عبدالامير الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 6228 - 2019 / 5 / 13 - 17:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عرفت منطقة شرق المتوسط دورتين حضاريتين خلال تاريخها الطويل، الأولى ابتداتها ارض مابين النهرين، ومعها ارض النهر الواحد المصرية، وكانت تاسيسية، وانطوت على اكتمال نضج عناصر المجتمعية على المستوى الكوكبي، اعقبتها فترة انقطاع حضاري وهيمنة امبراطورية شرقية وغربية، ثم دورة ثانية تحققت بقوة فعل الجزيرة العربية وثورة تحويلها من القبلية، الى المجتمع العقيدي المحارب، استنادا للرؤية الابراهيمية الرافدينية الأولى، ماقد أعاد احياء الاليات الحضارية المتوقفة بفعل الاشتراطات والديماميات الخاصة الذاتيةـ كما بفعل الهيمنة الإمبراطورية الشرقية الغربية.
الدورة الثانية المنتهية في 1258 مع سقوط بغداد، كما انتهت الأولى بسقوط بابل 539 قبل الميلاد، اعقبها انقطاع تاريخي هو سمة ملازمة لمسار هذا الحيز الفعال والمحوري من المعمورة، اتسمت ملامح نهايته، بغلبة منظور التشبه بالغرب ونهضته الحديثة، وبطغيان هذا النوع من النظر الى الذات، بالاخص في منطقة ساحل الشام ومصر، الموضعان الأدنى بحكم بنيتهما ( موضع دولة احادي مصري، وموضع الكيانية المدينية المفتوح بوجه الامبراطوريات، مقابل كيان ازدواج امبراطوري رافديني وموضع لادولة احادي مشمول باقتصاد الغزو، جزيري) فعالية حضارية وتاريخية، والاقرب من بين مكوناته، لمحاكاة الطرف الاخر الأوربي من المتوسط، ومجتمعيته الطبقية الأكثر دينامية وفعالية ضمن نمطها الأحادي.
على الطرف الجزيري، بؤرة الانقلاب الذي افضى للدورة الثانية، قامت في العصر الحديث محاولة استعادة واستئناف مستحيل للبدء المحمدي، طبعت بقلب الأولويات، من تحويل المجتمع الجزيري القبلي المحارب الى مجتمع عقيدي في القرن السابع الميلادي، الى وضع العقيدة بخدمة القبيلة، والتغلب القبلي المستحيل، لولا ظهور عامل الريع النفطي، والميلان الرئيسيان، الشامي المصري، والجزيري، اكتنفهما الايهام التصوري، والاستبدال، والاختلاق العملي والمفهومي، مابين تصور العصر الحالي، باعتباره "عصونا"، الذي تخلفنا فيه عن اوربا، او الظن ان اليوم والحاضر هو عصر الفتح وصولا لحدود الصين واسبانيا.
ويعرف التاريخ حالات تكون خلالها مجرياته وحقائقه خارج الافتكار، وبعيدة عن الإحاطة، لابل ان هذا مايكاد يكون هو القانون الناظم لعلاقة العقل بالواقع، وبما ان منطقة الشرق المتوسطي، حيث احتشاد الأنماط المجتمعية الثلاث، ضمن رقعة جغرافية محددة لم تكن قد اكتشفت قوانين مجتمعيتها في الماضي وعبر الدورتين المنصرمتين، وظلت تعيش تاريخها محكومة لفعل التصور الحدسي النبوي الالهامي، فلقد كان من المتوقع والمنتظر تماما، وهي في نهايات طور الانقطاع الثاني، مع اثاره التراجعية على كل صعيد، ان تقع تحت وطاة مثل هذا الايهام المزدوج، طلبا لمستقبل مستحيل النوال او التصور في حاضر الاخر الزاهر "لماذا تقدم الغرب وتاخرنا ؟" او في ماض زاهر زائل، يستحضر اليوم للاستعاضة بصيغة عنه مختلقة ومناقضة لجوهره، ولما لايمكن تصوره من ممكنات الدورة الثالثة.
هل كان ممكنا بدل ماهو حاصل فعلا الذهاب للتفكير ب "مابعد غرب"؟ ذلك شان مستحيل، ليس بالإمكان تخيله اطلاقا. او هل يجوز، مثلا الاعتقاد بان المنطقة خاضعة، ومعها العالم لقانون "الدورات والانقطاعات"، وانها سائرة الان لا الى اللحاق بالغرب كما هو رائج، بل نحومابعد الانقطاع الثاني، الذي من جملة حقبه، الحقبة الأخيرة من التشبه المستحيل بالغرب، او الاستئناف المستحيل لمفتتح الدورة الثانية الجزيرية؟. هذا مع ان مانتحدث عنه هو بلا شك ثورة كونية كبرى على مستوى العقل البشري، وفي مجالات حياته ووجوده، وكافة معتقداته وخياراته الحياتية، تتضمن بالدرجة الاولى الانتقال من الجسدية وطغيان احكامها على العقل، بحسب ماكان ممكنا للمجتمعات ان تتشكل يوم الانتقال من الصيد واللقاط الى انتاج الغذاء، الى بدء تحرر العقل واستقلاله، وانتهاء المجتمعية بعد إقرار كونها مؤقتة، مع اكتشاف التناقض الأكبر في كينونتها الابتدائية، بين المجتمعية والمنتجية، وهو التناقض الايل الى فك الازدواج المجتمعي والتحول.
والمفاهيم التي نذكرها هنا لن تكون بالطبع اليوم معقولة، ولا مقبولة باي قدر يتيح مناقشتها على نطاق واسع، لكن ماذا لو تخيلنا الغرب الذي نعرفه اليوم قبل منتصف القرن التاسع عشر يوم عرف "علم الاجتماع" ومعه الماركسية والمادية التاريخية التي تقول ان التاريخ محكوم لقوانين،وسائر نحو هدف محدد عبر الصراع الانشطاري الطبقي، وفعل الديالكتيك، وقتها كانت اوربا قد مرعليها قرابة الالفي عام وهي محكومة للرؤية الابراهيمية بطبعتها الشامية ( الانسان الاله / يسوع، كما سيصبح الشرق وصولا الى الهند والصين مشمولا بالرؤية الابراهيمة بطبعتها الجزيرية الخالية من المعجزحتى اليوم) وهو مالا يلحظ باعتباره دالة فعل كوني، تضطلع واضطلعت به منطقة احتشاد الأنماط المجتمعية ( بالمناسبة فان طلائع المستوطنين الاوربيين البيورتانيين الأول في القارة الجديدة رفعوا وهم يصلون الأرض المكتشفة شعارا أساسيا ابراهيميا / سنبني مدينة على جبل) ومع كل هذا، فان الحقائق الجديدة المكتشفة في حينه وتحت وقع الثورة البرجوازية، استطاعت ان تشق طريقها وتصبح هي الغالبة.
ولقد امتلك ماركس الجراة والعزيمة كي يصدر عام 1847 "البيان الشيوعي" في عالم تكتنفسه سطوة كنسية طاغية، مع انها برانية، ومتبناة بعد وفودها الى القارة الاوربية، وكانت لولا الثورة البرجوازية قابله للبقاء متغلبة وسائدة الى اليوم كما الحال في الشرق الواصل الى الهند والصين، هذا يعني ان صدور "البيان التحولي"، لن يكون باي حال مستحيلا او مما لايمكن تخيله، والاهم تصور مفاعيله المحتملة، والمنطوية حتما على اختراق وازاحة لثقل الغرب الحالي وسطوته، او الماضي ومحاولات استحضاره اليائسة، بما في ذلك وبالاساس تجاوز المنظور الغربي، والمنهجية الغربية وتعرفاتها المعدودة اليوم علمية، او من قبيل الثوابت التي لايرقى اليها الشك، ومنها ماركسية ماركس.
ذلك مايمكن ان يوصف بانه بشائر على احتمالية تبلور الدورة الثالثة، رضوخا لقانون المجتمعية الكوني الاشمل، ولمقتضيات زوال المجتمعية الذي هو هدف وجودها ضمن مسار النشوء والارتقاء بقسمه الثاني، العقلي، بعد انقضاء طوره الحيواني مع انبثاق العقل في الجسد الحيواني المتصير وقتها الى ثنائية ( الجسد / العقل) وتناقضهما سيرورة، وصولا لانفصالهما بحكم اختلاف اليات ونوع نموهما عبر الاختبار والتجربة المجتمعية مع صراعهما داخلها.
فالمجتمعية مصممة كي تنتج على المدى الابعد الوسائل المادية المفضية الى اللامجتمعية، والمجتمعات اما تحولية بنيويا، كما حال العراق الازدواجي ومحيطه الحيوي، او تحولية تقنيا كما هو حال اوربا التي انتهت اليوم الى انتاج تقنيات ووسيلة انتاج مطابقة لالغاء المجتمعيات الأحادية، فالتكنولوجيا والإنتاج العقلي المعرفي، هي وسيلة انتاج لاتتطابق مع بقاء المجتمعات الحالية على ماهي عليه، او عبر محاولة احتواء وسيلة الإنتاج الجديدة، واخضاعها لاشتراطات تتعداها، مايجعل من المجتمعية التحولية اليوم متلائمة مع شروط تحولها التي ظلت غير ممكنة، وعرضة للاستبدال، منذ بداية التاريخ التحولي السومري الى الوقت الحاضر.
كتب على المجتمعات ان تمر باطوار من غلبة وانتصار المجتمعية الأحادية، مع انتكاس المجتمعية التحولية، وعجزها بسبب نقص والافتقاد لأسباب تحولها المادية، وهو ماحصل للمجتمع اللاارضي السومري، الذي انتكس وهو يحاول بدفع بنيته كمجتمع لادولة يعيش على حافة الفناء، الخروج من اسر الارضوية والانتاجوية الأحادية سماويا، فاضطر لان يعيش تاريخه عبر دورات ثلاث طويلة وفي غاية الاحتدام الوجودي، من الصعود الى الانمحاء، او الانقطاع، بانتظار زمن مابعد الإنتاج اليدوي والالي، المطابق لبنيتها التحولية.
فهل يمكن اليوم تخيل بوادر الدورة الثالثة الأخيرة، خارج الاعتبارات والمفاهيم واشكال المجتمعيات المعاشة وكيف ستكون؟
ـ يتبع ـ
#عبدالامير_الركابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟