أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد حسن - النهر / قصة قصيرة















المزيد.....

النهر / قصة قصيرة


محمد عبد حسن

الحوار المتمدن-العدد: 6260 - 2019 / 6 / 14 - 12:31
المحور: الادب والفن
    


النهر

(1)
- (ولَكْ يُمّه محمد).

قالت ذلك بنشيج يدمي القلب مستحضرة كلّ تاريخ حزنها المتراكم؛ فبدتْ وكأنّها تنتزعه من أعماقها كخنجر مثلوم وهي تقطع المسافة بين السيارة المتوقفة، ليس بعيدًا، وضفة النهر.. متعثّرة بأكوام أحجار لم تسوَّ بعد. عباءتها، وقد سقطتْ على كتفيها قبل أنْ تتركها مكوّمة على الأرض، تنفخها الريح فتبدو كبالون أسود كبير. جَمَعْتها، أنا الذي أسير خلفها.. وكانت قد سبقتني إلى هناك.
لم يكن الحارس قد وصل بعد حين سقط طائر أمامي.. قريبًا من قدميّ. أفزعني سقوطه. بقيتُ أنظر إليه وهو يرفرف بجناحيه مثيرًا التراب حوله قبل أنْ يهدأ تمامًا وجناحاه مفرودان على الأرض. ولم يكن هناك أحد غيرنا نحن الثلاثة وأكوام التراب غير المفروشة.. فيما دوّامات النهر مستمرة بحفر اللسان الترابي وحمل ذرّاته بعيدًا.
(2)

خُيِّل لي، وأنا أراه يدخل للمرة الأولى من باب الدائرة الرئيس، أنّني أعرفه. ربما كنت رأيته من قبل. انتبهتُ إلى أنّ أحد أزرار قميصه كان مفتوحًا. ذكّرني دخوله بقلقي وتبعثري وأنا أدخل من الباب ذاته أوّل مرّة قبل سنين. وقتها لم يتبعني أحد ليدلّني على المكتب الذي ذكره لي موظّف الاستعلامات؛ ولذلك تبعته. قمتُ.. ربطتُ زرّ قميصي المفتوح وتبعته.
لا أدري إنْ كان هو مَنْ اختارني.. أمْ أنّ الأمر كان نتيجة طبيعية لسيارة وسائق دون مهام محدّدة. فقد كنت أقضي النهار متنقّلًا بين الغرف.. وربما أخرج على عجل بمهمة تستجد. ولذلك بدا الأمر وكأنّني كنتُ أنتظره.
في اليوم الأول، وأنا أوصله إلى البيت، لا أعلم كيف قدتُ.. و أي الطرق سلكتُ. ربما كان يُرشدني ويحدد لي الانعطافات حتى، وفي غفلة منّا نحن الاثنين، توقّفتُ أمام بيتهم. عند الباب.. كانت فتاة صغيرة، علمتُ فيما بعد أنها ابنته، تنتظره. وإذ رأتني هبّتْ واقفة:
- (أجه بابا).
(3)

بعد أيّام، أسبوع أو أكثر، من تكليفي بمرافقته.. فتح ثغرة بيننا حين دعاني لشرب (استكانة) شاي. حصل ذلك عندما أوصلته. أصرَّ عليَّ، آخذًا بيدي، لأدخل.. فدخلتُ.
ولم يدخلني لغرفة الضيوف.. بل سحبني معه عبر دهليز يغمره الظلّ متجاوزَين بابها المغلق دائمًا، إذ لا ضيوف يأتون، إلى باحة الدار المضاءة. وكان كلّ شيء في محلّه.. أدركتُ ذلك وأنا أقف متأملًا الأشياء حولي: باب المطبخ في الزاوية البعيدة، الشباك المفتوح على الباحة يُمكّنني من رؤية مصباح الغرفة المضاء، الدرجات الثلاث للسلّم الصاعد، قبل أن ينعطف، خالية ومكنوسة للتوِّ.. وقد أُصلح الكسر القديم في شفة الدرجة الثانية فبدا لونه مغايرًا.
ولمّا كنتُ أعرف مكاني على أريكة الصالة الوحيدة؛ ذهبتُ لأجلس فيه دون أنْ يطلب أحد منّي ذلك.


(4)
- (ولَكْ يُمّه محمد).

وكنت أراها، عبر دهليز المدخل المظلم، في باحة الدار المضاءة بعد صباحات على رحيله جمعت فيها كتبه الموزّعة في أدراج الطاولة وعلى الرفوف.. أوراقه المزدحمة بالشطب والتعديل لعمل كان يكتبه عن (طويل العمر) كلّما خلا بنفسه في مكتبه؛ إضافة إلى بعض أيقونات كان يضعها أمامه مضمّنًا إحداها صورة طفلته.. حملتها كلّها وذهبتُ.
عندما فتحت الصغيرة الباب ورأتني؛ صاحت وهي تركض إلى جدّتها: (أجه بابا). وقبل أن تهمّ العجوز بالنهوض كنت قد أصبحتُ قريبًا منها، ضمّتني إليها.. فيما الصغيرة مستمرة بتسريح شعر دميتها عند طرف الأريكة الآخر. ثم دخلتُ إلى غرفته.. أعدتُ بعض الكتب إلى أماكنها على الرفوف، والتي يحتفظ بها عند رأسه؛ تركتها فوق طاولة صغيرة قريبة من طرف السرير الملاصق للجدار ومعها صورة الصغيرة متجهة نحو الوسادة، بعدها دسسّتُ أوراقه مع تلك التي يحتفظ بها تحت رأسه. فكرّتُ بأخذها.. ولكنّي لم أفعل.

(5)

أخبرني، ونحن نعود ذات ظهيرة، أنّه سيكلّف بتنفيذ سدّة ترابية.. وكان حديث بهذا الخصوص قد سرى في أروقة الدائرة قبل أيّام. نزَّ القلق إليّ، وتذكرّتُ أمي وهي تُحذّرني من النزول إلى النهر، وكنتُ أطيعها.. أبقى جالسًا، على الجرف، بدشداشتي المقلّمة.. أنظر إلى صحبي وهم يلهون بالماء فيما يدي فوق ثيابهم المكوّمة قربي كي لا تطير.
لمّا التفتُّ إليه؛ وجدتُه قلقًا. وبدلًا من أنْ نذهب للبيت.. قدتُ السيارة إلى النهر بعد أنْ طلب منّي ذلك.. أو أنّي قرأته على وجهه.. لا أدري. وقتها أخبرني أنّه جازف يومًا واقترب من النهر بعد أنْ وضع حجرًا على الثياب المكوّمة قربه.. لمَّ دشداشته المقلّمة إلى فخذيه وأدلى ساقيه في الماء. وحين أحسّ برودته تدغدغ ساقيه وتتغلغل بين أصابعه.. كانت ذراعا أمّه قد أحاطتا بجسده. وحملته إلى الدار. وظلّتْ، وهي تسير، تُعيد بصوت لا يتعدّى أذنه: (ولَكْ يمّه محمد).

(6)

حين استلم الأمر الإداري القاضي بتنسيبه مديرًا لمشروع إنشاء سدة ترابية لحجز الماء المتدفّق من النهر إلى أراضٍ مجاورة.. وكنت واقفًا أنظر إليه. لم يكن الموسم موسم فيضان، فأنهارنا لم تعد تفيض. كان ظهره إليّ. وعندما التفتَ؛ رأيتُ وجهه كما لم أره في أيّ يوم آخر.. ثم سبقته إلى السيارة.
في زيارتنا الأولى لتفقّد موقع العمل، لتحديد الاحتياجات ووضع خطّة تضمن إنجاز العمل ضمن جدوله الزمني المعدّ، بقي، الطريق كلّه، صامتًا وهو يجلس إلى جانبي. جسده، فقط، يتحرّك مع مرور السيارة فوق حفر كثيرة يصعب تحاشيها. وفي اللحظات التي اختلستُ النظر فيها إليه؛ وجدته ينظر للنهر العريض الممتد على يمينه. وهناك.. حدد، بيده، مكان غرف إدارته.. والنقطة التي سيبدأ عندها العمل تاركًا ساحة كبيرة تسمح للعجلات والمعدات التحرّك فيها بحرية.. ثم عدنا.
لم أنجح في تجاوز الكثير من حفر الطريق لكوني أمرّ من هناك للمرّة الأولى.. أو لا أراها وأنا أنقل عينيّ بينه والنهر محاولاً العثور على نقطة تسمّرتْ عليها عيناه متجهة معنا نحو المدينة.
لم يستغرق تجهيز الموقع أكثر من ثلاثة أيام نقلنا فيها عددًا من (الكرفانات) وخزانين للماء.. ومولد كهرباء نصبه بعيدًا ليتخلّص من ضجيجه.. ثمّ مهدّنا الطريق بطوله لتسهيل دخول الآليات. وفي صباح اليوم الرابع.. وبدلًا من أنْ نذهب إلى الدائرة.. باشرنا العمل في الموقع.

(7)
- (ولَكْ يمّه محمد.. جِبِتْ بتّكْ ويايّ).

عندما تأخرّتُ عليها في الصباح؛ وجدتها عند الباب والطفلة معها. كانت مكوّمة على العتبة وعيناها تتابعان الصغيرة وهي تتقافز قريبًا منها بثياب سود. لا أدري إنْ كانت قد قالت: (إجه بابا).. أمْ أنّ العبارة طفتْ في رأسي لكثرة ما سمعتها منها أيّام كنت أوصله ونجدها هناك بثياب ملونة.
ومع إنّها كانت تلعب قرب جدتها؛ إلا أنّ شيئًا ما فيها يبدو قد انطفأ. تيقّنتُ من ذلك وأنا أتابع، عبر المرآة، وجهها الطفل وضفيرتيها المربوطتين بشريط أسود.. فيما جدّتها تسند رأسها على ظهر مقعد السيارة وكأنّها نائمة.
(8)

هذه المرّة.. وجدنا الحارس ينتظرنا في الساحة الكبيرة. يبدو أنّه خرج لمّا لمح سيارتنا تقترب. كان هو الوحيد الذي بقي في الموقع مع حارس آخر لم أره في كلّ المرّات التي جئتُ فيها بعد توقّف العمل.. ولم أسأل عنه. ولمّا وقفنا قريبًا منه؛ سارع لفتح الباب وساعدها على النزول.. فيما التقطتْ هي يد الصغيرة وهي تقفز إلى الأرض.. ثم كلّمني بصوت هامس لم يصل إليّ. وفهمتُ، من إشارة يده إليها.. وإلى باب المكتب المفتوح، أنّه سيبقى معهم.. وأنّ بإمكاني قضاء بعض الوقت مستريحًا هناك.
في المكتب.. كان كلّ شيء باقٍيًا على فوضاه المحببة: بذلة العمل ما زالت تتدلّى من مشجب ، في الركن ، وقد ترك ارتداءها ذلك الصباح وكأنّه أراد مواجهة النهر بكامل أناقته.. بعض أوراق ثبّتَ عليها ساعات عمل الآليات وكميّات التراب الواصلة للموقع؛ وأمور أخرى يبدو أنّه خربشها على عجل.. علبة سجائر فارغة، فيما واحدة، يبدو أنّه أخذ منها نفسًا أو نفسين قبل أنْ يتركها ويخرج، تضطجع منطفئة في المنفضة. امتدّتْ يدي إليها.. ثم إلى القداحة المحشورة في قلب العلبة. ومع ارتفاع الدخان نحو السقف؛ أمسكتُ بالقلم وبدأتُ أتمُّ، فوق الورقة المبسوطة أمامي، ما كان قد بدأه.
(9)

أثناء فترة وجودنا هناك.. بقيت الصغيرة مشغولة بجمع الحصى ورمي النهر به، وكانت تمنعها كلّما انتبهت إليها:
- (لا يمّه.. خاف تصيبين راس أبوچ).

وفي طريق العودة.. نامت أمّه محتضنة الصغيرة فيما النهر مستمر بجريانه غير عابئ بكلّ توسّلاتها ومواويلها الحزينة. تحسستُ رأسي وأنا أسير: إحدى عينيّ غافلة عن مطبّات الطريق وحفره.. فيما عيني الأخرى تتابع نقطة، وسط النهر، وهي تنحدر معنا نحو المدينة.


تموز 2018
البصرة



#محمد_عبد_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب (السائرون نحو المجد).. تأليف الوثيقة!
- البصرة.. وسوق (الپالات) (تساؤلات)
- الطائر .. يا صديقي / قصة قصيرة جدًا
- متنزه السراجي.. أم مجمع القصور الرئاسية
- رائحة أخرى للورد
- هل يخسر البصاروة كثيرا لأنهم يعيشون قليلا؟
- الكرسي الهزاز
- في انتظار غودو (قصة قصيرة)
- جماعة البصرة أواخر القرن العشرين (شهادة)
- جماعة البصرة أواخر القرن العشرين في -المشهد الثقافي لمدينة ا ...
- روايات بمداد مالح
- الطريق إلى الحلم


المزيد.....




- النساء والفنون القتالية: تمكين للعقل والجسد
- الشاعر معز ماجد: اللغة منظومة تاريخية وجمالية تشكل نظرتنا لل ...
- مشروع CAST الكوري يأسر الشرق الأوسط وتايوان ويعرض الانجذاب ا ...
- المغرب.. مشهد من فيلم في مهرجان مراكش يثير جدلا
- مهرجان مراكش يعلن عن المتوجين بجوائز -ورشات الأطلس-
- معرض العراق للكتاب.. زوار يبحثون عن الغريب والجديد
- Strategic Culture: تجاهل العقيدة النووية الروسية المحدثة يقر ...
- اللغة الأكادية في العراق القديم تكشف ارتباط السعادة -بالكبد- ...
- مهرجان مراكش السينمائي الدولي يستضيف الممثل والمخرج شون بن ف ...
- المصور الأميركي روجر بالين: النوع البشري مُدمَّر!


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد حسن - النهر / قصة قصيرة