أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد رؤوف حامد - مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين















المزيد.....



مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين


محمد رؤوف حامد

الحوار المتمدن-العدد: 3991 - 2013 / 2 / 2 - 13:52
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    



مع بداية القرن ال21 , نشر لنا مقالا بعنوان "مستقبل الثورات" ( العربى الكويتية- يناير 2000) . ثلاث سنوات بعدها, صدر كتاب يحمل نفس العنوان “ Future of revolutions” , عن دار "زد", تحرير مجموعة من الأكاديميين بقيادة بروفيسور فوران, أستاذ علم الإجتماع بجامعة كاليفورنيا. تكرار العنوان (فى المقال ثم فى الكتاب), وربما أيضا فى إصدارات أخرى قليلة (فى ذلك الوقت), كان مؤشرا على وجود هما إنسانيا عاما بخصوص الموضوع, الأمر الذى تأكد مؤخرا (نهايات العقد الأول وبدايات العقد الثانى من القرن ال 21) فى عديد من الأحداث التغييرية الجديدة تماما, وفى الآلاف من الإصدارات (بنفس العنوان – "مستقبل الثورات"), كمقالات وكتب, والتى نجمت كإنعكاس لهذه الأحداث.
وهكذا, الآن, مع بدايات العقد الثانى من القرن ال 21, يفرض الموضوع نفسه من جديد بدرجة أعلى بكثير عن ذى قبل.
منذ ثلاثة عشرة عاما, كانت السياقات الرئيسية بخصوص مستقبل الثورات تتعلق بكل من التقدم العلمى -التكنولوجى والعولمة. وأما حاليا, فالسياقات تتعلق بتقاطعات حادة من الأزمات والصراعات العالمية والإقليمية والمحلية معا. ذلك فضلا عن ظاهرة (وأوضاع) مايعرف بالثورات العربية, أو ب " ثورات الربيع العربى", إضافة الى حركيات إنتفاضية من "جماعيات" المواطن العادى ضد السياسات العامة فى العديد من عواصم االعالم, والغرب على وجه الخصوص.
مايهدف اليه الطرح الحالى إذن, هو الإجتهاد فى التعرف على المحتملات والممكنات بخصوص مستقبل الثورات, وذلك بالأخذ فى الإعتبار لكل من:
1- ماكان منظورا عن مستقبل الثورات مع بداية القرن ال21.
2- المتغيرات التى تجسمت مع مسيرة العقد الأول من القرن ال21.
3- المعطيات والشواهد المتعلقة بالثورات العربية وبالحركيات الشعبية الغربية الموازية.
4- المشكلات التى تواجه قوى السلام (أو جماهير المواطن العادى) على إتساع العالم.
5- المعرفة الإنسانية التغييرية القادمة (أو الموجة الثورية العالمية الجديدة).
6- ثورة المفكرين.
أولا: مستقبل الثورات مع بداية القرن ال21 :
فى نظرة خاطفة على "مستقبل الثورات", كما ورد منذ حوالى عقد من الزمان, فى المقال والكتاب المشار اليهما أعلاه, يمكن القول بأن المقال (يناير 2000 ) كان يشير الى التحول من الثورات بإعتبارها التغيير فى نظم الحكم بالقوة, الى الثورات بإعتبارها التغيير النوعى فى مجالين (أو على مستويين) أساسيين. الأول يختص بطريقة الحياة ( للأفراد والجماعات), من خلال متغيرات ومنتجات العلم والتكنولوجيا, مثل التغييرات فى التعليم والطب والرياضة والإتصال والبحث العلمى والخدمات ...الخ, وهو ماسُمى ب "الثورات الميكرو". وأما الثانى فكان التغيير فى العلاقات الدولية بواسطة القوى المهيمنة نسبيا على العالم, مثل التغيير فى قوانين وأوضاع التجارة العالمية, وهو ماسمى ب " الثورات السوبر" أو الماكرو. ذلك مع وجود تأثيرات متبادلة بين النوعين من الثورات (الميكرو والسوبر).
أما عن الكتاب (2003) فقد كان يهتم أساسا بالبحث فى الفرص والظروف الخاصة بحدوث تغييرات فى نظم الحكم, وفى تقديرنا أن أهمية رئيسية لهذا الكتاب تقوم على كونه, فى مواطن عديدة منه, يُحمّل كل من الإدارة والمخابرات الأمريكية المسؤلية عن تردى الأوضاع (الإقتصادية والإجتماعية والأمنية) فى العالم.
ثانيا: المتغيرات التى تجسمت مع مسيرة العقد الأول من القرن ال 21
فى البداية, يمكن القول بوجود ثلاث أمور جديرة بجذب الإنتباه:
الأمر الأول هو أنه, بالفعل, الثورات الميكرو والثورات السوبر قد غمرتا العالم. لقد تغيرت بسرعة طريقة الحياة, تحت تأثير التكنولوجيات المتقدمة (وخاصة تكنولوجيات المعلوماتية والإتصال). وكذلك تغيرت العلاقات الدولية بشدة من خلال متغيرات عولمية شبه كلية, مثل قوانين التجارة العالمية, ومثل قاعدة 20/80 والتى تقضى بأنه يكفى للنشاط الإقتصاد العالمى أن يقوم به 20% من القائمين به, بينما على " ال 80% الباقية" أن تعيش على إحسانات تلقى اليها من ال 20% الأولى.
وأما الأمر الثانى, فهو أن المتغيرين معا, طريقة الحياة و العلاقات الدولية, قد أديا (فى ظل سياقات ناجمة عنهما وأخرى موازية لهما) الى نشأة إعتبارات وعوامل جديدة يكون (أو كان) من شأنها أن تدفع (وأن تؤدى) الى إنعكاسات من نوع جديد على مستقبل التغييرات, أو على مستقبل قوى وحركيات التغيير. إنها إعتبارات وعوامل تتعلق بالإتساع الآخذ فى التعاظم والتطرف بشدة فى الفروقات (وفقدان التكافؤ) بين البشر, وذلك فى مسائل غاية فى الحيوية والحرج, مثل الغنى والفقر, ومثل الأمن الإنسانى (والذى يتمركز حول الحاجات الأساسية والهوية الإجتماعية والكرامة).
هنا يمكن الإشارة الى أنه إذا كانت هذه الإنعكاسات تعنى إعادة الإتجاه الى الثورة, فإن الفعل الثورى المحتمل يمكن أن يكون ذو طبيعة جديدة تتناسب مع المستجدات فى سياقات الزمن الحالى (الأمر الذى تُعد الثورات – أو الإنتفاضات العربية – الأخيرة نموذجا له, أو على الأقل ملمحا لبداياته).
ثم يجىء الأمر الثالث, والذى يتمثل فى ثبوت المسؤلية العليا لكل من الإدارة الأمريكية والمخابرات الأمريكية عن الإنحراف فى الشرعية الدولية وعن الخلل فى النظام المالى العالمى (حرب الخليج الثانية نموذجا).
القوى صاحبة التسلط العولمى:
الأمور الثلاثة السابق الإشارة اليها أدت الى تصاعد حاد للتناقضات فى الأوضاع العالمية / المحلية. لقد سببت هذه التناقضات أزمة عالمية مركبة, تتشابك وتتقاطع فيها أشكال مختلفة من التوترات المالية والعسكرية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية والبيئية. إنها بحق تراجيديا عولمية (أو كوكبية) تتجسم فى العديد مماقصدت اليه العولمة من تغييرات وإنحرافات فى الوسائل والمعايير فيما يتعلق بالتنمية والتقدم. وذلك على غرار توجهات وإجراءات مثل الخصخصة وإزدواجية كل من المعايير والقيم والشرعية. لهذه الأزمة (أو التراجيديا) العالمية المتشابكة حركيات ذات ملامح خاصة, بدأت فى الظهور المُبكر منذ حوالى عقد من الزمان, يُشار فيما يلى الى بعضها:
1- تكرار تجمع النشطاء فى كافة القارات والشعوب فى مظاهرات وحركيات عالمية متوافقة الحدوث ضد أنواع متباينة من ممارسات الظلم والخلل الدوليين. بعض هذه الحركيات تمثلت فى مظاهرات ومؤتمرات. والبعض الآخر ظهر فى شكل أنشطة الكترونية مناهضة. من أمثلة هذه الحركيات والأنشطة يمكن الإشارة الى مايلى:
أ) بدء المقاومة الشعبية الدولية ضد قوانين التجارة العالمية (أثناء إنعقاد المؤتمر الوزارى لمنظمة التجارة العالمية – سياتل 1999 ).
ب) إدانة شركات الدواء العالمية (39 شركة) فى الدعوى القضائية التى تحالفن فى إقامتها ضد حق حكومة جنوب أفريقيا فى توفير أدوية الإيدز بسعر مناسب لمواطنيها (2001).
ج‌) محاولات التصدى لشروع أمريكا فى الحرب على العراق بحجة إمتلاك أسلحة نووية (2003).
د‌) المناداة بإيقاف المحرقة التى أقامتها إسرائيل لشعب وأراضى غزة, وبمحاسبة المسؤلين عنها (2008).

2- التدخلات الأمنية / العسكرية طويلة الأمد من جانب القوى الكبرى (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية) فى مصائر (وعلى أراضى) بلدان أخرى.
3- إنتقال مصانع بأكملها من الغرب الى الشرق (بدوافع رخص العمالة وتعظيم الأرباح), وحدوث إنحراف منظم عن سياسات الرفاه الإجتماعية فى دول الشمال (و الجنوب على السواء).
4- إشتداد بأس قوى التطرف, سواء فى الشمال (من جانب اليمين), أو فى الجنوب (على مرتكزات دينية وعرقية).
5- تحول إسرائيل الى "مايشبه قوة عظمى" على المستوى الدولى, وذلك بالنظر الى إنحرافها عن المعايير والشرعية, وإملائها لتوجهات إنحرافية عنصرية على بعض مواقف عدد من الدول االكبرى, وكذلك تغلغلها فى بعض النزاعات فى بعض البلدان.
6- الإهتزاز المالى الإقتصادى الخطير للولايات المتحدة الأمريكية, وثبوت وجود خروجات متعمدة من قياداتها على حقوق الإنسان.
7- إمتداد الحيرة وعدم الإستقرار فى معظم أنحاء العالم بدرجات متفاوتة, ربما فيماعدا عدد محدود جدا من البلدان التى تفردت بتوجهاتها الخاصة, وذلك على أسس ديمقراطية (مثل البرازيل), أو أيديولوجية (مثل الصين), أو إدارية / سياسية ( مثل سنغافورة).
فى ظل المتغيرات (و/أو الحركيات) السبعة السابقة, وما على غرارها, صار من الواضح أن قوى التشدد أضحت هى القوى صاحبة السطوة فى العالم, و هى تتمركز فى ثلاث متجهات رئيسية.
المُتجه الرئيسى الأول يتمثل فى توجهات الرأسماليين المحافظين الجدد (أو قوى النيوليبرالية) بزعامة غربية أمريكية, وبتغلغل لقوى مماثلة (وأخرى ظل لها) فى بلدان الجنوب (من خلال آليات الخصخصة وتوليد وتربية قيادات محلية نيوليبرالية متشددة يجرى تركيبها على مناصب حكومية وحزبية عليا).
المُتجه الرئيسى الثانى يتمثل فى سلوكيات التطرف, والذى يوجد فى الشمال والجنوب على السواء. فى الشمال, ينشأ تحت إبط القوى النيوليبرالية (واليمينية), وبالتوافق معها. وفى الجنوب, ينشأ إما كردود أفعال للتطرف النيوليبرالى (المالى العسكرى) الشمالى, و/أو كإنقلاب على الشمال النيوليبرالى من قوى (تطرف) جرى صنعها و/أو دعمها بواسطة هذا الشمال النيوليبرالى ذاته (فى إطار إدارة الصراعات الدولية / المحلية بما يُدعى بالفوضى الخلاقة - "طالبان" نموذجا).

المُتجه الرئيسى الثالث يتمثل فى نزعات الصهيونية الإسرائيلية, وذلك من خلال ثلاث أنواع من الحركيات:
أ‌) توافقاتها (فى الأهداف والوسائل) مع النيوليبرالية الدولية (خاصة فى الولايات المتحدة), وكذلك مع النيوليبراليات المحلية فى بلدان الجنوب (من خلال المصالح المالية المشتركة).
ب‌) تداخلاتها, تخطيطيا وأيديولوجيا, مع عمليات إشعال الصراعات الطائفية و إحداث التطرف فى أماكن مختلفة من العالم, فضلا عن مد ذارعها العسكرى الى عمق بلدان مجاورة, من منظور أمنى خصوصى, وفى غيبة المسؤلية الدولية الفاعلة (للأمم المتحدة مثلا).
ت‌) إتجاهها الحثيث الى التمييز العنصرى, والذى يتجلى فى الترتيب ليهودية الدولة.

من الجدير بالإنتباه أن هذه القوى (أو المُتجهات) الثلاث تتصف بحركية هدّامة, محدودة الأفق, تأخذ شكل "التمادى فى الفعل المتطرف". وكنماذج لسلوكيات التمادى هذه يمكن الإشارة الى مايلى:
- تمادى الرئيس الفرنسى (أكتوبر 2010) ضد المعارضة الشعبية الفرنسية, بخصوص رفضها لتمديد سن الإحالة الى المعاش, فضلا عن قدر من التماهى مع مطالب يمينية متعصبة.
- تمادى شركات الدواء وشركات التأمين الكبرى فى الولايات المتحدة, سياسيا وسلوكيا, ضد إجراءات أوباما لتعميم التأمين الصحى على المواطنين.
- تمادى إسرائيل فى رفض (وإدانة) المحاسبة الدولية لها على محرقة غزة ومجزرة أسطول الحرية.
- تمادى مساندة الإدارة الأمريكية للقوة النووية الإسرائيلية, ولتجنيب إسرائيل المحاسبة على كافة ماترتكبه من جرائم وإنتهاكات.
- تمادى النيوليبرالية الغربية فى التلكؤ بخصوص الواجبات الدولية بشأن تصحيح الكوارث البيئية الناجمة عن إنبعاث الغازات, وذلك فضلا عن واجباتها المحلية بشأن تصحيح أنظمة الضرائب بدلا من التصعيد فى سياسات التقشف.
- تمادى أنظمة الحكم فى الجنوب (من خلال التحالف - بل والتوحد - مع النيوليبرالية المحلية) فى سلوكيات الفساد والإفساد, وفى تزييف حالة الديمقراطية السياسية.
- ثبوت إنخداع الجماهير الشعبية بخطط ودعايات النظم النيوليبرالية, بحيث يمضى وقتا طويلا - نسبيا- قبل إنكشاف الحقيقة. تماما كما مضى وقت قبل إنكشاف مدى تمادى الزيف فى الكثير من ممارسات إدارة بوش (الإبن) تجاه مجلس الأمن أو تجاه الرأى العام العالمى, سواء عن طريق الخداع فى التقارير المخابراتية ( مثل: إدعاء إمتلاك العراق لأسلحة نووية) , أو من خلال إنحرافات وإنتهاكات مباشرة ضد حقوق الإنسان (مثل: معتقل جوانتانامو).

مايمكن الإشارة اليه إذن أنه قد بات من الثابت, مع نهايات العقد الأول من القرن ال21, أن المستقبل, بخصوص الإستقرار الدولى, ومصالح الشعوب, ومناخ الكوكب, يتعرض لمخاطر غير عادية بسبب إشتداد وتعاظم أنانية وتطرف هذه القوى الثلاث.
وإذا كان من الطبيعى هنا أن يبرز التساؤل عن قدر ومستقبل عمليات التصدى ضد هذه القوى (أو المتُتجهات) الثلاث والمخاطر الناجمة عنها, فإنه يمكن القول أن هذا التصدى لم يحرز نجاحا حتى الآن إلا فيما ندر. بل أن نجاحاته القليلة تتصل بجزئيات محدودة جدا وليس أبدا بإستراتيجيات أو سياسات.
من الأمثلة على ذلك نجاح الحملات الشعبية العالمية فى إحراج شركات الدواء والتى إضطرت الى سحب دعواها القضائية ضد حكومة جنوب أفريقيا بخصوص أدوية الإيدز (01 20). ذلك بينما لم تنجح كافة القوى العالمية والمحلية فى التصدى لأصل الموضوع, وهو توجهات و قوانين "حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة – تريبس", والتى تعرقل إتاحة الدواء الجديد لمرضى الدول النامية بالأسعار التى تناسبهم, فضلا عن عرقلتها لعمليات تنمية القدرات البحثية والتكنولوجية لهذه الدول.
من جانب آخر, ليس من قبيل الصدفة أن كافة قوى السلام فى العالم, حكومات وشعوب وأفراد, فضلا عن المنظمات الدولية بكامل تنوعاتها, لم تنجح حتى الآن فى فك حقيقى (ومستديم) للحصار الإسرائيلى على قطاع غزة (أو فى إعادة تعميره). ذلك فضلا عن عدم إنجاز أى تقدم بشأن حل الصراع العربى الإسرائيلى.
ثالثا: المعطيات والشواهد المتعلقة بالثورات العربية وبالحركيات الشعبية الغربية الموازية.
ربما يكون المتغير الرئيسى الغالب المميز لطبيعة " الثورات العربية والحركيات الشعبية الغربية الموازية" هو تلك "الجماعية" فى التعبير عن الرفض.
بالنسبة للثورات العربية, يمكن القول أنه, فى ظل سطوة الأنظمة الدكتاتورية طويلة الأمد, والتى تسيدت على شعوبها فى البلدان العربية على مدى عقود, صارت "جماعية" جماهير المواطن العادى هى البديل الوحيد للتغيير. ذلك بعد أن كانت هذه الدكتاتوريات قد نجحت فى تطبيع وتهذيب وتلجيم القوى السياسية فى بلدانها, الأمر الذى كان يجرى بالتوافق (فى المصالح الخاصة) مع قوى النيوليبرالية العالمية.
وهكذا, أضحت "جماعية" المواطن العادى فى الأقطار العربية تُمثل الفعل الثورى (أو المدخل الى الفعل الثورى) الجديد فى هذه المنطقة من العالم.
لقد كانت هذه "الجماعية" هى المدخل الوحيد الممكن للتغيير (الذاتى / الوطنى), ولقد ساهمت تطورات تكنولوجيا الإتصال والمعلوماتية, أو وسائط التواصل الإجتماعى (والتى تُعد أحد ملامح الثورات الميكرو), فى جعلها (أى الجماعية) تبزغ بسهولة نسبية, وتصير أمرا واقع.
وإذا كان الفعل الثورى, والمتمثل فى هذه الجماعية, قد جاء مفاجئا للمراقبين, ولشعوب الشمال, فإنه لم يكن كذلك بالنسبة للبعض فى الداخل العربى (والمصرى على وجه الخصوص), وذلك من منظور ماكان قد جرى طرحه عام 2007 من وجود "دورة زمنية للتغيير" يُتوقع بمقتضاها قدوم تغيير سياسى كبير فى مصر فى الفترة 2009 (+ أو – عامين). [فى هذا الخصوص يمكن مراجعة كتاب "ثورة 25 يناير: من أين والى أين؟ – دار المعارف – القاهرة – 2011", و كذلك مقال "الحركات الإحتجاجية.. ماذا يتبقى منها بعد عامين؟ - جريدة البديل المصرية – 23 أغسطس 2008].
من المنظور المعرفى, جاءت "جماعية جماهير المواطن العادى" كتعبير بالغ الدلالة عن تغير فى "الوعى الجمعى" Collective consciousness للشعوب, ووصول هذا الوعى الى قمة عالية, خاصة تجاه شيوع الفساد, وغياب العدل, وممارسات الإحتقار.
إضافة الى ذلك, بدء الوعى الجمعى هذا يؤثر إيجابيا على مايمكن أن يكون قد ترسب عبر زمن طويل نسبيا (عقود وقرون) داخل "اللاوعى الجمعى" Collective unconsciousness من خصائص سلبية, كان من شأنها إبطاء ردود الأفعال الغاضبة تجاه سياسات الحكام. من أمثلة هذه الخصائص, والتى صارت تتعرض للتغير الآن, ملاحظات للعلامة المصرى الراحل جمال حمدان عن غلبة سلوك اللامبالاة عند الإنسان المصرى من خلال تمكُن صفات خمس منه ، وهي التدين والمحافظة والاعتدال والواقعية والسلبية.
وهكذا, يمكن التوقع بأن ماحدث من تقدم فى "الوعى الجمعى" لجماهير المواطن العادى فى البلدان العربية, سيكون من شأنه إحداث تغييرات وتطويرات حميدة داخل "اللاوعى الجمعى". من أمثلة ذلك مايمكن إعتباره (على الأقل فيما وضح حتى الآن فى النموذج المصرى) بزوغ ملحوظ لرغبة المواطن العادى فى تحسين معرفته السياسية, و تنامى متصاعد فى قدرته على "التعلم الذاتى"وتطوير رؤاه.
النموذج المُجسم هنا (بشأن التعلم الذاتى) يتمثل فى إجماع غالبية جماهير المواطن العادى فى مصر على التصويت لصالح قوى الدين السياسى (فى الإنتخابات البرلمانية), ثم بدء الشك المنهجى (التلقائى), بناء على الممارسات الواقعية, فى مدى صلاحية الجمع بين الدين والسياسة, وكذلك بدء الفهم العام (والإستيعاب) لماهية وطبيعة "القوى المضادة للثورة".
أما عن قوى الشمال السياسى (قوى النيوليبرالية, والإدارات الحاكمة, وعلى رأسها الإدارة الأمريكية), فبرغم أن حدوث الإنتفاضات الثورية العربية (من خلال "جماعية" المواطن العادى) لم يكن فى حدود توقعاتها بدرجة كبيرة, إلا أن هذه القوى قد مارست (ولازالت تمارس) فعلها فى التأثير – الإنحرافى – على مصائر هذه الإنتفاضات (أوالثورات) بحِرَفية عالية.
فى هذا الخصوص يمكن الإشارة الى مشهد التقارب الذى حدث بين الإدارة الأمريكية و الإخوان المسلمين (فى مصر), منذ مابعد الثورة مباشرة (أى قبل الإنتخابات البرلمانية), والذى قد أخذ فى التصاعد تباعا.
فى نفس السياق, يمكن الإشارة الى تدخلات مثيلة (وإن إختلفت فى الكم والنوع) من جانب قوى الشمال السياسى الرسمى (الحكومات والإتحاد الأوربى .. الخ) مع أوضاع وتداعيات الإنتفاضات الثورية فى البلدان العربية الأخرى.
وبينما كان من الطبيعى أن تبزغ الثورات الشعبية العربية من خلال جماعية المواطن العادى, وبدون رأس قيادية جماعية لها, مما أدى الى حيودات وإنحرافات عن المسارات الثورية المفترضة (وذلك تحت تأثير كل من القصور الذاتى للديكتاتوريات الحاكمة ,أو التى كانت, والضعف المزمن للقوى السياسية التقليدية, والتدخلات الأجنبية), فإن من المتوقع أن يكون للمذاق الشعبى للوعى الجمعى الجديد عند المواطن العادى أثره فى إحداث إستكمالات وتصحيحات ثورية تالية.
قد ينظر البعض بإستغراب وتساؤل بشأن تفضيل الغرب النيوليبرالى لإستحضار "الدين السياسى" الى قمة الحياة السياسية فى المنطقة العربية.
فى هذا الخصوص تجدر الإشارة الى أن هذا النوع من الغرب قد سبق وأن ساهم فى إستحضار و / أو إستخدام ودعم الدين السياسى (أفغانستان والعراق كنموذجين). معنى ذلك إذن أن الإشكالية الحالية للدين السياسى فى البلدان العربية لاتبزغ صدفة, حيث هى تمثل خطورة كبرى و "مركبة". وذلك لعدة أسباب, يمكن الإشارة الى بعضها فيما يلى:

أ‌- أن من شأن تبؤ الدين السياسى للسلطة, فى أية دولة عربية, إستحضار سياقات سلبية تكون هذه الدولة فى غنى عنها, وذلك مثل:
- تعريض البلاد لنار سلاسل الفتن الدينية, والتى يمكن أن يكون لكيانات خارجية دورا فى منهجتها وتزكيتها.
- إتاحة التبرير لشرعية هُوية إسرائيل ككيان سياسى قائم على الدين.
- عرقلة إمكانات وسرعات تقدم البلاد, حيث المنظور الدينى لايمكن أن يكون إلا عنصرا واحدا من عناصر التقدم الحياتى, وليس عنصرا مهيمنا على بقية العناصر(والتى من أمثلتها العلم والتكنولوجيا والصناعة والإقتصاد ... الخ).
- إخصاب المناخات والسيناريوهات التى تعمل على إعادة تقسيم بلدان المنطقة العربية, من منظورات تفتيتية, خصوصا بالإعتماد على زرع التجزيئات, وتنمية الفتن الدينية (والمذهبية).

ب - أن المرجعية الدينية (أو الروحية) السياسية تُعدُ نموذجا تلقائيا (وطبيعيا) لمسألة (أو نقيصة) تحديد (وتحجيم) دائرة الإنتماء (للأفراد والكيانات) على أساس أخلاقى و/أو روحى خصوصى Moral circle .
ذلك بمعنى أن هذه المرجعية (بشكلها السياسى) تتجه الى الفصل أو التمييز بين "من هم معنا (أو مثلنا أو متعاطفين معنا)", و آخرين ممن هم "ليسوا معنا (أو ليسوا مثلنا أو ليسوا متعاطفين معنا)", الأمر الذى يقود الدين السياسى الى تقليصات فى الإنتماءات, يكون من شأنها الإنحدار بالأطر المرجعية للسياسات, ولعمليات إتخاذ القرار وإختيار القيادات, الى مستويات أدنى من مستوى المرجعية الوطنية, مما يعضد التفتت والتخلف.
ذلك كله إضافة الى الرجوع بالشارع السياسى الوطنى الى الخلف ثقافيا ومجتمعيا, الأمر الذى يحول الممارسات السياسية الى صراعات لإيقاف الإنحدار المجتمعى وتجزأة الوطن, بدلا من النضالات الممكنة فى إتجاه معاناة – وإستحضار – التقدم (الحالة المصرية نموذجا).

وإذا كان ماذُكر أعلاه يتعلق ب "الجماعية" فى التعبير عن الرفض فى الثورات العربية, فماذا عن "الجماعية" فى الحركيات الشعبية الغربية الموازية؟
كما يرى البعض, قد يكون فى جماعية جماهير المواطن العادى فى الغرب, للإحتجاج على قرارات أو ممارسات السلطة السياسية, قدرا من التأثر بجماعية الثورات العربية. وبرغم ما قد يكون فى ذلك من حقيقة, ولو بشكل جزئى, إلا أنه يمكن رؤية هذه الجماعية (الغربية) من منظور آخر, وهو الإرتقاء التلقائى الذاتى (والضرورى) للمواطن العادى الغربى فى الممارسات السياسية.
التلقائية فى هذا الإرتقاء تأتى من خلفية أن المواطن العادى الغربى, طبقا للتقاليد الديمقراطية المعمول بها, ليس ممنوعا من التظاهر والإحتجاج, وفى العادة لايجرى تزوير مباشر لصوته الإنتخابى. أما عن الضرورة فى هذا الإرتقاء فقد جاءت من يأس هذا المواطن من سياسات وإمكانات القوى الحاكمة, وكذلك من يأسه من باقى القوى السياسية البديلة التى يمكن أن تأتى من خلال الإنتخابات.
المسألة إذن أن التلقائية والضرورة فى جماعية المواطن العادى الغربى تشيران الى حدوث إنتكاسة (أو تدهور) فى الأوضاع السياسية فى الشمال, أو فى فعالية الوضعية الديمقراطية السائدة هناك.
بمعنى آخر, حدث إنكشاف لعوار ما فى الديمقراطية الغربية. هذا العوار دلّ على أنها (أى الديمقراطية الغربية) ليست - بعد - بالكفاءة التى تُمكنها من الحفاظ على مصالح جماهير المواطن العادى.
سر هذا العوار هو دخول مجتمعات الغرب فى مرحلة المعاناة من السياسات النيوليبرالية, والتى لاتأبه بمصالح المواطن العادى بقدر إهتمامها بمصالح الفئات الغالبة فى شريحة الرأسمالية العليا الشرسة وحلفائها من أهل "البزنسة".
جوهر المشكلة إذن أن قد حدث فى الغرب تحول جذرى عن مجتمع الرفاه الى مجتمع الرأسمالية المتوحشة ( أو النيوليبرالية), وذلك منذ حقبة " تاتشر / ريجن", أو منذ أفول التوازن الدولى التقليدى (بين الشرق والغرب).
من الناحية العملية, لقد حدث هذا التحول بإسم العولمة تحت سمع وبصر (بل وفى إطار) اللعبة الديمقراطية, وبمشاركة كافة الأحزاب السياسية. وهكذا, برغم مشاركة القوى السياسية المختلفة من "يمين", و " يسار", و "خضر", ... الخ, إلا أن مصالح جماهير المواطن العادى فى الشمال كانت مغيبة.
لقد إكتشفت جماهير المواطن العادى (الغربى) فجأة خطأ السياسات القائمة (والتى وقعت برغم وجود أحزاب سياسية عريقة ونشطة). ذلك حيث تسريح عشرات ومئات الألوف من العمالة لم يكن لصالح التنافسية والتقدم التكنولوجى, بقدر ماكان لصالح الدخل المادى للفئات العليا الحاكمة للشركات والبنوك العالمية الكبرى, وضد مصالح الأغلبية, والتى تتمثل فى الإنسان العادى.
نفس الشىء ينطبق على النقل للعديد من المصانع, والصناعات, والأنشطة البحثية, لبلدان أخرى حيث الثروات البشرية (والأسواق) الأكبر حجما, و الأيدى العاملة الأرخص (الصين والهند ...الخ).
المسألة إذن, بالنسبة للمواطن العادى فى الغرب, أن قد سُرقت الرفاهية من حياته, وحلت محلها سياسات الخصخصة, و تسريح العمالة, والبطالة, والتقاعس المتدرج عن تقديم الخدمات الأساسية, بالتوازى مع تنشيط هائل لعمليات تسليع هذه الخدمات.
وإذا كان من الغريب أن عملية السرقة هذه قد جرت بقصد, وبشكل منظومى, وبالإعتماد على مايبدو وكأنه شرعى, من مؤسسات دولية ومحلية, ومن مفاهيم مصبوغة بالإقتصاد, إلا أن الأكثر غرابة يتمثل فى إستمرار تمادى القوى العولمية (والمحلية), الدافعة لسياسات سرقة الرفاهية, فى الضغط النوعى والكمى من أجل مواصلة تطبيق هذه السياسات, بالرغم من ثبوت أضرارها ورفض جماهير المواطن العادى لها !!!.
ومن التناقضات التى تكشف (أو هى بالفعل قد كشفت) عن عوار اللعبة الديمقراطية فى الغرب يمكن ملاحظة أمرين.
الأمر الأول أن الغرب شديد النيوليبراية (والمتمثل بالذات فى السياسات الأمريكية) لايكف (برغم كافة المشكلات الإجتماعية التى أحدثها فى شعوبه) عن الضغط على المجتمعات الغربية القليلة التى لاتزال محافظة على الرفاهية الإجتماعية لمواطنيها (مثل المجتمعات الإسكندنافية) من أجل التحول عن هذه السياسات. إن ذلك الضغط يُذكر بما كان قد جرى من ضغوط على المجتمع اليابانى, فى بداية تسعينات القرن الماضى, من أجل التنازل عن الخصوصيات التراثية التى عُرف بها اليابانيين, مثل "التوظف مدى الحياة" فى نفس المؤسسة (كنوع من الإنتماء اليابانى).
وأما الأمر الثانى فيتمثل فى محاولة حل المشكلات الإقتصادية الإجتماعية فى مجتمعات الغرب من خلال سياسات التقشف austerity , وليس من خلال إصلاح وتطوير أنظمة الضرائب, والبنية الإقتصادية, وسياسات الإنتاج والتشغيل.
وهكذا, جماعية المواطن العادى (العربى) كانت ولاتزال هى المدخل للثورة على أنظمة وأوضاع الدكتاتورية والتخلف. ذلك بينما جماعية المواطن العادى (الغربى) هى المدخل الأوّلى لإحداث تغييرات نوعية فى النظام الديمقراطى, بحيث يعود للمواطن العادى حقه فى الرفاهية, وبحيث لايُسرق منه هذا الحق من خلال سياسات تجرى صياغتها من وراء ظهره, وعلى موائد النيوليبرالية.
مايمكن إذن ملاحظته بشأن الإشكاليات السياسية لجماهير المواطن العادى, سواء هو عربى أو غربى, أن القوى السياسية المُتسيدة, فى اللعبة الديمقراطية التى تمارس بإسمة, سواء كانت فى الحكم أو فى المعارضة, أو كانت محافظة أو يمينية أو يسارية, هى (فى قدراتها أو توجهاتها) أدنى مما يُتوقع منها.
فى البلدان العربية (وتحديدا فى مصر كنموذج) كانت جماعية القوى السياسية من أجل إستحقاقات الثورة أقل بكثير (بل وتكاد أن تكون غائبة) مقارنة بجماعية المواطن العادى.
وأما فى بلدان الغرب, فإن القوى السياسية (والفكرية) لم تصل بعد الى القدرة على صياغة حلول حقيقية لما قامت (وتقوم) الرأسمالية الشرسة (أو قوى النيوليبرالية) بزرعه من توجهات سياسية/إقتصادية/إجتماعية مضادة لحاجات وتوقعات المواطن العادى.
هنا يمكن القول بأنه عندما تفشل (و / أو تفسد) القوى السياسية فى مجملها, فى الشمال والجنوب على السواء, فإن الحاجة الى "الفكر" (أو المعرفة التغييرية) تصبح على أشدها, الأمر الذى سيجرى تناوله فى البند "خامسا".
رابعا: المشكلات التى تواجه قوى السلام (أو جماهير المواطن العادى) على إتساع العالم.
إذا كانت القوى المتشددة (أو المتطرفة) الثلاث, والمشار اليها فى البند ثانيا أعلاه, تتسبب فى توليد وتأجيج الأزمات العالمية والمحلية, والتى تصيب جماهير المواطن العادى فى العالم بالقلق والإحباط, .. وإذا كانت القوى السياسية المتصدية للعبة الديمقراطية فى الشمال (سواء هى فى الحكومة أو فى المعارضة) لم تفلح, من خلال الممارسات الديمقراطية السائدة, فى إقناع وتهدئة الإحتجاجات الجماهيرية الجماعية فى بلدانها, فإن السؤال الحيوى الذى يبزغ هنا يكون من شقين:
الشق الأول: ماهى الأسباب التى تؤدى الى ترجيح فعل قوى التطرف الثلاث على كافة جهود قوى السلام فى العالم؟
والشق الثانى: ماهى الأسباب التى أدت بالممارسة (أو اللعبة) الديمقراطية فى الشمال (أو فى الغرب) أن تعجز عن الوفاء بحاجات الجماهير فى كلياتها, مما دفع هذه الجماهير الى أن تستنهض نفسها, فى جماعيات إحتجاجية كبيرة ومتواصلة, للتعبير عن رفضها للسياسات العامة القائمة بخصوص التشغيل والأجور؟
الحقيقة أن هناك عاملا مشتركا رئيسيا لايمكن التغافل عنه عند البحث عن الإجابة لأى من الشقين المكونين للسؤال. إنه تماما نفس العامل المشترك الذى لايمكن إغفاله بخصوص ماصار يجرى تعمميمه من غبن وإحتقار تجاه المواطن العادى فى معظم بلدان الشمال والجنوب على السواء.
يتمثل هذا العامل المشترك – أساسا – فى المصالح (أو المنظورات) الخاصة.
بمعنى آخر, المشكلات التى تواجه قوى السلام (أو جماهير المواطن العادى) على إتساع العالم ترجع الى تسَيُُد "عولمى" لخاصية الأنانية.


هنا, يتحول السؤال المطروح الى الإستفسار عن الأسباب التى قد أدت الى (أو إستُخدمت فى) زرع وتنامى التسيُد العولمى للأنانية. فى هذا الشأن يمكن الإشارة الى ما يلى:
1- أن النيوليبرالية الجديدة (العالمية والمحلية) تملك المال, والذى تستخدمه, إعلاميا ومخابراتيا, فى غسيل أدمغة العامة, وفى إفساد القيادات والأنظمة, إضافة الى إستخدامه فى التخديم المعرفى على أهدافها (بالدراسات العلمية والإستراتيجية وبحلقات التدريب). ذلك فضلا عن ماتتمتع به من مرونة وسرعة فى التصرف, بقوة دفع براجماتية فجة.
2- أن الصهيونية, بالإضافة لإمتلاكها للمال, والذى تستخدمه نفس الإستخدام السابق ذكره (كالنيوليبرالية الجديدة), فإنها تملك أدوات للتخويف و الإرهاب, على غرار الإتهام بمعاداة السامية, فضلا عن التصفية الجسدية, والتى تستخدم ـ أيضا- بواسطة قوى التطرف عامة, وإن إختلفت الأشكال.
3- أن التمادى فى رد الفعل المتطرف يَحدث (ويُعضّد) بشكل "رنينى" متعدد الإتجاهات (مباشر أو غير مباشر) بين القوى الثلاث.
4- وفى النهاية يأتى سبب خاص بالقوى الشعبية والسياسية, العالمية والمحلية, التى تتصدى لقوى الأنانية والتطرف الثلاث. إنه سبب إجرائى نوعى ( أو إدارى سياسى) إذا صح التعبير. يتمثل هذا السبب فى وجود تباين حاد فى كيفية الإعداد الإستراتيجى للتوجهات. فبينما قوى التطرف الثلاث تلجأ الى عناصر وحركيات السرية, والمنظومية, والتخطيط طويل المدى, إضافة الى التحالف (بحيث تكاد تتكامل فى عديد من توجهاتها, بقصد أو بدون قصد), فإن القوى المناصرة للعدالة ولمصالح الشعوب ليس لها خطط طويلة المدى أو توجهات يجرى إعدادها بعناية, و بهدوء, وبمنظومية, حيث توجهاتها تُصنع أو تُصاغ فى شكل بيانات تصدر فى (أو عن) لقاءات عامة, أقرب الى التظاهرات العاطفية الجماهيرية منها الى الترتيبات و الأحداث التنظيمية.
بمعنى آخر, القوى الشعبية والسياسية العالمية (المتطلعة للعدالة والسلام) تمارس مهامها ضد قوى الأنانية والتطرف والتعصب فى أطر " مؤتمراتية" جماهيرية, هى أقرب الى "الهواية" ومنتديات الخطابة منها الى "الحِرَفيّة" و صناعة الإستراتيجية. وذلك, بالطبع, دون الإعداد لمواجهات (أو حملات) منظمة.
من ناحية أخرى, يمكن القول أن الإخفاق المزمن فى مجابهة قوى الهيمنة والتطرف والصهيونية يولد فراغا مزمنا ومتصاعدا فى الساحات السياسية, الدولية والمحلية. إنه فراغ لايجرى ملؤه إلا بالتوجهات الأكثر تطرفا (من الأطراف المختلفة). الأمر الذى قد فاقم من التوجهات المتطرفة, والتى وصلت الى حد مواجهة الآخر بتفجير الذات وبتفجير الآخر والآخرين (فى شكل القنابل الإستشهادية).
نتيجة لماسبق ذكره من أسباب, فإنه يمكن إدراك أن الإخفاق فى مواجهة قوى الهيمنة و التطرف يتدرج نزولا من المستوى الدولى الى المستوى المحلى, وخاصة فى الجنوب, حيث تردى الأوضاع القائمة فى الأنظمة السياسية (ديكتاتورية السلطة وتزييف الديمقراطية), مما يفاقم من عنف وعشوائية ردود الفعل على المستويات المحلية.
النتيجة التلقائية تكون إعادة تصعيد العنف والعشوائية (والتطرف) على المستويات الدولية. ذلك إضافة الى نتيجة أخرى موازية, وهى إستغلال قوى الهيمنة والتطرف الدولية لتوجهات العنف والعشوءة المحلية, بحيث يجرى تسييرها, وإعادة صنعها (من بُعد أحيانا, ومن قُرب أحيانا أخرى) من أجل تأليب و تفتيت وتقسيم القوى الوطنية المحلية, وكذلك تأجيج الصراعات المحلية والإقليمية, متى كان لذلك حكمة أو مغنم عند قوى الهيمنة والتطرف الدولية ومن بينها الصهيونية الإسرائيلية.
من النماذج الحية الشاهدة على ذلك حرب العراق ضد الكويت, وصراعات جنوب السودان ودارفور وتوترات لبنان, ومحرقة غزة, و - ربما أيضا- بعض التدخلات أو المداخلات الغربية فى مسارات الإنتفاضات الثورية العربية.
وهكذا, الأوضاع (أو التوجهات) الرئيسية فى الساحات السياسية الدولية والمحلية تتطلب التغيير (بمعنى الثورة على الأوضاع القائمة) بهدف صنع أحسن, وضمان أكبر, للعدل والسلام و الإستقرار, للذات الإنسانية و للآخر. ذلك سواء كان هذا الآخر إنسانى (أفراد – مجتمعات – علاقات دولية ... الخ) أو بيئى (الطاقة – المياة – المناخ ...الخ).
وإذا كان الأمر كذلك, أى أن الحاجة الى التغيير والثورة على الساحات السياسية الدولية والمحلية, شمالا وجنوبا, هى حاجة حقيقية وعظيمة, فإن غياب أو بطء التغيير ( أو الثورة), أو الإلتفافات حول التغيير من أجل كبته أو تحريفه , كما حدث (ويحدث) تجاه الإنتفاضات الثورية العربية (بواسطة قوى محلية وأجنبية) أو تجاه الجماعيات الغاضبة فى الغرب (بواسطة الحلول الترقيعية, مثل التقشف), هى عمليات تحمل مخاطر كبرى يمكن إجمالها فيمايلى:
1- إستمرار تسارع التفاقم فى عدم المساواة على المستويات العالمية والمحلية, مع تسارع موازى فى معدلات تدهور الثقة, بين جماهير المواطن العادى شمالا وجنوبا, من جهة, و كل من الأنظمة الحاكمة, و القوى النيوليبرالية, والمنظمات الدولية, من جهة أخرى.
2- تزايد فى إتساع المدى التطرفى, وفى تنوعات وحدة التطرف, والتطرف المضاد.
3- المزيد من الأضرار و التدهورات لبيئة الكرة الأرضية.
4- تصاعد عالمى عام فى مستويات القلق وعدم الإستقرار وتقلص الأمن الإنسانى (خاصة الحاجات الأساسية المتعلقة بالأمان والصحة والغذاء والتعليم والإيواء و الكرامة).

خامسا- المعرفة الإنسانية التغييرية القادمة (أو الموجة الثورية العالمية الجديدة):
يبقى إذن النظر فى المنهج بخصوص التغيير (أو الثورة) لمعالجة السلبيات القائمة وتجنب التفاقم فى تداعياتها. من المفترض أن يجرى هذا النظر فى سياق (أو فى إطار) يستهدف دعم الفعل الثورى الخاص بجماعيات المواطن العادى, والتى تبزغ ضد إنحراف السلطة, من أجل عموم المصالح الجماعية العامة للوطن والمواطنين, وترتقى فوق أية من ملابسات التدنى الى خصوصيات من أى نوع, عرقية أو دينية أو أيديولوجية ...الخ
ولأن المسألة تتعلق بذلك الفعل التاريخى الهائل "الثورة", فإن الأمر يتطلب إعادة التأمل بشأن معنى الثورة.
الحقيقة أن معنى الثورة الآن, فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين, يختلف بقدر كبير عنه فيما مضى. فى زمن ما, كانت الثورة تتمثل فى إنتفاضة العبيد ضد السادة. ثم تطورت الثورة لتصبح عنف شعبى, على درجات مختلفة من التنظيم, ضد الطبقة الحاكمة. ومع الوقت إتخذت الثورة شكل الإنقلاب العسكرى, ثم تلا ذلك شكل العصيان المدنى كقوة لإزاحة النظام الحاكم. لكن, الآن, فى الزمن الحالى, الأمر يختلف جذريا.
أول أسباب الإختلاف (وأهمها) يكمن فى الطبيعة العالمية, والعولمية, لإنتشار (ونفوذ) القوى المفترض القيام بالثورة ضدها.
وثانى الأسباب يكمن فى تطورات العلم والتكنولوجيا, خاصة وسائل المعلوماتية والإتصال, والتى أتت بتغييرات جذرية فى كل من أدوات الفعل الثورى و أدوات إجهاضه.
وأما السبب الثالث فيتمثل فى القصور النسبى فى طول النفَس (أوفى ثبات العزم) عند الشعوب, مقارنة بالقوى الأنانية المتطرفة الثلاث المشار اليها أعلاه. ذلك أن حركة الشعوب لازالت تعتمد بشكل رئيسى على حركة الأفراد بأجسامهم (فى الإضرابات والمظاهرات والعصيانات ... الخ), وذلك بدون رأس جماعية قيادية لهذه الأجسام, تكون قادرة على رسم المسار الثورى (الثورة المصرية نموذجا). أما بخصوص قوى الأنانية والتطرف الثلاث فإن عناصر الدفع فيها لاتظهر بأجسامها بشكل مباشر, وإنما تتحرك من وراء ستار. سواء كان الستار هو المال, أو الأعمال المخابراتية, أو غسيل الأدمغة, أو إستخدام البلطجة (والبلطجية) ... الخ, وهى لاتترك أية فرصة للإنقضاض, ولا تترك مكانها أبدا بسهولة مهما كلفها الأمر.
الأسباب الثلاث السابق ذكرها تعنى أن طبيعة الفعل الثورى صارت فى حاجة الى التغيير بحيث يصبح هذا الفعل أكثر مناسبة للزمن الحالى. إنه بالتأكيد ليس الإنقلابات, وليس العنف الجسمانى, وهو -أيضا- ليس مجرد العصيان المدنى بمعناه التقليدى.
من جانب آخر, لأن القوى المطلوب التصدى لها هى قوى "عولمية", فإن التصدى لها لابد وأن يكون "عالميا".
هنا تكون الحاجة ماسة لإدراك الفارق بين خاصيتى "العولمية" و "العالمية".
من ناحية, بالقوى العولمية نقصد قوى النيوليبرالية والتطرف والصهيونية, وبالعالمية نقصد تلك التوجهات والحركيات والقوى المعبرة - حقيقة - عن المصالح الأساسية المشتركة (و/أو المتماثلة) للشعوب .. عموم شعوب العالم.
ومن ناحية أخرى, العولمية فيها إفتعال, لأن العالم يبدو – تحت "يافطة" العولمة – واحدا بينما هو ليس كذلك, فالغنى يزداد غنىً, والفقير يزداد فقرا, والتوجهات المتطرفة (كالصهيونية وتلك المتذرعة بالدين ... الخ) تتزايد فى السطوة و الإنحراف, وفى قدراتها كوسائل لتفتيت العالم. أما العالمية فتتصل بعموم مصالح الشعوب, أو بمصالح عموم البشر.
من ناحية ثالثة, العولمية ترتكز فى جزء كبير من جوهر أدواتها على منتجات العلم والتكنولوجيا (الإتصالات والمعلوماتية – الأتمتة – النانونيات ...الخ ), الأمر الذى أعطى طبيعة أو نكهة معينة للعولمة, جعلها تعرف أحيانا بالعولمة التكنولوجية. ونتيجة للشره المادى وعدم الحكمة, الكامنين فى الإستخدام النيوليبرالى للعولمة التكنولوجية, فقد إرتفعت قيمة وتأثيرات كافة الماديات (من منتجات وتداعيات العلم والتكنولوجيا). ذلك مع ثبات أو هبوط نسبى فى حركيات الفكر الإنسانى المحض وفى الإنسانيات (التطبيقية) عامة, حتى أن النتيجة قد أصبحت " التنامى (والقبول) للشذوذ المعرفى فى العولمة", والذى تُعدُ بعض المفاهيم النيوليبرالية نموذجا له (مثل أنه يكفى للإقتصاد العالمى أن يقوم به 20% ممن يقومون به, بينما على ال 80% الباقية أن تعيش من إحسانات ال 20% العاملة).
فى تنامى هذا الخلل بين نوعى المعرفة , التكنولوجية العلمية من طرف, وتلك الفكرية الإنسانية من طرف آخر, يكمن الجزء الأكبر من السر بخصوص إستفحال قوى الأنانية, و ضيق الأفق, و المصالح الخاصة. وذلك مع ضعف نسبى موازى فى أدوات قوة الثورة (أو قوة الفعل الثورى) من أجل المصالح الإنسانية العامة, فى الساحات العالمية والمحلية.
وهكذا, مع إشتداد الخلل فى القيم والمعايير والوسائل, نتيجة الأنانية والتطرف, ومع سوء الإستخدام لمسارات وفوائض التقدم التكنولوجى, تتولد الحاجة للتحول الجذرى فى الفعل الثورى. إنه التحول مما كان عليه من أشكال ومعانى فى أزمنة سابقة (مثل الإنقلابات العسكرية والعصيانات المدنية التقليدية) الى معان وأشكال أخرى مختلفة, تقوم على تطوير المعارف و الأفكار (والأنظمة) الإنسانية التغييرية, وتتناسب مع إحتياجات نوعية جديدة إستحضرتها (وتنبهُ لها) "الجماعيات الإنتفاضية" من جماهير المواطن العادى فى الشمال والجنوب, على السواء.
"المعرفة الإنسانية التغييرية" إذن, هى المدخل (والإطار) الأساس للفعل الثورى (العالمى) المنتظر. إنه الفعل الذى يحمل الإمكانية والقدرة على السير فى الطريق (أو الطرق) الأنسب لتخليص العالم من شرور قوى الأنانية والهيمنة والتطرف, وكذلك للتحول من سلبيات العولمة الى إيجابيات العالمية.
الفعل الثورى هنا لايتمركز فى إحداث إنقلاب فى نظم الحكم, وإنما فى نشأة تغيير عالمى جذرى فى الأطر المرجعية الفكرية للمعايير والأحكام. وفى المقابل, يكون التغيير فى نظم الحكم, على المستويات المحلية جزءا من إنعكاسات و تداعيات "الثورة فى المعرفة الإنسانية التغييرية".
أما عن تفاصيل أشكال وأبعاد وحركيات منظومة المعرفة الإنسانية التغييرية (أو الثورية), فإن المقاربة العملية الأنسب لها تحتاج الى (أو تنتظر) "ثورة المفكرين", والتى ستجرى الإشارة اليها فى الجزء "سادسا" من الطرح الحالى.
برغم ذلك, فإنه يمكن هنا التجاسر بطرح عاجل لبعض المداخل (و/أو الخصائص) الأولية لها ( أى للمعرفة الإنسانية التغييرية) , والتى تجىء كما يلى:
1) التغيير الصحى يكون عالمى ومحلى متصل, حيث المحلية أساس للعالمية وأداة تبصير لها, والعالمية إطارا للتكاملات والتوازنات بشأن المحلية.
2) المعرفة الإنسانية التغييرية هى معرفة تطبيقية عبر تخصصية. إنها تقوم على الإستيعاب الكلى للمعارف الإنسانية النظرية المحضة كما تظهر فى مختلف المجالات (فى الفلسفة والسياسة والتاريخ والإجتماع والإقتصاد والتنمية الإنسانية...الخ). وهى ترتكز على الغايات الإنسانية الكبرى, وتأخذ فى الإعتبار الظروف الإنسانية (من أزمات وتباينات), وكذلك حدود الإمكانات المادية الحالية (علم وتكنولوجيا وثروات) وتلك المستقبلية (ماء – طاقة – غذاء ...الخ).
3) شرط أساسى للتوصل الى هذه المعرفة, ولحسن تطبيقها, ولتحقيقها قيمة مضافة تطويرية من خلال التطبيق, أن يكون هناك تواصل ديناميكى ثنائى الإتجاه, بين الأكاديميين والمفكرين من جهة, والقوى المهنية والسياسية الخاصة بالإنسان العادى من جهة أخرى (مثل النقابات والأحزاب). ذلك أنها عندئذ تكون معرفة إنسانية تغييرية "شعبية".
4) الأهداف التطبيقية الجزئية لهذه المعرفة تتضمن أغراضا على غرار:
- منهجة علمية تطبيقية لمحاصرة قوى الأنانية والتطرف.
- نحت نوعية جديدة أكثر مناسبة من العلاقات بين جماهير المواطن العادى, من جانب , وأدوات الإدارة و الحكم من جانب آخر.
- إستيعاب" نقدى خاص" للجزئيات غير العادية فى تجارب تغييرية معينة, مثل الضرائب ومقاومة الفساد فى سنغافورة والسويد, والتنمية الإقتصادية فى الصين وتلك الإجتماعية فى ماليزيا, والتكنولوجيات الجديدة فى الهند, والديمقراطية والقضاء على الجوع فى البرازيل. كل ذلك من حيث الظروف والمميزات والعيوب والمستقبليات.
- التوصل الى وسائل جديدة للتفعيل المعرفى التغييرى لدى عقول العامة, وربط ذلك بالتأثير على عمليات إتخاذ القرار.
- إنضاج (و/أو تطعيم و/أو تغيير الفكر الأكاديمى النظرى المحض) من خلال المقاربات النوعية المنطقية لمشكلات وأمراض الواقع التطبيقى الحقيقى.
يمكن القول إذن أن العالم الآن (ومعه الكرة الأرضية) أكثر مايكون إحتياجا لثورة معرفية إنسانية تغييرية. ثورة إندماج الحكمة بالعلوم والتكنولوجيا, و بالقيم الإنسانية العليا طويلة المدى, وبالحاجات الأساسية للمليارات من جماهير المواطن العادى.
إنه زمن يحتاج الى التحالف بين حكماء وعلماء العالم (ياحكماء العالم إتحدوا).
هنا يمكن القول أنه طالما لم تصل الإنسانية الى نهاية العالم, فإن من المنتظر للفعل الثورى (المعرفى) التغييرى أن يأتى, وأن يتطور.
من هذا المنظور تتحدد الإشكالية (أى إشكالية الثورة) أكثر وأكثر فى حاجة العالم الى "ثورة المفكرين".
وإذا كانت الإشكاليات (أو النماذج) الأكثر إحتياجا وإلحاحا بخصوص "ثورة المفكرين" تكمن الآن فى الثورات العربية فى الجنوب (وعلى رأسها الثورة المصرية), وفى القلاقل التى تملأ الشارع السياسى الجماهيرى فى الشمال (كما جرت الإشارة فى البند ثالثا أعلاه), ترى ماهو المأمول – براجماتيا – من المفكرين فى هذه المناطق من العالم؟ أو فى العالم ككل؟
سادسا - ثورة المفكرين:
1- من "فكر القوة الى قوة الفكر":
فى تقديرنا أن العولمة قد إستحضرت الى العالم, دولا وشعوبا, هيمنة مايمكن تسميته "فكر القوة".
لقد جرى ذلك فى الشمال - أساسا - بواسطة السياسات النيوليبرالية, والتى أدت الى أمواج هادرة من البطالة والتسريح والإنهاء لمجتمعات الرفاه.
وأما فى الجنوب فقد مورس "فكر القوة" من خلال مزيج من السلوكيات الديكتاتورية للأنظمة الحاكمة, ومن علاقات الفساد الخاصة لهذه الديكتاتوريات مع النيوليبراليات المحلية, والتى هى تابعة لمصالحها مع الغرب. ذلك إضافة الى ماأحدثته سياسات (وإنعكاسات) العولمة من تغييرات فى شؤن المال والإقتصاد كانت أضرارها بالنسبة للتنمية فى الجنوب تتوازى مع (بل وربما تزيد عن) منافعها بالنسبة للنيوليبرالية العالمية (من الأمثلة هنا: سياسات التجارة العالمية, وبيع المصانع الوطنية فى إطار ما عرف بسياسات إعادة الهيكلة).
الجديد المضاد ل (أو الذى جاء فى مواجهة) ممارسات فكر القوة فى الشمال والجنوب, على السواء, تَشَكَلْ فى صورة جماعيات جماهيرية هادرة. كانت هذه الجماعيات فى الجنوب مُمَثلة فى الإنتفاضات الثورية العربية, وفى الشمال مُمَثلة فى تظاهرات جماعية كبرى ضد السياسات النيوليبرالية.
هذا الجديد (الشعبى) المضاد لممارسات فكر القوة فى الشمال والجنوب, جاء متوافقا, من حيث التزامن, ومن حيث طبيعة الأمور. وذلك كفعل مضاد لممارسات وأفعال فكر القوة, والتى هيمنت على سلوكيات الأنظمة السياسية الحاكمة.
من هنا, يمكن النظر الى هذه الجماعيات الجماهيرية الهادرة, فى البلدان العربية والأوروبية, بإعتبارها العَرَضْ (و/أو المدخل) العملى التاريخى للنموذج الإسترشادى المضاد, والذى هو "قوة الفكر". من ناحية أخرى, فى غيبة العبور الى قوة الفكر تكون هذه الجماعيات الجماهيرية الهادرة أقل مناعة ضد شراسة إلتفافات "فكر القوة".
ماتوجد حاجة الى تأكيده, بخصوص إمكانية بزوغ "قوة الفكر" كنموذج إسترشادى جديد New Paradigm فى تسيير شؤن الشعوب, هو أن القدوم الوارد لهذا النموذج ليس أمرا خاضعا للصدفة.
إذا كان من الصحيح أن "جماعية" جماهير المواطن العادى فى حركتها الكبيرة الهادرة قد جاءت بتلقائية بالغة, إلا أنه من الصحيح أيضا, وبنفس القدر, أن هذه التلقائية جاءت من قلب الإرادة, وأنها أيضا قد تضمنت الإرادة. بالفعل, كانت هذه التلقائية فى الحركية الجماعية تمثل إرتقاءا مفاهيميا جموعيا يصل الى إدراك "أننا جميعا معا سنكون أقوى من قوة النظام". بمعنى آخر, أن قوة الجماعية (الجماهيرية) قد برزت, وتجسمت, بإعتبارها الملاذ الوحيد القادر على مجابهة قوة النظام (مهما بلغت شراسته وفاعلية أدواته).
قوة الجماعية هنا ليست إلا "قوة فكر جماعى تلقائى" جاءت بحكم الضرورة, التى تنامت وتجسمت مع الزمن, من أجل مواجهة عنف الفساد من جانب النظام (فى البلد العربى), أو عنف التطرف فى السياسات النيوليبرالية من جانب النظام (فى البلد الغربى).
إنها إذن (أى الجماعيات الشعبية التغييرية) تمثل مدخلا إبداعيا فطريا الى "قوة الفكر" فى مواجهة "فكر القوة" عند الأنظمة (و/أو الأحزاب) الحاكمة, فى الشمال والجنوب, على السواء.
هاهى إذن "قوة الفكر" تبزغ كضرورة فى مواجهة "فكر القوة", والذى كان قد جرى تأصيله بواسطة السياسات النيوليبرالية, والتى تُمثل الجانب الأكبر من سلبيات العولمة, الى جانب كونها قوة دفع رئيسية لها.
من هذا المنظور يمكن ل "قوة الفكر" أن تُميز مرحلة جديدة فاصلة فى تاريخ تطور العالم, حيث هى تأتى فى سياقات ناقدة لمرحلة الهيمنة الأحادية لسياسات براجماتية متطرفة, جاءت على أثر تحلل التوازن الدولى الذى ساد فترة زمنية سابقة, عُرفت بفترة الحرب الباردة, والتى كانت قد تميزت بالسياسات التنموية وبالرفاه الإجتماعية.
وإذا كانت الإنتفاضات الجماهيرية الجماعية, فى الجنوب والشمال, يمكن رؤيتها كمدخل مبدأى (أو بدائى) لعصر قوة الفكر (العالمى) فى مجابهة فكر القوة (العولمى), فإنه يمكن جذب الإنتباه الى أن الحاجة الإستشرافية الى قوة الفكر فى مواجهة (وكبديل ل) فكر القوة, قد بدأت فى التشكُل فور سقوط التوازن الدولى السابق بين الشرق والغرب, وبدء ظهور العولمة.
فى هذا الإتجاه تأسست العديد من الكيانات الدولية والقطرية, وذلك فى شكل منتديات ومؤتمرات وجمعيات أهلية ومراكز بحثية تهدف الى مناهضة العولمة, وكشف ماتلازم معها من سياسات إفقار وإفساد وإزدواج فى الشرعيات .
وفى هذا الإتجاه أيضا بزغت كتابات ورؤى محلية تحلل سلبيات العولمة, وتكشف وتكتشف السيناريوهات الممكنة لمواجهتها وتخطيها (من بين ذلك "الوطنية فى مواجهة العولمة" و "القفز فوق العولمة" – دار المعارف – القاهرة – 1999 و 2003 ,على الترتيب). بل وقد ظهرت بالفعل توجهات ترى فى قوة الفكر النموذج الإسترشادى الممكن لمجابهة فكر القوة الذى صاحب العولمة (المستقبل بين فكر القوة و قوة الفكر – المكتبة الأكاديمية – القاهرة – 2006). ولقد ظهر فى هذا الخصوص الرأى بإحتمالية مجابهة العولمة ب "حركيات ذهنية عبر حدودية يمكن بشكل ما أن تكون تطبيقا ثوريا لرأس المال الذهنى فى مجال التحولات المجتمعية" (مقال "العولمة والقوى القاطرة للتقدم: نهايات وبدايات" – الأهرام – 4 يونيو 2004).
هكذا الأمر إذن. العولمة لم تأتى صدفة, ولقد أحدثت قدر من التغييرات التى ساهمت فيما ساد ويسود العالم من عنف تراكمى (إقتصادى وسياسى وإجتماعى). غير أن هذا العنف قد تصاعد الى القدر الكافى لتوليد أفعالا مضادة لمجابهته.
وبينما عنف العولمة قد تأسس على نفوذ التحالفات بين المال والسياسة, فلقد وضح أن المجابهة الرئيسية له (أى لعنف تحالفات المال والسياسة) لايمكن إن تكون إلا بالإعتماد على قوة الفكر.
وإذا كانت قوة الفكر فى بوادرها الأولية (الإرتقائية) قد تجلت فى عظمة جماعية المواطن العادى (من خلال فكرة أننا سنكون أقوى عندما نكون جميعا معا فى رفض الأوضاع القائمة), فإن قوة الفكر ستتنامى أكثر, وتكون أعظم تأثيرا, من خلال مايمكن أن يكون من "جماعية المفكرين".
وهكذا, يمكن القول أن الثورة فى الزمن القادم, والذى يبدأ الآن, هى ثورة قوة الفكر (والتى تأتى كنتاج لثورة المواطن العادى وكتواصل تفاعلى إرتقائى معها).
المسألة إذن أن "اللخبطة" العولمية الجارية حبلى بأعراض لثورة من نوع جديد.
2- ثورة المفكرين – الحاجة والضرورة:
بينما قد مثّلت "جماعية" جماهير المواطن العادى إبداعا كلياً فى مواجهة دكتاتورية أنظمة الحكم فى الجنوب, وكذلك فى مواجهة الإنحراف بالديموقراطية فى الشمال, إلا أن حركيات الشارع السياسى, سواء فى الجنوب أو الشمال, لم تشهد إبداعات أخرى موازية أو تالية, يكون من شأنها إستكمال ودعم الحركيات الثورية (الجماعية) لهذه الجماهير.
فى هذا الخصوص, أخفقت الكوادر السياسية (و/أو الثورية) فى التحالف بشأن مهام إستكمال وحماية المسارات الثورية (أو الإحتجاجية), بل كانت بعضها, فى أحيان كثيرة, تبتعد عن هذه المسارات, بقدر إقترابها من مسارات تتعلق برؤى أو مصالح خاصة.
وهكذا, تُركت الجماعيات الجماهيرية, وماتحمله من عزم, للتحركات التلقائية أو العفوية, وللقوى المضادة, وللتعلم الذاتى , وذلك فى غياب رأس قيادية جماعية تدير تسيير المسار صوب تحقيق مطالب الجماهير.
هذا النقص فى الإبداع المجتمعى, بشأن إستكمال إحتياجات الثورات (أو الإنتفاضات الثورية) الشعبية, يحتاج – فى ظل غياب قوى سياسية قوية ورشيدة – الى رؤى يمكن أن تكون بمثابة البوصلة بالنسبة للجماهير, وأن تتبصر بها (ومن خلالها) القوى السياسية الأقدر على الإنتماء للإطار المرجعى الوطنى,والذى هو أعلى من الحزب أو الجماعة.
بمعنى آخر, هناك حاجة الى "فكر جماعى وطنى" يدعم وصول الثورات أو الإحتجاجات الجماعية الى سقف متطلباتها.
فى هذا السياق يمكن القول بأن العمليات التفكيرية وإن كانت فى الأساس تمارس على مستوى الفرد, إلا أنها ترتقى وتتعاظم فى فاعلياتها ومخرجاتها إذا مامورست – أيضا – على على مستوى جماعى وبشكل تقانى علمى سليم, أى بالحوار وبالإعتماد على المنهج العلمى فى التفكير.
عناصر الفكر الجماعى هذا هم المفكرون, غير أن المقصود بالمفكرين هنا -أيضا- كل من يحمل هما فكريا منظما بخصوص تقدم مجال عمله أو تخصصة أو تقدم المجتمع ... الخ, وليس فقط أصحاب الرأى من الكُتاب والأكاديميين.
فى الواقع الحالى تنحصر مخرجات المفكرين فى مقالات وحوارات تليفزيونية تبدو معظمها صراخية و/أو متضادة. وأما فى وجود فكر ناجم عن جماعية المفكرين , بخصوص مسارات الثورات وسيناريوهات تحقيق مطالب الإحتجاجات, فإن مهمة المفكر الفرد عندها ستكون دعم إنجاز المسار المطروح بواسطة العقل الجمعى للفكر الوطنى, والذى سيكون هو (أى المفكر الفرد) مساهما فيه بشكل مباشر أو غير مباشر .
فى هذا الشأن يمكن القول بأنه, الى حد كبير, قد إنتهى دور المفكر الكبير الأوحد, تماما كما قد إنتهى دور القائد الكبير الأوحد.
مع التطورات والتعقدات المذهلة فى المعارف والأحداث صارت الإنسانية, على مستوياتها المحلية والعالمية (أو الجزئية والكلية), بحاجة الى إرتقاء كل مفكر فرد الى "الإمتداد" بعملية التفكر, وذلك بحيث تتواصل, بشكل صريح ومباشر, مع إمتدادات مماثلة من كل مفكر فرد آخر.
ذلك يعنى أن التفكير كعملية إبتكارية, وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالمعارف والإحتياجات والرؤى والتوجهات التغييرية المجتمعية, يمتد ليصبح جماعيا.
إرتقاء عمليات الفكر والتفكر الى المدار الجماعى, والى الجماعية, يكون عندئذ بمثابة التعويض والعلاج لتقاعس السياسيين عن الإرتقاء الى جماعية المواطن العادى.
ربما أيضا فى هذا الشأن يمكن القول بأن إرتقاء عمليات الفكر والتفكر الى المدار الجماعى, والى الجماعية, سيكون بمثابة المدخل الى الميكانيزم التصحيحى (أو التعويضى) لتسيُد سطوة المال (خاصة من خلال سؤ الإستغلال السياسى والمادى للعولمة التكنولوجية) على المصالح العامة والحقوق الإنسانية لكتل جماهير المواطن العادى.
وفى الأساس, من المنظور التطبيقى قريب المدى (فى مصر كمثال),يكون هذا الإرتقاء إمتدادا ودعما للجوهر فى الإحتياجات والآمال (الجماعية) لجماهير المواطن العادى. ذلك بحيث تتمكن هذه الجماهير من إنجاز الأهداف "الجماعية" التى إرتقت الى ممارسة الثورة من إجلها (كما حدث فى بزوغ ثورة 25 يناير), ولا تتعرض للإنحراف من خلال قصور ما فى قوى السلطة (المجلس العسكرى), أو من خلال مرجعيات سياسية أدنى من مستوى مرجعية الثورة أو مرجعية الوطن. وذلك ( أيضا وبالتمام) كما حدث فى مسار 25 يناير, نتيجة قصور ومحدوديات فى الأفق والمرجعيات عند القوى السياسية, والتى تعامل بعضها - أفرادا وجماعات- مع الثورة, من منظور خصخصة الفرصة. من هذا المنظور, عند بعض الكوادر السياسية اللامعة, كان الطموح يتعلق بما يشبه خصخصة الزعامة. وأما عند الجماعات السياسية المتخذة من الشكل الدينى إطارا – أو حصانا – لها, فالطموح يبغى خصخصة السلطة (فى البرلمان والرئاسة والحكومة,...الخ). كل ذلك, من هؤلاء الأفراد الكوادر, أو من هذه الجماعات, بزغ كبديلا أنانيا للثورة وللوطن.
3- ثورة المفكرين- الأهداف والوسائل:
بداية, يمكن القول (أو التوقع) بأن ثورة المفكرين ستتمثل فى جماعيتهم, أى فى "جماعية المفكرين". ذلك بمعنى أن يضيف المفكرون الى ممارساتهم (وواجباتهم) الفكرية مسؤلية (وواجب) العمل معا.
أما عن الأشكال العملية لطريقة عمل المفكرين معا فمن الممكن أن تتباين كثيرا وأن تشهد إبتكارات عديدة. وعليه, فإن أهم مايمكن الإشارة اليه هنا, فى حيز هذا الطرح التمهيدى ل"جماعية المفكرين", هو أن الغرض من هذه الجماعية يتمحور فى إرتقاء المفكرين الى تقديم أعظم مايمكن تقديمه (جماعيا) من رؤى, وإستراتيجيات, ومقترحات يكون من شأنها التوضيح, والدعم, والمساعدة, والمساندة, للمتطلبات التغييرية التى تنشدها جماعيات المواطن العادى فى موجاتها الثورية, أو التى تكون جماهير المواطن العادى فى حاجة اليها لرفع معاناة ما عنها, أو لتجنيبها هذه المعاناة.
من هذا المنظور تكون "جماعية المفكرين" أداة ثورية على المستوى المجتمعى, و/أو الوطنى, و/أو الإنسانى العام. إنها عندئذ تكون مُنيرة لجماعيات جماهير المواطن العادى, وهادية للقيادات السياسية.
الإضافة الثورية لجماعية المفكرين يمكن أن تتجسم فيما يلى:
أ‌) جماعية المفكرين كأداة لسد نقص طارىء (أو حديث) فى الإبداع المجتمعى. هذا النقص يتمثل فى الفجوة (أو الهوة) بين الجماعيات الإبداعية لجماهير المواطن العادى (من حيث جدتها وجوهرها ومقاصدها) من ناحية, وأوجه القصور والبراجماتيات الموازية, من جانب النخب السياسية التقليدية (الأحزاب والحكومات), تجاه إحتياجات جماهير المواطن العادى, من ناحية أخرى.
ب‌) جماعية المفكرين كأداة منتجة لماهو أعلى بكثير من إمكانات المفكر الفرد, أى كأداة مُحدثة للسينيرجيا (أى Synergism), أو للتضافرية, والتى يمكن أن تصنع من هذه الجماعية بديلا للمفكر الكبير الفرد فيما يتعلق بالقضايا المجتمعية (أو الوطنية أو الإنسانية) المستقبلية المعقدة.
الإشكالية هنا أنه مع تفرع وتعقُد هذا النوع من القضايا (خاصة فى ظل تطورات المعارف وتطورات العولمة, وكذلك تطورات تداعياتهما) صار من الصعب (بل ويكاد أن يكون من المستحيل) أن تتعدى إمكانات المفكر الكبير الفرد, بخصوص المساهمة بالمنظورات الكلية الكفئة, حدود مجال تخصصه (أو عمله) سواء هو التاريخ, أو الفلسفة, أو العلوم السياسية, أو علم الإجتماع, أوعلم النفس, أو العلوم الطبيعية, أو علوم الديانات, ...الخ,...الخ.
من ناحية أخرى, يمكن القول بأن المفكر الكبير الفرد, المتخصص فى مجال ما بعينه, وإن كان يستطيع أن يدلى بدلوه (ورؤاه) كفرد فى القضايا المجتمعية (أو الوطنية أو الإنسانية) المستقبلية المعقدة, إلا أن نضج عطائه (بالنظر الى تعقدات القضايا وكلياتها وشمولياتها), سيكون جزئيا, أى أدنى من إستحقاقات معالجة هذه القضايا. ذلك إضافة الى إنخفاض مستوى موضوعية رؤاه, الأمر الذى قد يرجع الى الإنحياز -التلقائى- لمرجعيات التخصص, أو لمرجعيات أيديولوجية خاصة.
ت‌) جماعية المفكرين كبوتقة (أو كمصدر) لثراء التنوع, الأمر الذى يمكن أن يقود لإنعكاسات حميدة لهذا الثراء على الحركيات المجتمعية فى كلياتها, وفى دقائق تفاصيلها.
ث‌) جماعية المفكرين كوسيلة ذهبية Golden Tool (أى يكاد لايُعلى عليها) فى تقديم أحسن معرفة ممكنة, فى الوقت الذى يحتاجها فيه المجتمع. ذلك بمعنى تقديم هذه المعرفة تماما فى الوقت المناسب, أو مايمكن أن يُطلق عليه Just in Time Knowledge. وعليه, فإن جماعية المفكرين يُمكن أن تُعد وسيلة ذهبية للإرتقاء المجتمعى, خاصة فى ظل الظروف الأكثر حرجا و/أوتعقيدا.
ج‌) جماعية المفكرين كجسر لذهاب المجتمع الى المستقبل لإستحضار أحسن مافيه (وأحسن ممكناته) مناسبة.
ح‌) جماعية المفكرين كمدخل معرفى/علمى لوضع أساسيات لأحسن إدارة ممكنة للمجتمع, وذلك كبديل للإعتماد (و/أو الإنحياز) لأية أيديولوجيا ما, منفردة بذاتها, والتى قد تكون منحرفة عن الموضوعية المناسبة للواقع وللمستقبليات, وذلك لطبيعة إنغماسها فى خصوصيات من الجماليات والمثاليات.
خ‌) جماعية المفكرين كوسيلة لتنشيط (وحسن إستيعاب) الذكاء المجتمعى, والذى يُعد أساسا لإرتقاء المجتمعات والأمم.
4- ثورة المفكرين – القضايا:
مما سبق يتضح أن القضايا المقصودة للتناول والحل من خلال ثورة المفكرين هى قضايا مجتمعية كلية مركبة, وهى ترتفع – مهما بلغت دقتها وخصوصيتها – فوق مستوى المجالات أو التخصصات, وكذلك فوق مستوى تقليديات العمل السياسى.
برغم أن القضايا المجتمعية المركبة من هذا النوع ربما تزخر ببعض الإختلافات بين مجتمع وآخر, إلا أن التعامل معها بالتناول الفكرى الكلى المحض, بواسطة جماعية المفكرين فى المجتمع المعنى, سيقود الى توليد معرفة تطبيقية جديدة, مفيدة لبقية المجتمعات.
من الأمثلة, بخصوص القضايا المجتمعية (وعبر المجتمعية) التى برزت من خلال الجماعيات الثورية والإنتفاضية فى البلدان العربية والأوروبية, يمكن الإشارة الى مايلى:
1) السُلّم (أو الترتيب) المرجعى للإنتماءات (الدين – الوطن – العائلة – الأيديولوجيا – الإنسانية ... الخ).
2) إشكاليات عدم التكافؤ فى فرص العيش ( و/أو فى الممارسة الديمقراطية), والميكانيزمات الممكنة لتخطيها.
3) الحريات بكل أنواعها, ومستوياتها, والمتطلبات والضمانات الضرورية لإتاحتها و الحفاظ عليها.
4) الطريق (أو الطرق) الى مجتمع الرفاه, وفقا للخصوصيات المجتمعية (من إمكانات ومشكلات,...الخ), وتخطيا للتشوهات التى تحدث بواسطة الرؤى السياسية الخاصة, مثل النيوليبرالية, ومثل سؤ إستغلال العولمة التقانية.
5) أساسيات النشاط السياسى المُهذب ( والذى يمكن تسميته Good Political Practice) , أى الذى لايقصد الى "إستغفال" و/أو سرقة الآخر, أو الغير, أو العامة. وكذلك وسائل المحافظة على تهذيب الممارسات السياسية من سؤ إستخدام ماهو غير سياسى فى الأساس, مثل العقائد الدينية.
6) الحفاظ على الوعى من التشوه, خاصة الوعى الوطنى, والوعى الإنسانى.
7) المقاومة والتجبيه ضد الفساد, والإستبداد, والعنف.
8) منهجيات دعم الجماعيات الجماهيرية, ودور النخبة السياسية والبيروقراطية و الفكرية تجاهها.
9) أصول الحكم فى زمن القرن ال 21 عموما, وعلى المستويات الوطنية.
10) قضايا وحدة الوطن, والتى بينما هى قضايا مصيرية طويلة المدى, فإنه تجرى شيطنتها بواسطة مقاربات وجهات أجنبية عدائية, بالتعاون مع أخرى محلية عميلة, أو جاهلة.

5- ثورة المفكرين – النماذج قريبة الإحتمال:
لاشك أن الجماعيات التى تشكلت مؤخرا (الى حد ما بدءا من 2010) من جماهير المواطن العادى تمثل منبرا جديدا لتدافعات (أو تداعيات) سياسية من نوع جديد (سواء هى إيجابية أو سلبية). وبينما الجدة فى هذه التدافعات تدل, بشكل أو آخر, على تخطى هذه الجماهير لمصداقية السياسيين (من الأطياف المختلفة), فإنها تفتح الباب للجدّة الخاصة بجماعية المفكرين.
المسألة إذن تتمثل فى نشأة تدافعات سياسية صارت موجودة بالفعل, ولم تؤدى بعد الى الحد الأدنى من الإستقرار السياسى الذى يمكن أن يُمهد لتطورات (أو إمتدادات) خطية حميدة محتملة يمكن التنبؤ بها, ولو فيما يختص بالزمن القريب نسبيا.
هذه الوضعية من التدافعات السياسية, والتى أدت الى مايمكن إعتباره فجوة (أو إضطرابات) فى الإنتقال الى مرحلة مابعد جماعيات جماهير المواطن العادى, هى ذاتها الوضعية الدافعة الى إحتمالية (وإمكانية) بزوغ "جماعية - أو ثورة- المفكرين".
فى هذا الصدد, ربما يمكن القول بتوفر قدر من الظروف الموضوعية التى تؤدى الى إحتمالية عالية نسبيا لبزوغ جماعية (أو ثورة) المفكرين فى بعض البلدان (أو المناطق), والتى يمكن الإشارة اليها كمايلى:
- مصر / تونس:
ظروف ومفارقات عديدة أدت الى قدر من التشابه بخصوص ملابسات وتداعيات الإنتفاضة الثورية التى شهدتها كل من مصر و تونس.
الأكثر أهمية فى هذه الشأن أن سياقات الإنتفاضة الثورية فى كل من مصر وتونس قد تميزت بدرجة عالية من التحضر (فى الرؤية والسلوك) من جانب الجماهير, وأيضا درجة تحضر نسبية ملحوظة من رأسى النظامين, تمثلت فى عدم الولوج الى حرب أهلية من أجل الإستمرار فى الإحتفاظ بكرسى الرئاسة, وذلك أيا كانت الأسباب التى أدت بهما الى ذلك.
من ناحية أخرى, وبرغم ما شابه تصرفات المجلس العسكرى فى مصر من قصور وتردد وأخطاء فى أرض الواقع, إلا أن العسكر فى البلدين كانا (ولايزالا) فى منأى عن الصراع من أجل السلطة, والى حد كبير حارسين للأمن القومى فى مرحلة مابعد بزوغ الثورة وحتى الإستقرار المأمول.
من ناحية ثالثة قادت السياقات فى أرض الواقع الى هيمنة نسبية أعلى للإتجاهات السياسية المستندة الى الشكل الدينى, مما أدى (ويؤدى) حاليا الى صراعات فى التوجه الأيديولوجى, خاصة بين مايبدو دينى ومايبدو ليبرالى أو علمانى.
هذه الملابسات الثلاث, فى مجموعها, تقود الشارع السياسى فى البلدين (مصر وتونس), بالتدريج, الى حيز الذهاب الى التفاعلات والتعمقات ذات الطبيعة الذهنية والفكرية فيما يتعلق بالإطار الثقافى للسلطة.
وهكذا, وضعية الشكل والحركيات فى الشارع السياسى فى كل من مصر وتونس تستدعى الفكر والمفكرين, الأمر الذى يوفر مناخا مواتيا لبزوغ جماعية المفكرين, والذين يزخر بهم كل من البلدين.
- الولايات المتحدة الأمريكية:
توقع حدوث شيئا على غرار الثورة على مستوى المفكرين فى الولايات المتحدة الأمريكية يرجع الى تصاعد فى عدم رضاء المفكرين من كبار الأكاديميين الأمريكيين عن السياسات الأمريكية, سواء داخل أمريكا أو خارجها. من نماذج عدم الرضاء يأتى كتاب مستقبل الثورات الذى جرت الإشارة اليه أعلاه, كما يأتى فكر أكاديميين كبار مثل ناعوم تشومسكى (عالم اللغويات), و الإقتصادى جوزيف ستيجلتز. ذلك إضافة الى حدوث قدر من التغيير فى الإنتباه السياسى عند المواطن الأمريكى العادى من جرّاء الأزمة المالية (2008).

وربما يمكن القول أيضا أن وصول أوباما الى الرئاسة الأمريكية, ومن بعد ذلك نجاحه فى التمديد الى فترة ثانية, وخوضه الصراع (الإنتقائى) من أجل التأمين الصحى العام للمواطن الأمريكى (ومؤخرا من أجل إستحقاق الدولة لفرض مستوى جديدا من الضرائب من أجل زيادتها كأداة لمعالجة مشكلات مثل البطالة), إنما كلها أمور تشير الى مقاربات أولية للتغيير فى الفكر السياسى الأمريكى.
هذا, وإن كانت الجماعية الفكرية التغييرية فى أمريكا محتملة, إلا أنه من غير المحتمل أن تؤثر هذه الجماعية فى إتجاه إحداث تغيييرات رئيسية فى علاقات السلطة فى أمريكا فى وقت قريب.
من جانب آخر يمكن التوقع بأن الإنعكاسات الإيجابية للجماعية الفكرية الأمريكية المحتملة ستكون خارج الولايات المتحدة, بأكثر بكثير مما ستكون عليه داخلها, وذلك لإعتبارات أمريكية صرفة تتعلق أساسا بلعلاقات السياسية للقوى المالية.
- المنطقة الأوروبية:
القوى الممكنة الدافعة لبزوغ فكر جماعى تغييرى فى أوربا ربما تأتى فى سياق تصاعد فكرى كردود أفعال للسياقات التى أدت الى جماعيات المواطن العادى. كما أنها ربما تأتى أيضا كنتاج للمقارنات بين ظروف الرفاه الإجتماعية للمواطن الأوروبى فى الدول الإسكندنافية, وتلك فى بقية البلدان الأوروبية, حيث الصعوبات المعيشية المتصاعدة (خاصة فى التوظيف وتكلفة الحياة)
- فنزويلا:
الإشارة الى فنزويلا كبلد مرشح لجماعية المفكرين تأتى فى سياق تصاعد التدافع السياسى الصريح بين النموذج الإشتراكى من جهة, والنموذج النيوليبرالى من جهة أخرى. الأمر الذى يجعل هذا التدافع السياسى يمكن أن يقود الى العمل الجماعى الفكرى يعزى الى عاملين رئيسيين.
العامل الأول يتعلق بتصاعد فى الوعى السياسى عند المواطن الفنزويلى الفقير, وأما الأمر الآخر فربما ينشأ فى سياق عدم الرضا, عند أصحاب الفكر المحض فى فنزويلا, عن لجوء شافيز لتغيير الدستور خصيصا للتمهيد له للترشح لفترة رئاسة ثالثة.
- المنظمات المدنية عبر الدولية:
ربما يجدر أيضا جذب الإنتباه, فى معرض الإشارة الى النماذج قريبة الإحتمال, الى وجود منظمات - شبه فكرية - عبر دولية, يمكن (عند توافقها) أن تلعب أدوارا محسوسة فى جماعية المفكرين على المستويات المحلية والدولية. إنها – على وجه الخصوص – المنظمات المناهضة للعولمة.

- ويكيلكس:

مع بزوغ الفكر الجماعى, ومع حدوث قدر من التوافق بين المنظمات المناهضة للعولمة, يمكن التوقع بنشأة فكر شعبى عالمى فى إتجاه التعضيد لمنظمة ويكيلكس, ولمنظمات أخرى على غرارها. ذلك حيث مع قوة الفكر تتزايد الحاجة الى الشفافية والى المعلوماتية الخاصة بتحجيم فكر القوة.
وكخاتمة لهذا الطرح, يمكن القول بأن العقد الثانى من القرن الحادى العشرين قد بات مؤهلا لأن يشهد مقاربات فكرية (نوعية) جديدة لمشكلاته وعُقدِه. إنها مقاربات تنشأ فى إطار سياقات وإمتدادات للجماعيات (وأو الثورات) الشعبية التى بزغت مؤخرا فى الجنوب والشمال على السواء.
وفى الوقت الذى يمكن فيه لهذه المقاربات الفكرية أن تكون داعمة لجماعيات جماهير المواطن العادى فى الشارع السياسى, فإنه من المتوقع منها أن تحمل بذورا لتغييرات أصيلة فى الفكر الأكاديمى (والتنموى) فى مجالات المعارف والعلوم الإنسانية (السياسة – الإقتصاد – الإجتماع ... الخ). وهى تغييرات قد تصل الى حد بزوغ إنقلابات (و/أو تصحيحات) فى النظريات القائمة.
من جانب آخر, يمكن القول بأن التغييرات الفكرية عندما تأتى من رحم معاناة (وإعتراضات) الملايين من جماهير المواطن العادى, فى الشمال والجنوب على السواء, فإنها ستكون تغييرات جذرية الى حد كبير, الأمر الذى سيجعل منها مصدرا رحبا لتغييرات بسيطة متصاعدة على مدى زمنى طويل نسبيا (عدة عقود).
وهكذا, معاناة (ومتطلبات) المواطن العادى تصبح المحور الرئيسى (وقوة الدفع) للتغيير.



#محمد_رؤوف_حامد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد رؤوف حامد - مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين