
بالتوازى مع ذلك تتراكم الإخفاقات, والحيودات, والتعنتات, حتى يغرق المواطن فى دوامات المعاناة, ويُقاسى خلل نفسى/إجتماعى, مما يُمرضه, ويُجرف إمكاناته , ويقود الى التخوف من المسؤلية, والى الأنامالية, ويؤدى الى إصابة خلايا المجتمع, وتواصلاتها, وتشابكاتها بالعطب.
وفى النهاية يسود الفساد, وتتدهور أنظمة الحكم.

خامسا- إشكالية الحوكمة أحادية الإتجاه:

الحكومة, كفريق, تمثل المستوى التنفيذى الأعلى فى أى دولة. لذا, فهى المسؤلة عن إدارة عمليات إكتشاف وصياغة الأسئلة والمشكلات وحلولها فى كافة أرجاء البلاد, وكذلك ممارسة المتابعة والتقييم والتقويم لكافة التوجهات والمسارات.
هذا الإعتبار يجعل من الحكومة عامل (أو لاعب) رئيسى بخصوص دفع وتطوير حركية المعرفة المجتمعية.
ذلك بمعنى أن تكون الحكومة راعية لما جاء ذكره أعلاه, خاصة بشأن كل من الجدلية بين الواقع و المأمول, والمرونة المجتمعية.
من هذا المنظور تحتاج أى حكومة, للوفاء بواجبتها بشأن حركية المعرفة السياسية, أن تسعى لإنجاز مهمتين رئيسيتين:
أ- تسيير كافة مهامها, فى التعامل مع عموم أفراد وكيانات المجتمع, بالإعتماد على الإدارة بالمعرفة, من خلال التماهى فى التواصل والتنسيق(والتمكين) مع كافة كيانات ومنظومات المجتمع, ومن بينها قوى العمل المدنى (النقابات والجمعيات الأهلية ...الخ), وليس بالإعتماد على الأوامر الإدارية.
عندها تنشط تنبيهات وتصحيحات التغذية المرتدة, والتى تعرف بال Feedback ,وتتجنب الحكومة دفع الآخر (من مواطنين و كيانات) الى متاهة الإستشكالات القانونية, والتى تتفاقم برغم وضوح المسائل والحقوق والواجبات.
ب- تطوير قدراتها فى إدارة المعرفة ذاتها (أى إدارة أدوات ومنظومات التعليم والبحث العلمى والتغيير التكنولوجى والتطوير), كأساس للوفاء بمتطلبات التنمية الإقتصادية ودعم المالية العامة.

وكنموذج عملى تطبيقى للملاحظتين السابقتين, يمكن الإشارة الى أن التصاعد المتسارع فى العديد من بلدان الجنوب (ومن بينها بعض بلداننا العربية) بخصوص تنمية المالية العامة, وحل مشكلاتها, بتوليد الضرائب وزيادة الأسعار, يغيب عنه - عادة - توجه مواز لتنمية الإبتكارالقومى, كآلية أصيلة لدعم الإقتصاد والمالية العامة.
يحدث ذلك من خلال تناسى هذه الحكومات العمل على التنظيم لتخصيص جزء من ميزانيات المنشآت (إنتاجية وخدمية على السواء) للإنفاق على أنشطة حقيقية للبحث والتطوير و الإبتكار داخلها.

وعليه, تكون الحوكمة الحقيقية (أو التنموية) متعددة الإتجاهات, بين جميع اللاعبين الوطنيين الرئيسيين (الحكومة, والمواطنين, و المؤسسات), وليست فقط فى إتجاه واحد. إنها تعتمد على حسن الإدارة بالمعرفة, وحسن إدارة المعرفة ذاتها (وليس على الإدارة بالأوامر أو بالموانع).


سادسا-إشكالية السياقات التطرفية لأنظمة الحكم:

الخطورة العظمى للسياقات التطرفية لأنظمة الحكم أنها تشارك بمسؤلية كبيرة – كسبب – فى خلق وترعرع السلوكيات المتطرفة عند نسبة (ولو صغيرة) من أبناء شعوبها, بل وأيضا فى تحويل البعض ممن يعانون التطرف الى إرهابيين.
هذا, وتتجسد السياقات التطرفية لأنظمة الحكم فى أوضاع على غرار مايلى:
● محاولة صنع الإستقرار المجتمعى من خلال خلق وتنمية كوادر وقيادات تحقق الطاعة (وتتميز بالنفاق), مع تجنب العلاقات التفاعلية ثنائية الإتجاه مع أصحاب الرأى والفكر والخبرة.
● عدم الإكتراث بصياغة علمية لأولويات وسياسات التنمية والرعاية الخاصة بشعوبها, فضلا عن تجنب (وتغييب) الإدارة الرشيدة لفاعليات هذه الأولويات والسياسات.
● التنمر المضاد لأصحاب الرؤى المعارضة أو المختلفة, بإستخدام ممارسات متطرفة, مثل التحيز, أو الحدة فى التفاعلات القانونية (و/أو الأمنية), الأمر الذى قد يُخضعهم للعزل أو الحبس (دون حق). وقد يصل التنمر الى البلطجة أو التصفية.
وغنى عن القول هنا حجب فرص القيادة (فى مجالات الشأن العام والتنمية) عن من يمكن أن يكونوا جديرين بها من أصحاب الرؤى السياسية المعارضة أو المخالفة.
● تعمد حجب المسارات والممارسات المتعلقة بالشأن العام عن عمليات التقييم وإعادة التقييم على أسس معرفية علمية.
● تحويل الأدوات والوسائط الإعلامية الى أبواق للدعاية والبروباجندا والتشويش على مايمكن أن يكون حقائق.

وفى العموم, يمكن القول بأن السياقات التطرفية لأنظمة الحكم تساهم بمسؤلية كبيرة فى حجب الحقيقة, وتنمية الجهل, وإضعاف الثقة بين أطراف وكيانات المجتمع, مما يغذى من فرص إزدهار ومأسسة الفساد المحلى, ومن ثم سهولة تعريض البلاد لمسارات أعلى من الفساد الدولى (لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب "الرقص مع الفساد" للمؤلف – دار العين – القاهرة- 2010).


سابعا-إشكالية الهرولة للقفز الى مابعد المرحلة الإنتقالية:

تُعد هذه الإشكالية الأكثر حدة وحرجا بين سائر الإشكاليات التى تتعرض لها حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى, وعلى وجه الخصوص فى البلدان التى شهدت مايعرف بالربيع العربى.
يرجع السبب الجوهرى فى ذلك الى مايمكن إعتباره شغف (أو إشتياق أو غواية) من جانب السلطات التى تحكم, أو تلك التى ترى أن لها الحق (أو الأفضلية) فى أن تحكم. هذه الكيانات تسعى الى أن تستقر الأوضاع لها, كأنظمة أو كقيادات حاكمة, بعيدا عن سياقات الثورات والإنتفاضات الجماهيرية, والتى تشكل بالنسبة لهذه الأنظمة (والقيادات) عوامل عدم إستقرار و/أو تهديد.
بمعنى آخر, تجتهد بعض هذه الأنظمة (و/أو القيادات) فى دفع الأوضاع الخاصة بالحكم و السياسة الى شرعنة لبيروقراطيات منفصلة تماما عن أية مفاهيم أو أفكار عن شرعيات الثورة أو الإنتفاضة, مما كانت تموج به رؤى وخيالات جماعيات جماهير المواطن العادى. وأيضا تمارس هذه الأنظمة (و/أو القيادات) - من وقت الى آخر- الإبتعاد عن الأعراف والقواعد Norms بشأن العلاقة بين السلطات.
التعامل الفكرى مع هذه الإشكالية الحادة جدا (والحرجة جدا) يحتاج الى التوقف للتعمق بشأن إدراكات أساسية نظن أنها تعلو على أية إعتبارات.
1) أن التظاهرات الجماعية التى قامت بها الجماهير, وأدت الى مايعرف بثورات الربيع العربى, كانت لها أسبابها المحلية الأصيلة (من دكتاتوريات و/أو إنحرافات الأنظمة الحاكمة), وذلك بصرف النظر عن أية تدخلات أجنبية, حتى أن إستفحال ممارسات ركوب السياسة للدين ترجع –فى الأساس- الى أسباب محلية, سواء تختص بتوجهات من جانب نظام الحكم (كما حدث بواسطة السادات), أو تختص بتضييق المجال العام, والحفاظ على مستويات الجهل والفقر, كما حدث فى أوقات أخرى ولازال يحدث الى حد كبير, هنا أو هناك.
2) أن الأنظمة التى جاءت (أو يمكن أن تجىء) كنتاج تتابعى لثورات الربيع العربى, لم يكن من الممكن أن تجىء إلا كحدث من الأحداث التابعة لهذه الثورات.
3) أن هذه الأنظمة الأحدث, بصرف النظر عن تنوعاتها, لايمكن لها أن تحفل بإستقرار مالم تأخذ فى الإعتبار الظروف (والسياقات) التى أتت بها, أو التى أدت الى الإنتفاضات الثورية التى سبقتها.
4) أن العبرة الرئيسية فى شأن التعامل مع الإمكانات الإنتفاضية للجماهير لاتكون بمحاولة تحجيمها بالقوة الفيزيائية (عسكرية أو أمنية), أو بمناورات سياسية, حيث جماهير مابعد هذه الثورات والإنتفاضات قد تحولت الى درجات أعمق فى الفهم والفاعالية بخصوص الشأن العام مقارنة بما كان الوضع عليه من قبل.
5) أن كافة مسارات الحكم فيما بعد الثورات أو الإنتفاضات التى جرت (أو تجرى أو يمكن أن تجرى) تعتبر حسب الوعى (أوالفهم) الباطن عند عموم المواطنين مسارات إنتقالية. حيث هى تظل كذلك حتى يحدث تخطى لسقف المرحلة الإنتقالية برمتها (والذى يرتبط مباشرة بسقف توجهات وآمال الثورة أو الإنتفاضة).
6) أن سقف المرحلة الإنتقالية يتمثل -وبشكل مجرد- فى وصول الشأن العام (متضمنا للشارع السياسى) الى وضع من الإكتمال والنضج تصبح فيه الأمة, بكافة
مؤسساتها وأركانها الإستراتيجية (مثل البرلمان والقضاء والإعلام والحكومة ...الخ), قادرة على توليد إرتقاءاتها, وحماية إنجازاتها بآليات تلقائية, شفافة وديمقراطية, دون الحاجة الى قوانين طوارىء, أو الى قوانين غير عادية من أى نوع, أو الى ثورة (أو إنتفاضة) جديدة.
7) وعليه, فإن وهم الإستقرار (المجتمعى أو الوطنى) دون إنجاز الوصول الى سقف المرحلة الإنتقالية يُعد خروجا عن الإتزان المعرفى, وبالتالى يصنع عدم توازن. هذا الوهم يفاقم من الخلل فى مسارات وتوازنات أدوات الحكم, الوضع الذى يعود بالأنظمة العربية الى نفس الظروف والسياقات التى أدت الى الإنتفاضات الثورية السابقة, أو أكثر سوءا وحدة.
●●●

وكإستنتاج لما ورد فى هذا الفصل يمكن القول بأن التوصل الى إنجاز التغيير والإستنهاض لايجرى إلا فى ظل سياقات تحافظ على الإستقرار وتحميه, الأمر الذى لايمكن أن يتحقق فى غياب التعامل المنهجى مع إشكاليات حركية المعرفة.
وأما فى غياب هذا النوع من التعامل (والإحتضان) تكون حركية المعرفة بمثابة طاقة بدون منفذ, مما يجعل الإستقرار سطحيا – الى حد كبير – وليس متمركزا فى القلب من المجتمع.
ذلك الإعتبار يدفع الى أهمية العناية بتضاريس (أو بنية) حركية المعرفة, وأولوياتها.



#محمد_رؤوف_حامد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى: 5/2 – الخصائص
- حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى: 5/1 – ملاحظات أولية
- خبرات شخصية بشأن ديمقراطية العملية التعليمية فى الجامعة
- نحو فهم أعمق لخلفيات العداء الأجنبى للمنطقة العربية
- الأمريكيون يقتربون من المسار المستقبلى للثورات
- فى ثورة 25 يناير: لو عاد عبد الناصر .. لرفض أن يكون -عبدالنا ...
- ثورة 25 يناير بين الجدليات المهيمنة والإرتقاءات المُغيّبة
- -25 يناير- : ثورة من نوع جديد .. ومعنى جديد .. ومستقبليات جد ...
- مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين


المزيد.....




- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...
- وسائل إعلام: الدفاعات الجوية الإيرانية تتصدى لهجوم صاروخي وا ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع هجوم ...
- فرنسي يروي تجربة 3 سنوات في السجون الإيرانية
- اقتراب بدء أول محاكمة جنائية في التاريخ لرئيس أميركي سابق
- أنباء عن غارات إسرائيلية في إيران وسوريا والعراق
- ??مباشر: سماع دوي انفجارات في إيران وتعليق الرحلات الجوية فو ...
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية الرسمية نقلا عن تقارير: إسرائيل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد رؤوف حامد - حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى:5/3 الإشكاليات