أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - تلك اللحظة التي هرمنا من أجلها














المزيد.....

تلك اللحظة التي هرمنا من أجلها


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6257 - 2019 / 6 / 11 - 16:35
المحور: الادب والفن
    


في مثل هذا اليوم, عصراً, كنت أقف على إحدى ضفتي جسر “الرئيس" في البرامكة وسط دمشق مذهولاً.. "معقول يكون صار اللي في بالنا".. هكذا فكرت و أنا أراقب أشجار حديقة المنشية أسفل قصر الضيافة تتطاول نحو السماء لعلها تلتقط نسمة باردة في هذا النهار الحزيراني القائظ.
كان مشهد البشر من تحتي ملفتاً سواء باتجاه جسر فكتوريا أو باتجاه ساحة الأمويين, الكل يتحرك لكنه يبدو ثابت في المكان تقريبا, ينصت إلى شيء ما أو يتظاهر أنه ينصت, كأنهم يخشون التحرك ولو خطوة واحدة... ثمة سقوط؛ سقوط حر مدوٍّ, لكن لا أحد يرغب أو يريد الاعتراف بذلك , إذا لا أحد لديه الاستعداد للتفكير في اللحظة التالية, إنها حالة راهنة من التشتت بين التواصل و التفاعل مع الحدث و الهروب من عواقبه, حدث لا يمكن للآخرين أن يفهموه مثلنا نحن من عاشه لحظة بلحظة. في الحقيقة إن تذكر تلك اللحظة الآن هو من أشد الحالات ضرراً بالصحة, يمكن أكثر من ضرر التدخين ... والله.
ماذا يمكن للمرء أن يكتب في مثل هذا اليوم؟ ماهي الكلمات المناسبة لوصف ما حدث؟ و هل حقا ما يقال أن الابتعاد عن المكان يفقد المرء نصف القدرة على تذكره أو وصفه؟... حين كان دوستويفسكي خارج روسيا يكتب رواية "الشياطين", توقف فجأة عن الكتابة لإحساسه بفقدان القدرة على التعبير و التأليف , رغم أنه كان منفياً بمحض إرادته, فقال " لن استطيع ... و ليس لدي القدرة على الكتابة إلا في وطني... سأعود", وعاد.
رغم حضور" الطاغية القوي" لكنه عاد.
في مثل هذا اليوم , عصراً , كنت أفكر كيف سيكون يوم الغد حيث كان من المقرر أن أطير باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية في رحلة عمل, و في الغد كان من المقرر أن تبدأ الوفود بالتهاطل على مطار دمشق الدولي, محاسب الشركة التي كنت أعمل بها كان قد أخبرني- بمنطق شامي مشهود له به- أن " نص البلد صارت مسكرة , وما بعرف من وين أجيب لك الدولارات للسفر...هاد إذا كان في سفر من أصله" ... لعمى على هالشغلة.طب و الحل؟ قلت له بعد أن صفنت شي سيعة و يمكن أكثر, ثم قلت بيني و بين حالي " ناقصك أنا يا زلمة؟...دولارات مين و سفر مين.. الله يستر ", لم يجبني و اتصل بصاحب الشركة و نقل له الخبر , لقّمه إياه مثل الرضعة, شوي شوي, فجاء الصوت من الطرف الآخر متردداّ بطيئاّ و متلعثماّ "عن جد؟ّ..كيف؟ و ليش؟ و إيمتى؟"..ثم لحظات صمت ثم عاد الصوت من جديد و لكن هذه المرة بنغمة براغماتية صارمة " أوكيه ..أوكيه , خلص أنا رح أتصرف".. و أستطيع أن أزعم -بقدر ما تسمح لي الذاكرة- أن شحنة كلماته تلك كانت بمثابة طاقة نورانية واسعة خففت من حدة قلقي الداخلي( بصراحة كنت خايف بالدرجة الأولى تروح عليّ السفرة ).
لا أعرف كيف وصلت إلى البيت.. صدقاّ لا أعرف, و اتجهت نحو التلفزيون و بدأت أتابع اللقطات المعادة لمروان شيخو ( ومن لا يعرف من هو مروان شيخو ومن منا ينسى جملته الشهيرة لاحقا أمام جثمان الأسد " لماذا لا تتكلم .. أنت تسمعني الآن... لقد تعوَّدنا عليك يا سيدي لقد تعوَّدنا عليك يا سيدي".) دخنت يمكن شي تلات سجائر و أنا اسمع صوته المتهدج و ارتعاش عضلات وجهه و تقلصها مع كل حرف يبصقه من فمه و هو ينقل خبر وفاة "القائد الخالد"[ يمكن القول ذات الشيء عن الشيخ البوطي أثناء الصلاة على جثمان رئيسه لاحقاً]. ثم يأتي صوت مذيع قناة الجزيرة جميل عازر العميق و الأجش وهو يسأل أحد المسؤولين بتهكم واضح موارباّ جسده بطريقته المعهودة "و لكن يا سيدي هل يعقل أن يقوم برلمان دولة [ يقصد مجلس الشعب] وخلال جلسة لا تتجاوز العشرين دقيقة بتعديل مادة خطيرة في الدستور مثل عمر رئيس الجمهورية؟.. ثم كيف لماذا لم يقم رئيس المجلس [ يقصد عبد القادر قدورة] بتعداد الأصوات و لو شكلياّ.. يا سيّدي ؟"... و الحق أقول -هنا- انتابتني لحظة-مثلي مثل كل السوريين حينها-من عدم اليقين بصحة الخبر, فلم يتولد لدي انطباع حقيقي بموته, بل على العكس كان لدي شك يكاد يتحول إلى يقين أنه لا يموت, أو ربما رغبة بعدم حصوله, فلا أحد يمكنه تصور ما يمكن أن يحدث بعد موته. لقد كانت "سورية الأسد" الدولة الوحيدة في العالم ربما التي لا يوجد فيها " الشخص رقم اثنين" فمثل هذا الشخص كان من غير المسوح له أن يولد في عهد" الأب القائد", و رغم مرارة مثل هذا الاعتراف, فقد يسمح لي المجاز في القول أنه لم يمت بالمعنى الرمزي و إن مات بالمعنى البيولوجي, فكل شيء في البلاد يذكرك به , الشوارع و المدارس و دوائر الدولة و المؤسسات الحكومية و النقود... الهواء و الدواء و الدعاء ..كل شيء ..كل شيء ,
في صباح اليوم التالي و قبل الشحادة و بنتها كنت في المطار -كان يرافقني أخي الأصغر مراد-وبقيت طوال الوقت أنظر إلى الشاشة لمتابعة موعد رحلة " أليطاليا" المتجهة إلى روما و أقول لنفسي إسه رح يلغوا الرحلة, قوم روّح يا ولد بكرامتك أحسن لك.ولكن لم تلغ الرحلة نظرا لأن موعدها كان في الصباح الباكر قبل وصول الوفود المعزيّة, بل كانت, لحسن حظي, آخر رحلة تغادر مطار دمشق قبل إغلاقه لفسح المجال لهبوط طائرات الوفود الرسمية
كيف يمكن وصف تلك اللحظة؟ و بكم كلمة ؟ و ما هو شكل و حجم المشاعر التي تغلفها؟ هل هي تلك اللحظة التي توصف عادة بأنها تحبس الأنفاس؟ تحطم الحدود و التخوم و تخترق حواجز الخوف المتعددة ؟ هل تشبه ذكريات عجوز عن طفولته, أم هي لحظة اختبار المشاعر؟ هل هي تلك اللحظة التي قصدها محمد الفيتوري بقوله ذات قصيدة:
"أمس قد مر طاغيةٌ من هنا
نافخاً بوقه تحت أقواسها
وانتهى حيث مر"



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حلم ثورة لم تأت : The Company You Keep
- متعة كاهن
- الإثنية واليهودية والتراث الثقافي لفلسطين
- -يوروفيجين- تل أبيب و- بصل الخطايا-
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(7 ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(6 ...
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرءيل القديمة(5 ...
- ربيع الشام و الحرب على السوريين
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(4)
- تمرين في الاقتصاد: متلازمة بومول
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(3)
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(2)
- البحث عن إسرءيل: مناظرات حول الآثار و تاريخ إسرئيل القديم(1)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(5)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(4)
- Il Postino ساعي بريد نيرودا: مجاز الوعد بوصفه خذلان
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(3)
- علم الآثار السياسي و النزعة القومية المقدسة(2)
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(7)- ال ...
- المملكة المنسية: تاريخ مملكة إسرءيل في ضوء علم الآثار(6)- ال ...


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود الصباغ - تلك اللحظة التي هرمنا من أجلها