أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية بالنهاية . .















المزيد.....



مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية بالنهاية . .


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 6217 - 2019 / 5 / 1 - 11:01
المحور: الادب والفن
    


مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران
البداية بالنهاية . .
صباح هرمز

1- البجعة:
بجعة أوغست سترندبيرغ ليست بحاجة الى مخرج لكي يقوم بتوضيبها على خشبة المسرح، ذلك أن المؤلف أثناء كتابتها أدى هذه المهمة على أكمل وجه، فقد دون سيناريو تنشطر فيه الحوارات الى عملية إخراجية متقنة، بحيث بدت قطعة فنية رائعة لا يمكن بأي حال من الأحوال إلغاء أو إضافة حوار آخر منها وإليها، ذلك أن هذه الأضافة وهذا الألغاء سيؤديان الى إختلال التوازن القائم في صناعة تقنيتها وبالتالي الى هدم ما تم تشييده في بناء معماريتها المتماسكة.
ولكن هذا لا يعني أن من تصدى لها من المخرجين الكبار أمثال بيرغمان و روبرت ولسون لم يستطيعا أن يضيفا عليها شيئا، بل بالعكس فلو كان قد قدر لستندبيرغ مشاهدة أعمالهما لأسعده ذلك كثيرا.
بأختصار أن ما أعنيه من أنها ليست بحاجة الى مخرج يقوم بتوضيبها، الى تمهيد المؤلف الأرضية الخصبة للمخرج لحراثتها وزراعتها من جديد.
كتب سترندبيرغ مسرحية البجعة عام 1907 وقدمت في نفس العام بمناسبة إفتتاح المسرح الحميمي، أو كما يقول الدكتور فاضل الجاف في المقدمة التي كتبها في ترجمة هذه المسرحية (وقد فشلت فشلا ذريعا حيث هاجمها النقاد هجوما لاذعا وفي عام 1914جاء تقديم ماكس راينهارت لها كضربة مذهلة للنقاد السويديين. وقد كتب أحدهم بعد زيارة فرقة (مسرح الغرفة البرلينية) الى السويد بأن العرض كان درسا للسويديين.)1
تبدأ المسرحية وأسرة الأب المتوفى تتهيأ لمراسم دفنه، وتتكون هذه الأسرة من الأم والأبن طالب القانون فريدريك والأبنة جيردا بالأضافة الى الصهر زوج جيردا. تبدأ المسرحية بأيعاز الأم للخادمة بأغلاق الباب لأرتباط هذه الجملة بما تمقته الأم وهو رائحة الكربونيك والأغصان المحروقة حيث تختنق في نهاية المسرحية بهذه الرائحة وتحترق بهذه الأغصان بعد أن يضرم أبنها النار في البيت، وتتعرض ثيمتها لأنتقال لوثة الأباء لأبنائها، مثلها مثل مسرحية (الأشباح)لأبسن، و(الحداد يليق بألكترا) ليوجين أونيل، و(الثمن) و(كلهم أبنائي ) و(وفاة بائع متجول) لأرثرميلر، وذلك من خلال نشوء الأم في طفولتها في بيت سيء، وترجمة مثالب هذه التربية على زوجها بتبذير أمواله وإطعام أولادها أسوأ أنواع الأطعمة، وخيانتها لأبنتها قبل أن تخون زوجها، بربط علاقة حب مع صهرها .
ومن الصفحات الأولى للمسرحية يفقه القاريء أن الأم ليست قاسية مع أبنائها وتخون زوجها فحسب، وإنما هي بالأضافة الى ذلك تسرق أموال زوجها ، ففي هذا الجو العفن والعاصف الممطر تبدأ أحداث المسرحية لتميط اللثام عن وجوه شخصياتها على حقيقتها، متمثلة الأيجابية منها بالأبن والأبنة والخادمة والسلبية بالأم والصهر، فالأبن منذ طفولته يعاني من البرد والجوع لذلك فهو سقيم طوال أيام السنة بفعل عدم إرضاعه من حليب الأم وعدم توفير التدفئة له ولأخته، وها هي الأم تقر للخادمة بمرض أبنها منذ صغره وتعاتبها الخادمة الى أن سبب مرضه يعود إليها أي الى الأم لأرضاعه حليب القناني كما أن أخته جيردا رغم إكمالها العشرين فهي ليست كاملة النمو، وتشكو من معاملتها السيئة للخادمات ولولا محكوميتها بعناية الأطفال لتركتها من اليوم الأول، وتفتخر الأم بصهرها لأنه لا يعاملها كحماة أو أخت وإنما كصديقة، وتخاطب الأم معلنة أبنها أنه لا يحب صهره مبررا الأبن عدم الحب هذا الى إساءة الصهر لأبيه، وتطلب منه أن يأخذ صورة والده الى غرفته لأنها لا تحبه، ذلك أن عينيه تبدوان شريرتين، وبعد أن ينزل الصورة تسأله فيما إذا كان راغبا بلقاء أخته وزوجها العائدين من الخارج لقضاء شهر العسل إلآ أنه لا يستجيب لهذا اللقاء ويرتأي أن يدخل غرفته للحصول على شيء من الحطب للمدفأة، ومثلما تسعى منعه من الحصول على الحطب كذلك تحاول أن يستدين من أصدقاء والده لشراء بعض الملابس الصوفية.
وينعت الصهر الأبن بالأحمق بعد أن تبلغه الأم بأنه قد خاطبها بأسلوب غريب ويعمد بالتحايل عليها من عدم وجود وصية أو مال مدخر، وذلك بعد أن نبشت كل مجراته ومكتب الأب ولم تعثر على شيء، ويتفق معها في البحث في المجرات الخاصة بالمدخرات الثمينة الموجودة في كل مكتب، وأثناء البحث في إحدى المجرات وعثورهما على طرد كبير حيث تخفيه الأم يسمعان إرتجاجا ثم خبطا على الباب، فتدخل جيردا وتجلس على أحد المقاعد وهي تقول وقد أرتابت بأمرهما : لماذا أغلقتما الباب ؟
وعندما تخبر الأم الصهر بأنه لا وجود لأية وصية في الرسالة التي عثرا عليها في الطرد يبلغها أنه كان متوقعا أرثا طالما كانت تلمح به ولولا ذلك لما تزوج أبنتها لذا فما عليها إلآ أن تعينه على أن يدخروا، أي أن تشتغل حماته كخادمة في بيتها، وهنا لا يسعها إلآ أن تطلق عليه صفة (الوغد ).
كانت جيردا دائما ما تناصر أمها بينما فريدريك والده، ذلك لأنها كانت ترى والدها بعيني أمها، مع أنه كان يحبها بدليل أنه حاول أن يفسخ خطوبتها لأكسل لأنه كان لا يجد فيه العون الذي كانت بحاجة إليه، لهذا هي وزوجها أغريا الأم بالرحيل وهذا ما أسرع في أجله.
وعندما يطلع فردريك على فحوى رسالة والده التي مزقتها أمه وينقلها الى أخته التي تقترح أن يرحلا. ولكنه يفضل أن يبقيا لكي يقوما حياتهما وذكرى والدهما وتحقيق العدالة والثأر .
وفي لحظة ضعف تطلب الأم من إبنها ألآ يتخلى عنها لأنها عرفت حقيقة صهرها وبدأت تصحو، ولكنه يود أن تبقى حيث هي لكي يدعها تموت من فرط العذاب الذي يوقعها به كلامه، وعندما يخاطبها بجملة ( أنت لست مذنبة) تدعوه الى ترديدها ثانية، ذلك لأنها لم يكن بوسعها أن تكون غير ما كانت عليه، فتقبل يده بخضوع وتطلب منه أن يمضي في حديثه .
وأبنتها هي الأخرى لاتغفر لها لأنها سلبت منها زوجها وتحذرها من ذكر والدها بالسوء وتذكرها بحثها ضده.
وأحتراق المطبخ في النهاية هو من أجمل مشاهد المسرحية، حيث يدخل فريدريك وهو يقول أعتقد أن هناك دخانا وتهرول الأم لكنها تواجه لهيبا أحمر وهي تقول لا أريد أن أحترق (تدور حول نفسها) وجيردا تأخذ أخيها بين ذراعيها:(أهرب يجب أن تهرب)، والأم تفتح باب الشرفة وتقفز نحو الخارج، لتنتهي المسرحية بهذه الجمل لفريدريك : لقد ضحى والدي لأجلنا بكل ما عنده لقد كان دائما في سراويل بالية في حين كنا نحن في ملابس تليق بأبناء النبلاء.
ولكن الأجمل في إحتراق المطبخ هو تشبيهه بعشية عيد الميلاد حيث كانوا يغمسون الخبز في الحساء وهو اليوم الوحيد الذي كانوا فيه يأكلون ملء بطونهم، ويشمون الرائحة العبقة مثلما يحدث اليوم تماما تجتاح النيران خزانة الأطعمة ليشموا نفس الرائحة، ولكن لا ليحيوا بل ليموتوا بهذه الرائحة التي كانوا يحلمون بها .
يتكون منظر هذه المسرحية من أربع قطع وهي صالة الطعام وأريكة مغطاة بغطاء أحمر ومكتب ذي مجرات وكرسي هزاز، وأرتآى المؤلف أن تقتصر مسرحيته على هذه القطع لصلتها بثيمة المسرحية من جهة ومن جهة أخرى بشخصياتها، فصالة الطعام تدل الى الأكل الرديء والأريكة المغطاة بغطاء أحمر الى الموت ومكتب ذات مجرات الى سرقة النقود والوثائق المحفوظة بداخله والكرسي الهزاز الى شبح الأب، ولو جمعنا الدلالات الأربع في تركيبة واحدة لأعطتنا موضوعة المسرحية التي تثبت عدم صحة قصة البجعة التي ترضع صغارها من دمها، والمقصود بالبجعة الأم، وهنا الأم التي تغدر بصغارها بدلا من أن ترضعها.
ولعل ما جعل منها قطعة فنية هو التزاوج القائم بين توظيف دلالات هذه القطع وتكرارها وبين حالات الجو المبثوثة كالرياح والبرودة، مانحا هذا التزاوج شعورا حلميا يشوبه قليل من الخوف.
ويظهر هذا التزاوج من الصفحات الخمس الأولى حيث يمتزج غلق الباب بجو عاصف وممطر، وكلتا الدلالتين بجملة رفع الغطاءعن الأريكة الحمراء، وإذا كان المعنى الخارجي للجملة الأولى يهدف الى البرد وعدم قدرة الأم على رائحة الكربونيك والأغصان المحروقة، فأن المعنى الداخلي لها هو برودة الأبن فريدريك وإختناق الأم بهذه الرائحة وإحتراقها بهذه الأغصان، والجملة الثانية الى سوء الأحوال الجوية خارجيا وحدوث شيء داخليا مجتمعا معنى هاتين الجملتين في جملة (رفع الغطاء عن الأريكة الحمراء) الموحية الى الموت. وتتكرر مفردة (البرد) ثلاث عشرة مرة من بداية المسرحية الى نهايتها وجملة (أغلق الباب ) ثماني مرات و(الأريكة الحمراء) مرتين و(الرائحة الكريهة) أربع مرات ( والمشي والشبح) خمس مرات و(ترضع من دم صغارها ) مرتين و(الكرسي الهزاز) ثلاث عشرة مرة و(الصمت ) خمس مرات و(طرقات على الباب) مرتين .
إن جملة أغلقي الباب أو أغلقي النافذة وهذا ما ينطبق على المفردات الأخرى توظف في كل مرة بمعنى يختلف عن سابقتها، فقد وظفت في المرة الثانية لأن الأم لا تريد أن تسمع عزف أبنها، والمرة الثالثة عندما تريد أن تنتحر، والمرة الرابعة لسماعها صوت فيدريك وهو يبكي وتظن أنه زوجها المتوفي :
الأم :أغلقي الباب رجاء فأنا لا أطيق رائحة الكربونيك والأغصان المحروقة .
الأم :أغلقي الباب من الذي يعزف الموسيقى .
الأم . .حيث تأخذ مسافة عدة خطوات إستعدادا للقفز.
ويوظف الكرسي الهزاز في المرة الأولى تمهيدا لوقوع شيءغير متوقع و هوعثور الأم على وصية الأب المتوفى، والمرة الثانية لقلق الصهر من فضح زوجته بالأيماءة الى علاقته بوالدتها، والمرة الثالثة لأطلاع الأم على حقيقة صهرها، والمرة الرابعة بتشبيه صهرها بزوجها، والمرة الخامسة لأخفاء الأخشاب تحت المكتب والمرة السادسة لتذكير الأبن أمه بالكذب عليه :
الأم :ليست هناك وصية أنه خطاب موجه الى الأبن يفتري فيه الأب علي وعيك.
جيردا:هناك أحاسيس تشبه الذعرلكنها شيء آخرهناك تعبيرات أكثرتعبيرا من تعابير الوجه . .
الأم: الآن بدأت أعرف أي إنسان أنت.
الأم : لكم تشبه زوجي الآن عندما تجلس هناك في الكرسي الهزاز.
(توقف الكرسي الهزاز تنصت الأم عند الباب تلتقط بعض الأخشاب وتخفيها تحت المكتب ).
الأم :لا أتذكر شيئا بالمرة دعك من التأرجح هكذا.
أما مفردة (البرد) التي جاءت ثلاث عشرة مرة فقد وظفت في المرة الأولى لبرودة المكان والثانية لشكوى فردريك الدائمة من البرد والثالثة لمعاناة الخادمة من البرد والجوع في بيت أم فريدريك والرابعة لتوجيه الصهر لحماته اللوم للقساوة التي كانت تتعامل بها مع خادماتها لعدم توفير الحطب اللازم لتدفئتهن .
مارجريت :الجو بارد هنا.
الأم:أنه مبترد طوال الوقت .
مارجريت : لقد قاسيت البرد والجوع في هذا البيت.
والشبح للخوف والأم تقول : أثمة من يمشي هناك أو أترينني كمن يخاف الأشباح وكذلك في حضور الأب الدائم في البيت أو تصورها هكذا والأم تقول: ما هذا اتسمع ، أنه هو.
والصمت للشك وحضور الأب، كما في جملة (أين ذهب المال ) وجملة (هل هناك أحد في الخارج ).
إذا كانت ثيمة هذه المسرحية تدور حول إنتقال الشر من جيل الى آخر، فأن مسرحية (الأشباح) لأبسن و(الحداد يليق بألكترا) ليوجين أونيل و(الثمن) و(وفاة بائع متجول)و(كلهم أبنائي) لأرثر ميلر، تتصدى لنفس الثيمة، ولكن أشباح أبسن أقرب إليها من المسرحيات الأخرى، سواء من حيث رسم شخصياتها أوتقنيتها، بينما لا تقاربها مسرحيات أونيل وميلر إلآ في إنتقال الأنتقام من جيل الى آخر في (الحداد يليق بألكترا)، ودفع الأبناء ثمن أخطاء الآباء في (كلهم أبنائي) و(الثمن) و(وفاة بائع متجول).
إن الأبن (فردريك) يعرف حق المعرفة، خيانة أمه لوالده وخيانتها لأبنتها مع صهرها، بالأضافة الى الظلم الذي تلحق به وبأخته منذ صغرهما، إلآ أنه لا يتحرك بأتجاه وضع حد لسلوكها وتصرفاتها أو إتخاذ موقف ما أزائها، بالرغم من أن نقاط الخلاف تظهر بينهما من بداية المسرحية، ويشتد الصراع من الحوارات الأولى، ولعل أدل نموذج للخلاف والصراع الدائر بينهما، يتمثل في الجملتين اللتين يخاطبها فيهما، في الأولى : كلا شكرا لن أتزوج كي أدع زوجتي تؤنس الشباب. وفي الثانية : ليس في طعامك عيب سوى أنه طعام خفيف عديم المذاق كالهواء. والجملة الأولى كما هو واضح هي إشارة الى خيانتها لوالده والثانية الى حرمانه من الغذاء الصحي.
ولم تظهر نتائج هذا الصراع إلآ بعد أن ترتاب جيردا بخيانة أمها لها مع زوجها، تحديدا في مشهد خبطها على الباب الذي أقفلاه بحثا في المجرات عن المدخرات الثمينة الخاصة بوالدها، وهي تباغتهما بجملة: لماذا أقفلتما الباب؟ وتكرارها مرتين على التوالي لتحقق من إيصال مغزى شكها إليهما. وتأخرت نتائج هذا الصراع، بفعل عدم شكوى فردريك وجيراد همومهما الواحد لللآخر، ولأن الأبن كان يصوت لصالح الأب والأبنة لصالح الأم، ممهدا إقفال الباب إزاحة الجدار العازل بينهما ليتسنى لفردريك إحاطة أخته، سيما بعد أن أطلعت على جزء من خفايا والدتها، حقيقتها بالكامل، مع أنها كانت تعرف ذلك، لكنها تتحاشاه لأن مصلحتها هذا ما يتطلبه، أو كما هي تقول: أعلم أنني سائرة في منامي ورغم ذلك فلا رغبة لي في أن أصحو ولو صحوت لفقدت القدرة على الحياة .
ولعل كسر هذا الحاجز بين الأخ والأخت، والرسالة التي عثر عليها فردريك والموجهة إليه من قبل والده المتوفى ناعتا فيها والدتهما بالسارق الخطير، وكاشفا علاقتها بصهرها، أدى أن يعملا بأتجاه الثأر منها.
والحوارات الدائرة بينهما في أول لقاء لهما حول قسوة والدتهما تجاههما وتجاه والدهما، تبلغ أقصى درجات الشاعرية وهما يرددان بين حين وآخر (أشعر بالبرد)، ليمتزج برودة المكان بالبرودة التي يقشعر بها جسم الأنسان من سلوك وتصرفات الشخص الآخر المشينة.
وتأتي بعد هاتين الجملتين:
(1) جيردا:هل تعرف أي الآلام أعظم شأنا؟ (صمت)، هو عندما ترى خواء السعادة في منتهاها.
الأبن :لقد أصبت.
جيراد: أشعر بالبرد، هات قليلا من الحطب.
الأبن :أتشعرين بالبرد أنت أيضا؟
(2) الأبن:أتذكر أن أبي كان يردد كلمة عصابة السوء كطرفة لكنه أخيرا. لاذ بالصمت .
جيردا: يا له من برد فظيع أنه بارد كالقبر.
وهذه الشاعرية لا تقتصر على الحوارات الدائرة بين فردريك وجيردا، وإنما تتعدى وتشمل في كيفية التعبير عن إنفعالاتهما وتوظيف الأشياء التي هي في متناولهما، وتتمثل الأولى في إلقاء فردريك نفسه على الأريكة وهو يتلوى من الألم، وجيردا تجثم على ركبتيها، والثانية في تأرجح الكرسي الهزاز بحدود أربع مرات، مصحوبة هذه الشاعرية بدفق من الجرأة لمواجهة الأم والصهر على حقيقتهما، تمهيدا لأنذارهما من الخطر المحدق بهما والقادم إليهما بكل عنفوانه. وفردريك يبلغ صهره بأنه وجيردا كانا يمارسان لعبة تحضير الأرواح، وعلى أثرها زارهما أحد الموتى، بينما تخاطبه جيردا بهذه الجملة التي تجعله يجفل ويخفي جفلته بعبثه في الكتب المرصوفة: هنالك إيماءات أكثر تعبيرا من تعابير الوجه، وكلمات تخفي ما ليست بوسع الأيماءات وتعابير الوجه التعبير عنه.
وإذا كانت مواجهتهما للصهر بسبب إيحاءها، تتسم بقدر من الليونة، فأن هذه المواجهة للأم لتحررها من هذا الأيحاء، جاءت بعكس ذلك، فجعلتها تدور كفريسة متوحشة في الفخ، وتقبل يد أبنها بخضوع، بعد أن بدأت تصحو وكأنها تستيقظ من رقاد عميق، وهو يقول لها: بودي لو بقيت هنا لكي أدعك تموتين من فرط العذاب الذي يوقعك به كلامي. وجيراد تقول لها: كنت سأغفر لك كل شيء أما وأنك سلبت حياتي مني فلا، لقد كان أكسل حياتي لأنني معه بدأت أعيش.
والصراع الحقيقي بين الأم مع أبنها وبنتها، يكمن في التربية السيئة التي ترعرت عليها منذ صغرها، حيث لم تتعلم سوى الشر الذي أكتسبته وراثيا كما تقر هي من الآباء الأولين. وعلى هذا الأساس فأن جيردا عاقرة ولا تنجب أطفالا، لقطع صلتها نهائيا بالشر الذي أكتسبته أمها وتسعى نقله من جيل الى آخر، لذلك فهي لا ترغب أن تعيش على هذا النحو، وإذا أرغمت فبودها أن تسير عمياء صماء.أما فردريك فقد نفذ العهد الذي وعد بها أخته وهو الثأر من أمه، من خلال لجوئه الى إضرام النار في المنزل لتلتهم كل ما هو قديم وشرير وقبيح. وكلا الفعلين، عدم الأنجاب وحرق المنزل يصبان في نفس الأتجاه، ليتمخض عنهما ولادة جديدة وهي عملية التطهير.
وإذا كانت الحبكة كما يقول سام سمايلي (هي التنظيم الكلي للفعل الدرامي، وطالما أن الفعل يشتمل على نشاطات فردية يقوم بها شخوص)2. فالحال هذا أن حبكة هذه المسرحية المتمثلة بالشرالذي ورثته الأم عن آبائها وأجدادها وتسعى لنقله الى زوجها وبنتها وأبنها، تعد الشخصية المحورية للمسرحية مستفيدا سترندبيرغ من بناء حبكة جيدة الصنع، بالتعويل على حركة هذه الشخصية، وذلك من خلال العودة الى ماضيها وربطه بالحاضر بما يبرر ويقرن أحداث الزمنين، والضغط عليهما لتكثيف الوقت وإختصاره.
وعلى هذا الأساس فأن الفعل الدرامي، يسير في إتجاهين، وتتوزع أحداثه بالأضافة الى المحور المركزي، الى ثلاثة محاور فرعية أخرى، وهذه المحاور هي الصهر والبنت والأبن، أما الأتجاهان فهما صراع الأم مع الصهر من جهة، وصراعها مع أبنها وبنتها من جهة أخرى.
وبالرغم من إلتقاء الأتجاهين السلبي والأيجابي في نقطة معينة، وهي رفض الأم من قبل الصهر وحرق المنزل من قبل الأبن، فأن وظيفة الفعل الدرامي في الأتجاه الثاني الأيجابي لا تقتصر على الدخول في صراع مع المحور المركزي فقط، وإنما كذلك يصطدم مع الأتجاه الذي يوازيه, ولعل إشتغاله هذا على صعيد كلا القطبين المناوئين له، عجل من بروز صراعه مع المحو المركزي، وبدا أكثر فاعلية من الأتجاه السلبي وأكثر وضوحا منه، وكلا المنحيين، فاعلية الأتجاه الأيجابي، وعدم وضوح الأتجاه السلبي، مهدا الحل المفتوح لنص المسرحية.

2- اللعب بالنار:
أما مسرحية (اللعب بالنار ) التي تقع في فصل واحد وتتكون من ست شخصيات وواحد وعشرين مشهدا، فقد كتبها سترندبيرغ كما يقول الدكتور فاضل الجاف :(بعد فشل العلاقة بينه وبين زوجته عام 1892، وأول عرض جرى لها في برلين 1893 أما أول عرض سويدي لها فقد جرى بعد خمسة عشر عاما من كتابتها.)3.
وموضوع هذه المسرحية يبلغ حدا من الغرابة بحيث يكاد المرء ألآ يصدق أن ما يجري يمكن تطبيقه على أرض الواقع، و يحدث في مجتمعنا الشرقي أو حتى الغربي المتحضر حيث تقع أحداث المسرحية في دولة السويد، ولكن بالرغم من ذلك فقد أستطاع المؤلف وهذا هو المهم أن يقنع المتلقي من خلال رسم معالم وأبعاد شخصيات المسرحية والظروف التي تعيش فيها أن مايقرأه أو يشاهده هو عين الواقع والحقيقة في آن.
تدور أحداث المسرحية في منزل الأب البالغ من العمر ستين عاما الذي يتعاطى الربا ويسكن معه زوجته وأبنه الرسام وزوجته وفتاة قريبة له في العشرين من عمرها بالأضافة الى صديق الأبن يدعى (أكسل)، تدورحول إغواء الأبن صديقه في منزله للمرة الثانية بالرغم من معرفته بأنه عشيق زوجته تحت ذريعة أنه لا يقدر صداقة أحد مثلما يقدر صداقته، بعد أن كان قد غادرهم في الصيف الماضي فجأة دون أن يودعهم تاركا جميع أمتعته .
وهي مثل (البجعة) تبدأ من قمة الأزمة، والأبن يقول لزوجته : ألم يستيقظ بعد ؟ مقترنا هذا المعنى المستور والمخفي بنهاية المسرحية، صحوة ضمير صديقه. وقد يفهم المتلقي من نومه، وبقدر ما في هذا من صواب، إلآ أن الجملة الثانية التي تليها (ظننت إنك كنت قد ذهبت كي تتأكدي من ذلك) تميل كفة الرجحان الى العلاقة التي تربطها به على إستيقاظه من نومه، ولعل هذا المعنى يتوضح أكثر كلما تقدمت المسرحية بخطوات الى أمام .
يبدو من خلال مخاطبة عائلة (الأبن) الواحد للآخر بشكل مبتذل، تفكك علاقة أفراد هذه الأسرة وإنحدارها الى مستنقع الأنحطاط والسقوط، فالأبن لا يتوانى وبحضور زوجته نعت قوام (أديل) بالجذاب وتقبيلها في حديقة المنزل المكشوفة للعيان، وتشبيه أمه بالشيطان والعجوز الشمطاء ويكشف لها وقوع زوجته بغرام صديقه (أكسل) وتخيله بأنهما يقبلان بعضهما وتحذيرها من إفساد زوجته، كما لو كان بهذا التحذير يكشف عن علاقات أمه الغرامية السابقة وإعتقاده بأن صدر السمكة شي ء جميل، بتأويل هذا المعنى الى صدر المرأة وإيثاره على مكوث الصديق في منزله كعشيق لزوجته على قطع علاقته بها، وتنبيه الأم لزوجة أبنها وهي تربت بخفة على خدها وتقول لها: كوني حذرة، وهي إشارة واضحة الى عدم تكرار تجربة الأم، كما أن قول الأم (سأنصرف الآن لئلا يأتي والدك ويبدأ بشتمي) دليل على الفوضى السائدة في حياة هذه العائلة بالأضافة الى الأمثال السقيمة التي يرددها الأب بين فترة وأخرى .
إن سلوك الأب ليس أفضل حالا من سلوك الشخصيات الأخرى إن لم يكن أسوأها بتعاطيه الربا ومغازلته لأديل وشجاراته الصباحية مع زوجته، ولكنه بالرغم من ذلك فهو غير راض بمشاركة أكسل في حياة أسرته وأسرة أبنه.
ولبيان عدم رضاه هذا لا يعمد المؤلف الى الأعلان عنه بطريقة تقليدية بجملة واحدة وإنما يلجأ الى إيصال هذا المعنى الى المتلقي بشكل تدريجي وفي أربع خطوات موزعة أثنتان منها على الأبن والأثنتان الأخريان على الأب، معبرا عن الجملتين الأولين عن طريق اللغز واللمز والجملتين الأخريين بشكل مباشر. . هكذا:
الأبن :(هناك تيار هوائي لعين في المنزل) ومؤكدا الأب بأنه صباح بارد .
الأبن: على الأقل أرى رأسك يرتعش . .
الأب: لقد زاركما شخص في وقت متأخر مساء أمس .
الأب: تعابيره شريرة، يبدو في هذه الصورة رجل سيء.
مثلما تنال (يلينا) إهتمام الكل في مسرحية (الخال فانيا) لتشيكوف، كذلك في هذه المسرحية تنال أيدل أهتمام كل شخصيات المسرحية، إذ لا ينجذب إليها الأبن فقط وإنما الأب وحتى الصديق كذلك، بينما هي تفتقرالى الأحساس تجاههم إلآ بقدر ما يتطلبه الموقف أو اللحظة، وتكاد هي الشخصية الأيجابية الوحيدة في المسرحية لا لعدم إنتمائها الى طبقة أبناءعمومتها وكونها فقيرة فحسب وإنما لأنها ترى كل شيء وتسمع كل شيء عن ومن أفراد هذه العائلة عبارة تتردد بين ساعة وأخرى(إنسان سيء) .
قد تبدو جملة ( أعتقد أن الشيطان يطوف في المنزل ) التي اطلقها الأبن موجهة الى أبنة العم، وبقدر ما في هذا من صواب بنفس القدر فهي موجهة الى أكسل، بدليل أن حديث الزوجين عن إحتمال وفاة الأم وزواج الأب بأيدل يجرهما الأنتقال الى غيرة الأب من أكسل وشعور(كريستين ) زوجة الأبن بالشفقة على أكسل لأنه أكثر طيبة من أن يتزوج بأديل، ورد الأبن على زوجته بشكل مبهم وغامض بجملة تشيكوفية تعبرعن معناها من خلال حالات الجو والطقس دليل الى أن هذه الجملة تهدف الأثنين، أكسل وزوجته من جهة، وهو وأيدل من جهة أخرى، ذلك إنه في نهاية المسرحية يقدم ذراع زوجته لوالده سعيا لمرافقة أديل .
الأبن:لا أعرف كيف سيكون الطقس هذا العام، لكن الهواء يبدو ثقيلا، ثمة عاصفة وشيكة وأنا لي رغبة عارمة في السفر.
إن مد جسر من التفاهم في عملية التناص بين هذه المسرحية، ومسرحية الشقيقات الثلاث لتشيكوف، بانية في مكان آخر من هذه المسرحية، والجملة التي تطلقها أبنة العم شبيهة الى حد كبير بالجملة التي يطلقها أندريه في الشقيقات الثلاث .
أبنة العم: . . أنهم يأكلون وينامون منتظرين الموت بأمتع طريقة لقضاء الوقت لاهدف لهم في الحياة لا طموح لكن لديهم الكثير من المواعظ أندريه: لا يفعل الناس هنا شيئا سوى الأكل والشراب والنوم ولكي يدخلوا القليل من التنوع في حياتهم يطلقون العنان لأشاعاتهم المثيرة للأشمئزازوللفودكا وللقمار وللدعاوى القضائية .
ولا يكتفي المؤلف بتعرية الفكر البورجوازي لأفراد هذه الأسرة من خلال عبثية حياتها بالتركيز على سلوك كريستين، وإنما يذهب أكثر من ذلك عندما يمنح رقعة أوسع لهذه الشخصية أكثر من الشخصيات الأخرى في سعي منه لجعلها أنموذجا لهذا الفكر،عبر تجريدها من الأحاسيس الجياشة وجعلها إنسانة شريرة بلوغا حد تمنيها إصابتها بأزمة كبيرة كأن يموت طفلها أو أن تموت هي، مبررا هذا السلوك وعلى لسان الصديق بالخمول والتخمة في المتعة المادية والشبق .
وجملة (هناك نساء يتلذذن بالضرب ) التي يطلقها الصديق بوجه كريستين ردا على تمنيها بأصابة كبيرة، إشارة واضحة الى أن إصابتها تتجاوز هذا التمني وصولا الى مرض السادية، وهنا تبدي تخوفها منه حيث يقترن هذا الخوف بنهاية المسرحية، إذ يغادرها اكسل وزوجها يقدم ذراعها لوالده سعيا لمرافقة أيدل للتعبير بلوغ أفراد هذه الأسرة أوج إنحطاطها الأخلاقي والأجتماعي .
وإذا كانت كريستين بدأت تخاف من أكسل، فأن أكسل يقلقه ما شرع يتفسخ تحت أرضية المنزل وكلا الأمرين الخوف والقلق يومئان الى ما تؤول إليه نهاية المسرحية، ولكن بالرغم من ذلك تعتقد كريستين أن ما يحدث مجرد لعبة، لذلك فأن خوفها ظاهرا يبدو أقل من خوف أكسل الذي يرى بأن كريستين وأفراد أسرتها يلعبون بأعواد الثقاب وسكاكين الصيد وعبوات الديناميت، ولعل وصول أكسل الى هذه الحقيقة تكسبه أكثر عقلانية من كريستين وعدم إنجراره وراء العاطفة عبر إتخاذه موقف التراجع من حياة هذه العائلة وبخاصة كريستين .
لا يقتصر عدم شعور الأبن بالحسد والشر في كون أكسل عشيق زوجته على تقدير صداقته فحسب، بل لأنه يحبه لدرجة أنه لا يستطيع أن يبخل عليه بشيء حتى لو أراد أن ينام معها إذ أنه يستمتع بذلك، يقر بهذه الحقيقة بالرغم من معرفته بغرابتها، وتتصور زوجته أنه يخلو من هذا الشعورليدفع أكسل نحوها ليكون قادرا على طلاقها، وتصورها هذا يلتقي مع تصورها الأول في خوفها من أكسل بالحث على الأبقاء على كلا التصورين الى النهاية المعروفة .
ولكن ثمة جمل تأتي على لسان الأبن تنفي عدم غيرته على زوجته وتؤكد صحة تصورات زوجته، وبين هذين التناقضين يتألق المؤلف في رسم حبكة و معمارية مسرحيته الفنية بقدرته على إقناع المتلقي في كلا الأتجاهين، كأن وهو يسألها فيما إذا كانت قد تبادلت القبل مع أكسل، طالبا منها أن توعده عندما تزف هذه اللحظة لأنه يفضل الأفتراق عنها على خداعه .
وها هو يقر بأنه يحقد عليه في غيابه، ثم يعود ليناقض نفسه بحبه له أثناء لقائه بدليل أنه لا يعرف ماذا يريد، وقد نسج كلاهما الشبكة بأنفسهما ووقعا فيها .
ومثلما يجثو (جان) في مسرحية (الآنسة جوليا) لجوليا ويقبل قدميها، كذلك في هذه المسرحية يجثو أكسل لكريستين ويقبل قدميها، الأول لكي يتحرر من خجله، والثاني لكي يعرف أكسل مدى حرص كريستين على مكوثه في المنزل وعدم مغادرته له .

3- الآنسة جوليا :
مثلها مثل مسرحيتيه السابقتين البجعة واللعب بالنار يتعرض سترندبيرغ في (الآنسة جوليا) الى المرأة التي تنساق وراء نزواتها عبر خيانتها للأسرة أو الطبقة التي تنتمي إليها، ففي الأولى والثانية لزوجها وأبنائها مع صهرها وصديق زوجها، وهذه المسرحية لأسرتها وطبقتها الأرستقراطية مع خادمها معريا بهرجة وزيف الأثنين، بهرجة وزيف الآنسة جوليا من جهة وبهرجة وزيف الطبقة التي تنتمي إليها من جهة ثانية.
وهو مثلما يعمد الى تعرية إنسياق المرأة وراء نزواتها في معظم مسرحياته وليس مسرحيتيه السابقتين بالأضافة الى هذه المسرحية، كذلك يلجأ فيها الى إقتران البداية بالنهاية، فأذا كان في البجعة قد بدأ في جملة أغلق الباب لكي لا تشم الأم الرائحة المنبعثة من إحراق الوقود إرتباطا بالنهاية حيث يحترق المنزل وفي اللعب بالنار في جملة ألم يسيقظ بعد؟ إرتباطا بصحو ضمير الصديق في النهاية، فأنه في هذه المسرحية يستخدم جملتين إرتباطا بنهاية المسرحية وجملة واحدة إيحاء لحبكتها أو ثيمتها الرئيسة .
وهاتان الجملتان هما (جنت الآنسة جوليا من جديد الليلة) و (وصول الكونت الى المحطة) أما الجملة الموحية الى الحبكة فهي (كانت الآنسة جوليا ترقص مع حارس الصيد).
وإذا كانت الجملة الأولى توميء الى خروج جوليا عن طورها المعتاد بالرقص مع المستويات المتدنية من البشر، والجملة الثانية الى مغادرة الكونت منزله، فأن البداية الأولى ترتبط بسعي هروب جوليا في نهاية المسرحية مع جان، والثانية الى عودة الكونت الى منزله للحيلولة دون هروبهما، بالأحرى دون هروب جان مع جوليا. وتنشأ حبكة المسرحية من حيث ترقص جوليا مع حارس الصيد وتمتد هذه الرقصة الى خادمها وبالتالي ترتبط به بعلاقة غير شرعية التي تدفعها الى تجنب أمر إفتضاحها الهروب مع جان.
تتكون المسرحية من ثلاث شخصيات فقط وهي الآنسة جوليا: 25 سنة، جان: 30سنة، كريستين:35 طباخة، ويجري الفعل المسرحي في مطبخ الكونت في ليلة منتصف صيف بدون تقسيمه الى فصول لأعتقاد سترندبيرغ أن هذا التقسيم يبدد الوهم، يجري الفعل المسرحي في المطبخ وقد وقفت كريستين عند الموقد وهي تطبخ في مقلاة، يدخل جان بملابس الخدم مخبرا إياها بجنون جوليا التي لاتستغرب من هذا الأمر بأعتبار أن جوليا تتصرف على هذا النحو منذ أن فسخت خطوبتها ويستغرب جان هو الآخر من إيثار سيدة شابة على المكوث مع الخدم بدلا من السفر مع أبيها لزيارة أولاد عمها.
وجان هو الشاهد الوحيد الذي رآى بأم عينيه حادثة فسخ خطوبة جوليا إذ أن خطيبها هو الذي فسخها وليست هي لأنه عرف كيف يقف بوجهها بعد أن كانت تحمله على أن يقفز فوق سوط خيلها كما تعلم كلبا على القيام بحيل وقد قفز مرتين ولسعته بالسوط كل مرة وفي المرة الثالثة أنتزع السوط من يدها وكسره الى قطع صغيرة ثم انصرف.
وجان وكريستين يحبان بعضهما البعض وتطلب منه أن يرقص معها ويواعدها، إلآ أن جوليا تحول دون ذلك من خلال دعوته هي الأخرى بعد أن تسمح لها كريستين أن ترقص معه، ويرى جان من غير اللائق لجوليا أن ترقص مع الخدم لأن الناس ستتكلم عنها وعن عائلتها بسوء، بيد أن جوليا لاتعتبر هذا أمرا طالما الليلة عطلة فيجب أن يتمتع الكل ولا يفكروا بالرتبة ، وتطلب منه أن يغير ثياب الخدم بثياب الرقص وعندما تحس بخجله تدير له ظهرها لكي يتسنى له ذلك، ويروقها مظهره بالسترة لأنه يبدو فيها جنتلمان، ومن خلال هذا الأعجاب، تحديدا جملة (تبدو جنتلمانا في هذه السترة ) يبدأ التقارب بينهما وتزداد معرفتهما الواحد بالآخر ليتحول هذا التقارب وهذه المعرفة الى حب ومن ثم الى علاقة غير شرعية، حيث تشرع نقطة الخلاف بينهما حول هروبهما قبل إفتضاح أمرهما، ومن هنا أيضا تظهر حقيقة الطبقة التي تنتمي إليها جوليا ويتوضح زيفها ودجلها، وأنها لا تختلف كما يتوهم العامة في تفكيرها في تفكيرها وسلوكها عن بقية الناس إن لم تكن أسوأ
منهم، وهذا ما يسعى المؤلف الذهاب إليه وبرهنته عبرشخصية جوليا في ثاني علاقة حب فاشلة لها مع شابين مستوى طبقتهما أدنى من مستوى طبقتها ومدى صلتها بتفكك أسرتها الناجم من عدم سفرها مع والدها الى بيت عمها .
وليس الكونت وحده دكتاتورا، فجان هو الآخر كذلك، وإذا كان الأول يستخدم هذه السلطة مع أفراد أسرته وفلاحي قريته فأن الثاني يستدخدمها في البداية مع كريستين ثم مع جوليا، وتنطوي هذه الدكتاتورية بين ثنايا الجملتين اللتين تطلقهما كريستين (:أنت أصعب من الكونت ) و(لم أر رجلا صعب الأرضاء مثلك) وهاتان الجملتان بقدر ما يشيان بهذا المعنى، أنهما بنفس القدر يشيان بهجرة جان لكريستين لكونه دكتاتورا وهجرته لجوليا لكون والدها كذلك دكتاتورا.
وهذه الصفة تنسحب الى جوليا، ذلك لأنها لا تتمرد على طبقتها من خلال ربط علاقة غير شرعية بجان فحسب وإنما أيضا لأنها تحلم أن تعيش بين عامة الناس من خلال عدم إحساسها بالراحة إلآ بعد أن تستقر على الارض في الأسفل وتجتاحها رغبة عارمة في أن تغرق أكثر فأكثر داخل الأرض، بعكس جان الذي يحلم أن يصل الى أعلى. أي مثل جوليا متمردا على طبقته .
إذن فلكلتا الشخصيتين أطوار غريبة وتختلفان عن بعضهما البعض، ومن الطبيعي ألآ يلتقي مثل هذين النموذجين حتى في أدنى مرافق الحياة وأبسطها نجاعة وتنشب الخلافات بينهما وتتطور الى كشر أنيابهما ليقذف الواحد بوجه الآخر سمومهما لخاتمة تقليعة من السباب والشتائم كقول جوليا لجان:أنت أيها الخادم أيها التابع قف حينما أتكلم إليك ورد جان عليها قائلا :أنت يا قحبة الخادم أنت يا عاهرة . . . لم أر في حياتي فتاة قدمت نفسها رخيصة كما فعلت أنت الليلة . . . ومخاطبتها بهذه الجملة : يؤلمني أن اراك تسقطين الى مستوى أوطأ من مستوى طباختك. أوقوله لها :أصلي أفضل من أصلك، بالأضافة الى جملة الخادم خادم والعاهرة عاهرة، وهكذا قائمة طويلة من الجمل والعبارات السوقية المتبادلة بينهما.
تسعى جوليا أن تفرض سلطتها على جان مثلما حاولت مع خطيبها الأول عبر مراعاته رفقة المرأة ليشاركها بدون خجل شرب البيرة وعندما يرضخ لأمرها تطلب منه أن يقبل حذائها ليكمل صورة السيد المهذب، ولكنه لايحبذ أن يبقى معها على هذا النحو خوفا من تعرضهما لمداهمة شخص ما، غير أنها لايهمها ذلك وتمضي في غيها داعية إياه الخروج معها الى الحديقة، وعندما يرفض دعوتها بشدة خوفا من عيون الناس وألسنتهم ، تتساءل فيما إذا كانت واقعة في غرام خادم فيرد عليها جان : إن هذا يحدث ولا شيء مقدس عند أولئك الناس، وتعتقد من وجهة نظره المتعالية هذه على طبقتها إنه أرستقراطي، ولأ تفاقه مع رأيها، بالرغم من كونه خادم هذه الطبقة، إلآ إنه يسعى أن يرتفع الى مستواها، فتقترح جوليا عليه أن يختار بعكس طموحه، أن يخطو خطوات هابطة، ويفهم جان هذا الهبوط أو الناس هكذا ستفهمه لا فرق ،إنه سقوط .
ولأعتقادها أن رأيها عن الناس أفضل من رأيه تقص عليه الحلم الذي يراودها بين فترة وأخرى، حيث يترآى لها أنها تتسلق عمود عال ولا تعرف كيف تنزل ذلك أنها لن تستمتع بأي سلام وراحة إلآ بعد أن تستقر على الأرض. ما معناه أنها ترغب الأنسلاخ عن طبقتها والأنتماء الى طبقة جان، بينما يحلم جان أن يصل الى القمة ،أي أن ينكر هو الآخر طبقته وينتمي الى الطبقة الأرسقراطية، وبنزولها هي الى الأسفل وصعوده هو الى الأعلى حيثت تتحقق أحلامهما تقع الخطيئة في الحديقة بعد أن يناما على تسع زهرات من أزهار منتصف الصيف، إذ تقع إبتداء من قول جوليا (شيء في عينيك دعني أرى ) مرورا بجملة جان : (ألا تعرفي أن من الخطر اللعب بالنار) وإنتهاء برد جوليا عليه : (لست أنا، فأنا مؤمنة).
ولكل منهما مسوغاته الأنجذاب للآخر، فأذا كانت مسوغات جوليا تكمن في تعويض الخطيب الذي فقدته بآخر أقل مرتبة منه لترويضه إشباعا لأنحدارها الطبقي، فأن مسوغات جان تنحصر في تحقيق جزء من أحلام الطفولة بالعودة الى المكان الذي هو حديقة الكونت بغية الوقوف على حقيقة الطبقة الأرسقراطية ومعرفة طبيعتها. ولكن جوليا لم تفطن بأنها ستواجه خادما أشرس من خطيبها الأول ودكتاتورا لايلين ولا يخضع إلآ لدكتاتورية والدها الكونت، بدليل أن جرس الكونت برنتيه أبطلتا فراره مع جوليا بالأضافة إحتراما لمهابة سيده لم يمارس الحب معها داخل المنزل. ومن هذا الفهم لمسوغات إنجذابهما للآخر فأنهما غير متحابين بل يكرهان بعضهما البعض وجوليا تعلن صراحة أنها تكرهه كما تكره جرذا، أما جان فيظهر كرهه لها بطريقة أخرى وهو يخاطبها قائلا إذا بصقت علي فلا بد أن تتوقعي مني أن أمسحها بك ، وإنجذابهما هذا قائم على مصلحة الطرفين، ويتضح هذا أكثر بالكذب عليها زاعما السعي للقاء حتفه أثناء إستلقائه في سرير البصل، وبالمقابل عدم إحتمالها للفضيحة لأنها أسقطتها، وأساسا فهي تكره الرجال وأقسمت ألآ تصبح عبدة لأي رجل .

كما أن جملة (كيف يمكنك أن تكون قاسيا الى هذا الحد ) التي تأتي على لسان جوليا وإن جاءت متأخرة بعض الشيء، فأنها من جهة تشي بالدكتاتورية التي يتحلى بها جان ومن جهة أخرى تشي بتركها الى مصيرها المجهول مع والدها الأكثر دكتاتورية .
تشبه علاقة والدة جوليا بزوجها بعلاقة زوجة الأبن بصديقها في مسرحية (اللعب بالنار ) لنفس المؤلف في كونها عشيقة صديق زوجها ،وبمسرحية ( الاشباح) لأبسن من حيث عدم تأمين الدار التي شبت فيها النار، وبمسرحية ( البجعة ) في تبذير الزوجة أموال زوجها إنتقاما منه لنفس المؤلف ايضا.
ولأن الفعل المسرحي لذبح العصفور لم تفض لا الى نتيجة ولا الى نهاية المسرحية فأن وجوده داخل الحدث بدا مفتعلا وآتيا من خارج الحدث لأن هذا الفعل لم يغير أو يقدم الحدث اللهم بعض ما أصاب جوليا من إستياء.
ولربما أراد المؤلف عن طريق هذا الفعل أن يشبه حالة اليأس التي تمر بها بحالة بطلة تشيكوف في مسرحيته (طائر البحر )، جوليا من خلال المخلوق الحي الذي تحبه وهو العصفور، ونينا عبر تشبيه عشقها للمسرح بعشق نورس للبحيرة إشارة الى ربط حياتها بحياته، ولكن شتان بين مسوغات المسرحيتين، فأذا كان هذا الفعل في طائر البحر يأتي في البداية ليوظف بما يبرره في النهاية فأنه في الآنسة جوليا جاء فقط وهو أيضا مسوغ ضعيف من أجل ان يظهر المؤلف توق جوليا للتحرر كتوق عصفورها المحبوس في قفص .


4- سوناتا الشبح:

كتب سترندبيرغ هذه المسرحية عام 1907وتتكون من ثلاثة مناظر وسبع عشرة شخصية وتعتبر من أشهر مسرحيات الحجرة وتدور حوادثها حول مجموعة من البشر غريبة الأطوار ما عدا الطالب، فالعجوز الثري الذي يظهر بمظهر منقذ الطالب من الفقر ساعيا تقريبه من الكولونيل ليتزوج بالفتاة لأنها أبنته وليست أبنة الكونيل ما هو إلآ أكبر مراوغ وسارق وقاتل، إذ كان سابقا يشتغل في غسل أواني المطبخ، والكونيل صاحب المنزل الفاره وزوج المومياء ليس من النبلاء ولا كولونيل وحتى المنزل الذي يسكن فيه هو ملك الآخرين، والمومياء التي تجلس داخل الصوان وتعتقد أنها ببغاء، كانت في شبابها من أجمل الفتيات وتمثالها المصنوع من المرمر شاهدعلى ذلك، والطاهية الغول مصاصة الدماء والمتمردة على أوامر أسرة الكولونيل تأبى مغادرة منزلهم ولا يملكون السيطرة عليها، بالأضافة الى أبنة الكولونيل الفتاة الساحرة الجمال التي تعاني من المرض ويرفض الطالب الفقير الزواج منها، وشخصيات أخرى بقائمة طويلة لامجال لذكرها هنا .

تكاد حوارات المنظر الأول من المسرحية الى أن يشرف على نهايته تقريبا تقتصر على شخصيتي الطالب والعجوز بالرغم من ظهور بائعة اللبن في البداية التي لا تنطق بكلمة الى النهاية والخادم.

تبدأ المسرحية والوقت صباحا بجوار النافورة بطلب الطالب الكوز من بائعة اللبن التي تنظر إليه مرتعبة، ناقلا إليها أحداث الليلة التي قضاها بتضميد الجرحى والمصابين جراء أنهيار أحد البيوت، وما أن يسمع العجوز هذا الخبر الذي كان في نفس اللحظة يقرأ عنه في الصحيفة وصورة الشاب منشورة الى جانب الخبر حتى يبادر لأنه عرف أن هذا الشاب هو الذي قام بهذا العمل الى مخاطبته لمعرفة أسمه، إلآ أنه لعدم إهتمامه بالشهرة قناعة منه أن ( وراء كل مادح قادح ) وهذه الجملة هي عصارة المسرحية التي سنتناولها لاحقا، وفضلا عن ذلك فهو ليس من طالبي المكافأت لذلك فلا يبوح بأسمه، إلآ أن العجوز بدهائه يتعرف على هوية الطالب أو الشاب لا فرق وذلك عبر صوته الذي يشبه نطق كلماته بنطق كلمات شاب كان صديقا له يدعى أركنهولتز، ويتبين أن هذا الصديق، هو والد الطالب، فمن هذا المنحى تشرع صلة التقارب تتوطد بينهما، ويبدو أن العجوز لصداقته المتينة مع أركنهولتز كان قد شاهد الطالب في طفولته ولكن في ظروف جد مؤلمة، ذلك أنه حل على الدنيا وسط ظروف عائلي مفلس. وهذا ما ينطبق تماما على حياة المؤلف، إذ ما كاد يولد حتى أفلس والده .

أن العجوز على علم مسبق بأن أسرة الطالب كانت تذكره بشيء من الكراهية بسبب ما قيل أنه كان يلحق الأذى بصديقه (أركنهولتز)، وتفاديا لهذا الألتباس وحسب إدعاء العجوز أن والد الطالب سرق منه سبعة عشر ألف كراون وكانت هذه كل مدخراته إذ ذاك، وهو لا يريد إسترجاع الدين ولكنه يدعو الطالب أن يؤدي له بضع خدمات صغيرة كدفع مقعده ومساعدته على صعود الدرج ودق أجراس الأبواب، وهدف العجوز في الحقيقة من هذه الدعوة ليس أداء الطالب ببضع خدمات له وإنما أختباره لمدى إستعداده القيام بعمل آخر وهو الدخول في منزل الكولونيل لأقامة علاقة صداقة مع أبنة الكونيل وزواجها منه التي هي في الحقيقة أبنته وذلك من خلال حجز مقعد له الى جانب الكونيل في العرض المسرحي الذي سيحضره، إذ ما أن يعرف بأن الجالس الى جانبه هو الشجاع المنقذ سيجعله في غد من المشاهير وسيكون لأسمه بعض القيمة.

وبعد أن يحجز الطالب للمقعد يسأله العجوز إن كان يرى بيت الكولونيل فيبدي إعجابه به وتوقه العيش في طابقه الأعلى مع زوجة جميلة وطفلين صغيرين حلوين وإيراد سنوي قدره عشرون ألف كراون . وما أن يطمئن العجوز إنجذاب الطالب الى المنزل حتى يبدأ بتعرفه على الساكنين فيه إبتداء من الكوولنيل حيث يظهر في ملابس مدنية ينظر في الترمومتر خارج إحدى النوافذ ثم يعود الى داخل الحجرة ويقف أمام تمثال المرمر، ومرورا بزوجته التي تركته وعادت إليه وتزوجته مرة أخرى وتقبع كالمومياء منصرفة الى عبادة تمثالها وأبنته التي تعيش في النافذة التي بها زهور الأوركيد، وإنتهاء بالسيدة ذات الملابس السوداء التي تتحدث مع زوجة الحارس ولها صلة بالرجل المتوفي فقد كان قنصلا، والذين من مواليد يوم الأحد يمكنهم رؤيته وهو يخرج ليلقي نظرة على علم القنصلية، ولأن الطالب من مواليد يوم الأحد فهو يستطيع أن يرى ما لا يراه الآخرون بينما العجوز ليس من مواليد هذا اليوم فلم ير بائعة اللبن التي كان الطالب يتحدث معها، وعندما يخبره الطالب بأنها بائعة اللبن يرتاع من وقع هذا الأسم في أذنيه لأنها تعرف أسراره أكثر من أي شخص آخر، ويطلب منه ألآ يدعه لأنه وحيد ومكدود ويريد أن يراه سعيدا لأرتباط مصالحهم عن طريق أبيه، ويدعوه أن ينظر الى أبنة الكونيل التي تشبه تمثال المرمر المصنوع لأمها فيسحره جمالها ويغطي وجهه باكيا بفعل يأسه من الأقتران بها، إلآ إن العجوز يطمئنه على أنه سيحقق أمنيته هذه لو خدمه، لأنه قضى حياته كلها في الأخذ وهو اليوم يتوق أن يعطي، سيما ليس له وارث ليغدو هو بمثابة أبنه يرثه ويتمتع بالحياة، ومثلما لم ير العجوز بائعة اللبن ورآها الشاب لأن الأول لم يولد في يوم الأحد كذلك ولنفس السبب فقد رآى الشاب الرجل المتوفي يخرج من الباب وهو ملتف بملأة بينما لم يره العجوز، لقد ذهب ليعد الفقراء، وحين علم بقرب وفاته سرق ألف كراون من الدولة ويستطيع أن يسمع كل كلمة تقال ولأبنته علاقات بزوج إمرأة أخرى .

وعندما ينفرد الشاب بخادم العجوز (جوهانسون ) ويسأله عن طبيعة العجوز فيرد عليه قائلا:

أنه يتطلع الى البيوت فيسقطها، ويقتحم البيوت، ويتلصص من النوافذ، ويدمر مصائر البشر، ويقتل أعدائه، أنني أرتكبت زلة لم يعلم بها سواه فبدلا من أن يرسلني الى السجن حولني الى عبد رقيق.

تدور أحداث المنظر الثاني في منزل الكولونيل حيث يقيم منذ عشرين سنة نفس الأشخاص إحتفالا يشربون فيه الشاي ولا ينطقون بكلمة يسمونه ( عشاء الأشباح ).

نزع المؤلف في المنظر الأول بنقل أحداث المسرحية عبر عدسة العجوز إلآ أنه في الشطر الأول من المنظر الثاني ينقلها بعدسة (بنجستون) خادم الكولونيل، شروعا بفتحه باب غرفة المومياء زوجة الكولونيل حيث تشاهد بيضاء منكمشة ويطلب منها أن تصفر فتلبي طلبه ، ويرجع سبب جنون زوجة الكولونيل الى عيشها لأربعين سنة في نفس البيت ونفس الزوج ونفس الأثاث ونفس الأقارب ونفس الأصدقاء، لذا فهي تشبه نفسها بالببغاء في طريقة كلامها وفي طريقة عدم إحتمالها العجزة أو المرضى وحتى منظر أبنتها المريضة .

ويكرس جزء من الشطر الثاني لهذا المنظر للحوار الدائر بين العجوز والمومياء والجزء الآخر للحوار الدائر بين الكولونيل والعجوز، إذ ما أن يدخل العجوز الغرفة الخضراء ويقفل بابها ورائه ويتوقف أمام التمثال حتى تنطق المومياء ببعض الكلمات غير المفهومة، مما يدفع العجوز لأن يظن بأن البيت مسكون بالعفاريت طالما هناك صوت للببغاء ولا يراها خائفا من هذا النوع من الأسرار التي يخفونها في هذا البيت لتخرج الببغاء وتجذب شعره المستعار فيقفز فزعا وهو يصيح :( لا لا لا يا إلهي ).

وتبلغه بأنها تعيش معظم أوقاتها داخل الصوان لتتجنب أن ترى أحدا ويراها أحد، وأن طفلتهما في غرفة الأوركيد، وتنأى بنفسها عن جريمتهما وتلقي الدور الأكبرعلى عاتقه، ولأنها تعرف بأنه قد جاء من أجل زواج أبنته بالشاب فتحذره من لمسها لأنها ستموت، وتخبره بأسماء الشخصيات التي ستحضر الى حفلة عشاء الأشباح وفي مقدمتها البارون الرجل الذي دفن زوج أمه ويريد الحصول على الطلاق ليتزوج بأبنة زوجة الحارس، الرجل الذي كان عشيق المومياء، والشخصية الثانية هي خطيبة العجوز السابقة التي أغواها الكولونيل.

وما أن يلتقي العجوز بالكونيل حتى يطلب منه أن يطرد خادمه بنجتسون مقابل تنازله عن كل سندات الديون التي عليه، إلآ أن الكولونيل يرفض طلبه هذا لكونه خادما وفيا وقضى معه عمرا طويلا بالأضافة الى نيله الوسام الوطني للخدمة الطويلة الأمنية، وعندما يصر العجوز على طلبه يسأله الكولونيل إذا كان سيتولى إدارة أعماله، فيرد عليه بالأيجاب مادام كل شيء يخصه، الأثاث والستائر وأدوات الأثاث والفراش كلها ملكه, بما في ذلك شعار أسرته، وحتى أنه ليس من النبلاء، ويريه الوثيقة المنشورة في المجلة التي تثبت أن الأسرة التي يستخدم أسمها قد أنقرضت منذ مائة عام، فيقر الكولونيل أنه ليس من النبلاء فيخلع خاتمه ذات العلامة ويعطيه للعجوز الذي يضعه في جيبه، ولتجاوز إهانات العجوز حدها المعقول يحاول الكولونيل إيقافه بجملة : (من أنت وبأي حق تعريني بمثل هذه الطريقة ؟ )، إلآ أن العجوز يندفع أكثر في إهانته وهو يأمره أن يخلع شعره المستعار وينظر الى وجهه في المرآة ثم أن يخلع أسنانه وفي نفس الوقت أن يحلق شاربه.

وعندما يبدأ الضيوف بالوصول الى منزل الكولونيل يدعوه العجوز أن يتمالك نفسه ليمضيا في لعب أدوارهما القديمة، ولأن الكولونيل لم يعرف العجوز فقد ميز عينيه وصوته، لذلك يدعوه بألآ يحاول معرفته ويلزم الصمت، والطالب هو أول من الضيوف الذي يحضر وينحني للكولونيل الذي بدوره يرحب به ويشيد بالدور البطولي الذي لعبه في إنقاذ أرواح الكثير من الناس من الموت المحقق.

وفي الوقت الذي يلتحق فيه الشاب بغرفة السيدات تحديدا غرفة الأوركيد حيث يشاهد وهو يتحدث بخجل مع الفتاة، تحضر مس (بياتريس هولستا ينكرونا ) خطيبة العجوز السابقة المجنونة الى حد ما، ثم يحضر الأرستقراطي الذي يرتدي الحداد ويبدو عليه الغموض، وما أن يراه العجوز يقول مع نفسه : هذا هو لص المجوهرات على ما أعتقد، لو دخلت المومياء لأكتملت الجماعة، فلا تخيب ظنه فتدخل حالا .

وبأكتمال حضور كل الضيوف يبدأ العجوز، إستلام دفة الحديث في سعي منه لتعرية جرائم الكولونيل بشكل خاص والحاضرين عامة من خلال الأشارة الى زلهم في بعض المواضع عن غير قصد وبالمصادفة أحيانا ينكشف أعمق الأسرار ويتمزق قناع الأدعياء ويتعرى الأوغاد، متخذا من تربية إبنته في بيت الكونيل أنموذجا لهذا الزل بفقدانها الرغبة في الحياة وراحت تذوي في هذا الجو المشحون بالجريمة والغش والزيف، وما أن ينتهي العجوز من إلقاء خطابه الطويل هذا حتى ترد المومياء عليه الصاع صاعين وهي تنعته بلص للنفوس الأنسانية التي سرقها بالوعود الكاذبة وقتل الكولونيل الذي دفن اليوم شانقا أياه بالديون وسرق الطالب بعد أن قيده بأدعاء دين على أبيه الذي لم يداينه قط بفلس واحد، وقبل أن تنتهي من عد جرائمه تتذكر نقطة غامضة في حياته ليست على ثقة تامة من كنهها رغم ما عندها من شبهات وتظن أن بنجتسون يعرفها، وما أن تدق الجرس حتى يصيح :لا لا تنادي بنجتسون لست أريده، في إشارة واضحة الى علم الخادم بهذه النقطة، لتدق الجرس ثانية فتظهر بائعة اللبن في هذه المرة دون أن يراها الجميع سوى العجوز الذي يفزع الى الوراء مرتاعا .

وبعد أن ينتهي الخادم بنجتسون من كشف الجرائم التي أرتكبها العجوز بحقه وحق الفتاة الصغيرة بأستدراجها الى الخلاء ليغرقها لأنها رأته وهو يرتكب جريمة خشى أفتضاحها، تمرر المومياء يدها على وجه العجوز طالبة منه أن يعطيها المذكرات والوصية، في الوقت الذي يظهر فيه جوهانسون في باب البهو يراقب المشهد عالما بأن الوقت قد حان لتحريره .أما المنظر الثالث الذي تجري أحداثه داخل غرفة الأوركيد تدور حواراته بين الشاب والفتاة حول الوضع المأساوي الذي تعيشه الفتاة في بيت الكولونيل، إبتداء من الصمت السائد بين والديها لعدم وجود لدى أي منهما ما يقوله للآخر، سيما وهما يفقدان وسائل المخادعة ومرورا بأنتماء الطاهية الجثيثة الى أسرة الكولونيل من مصاصي الدماء التي تأكلهم وإنتهاء بمشاكلها مع الخدم .

العجوز ليس الشخصية الرئيسة في المسرحية حسب، وإنما بالأضافة الى ذلك يقوم بدور مؤلفها وذلك من خلال تصوير ماضي وحاضر الشخصيات التي تسكن داخل وخارج منزل الكولونيول، لذلك وإن كانت الفتاة المحور الرئيس للأحداث إلآ أن العجوز هو محركها، وتبدأ هذه الحركة من بداية المسرحية الى نهايتها، من حيث دعوة العجوز لمعرفة أسم الطالب الى إيعاز الفتاة لخادمها إحضار الساتر لتموت فيه.

ينزع المؤلف الى إستخدام هذه التقنية من الداخل بهدف منح شخصيات المسرحية معالم وأبعاد الشخصية غير الأعتيادية وإحاطتها بهالة من السمات التي تبعث الى الخوف والهلع، وتصوير خارج المنزل عكس داخله تماما من خلال التعبير عنه بتكوينات جمالية لا مثيل لها متخذا من هذا التناقض نقطة إلتقاء وإفتراق الجملة التي يطلقها الطالب في نهاية المسرحية مخاطبا الفتاة: (إن أجمل الأزهار تكون سامة الى مثل هذا الحد بل أشدها تسميما) في إشارة واضحة الى رفض الأقتران بها، وبشكل أوضح عدم تطابق ما في الخارج مع الداخل .

وتتوزع تقنية التصويرهذه للشخصيات في مساحات مديدة من المسرحية، وتتمثل أول ما تتمثل بظهور الكولونيل في ملابس مدنية ، حيث يوعز العجوز للطالب أن ينظر إليه، ذلك أنه سيجلس الى جانبه بعد ظهر اليوم، وهو بذلك يمنحه أمتيازا لم يخطر بباله وفي الوقت نفسه يكسب الكولونيل مكانة خاصة لديه ولكن هذا الأمتياز لا يخلو من بعض الضعف لأنه يقترن بوسيلة خسيسة ليس هدفها إثراء الطالب إنما الزواج بأبنته بدليل في لقائه مع الكولونيل ينحني إليه، ويتمثل التصوير الثاني بأيعازه الى الطالب ليرى العجوزة في النافذة التي كانت قبل ستين عاما خطيبته، وإذا كانت هذه الجملة تعود الى طريقة سترندبيرغ الأسترجاعية فأن إقترانها بجملة (أنها لا تستطيع أن تتميزني) توحي الى جنونها والجملة الأخرى التي تعقبها (كل منا يرى الآخر ولكن لا يترك أي أنطباع في نفسي) الى إنعدام المشاعر والأحاسيس، وفي كلتا الحالتين الى الجنون والحالة الأخيرة يرسم المؤلف شخصيات بمعالم وأبعاد غير مألوفة .

وهذا ما ينطبق على زوجة الحارس وأبنتها السيدة لابسة السواد والرجل البورجوازي والفتاة، فأمرهم معقد كما يقر العجوز ويؤكد الطالب على إقراره بالأضافة الى تصوير العجوز للطالب الفتاة وهي تقلب أغطية الفراش الذي صنع لينام تحته شخصان ولكنه الآن لا يغطى إلآ واحدا، في إيماءة الى عزلتها وعزوفها عن الزواج بفعل الأجواء غير الطبيعية القائمة في منزل الكولونيل، وخروج الرجل المتوفي من الباب ملتفا بملأة والذي ينعته العجوز بكلمتين هما (وغد محسن). ومثل ما قام العجوز بتصوير الشخصيات من خلال وجهة نظره كذلك وبالتناوب يقوم الخادمان جوهانسون وبنجتسون بتصوير العجوز عبر وجهة نظرهما.

في المرة الأولى وجوهانسون يوعز الطالب لأن ينظر للعجوز وهو يستخدم الشرطة ويورطهم في مصالحه ويربطهم بالوعود الكاذبة، والثانية وهو في عربته الحربية يدفعه الشحاذون منتصرا.

وبنجتسون، في المرة الأولى عندما يظهر العجوزفي البهو بعكازتين بشيطان متمرس والثانية مشبها أياه بالأبليس نفسه.

والتقنية الثانية التي أستخدمها المؤلف وأعتمدها في معظم مسرحياته هي الطريقة الأسترجاعية بالعودة الى الأحداث التي جرت لشخصيات المسرحية، وتبدأ هذه الطريقة من الجملة التي يطلقها العجوز مخاطبا الطالب : أتعلم أنه يبدو لي أنني سمعت صوتك من قبل . عندما كنت شابا كان لي صديق ينطق كلمات معينة كما تنطق أنت بها بالضبط ، والجملة الثانية التي تعقب الجملة الأولى على لسان جوهانسون وهو يقول للطالب :أنني أرتكبت زلة ولم يعلم بها سواه وبدلا من أن يرسلني الى السجن حولني عبد رقيق، والثالثة في قول بنجتسون : كان لسنتين غاسلا للأواني ولما كان موعد أنصرافه في الثالثة، فأن الغداء كان يعد في الثانية. . الخ .

لأشاعة المزيد من أجواء الحلم والشاعرية على مسرحيته هذه لم يكتف المؤلف بأستخدام تقنيتي التصوير بعين الشخصيات والطريقة الأسترجاعية، وإنما أضاف إليهما تقنية أخرى وهي عملية التكرار الجارية على بعض التراكيب اللغوية التي تتسم بالدهشة والأستغراب وذلك بهدف التأكيد على غرابة أطوار الشخصيات ورهبة المكان الذي تجري فيه الأحداث، كما في قول جوهانسون : (أنهم قوم عجيبون ) وهو يحاور بنجتسون ويحدثه عن حلمه بدخول بيت الكونوليل، ورد الأخير عليه بما يشبه نفس المعنى : ( نعم يختلفون عن المعتاد قليلا )، وتتكرر هذه التراكيب سبع مرات ، وإعادة نفس التركيبة من قبل بنجتسون في المرة الثالثة، أو قول جوهانسون ردا على صفير المومياء كالببغاء نزولا عند رغبة بنجتسون : ( لقد رأيت بعض الاشياء الغريبة في حياتي ولكن هذا أعجب من كل ما رأيت )، بالأضافة الى تركيبة : ( يا له من بيت مرعب ) التي يطلقها جوهانسون لأستعمال عائلة الكولونيل ساتر الموت أثناء دنو الموت من أحد أفرادها، و: ( أن البيت مسكون بالعفاريت ) لخوف العجوز من المومياء التي تصدر أصواتا غريبة ولا يراها، و: ( يا له من بيت غريب ، أنه مسحور ) التركيبة الأخيرة التي يلفظها الطالب مندهشا ومصعوقا من الأحداث الجارية في هذا البيت على لسان الفتاة.

وتتكرر تركيبة ( أطلق يدي ) التي يلفظها الطالب مرتين، في المرة الأولى عندما يأخذ العجوز بيده يرتد محاولا عبثا تخليص يده، وفي المرة الثانية عندما يقول له : ( أطلق يدي أنك تذهب بكل قوتي أنك تجمدني ماذا تريد ؟ )

وإن عبرت هاتين التركيبتين عن شيء، فأنما تعبران عن تقييد العجوز للطالب تقييدا لا يستطيع الفكاك منه من خلال إغرائه بالعيش الرغيد والزواج من أبنته.

كما أن تطعيم هذا التكرار القائم على التراكيب اللغوية التي تتسم بالدهشة والأستغراب بما هو غير واقعي وأقرب الى الفانتازيا أكثر من أي شيء أخر، زاد من غرابة أطوار الشخصيات وغرابة المكان الذي يتحركون فيه لتتحول هذه الشخصيات الى أشباح تتناطح فيما بينها على إيقاع المكان الذي يعيشون فيه كخروج الرجل المتوفي من الباب وقدرته على سماع كل ما يقال، ورؤية الطالب للآخرين بينما هم لايرونه ، ورؤية بائعة اللبن للعجوز وهو لايراها، وقضاء المومياء جل أوقاتها داخل الصوان وتقليدها لصوت الببغاء.

أشرت في البداية الى أن عصارة المسرحية تكمن في جملة : ( فالمادح وراءه القادح على الدوام ) عليه أن كل أفعال المسرحية تنبني عليها، وتبعا لذلك فهي حبكتها الرئيسة، ولعل إلحاق المؤلف هذه الجملة بجملة أخرى يجلي المقصود منها وهو أن فن النيل من الناس قد هبط الى درك سحيق، إلآ أن هذا الفن الخسيس لم يكتف بأيذاء الطالب حتى الموت حسب وإنما أمتد الى كل شخصيات المسرحية ألأنموذج للكائن البشر، وها هو الطالب في نهاية المسرحية يستنجد بسيدنا المسيح عله يخلصنا نحن البشر من العذابات التي نعيشها على هذه الارض : يقولون أن المسيح هبط الى الجحيم أنهم يقصدون مجيئه الى هذه الأرض الى مصح المجانين هذا الى السجن الى هذه المقبرة هذا الكوكب . . الو يل الويل لنا جميعا . . يا أرحم الراحمين أرحمنا فأننا هالكون.

5-الأب:
إذا كان من مسرحية كتبها سترندبيرغ تتطابق أحداثها مع أحداث فترة من فترات حياته، فأن مسرحية الأب هي واحدة من أبرز مسرحياته التي تنحو هذا المنحى ، ذلك أنه كتبها كما يقول عبدالحليم البشلاوي ( في الوقت الذي أشرف زواجه من سيري على الأنتهاء، لذا نراه قد صب في هذه المسرحية ألوان الشقاء الذي ذاقه وتجرعه )4 .
وتتكون من سبع شخصيات وتدور أحداث فصولها الثلاثة في غرفة في بيت الكابتن حول تربية (برتا ) أبنة الزوجين (الكابتن ولورا) ، حيث ترى الأم أن تربيتها في كنف العائلة أفضل من المدينة التي سترحل إليها وتقيم مع المحامي الملحد (مستر سافبرج ) بينما يختلف الأب معها، لأ نه لا يريد أن يجعل من نفسه قوادا لأبنته وهي لا تفقه في الدنيا شيئا سوى فكرة الزواج، فمن هنا يبدأ الخلاف ويتطور ليأخذ منحى التصادم بينهما وصولا حد وضع خطة متقنة من قبل الزوجة لوصم الزوج بالجنون .
يقول البشلاوي بهذا الخصوص : ( وقد حدث شيء من هذا لسترندبيرغ، فهو قد أختلف فعلا مع زوجته سيري على تربية أولادهما الثلاثة، وتفاقم هذا الخلاف حتى أرتابت زوجته في قواه العقلية، فأستدعت كما فعلت لورا في المسرحية – طبيبا لفحصه .)5
وإذا كان الخلاف القائم بين الزوجين يدور حول تربية أبنتهما، إلآ أن حبكة المسرحية لا تنبني على هذا الخلاف وإنما على حقيقة عائدية البنت الى أبيها الكابتن أوشخص آخر مجهول وغير معلوم، ذلك أن القانون لايستطيع أن يثبت من هو والد الطفل، إقترانا ببداية المسرحية حيث يقوم ( نيجد ) وهو مراسل الكابتن بأغواء (أيما ) ولكنه لايعرف إن كان وحده والد الطفل، وزوجة الكابتن مثل نيجد تسعى أن تولد نفس الشك لدى زوجها لتجره الى الجنون، وتتصرف على هواها بمصير أبنتها.
إن حبكة المسرحية إذن تنبني على الشك والريبة، وعبرت جملتا الكابتن والقس عن هذا الفحوى مشبها الأول بيته بالقفص المملوء بالنمور، ومحذرا الثاني الكابتن من غلو إنفعالاته، لأنه لا يراه في خير حال ولا يعجبه منظره، وإذا كان فحوى جملة الكابتن تتجاوز الشك والريبة وتهدف الى المؤامرات التي تحيكها زوجته ضده، فأن فحوى الحبكة التي يطلقها القس تصب في صلب هذه المؤامرة، وبمعنى آخر فأذا كانت لورا تعتقد بأن زوجها لايفقه ما يدور حوله فأنها في سهو، ذلك أنه يوجه أصابع الأتهام وبدون تردد لجملة القس الى لورا التي تسعى بكل الطرق الأيحاء الى المحيطين بزوجها الى جنونه لتستأثر بأبنتها وتتصرف معها على هواها، وإن كان سعيها هذا قد بدأ مع أفراد البيت ثم أنتقل الى أخيها القس ،إلآ أنها وجدته أكثر نفعا بتغيير الطبيب الذي يعالج الكابتن بطبيب آخر لأن الطبيب القديم لا ينصاع لتوجيهاتها التي تدعوه الى الترويج لجنونه.
إن عدم فقدان الكابتن لوعيه وإحتفاضه بكامل قدراته العقلية رغم شروعه بالقس، بيد أنه يبدو أكثر وضوحا مع الطبيب الذي يختبره بحذر لمعرفته السابقة بأنجازاته العلمية وخشية أن يكتشف حضه من قبل لورا مع أن الكابتن على دراية مسبقة بذلك، يبدو أكثر وضوحا لضعف الأسباب التي تقدمها لورا بشأن جنون زوجها، هذا من جهة ومن جهة أخرى لعدم قناعة الطبيب نفسه بتلك الأسباب ، ويبدأ من أول لقاء بينهما والطبيب يخاطبه بصفته رجل من رجال العلم الموهوبين، بغية أستدراجه الى مدى مصداقية زوجته في نقل المعلومة الخاطئة إليه بصدد سعي الكابتن لرؤية الشهب تحت الميكروسكوب الذي ينفي ذلك ويؤكد بأنه يراها من خلال السبكترسكوب، وهكذا أيضا بالنسبة للكتب التي تمنع لورا وصولها لمتناوله لئلا يتفوق في بحوثه العلمية، مع أنها أبلغت الطبيب بأن المكتبة ملأى بالكتب ولكن الكابتن لا يقرأها.
والمربية هي الشخص الوحيد الذي يستطيع الكابتن أن يستمع إليها دون أن يثير غضبه، لأنه يعرف أنها تريد له الخير ومن دون الكل هي ليست ضده، لذا تطلب منه أن يلتقي مع زوجته في منتصف الطريق لحل مشكلة أبنتهما، غير أنه يرفض طلبها بدعوى أن الكل يتآمرون عليه ولا يريد من المربية أن تنضم إليهم وتساعده ولا تتخلى عنه لأنه يشعر أن شيئا ما سيحدث، ولا يدري ما هو ولكن مهما يحدث فلن يحدث إلآ شر.
ومن جملة ( فلن يحدث إلآ الشر ) التي تأتي على لسان الكابتن يعلن المؤلف عن المنحى الذي تسير فيه شخصياته وتفضي إليه وهو الصراع المحتدم بينهما الى أن يؤدي الى موت أحدهما، وهو بذلك مثل مسرحياته السابقة يقرن البداية بالنهاية ،حيث يموت الكولونيل.
وتظهر بوادر هذا الصراع من نعت الكابتن زوجته بأنها تمتلك (قوة الشيطان)، إستنادا الى قدرتها على تغيير رأي أبنتها متى ما تشاء، بالأضافة الى تخلصها من الطبيب القديم وتبديله بطبيب جديد، إلآ أن إتخاذ الكولونيل قرار ترحيل أبنته الى المدينة لتعيش مع الرجل الملحد مستر سافبرج زاد من حدة هذا الصراع، ذلك أن لورا تستفزه من عدم معرفته لوالد بيرتا ، وبوسعها أن تثبت ذلك من خلال إعلان أسم الوالد الحقيقي مع تفاصيل الزمان والمكان، وتحذره من توريط نفسه في قتال مع عدومتفوق، ويواجهها الكابتن بنفس الندية، غير أن لورا تجد في نديته هذه بالأمر الشاق .
ومع أن الطبيب يبلغ لورا بعدم قناعته بما نقلت له عن إختلال في قواه العقلية، بل بالعكس قد أدى خدمة كبيرة للعلم، تعود ثانية وتكذب على الطبيب وتخبره ما أخبرت زوجها على لسانها من أنه يظن ليس والد أبنته، والمفارقة كمن تنبأت زوجته بظنه ولم تكذب وهو يباغت المربية بالظن الذي جاءت به لورا طارحا هذا السؤال على المربية : ( من كان والد طفلك ؟ )، وعندما تذكر له أسمه وتؤكد أنه كان الرجل الوحيد في حياتها، يعود كما لو مسه جنون في هذه المرة وهو يطلب منها أن ترى صورة أبنته لتجري وجه المقارنة بينها وبينه، وتمتد مشابهة الطفل بأبيه الى تهجين الحيوانات كالحمار الوحشي والفرس الذي يسفر ولادة مهر مخطط عن طريق تلقيح الحصان والعكس بالعكس، ليتوصل الى حقيقة أن مشابهة الطفل لأبيه لا تعني شيئا، وبعبارة أخرى لايمكن إثبات الأبوة .
ويقر الكابتن بنجاح زوجته في إثارة شكوكه الى حد إختلال قواه العقلية، وهذا يعني بداية الجنون الذي تنتظره بفارغ من الصبر، وأحتفاضا لقواه العقلية يعرض عليها الصلح شريطة أن تبدد شكوكه وتكف عن القتال وهو يقول لها :( نعم، فقد سكبت الشكوك في أذني كالسم قطرة قطرة ، وزادتها الظروف قوة . بددي مخاوفي . . . قولي لي بصراحة ( هذه هي الحقيقة أعف عنك سلفا).
ولكنها تدرك أنه يكذب و لا يعفو عنها حتى في حالة إدانتها ولا يتكفل بأبنة رجل آخر، ولعل إدراكها هذا جعله أن يدعوها الى عدم تحطيمه وتقضي على قواه العقلية ، ذلك أنها تريد أن يكون لها السلطة على أبنتها وفي نفس الوقت أن يعيلها، لأعتقادها أن الصراع الحاصل بين الحياة والموت ما هو إلآ في سبيل السلطة، ولا يبدأ بتذكر الحوادث التي تجعل زوجته في موضع شك وشبهة إلآ بعد أن تسأله عن سبب عدم إنفصالهما من قبل، وما أن ينتهي بسرد البعض منها حتى تعلن عن جنونه الحقيقي بعبارة : (أنت الآن مجنون حقيقة) .
وهو في الوقت الذي يعرف فيه بأنها هذا ما تأمله، يذكرها بكفاحه لكي يخفي خطيئتها وعطفه لأدراكه سبب قلقها، ويسألها عن الشيء الذي تستطيع أن تفعله هي من أجله، وعندما تبدي عدم إستعدادها لفعل أي شيء وتحلف بأنه والد أبنتها ، يتضرع إليها أن تقول له كل شيء وهو يناديها كالطفل كما لو كانت أمه، ويعترف لها بأنه مريض ويطلب منها أن تشفق عليه حيال أن يتخلى هو عن رموز سلطته.
وبعد أن يأخذ بالبكاء تذكره ببداية دخولها في حياته ، كان كما تقول : (كطفل زائد النمو، كما لو كنت قد جئت الى الدنيا قبل الأوان، أو غير مرغوب فيك ) . ويوافقها على أن والديه لم يريدانه، لذا ولد بدون رغبة وإرادة.
والجملة الأخيرة التي يطلقها الكابتن غالبا ما تأتي في مسرحيات المؤلف لأنه كما يقول البشلاوي : (قبل أن يولد سترندبيرغ كانت أمه قد أنجبت من أبيه ثلاثة أطفال آخرين بدون زواج. ولد سترندبيرغ رغم إرادة أمه وأبيه ، وما كاد يولد حتى أفلس أبوه .)6
إن لورا لم تحب زوجها كعاشق وإنما أحبته كطفل، ورغم أن الكابتن لم تفته هذه الحقيقة إلآ أنه لم يعرف السبب، ذلك أنه بعد أن بات يحس أنها تكرهه لعدم رجولته، طفق بالسعي لأن يفوزها كأمرأة بالتقرب إليها كرجل، وكانت هذه غلطته، ذلك أن الحب بين الجنسين معركة، أو كما تقول لورا له : ( فلا تتصور أنني أعطيتك نفسي . أنا لم أعط ، بل أخذت . . أخذت ما كنت أريده أن آخذه. . . )
وهي لم تحبه كعاشق فحسب وإنما تكرهه أيضا عندما يسلك مسلك الرجال، لذا ينبغي أن ينهزم الأضعف منهما في هذه المعركة وسيكون الأقوى على حق، وتعتقد لورا بأنها الأقوى لأنها وستأخذ حقها بقوة القانون وستستخدمها في السيطرة عليه وتربي أبنتها كما تشاء وسيتكفل نفقات تعليمها بمعاشه، وما أن تدلو بتصريحها الأخير حتى يتقدم منها مهددا وهو يسألها عن كيفية السيطرة عليه، فتبرز له خطابا وترد عليه بوساطة هذا الخطاب الذي توجد صورة منه لدى ( المجلس الحسبي ) . . . . . . .
فيه أعترافك بأنك مجنون . وما أن تلفظ كلمة المجنون حتى يتجه الى المنضدة ويتناول المصباح المضيء ويقذفه بها التي تهرول مندفعة خلال الباب .
يشبه هذا المشهد بالمشهد الأخير لمسرحية ( بيت الدمية ) لأبسن، حيث تصفق (نورا) الباب بوجه زوجها لتخرج من حياته بالمرة وترمز الى تمردها على المجتمع، إذ مثلما تقررنورا الى ما يؤول مصيرها كذلك يقرر الكابتن بقذف المصباح في جه لورا الى نفس المصير.
ويتفق الثلاثة لورا وأخوها القس والطبيب على ضرورة إيداع الكابتن في مستشفى المجانين، ذلك إذا أقتصر الأمر على الغرامة فقد يعاود العنف، وإذا أرسل الى السجن فسرعان ما يخرج منه، لذا يقترح الطبيب إلباسه قميص المجانين فيرفض الكل الأقدام على هذه الخطوة، وإن كانت المربية في البداية هي الأخرى قد رفضت إلآ أنها توافق بعدئذ لأبعاد نيجد عن القيام بها تجنبا لأيذائه.
وبعد أن يدخل الكابتن الغرفة يبدأ بالكشف عن أسرار العلاقات الزوجية للقس والطبيب، وهويعري أولا القس هكذا (هل تعتقد أنك والد أولادك ؟
أذكر أن مدرسا كان يتردد على بيتكم. .) ثم ينتقل الى الطبيب قائلا له:
( ألم يكن في بيتك بديل شاب، أه، دعني أخمن كان أسمه . . .يهمس في أذن الطبيب).
ولأن الكابتن يتصور بأن أبنته لايهمها إحتراق والدتها بالمصباح، فتنفي أن يكون هو والدها، ويظن ثمة من أخبرها بهذا، لذا يبحث معها عن هويته التي ترد عليه بأنه : (ليس أنت على أية حال ) .
ومع هذا فهو يطلب منها أن تكون لديها فكرة واحدة هي بنت أفكاره التي تأبى إلآ أن تكون هي نفسها، فيخيفها على أنه من آكلي البشر، ويذهب الى رف البنادق ويتناول مسدسا ليقتل أبنته .
على أن أجمل مشاهد المسرحية وأكثرها شاعرية هومشهد إنتزاع المربية المسدس من يد الكابتن، وهي تذكره بطفولته عندما كانت تضعه على سريره وتقرأ له الأنجيل وقصصا لطيفة، وباليوم الذي أخذ فيه سكينا ليصنع الحذاء فخدعته وأخذت منه السكين تماما مثل هذا اليوم الذي أنتزعت المسدس من يده. ولا ينتبه الكابتن الى القميص الذي ألبسته أياه المربية إلآ بعد أن تقوده الى الأريكة حيث يحاول أن يخلص نفسه منه وهو يلعنها ويصفها بأدهى من الشيطان.
وتبلغ المسرحية ذروة شاعريتها في المشهد الدائر بين الكولونيل وزوجته وهو يشبهها بالشخصية الأسطورية اليونانية ( أومفال ) ويشبه نفسه ب ( هرقل ) إذ هي تلعب بالعصا بينما هو يغزل لها الصوف، في إشارة الى إخلاصه لها وخيانتها له، وترد على هذا التشبيه إن كان يعتقد أنها عدوه، فلا ينفي أن كان كذلك، جاعلا من أمه أنموذجا لهذا العداء لأنها، وتتكرر هذه الجملة للمرة الثانية: ( لم تكن تريد لي أن أرى نورالدنيا لأن ولادتي ستسبب لها الآلام ) .
وتعود زوجته لتبلغه، أن شكوكه في ولادة أبنته لا أساس لها، وهذا ما يزيد المسألة عنده بشاعة، ويطلب منها أن تضع وسادة تحت رأسه وتغطيه لأنه يشعر بالبرد وبدأت أفكاره تذوب ومخه يطحن، فتدعوه لأن يمد يده لها، وتتصاعد هذه النبرة الزاخرة ألقا بالعشق للأيام الخوالي والطفولة البريئة، كلما تقدمت المسرحية بخطوة نحو النهاية وهو يذكرها بأيامهما الجميلة، وتسأله بعد أن يسقط على الأريكة إذا كان يريد أن يرى أبنته فيرد عليها (ليس للرجال أولاد وإنما للنساء وحدهن و لهذا فالمستقبل لهن أما نحن فنموت بلا أولاد). ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهويبتهل الى الله بقوله: ( يا يسوع الرحيم الوديع الودود أرع طفلا صغيرا)، ما يدل أنه لم يكن مجنونا.
ينشأ البناء الدرامي لهذه المسرحية على الصراع القائم بين الشخصيتين الرئيسيتين بالتعويل على الأختلاف في تركيبة طبيعتهما النفسية ووجهات نظرهما للحياة، فلورا برأي زوجها رومانسية ورأي القس متمردة، والرأيان يناقض أحدهما الآخر، وإذا تحرينا الرأي الأول بناء على أحداث المسرحية فأننا نجد أن لورا رومانسية فقط مع أبنتها أما مع زوجها فلا، وموضوع مواجهة ترحيل أبنتها الى المدينة لا شأن له برومانسيتها بقدر ما له شأن في غريزة الأمومة، ورأي القس بها أكثر منطقيا في كونها متمردة وهذا ما لمسناه بتمردها على زوجها ضمن الأحداث الجارية، بل بالعكس أن الكابتن هو من يتحلى بهذه السمة، سمة الرومانسية بالرغم من أنه عسكري والمعروف عن العسكري أنه يتسم بالصرامة والخشونة، أذن فأول خطوة قام بها المؤلف هي الخروج عن المألوف السائد على أرض الواقع في رسم طبيعة تركيبة شخصياته، ولا يقتصر هذا اللامألوف على شخصيتيه الرئيسيتين فقط، وإنما في كيفية جر لورا الكابتن الى الجنون .
إن البناء الدرامي القائم على الصراع بين الشخصيتين نشأ إذن في كلتا الحالتين على اللامألوف، في الحالة الأولى من خلال إقتران قوة شخصية لورا بطفولتها بحصولها لكل ما تريد وتأثيرها على رأي الآخرين، تقابلها شخصية الكابتن المقرونة هي الأخرى بالطفولة الأقرب الى الأستسلام والأقتناع السريعين منهما الى التمرد والمخادعة.
ولعل القس وهو شقيق لورا يعبر عن شخصيتها أصدق تعبير في أكثر من مكان في المسرحية. ففي الحوار الدائر بين الكابتن والقس حول عدم موافقة لورا أن ترحل أبنتها الى المدينة يردعليه القس قائلا: يبدو لي أنك ستواجه متاعب. فعندما كانت طفلة كانت تتمددعلى الأرض كالجثمان الى أن تحظى بحاجتها. فأذا كان الذي تريده شيئا خاصا ردته ثانية بمجرد حصولها عليه . .
وفي مكان آخر يقول لها القس أيضا : أنت كالثعلب عندما يقع في الفخ، أهون عليك أن تعضي ساقك وتقطعيها من أن يمسك بك أحد. أنت كاللص الماهر لا شريك لك في جرائمك.
أما الكابتن فقد نشأ في تربية قاسية، ذلك أنه جاء الى الحياة بدون رغبة والديه، وها هو يقول للورا بكل صدق : وعندما أصبحت أنا وأنت شخصا واحدا ظننت أنني أكملت نفسي، وهكذا كانت لك الكلمة العليا، وأعتدت أن أتطلع إليك كأنسان سام وموهوب وأستمع إليك كما يستمع الطفل العاجز الى أمه.
أو في المشهد الذي يجمعه مع المربية قبل نهاية المسرحية بقليل وهي تحاول أن تهدئه وتأخذ المسدس من يده حيث تذكره بطفولته عندما كانت تأخذ السكين من يده بعد أن تخدعه : هل تذكر ذلك اليوم الذي أخذت فيه سكينا طويلة لصنع الحذاء وكيف جئت أنا فخدعتك حتى أخذتها منك، كنت ولدا صغيرا أحمق. .
أما كيف أستطاعت أن تجر لورا الكابتن الى الجنون ؟ .فأذا كان الجانب الأول نفسي و يكمن في قوة شخصيتها وبالمقابل ضعف شخصية الكابتن ما أتاح لها أن تستغلها بأتجاه تلفيق الأكاذيب ضده من أجل النيل من مركزه العلمي والأرتياب بسلوكه، فأن الجانب الثاني تقني، أو كما يقول البشلاوي :( فالمسرحية في الواقع تقوم على فكرة الأيحاء . زوجة توحي الى زوجها بأن الأبنة التي تعتقد أنها أبنته ليست في الواقع أبنته . وتتدرج مراحل هذا الأيحاء من هذه البداية الى أن توحي الزوجة الى زوجها بأنه مجنون. وينتهي الأمر به الى الجنون ثم الموت )7.
وتتكرر على إمتداد المسرحية بعض الكلمات والجمل التي توحي الى ما أنتهت المسرحية إليه وهي الأنتحار، الجنون، الموت، إنجاب الكابتن رغما عن إرادة الوالدين، نيل لورا لكل ما تريد، الكل ضدي العدو ..وهكذا.
كما تأتي في بداية المسرحية وعلى لسان نيجد جملة : ( لا يحدث ضرر إلآ بأرادة الفتاة )، وإذا كان نيجد يهدف أن أيما هي التي أغوته، إلآ أنها في الحقيقة، أي الجملة تقصد لورا وتوحي إليها، الى الضرر الذي ستلحقه بزوجها، وأتبع ستريندبيرغ نفس الطريقة في مســـرحيته (اللعب بالنار) من خلال شخصية الأبن وهو يقول لزوجته : (ألم يستيقظ بعد؟) لتمنح هذه الجملة معنيين، أحدهما حقيقي والثاني إيحائي، في إرتباط زوجته بعلاقة معه، أي بصديقه.

6- الأقوى:
تتكون من ثلاث شخصيات، ولكن في الحقيقة ثمة شخصية واحدة فقط وهي (السيدة س الممثلة المتزوجة) التي تتحدث في المسرحية من بدايتها الى النهاية ، أما الشخصيتان الأخريان وهما (الآنسة الممثلة غير المتزوجة) و(خادمة) فلا يتحدثان مطلقا، فأذا كان دور الثانية هو إحضار فنجالا من الشوكولاتة للآنسة (ي )، فأن حديث الأولى يقتصر على الأشارات ليس إلآ. لذا فهي مسرحية مونودراما لخلوها من الحوار وإعتمادها على المونولوج وليس الديالوج.
وهي أقصر مسرحيات سترندبيرغ، ولاتتعدى عدد صفحاتها على العشر، وقد كتبها عام 1889.ويدور (نص المسرحية) وهو مصطلح المؤلف في ركن من مقهى للسيدات في أستوكهولم في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، حيث تجلس (الآنسة ي) تحتسي بيرة وتطالع مجلة أسبوعية مصورة، مزركشة، وتبدأ بمخاطبة الآنسة .
ويبدو من خلال مونولوجات السيدة أن الآنسة لكونها عزباء، أو لأنها لم تستغل فرص الزواج التي واتتها فقد عزلت نفسها عن الناس وآثرت الوحدة، وكانت تجمعهما في السابق علاقة صداقة إلآ أنها أنفرطت بسبب إنجذابها الى زوج ( السيدة س ) .
إن المؤلف يكشف صلة (السيدة س) ب (الآنسة ي) بعد مرور صفحتين من مجموع الصفحات العشر للمسرحية، وهو معدل يناسب طولها، ويبدأ بكشفها من الجملة التي تقول فيها السيدة س للآنسة ي : (أنت ما زلت تظنين أنني دسست لك لأخراجك من المسرح الكبير) ، ففي الصفحتين الأولين تتحدث عن شعورها بالحزن وهي ترى الآنسة وحيدة في المقهى عشية عيد الميلاد، ثم تعرج الحديث عن أطفالها وزوجها بطريقة كوميدية ساخرة ، تنم عن سعادة غامرة وهي طريقة تغيظ المقابل وتولد في نفسه الغيرة والحسد، سيما أنه في يوم ما كان يطمح أن يحتل هذا الموقع، وهي تخرج الدمية التي أشترتها لليزا وتريها لها وتجعلها تدير عينيها وتلفت رأسها، ومسدسا لعبة لمايا، وتنتقل بعد ذلك لتتحدث عن طيبة زوجها وكيفية مشيه بالخفين اللتين طرزتهما بيديها له، وتجعل الخفين يمشيان على المنضدة .
إن إقتصاد المؤلف في مونولوجات الشخصية الوحيدة في المسرحية، جعلها تقوم على فكرة الأيحاء المبنية على إدراك المعنى ليس من خلال الكلمات والجمل التي تطلقها الشخصية بشكل مباشر، وإنما المعنى الأبعد والمخفي الذي يقف وراء هذه الكلمات والجمل، فالسيدة س ليست حزينة على الآنسة ي، لأنها جالسة وحدها في المقهى عشية عيد الميلاد فحسب، بل لأن هذه الوحدة جعلت منها إنسانا غير سوي، ولهذا لا تستطيع أن تتحدث، وإن تحدثت فبالإشارات فقط، مشبهة إياها بالعريس والعروس اللذين في حفلة قرانهما كان العريس يقرأ جريدة فكاهية والعروس تلعب البلياردو، بسبب عدم إنجذابهما للآخر الأمر الذي أدى بدلا من أن يتحدثا مع بعضهما البعض راحا يتحدثان مع الآخرين. والآخران هما الجريدة والبليارد.
وإستعراض الهدايا التي أشترتها لأطفالها وزوجها أمام الآنسة ي، وإن يبدو إستفزازيا بهذا القدر أو ذاك إلآ أنه في الوقت نفسه ينطوي على قدر كبير من التشجيع للآنسة لأن تنخرط في المجتمع ومن ثم تتزوج و تنجب أطفالا وتعيش معهم ومع زوجها كما تعيش السيدة س بسعادة.
وإطلاق مسدس لعبة مايا صوبها، تمهيد لأثارة سوء الفهم الناجم بينهما والذي تولد بفعل أرتياب الآنسة ي بأن السيدة س هي السبب في إخراجها من المسرح الكبير، وسعيا لأثبات براءتها منه وتجديد صداقتها معها.
يبدو أن السيدة س تحب زوجها حدا جعلها تقلد حركاته وتتندر عليه وتقتتنع بأنه مخلص لها، بدليل أن (فردريكا) حاولت أن تغويه، وهي مسرورة لأن زوجها أخبرها بذلك لكي لا تسمعه من مصدر آخر، ولعل تزاوج هذا الحب مع إقتناعها بأخلاصه ولد لديها الغيرة لتتهم كل نساء الفرقة بأنهن مجنونات بزوجها، وتتمادى بضم الآنسة ي الى صف تلك المجنونات وهي تقول لها : (ولعلك أنت جريت وراءه . أنا لا أثق فيك كثيرا ولكنني أعلم أنه لم ينجذب إليك).
لفك شفرة هذا الديالوج، يكمن معناه وراء جملتين، أولها (لكي لا تسمعه من مصدر آخر) والثانية (ولكنني أعلم أنه لم ينجذب إليك)، إذ أن الجملتين تشيان بعدم مصداقيتهما، في الأولى لأن الزوج يسبق الآخرين بنقل الخبر الى زوجته، بسبب كما يبدو قد شوهد في وضع غير طبيعي مع فردريكا، والثانية لأبعاد الشبهة عن وجود علاقة بينهما، بينه وبين الآنسة ي. إذن فزوجها ليس مخلصا لها وإنما مثلما يخونها مع فردريكا كذلك يخونها مع الآنسة ي.
أما جملة (عندما ألتقينا أول مرة فزعت منك الى حد لم أجرؤ ان أرفع بصري عنك . . لم أجسر على ان أكون عدوتك وبذا أصبحت صديقتك.).
تشي بأن فزعها منها وعدم جرأتها رفع بصرها عنها لم يأتيا بفعل نقص أومثلب ما في وجهها، وإنما لغيرتها على زوجها وخوفا أن يختطفه منها هذا الوجه الفاتن، وشعورها بعدم الراحة لأن زوجها لم يكن يتعامل معها بلطف تأكيد لهذا المعنى، وهي إشارة واضحة الى تمويه العلاقة الموجودة بينهما عبر هذا التعامل، (ولم تفلح حتى تمت خطبتها) ما يعني بعد زوال العوائق، أي زوال شكوكها، ويضاعف صحة هذا المعنى طرحها لمجموعة من الأسئلة مثل: أهي أفكار خاطئة؟ والجواب على هذا السؤال يتضمن السؤال نفسه عبر كل (خاطئة) وجملة (لماذا فسخت خطوبتك)؟ أو (لماذا لم تجييء الى بيتنا؟).
وببلوغها هذه النتيجة عبر الأسئلة التي تطرحها على نفسها وإجابتها عليها وهي تقول (نعم كان هذا هو السبب ) وترفض أن تجلس معها الى نفس المنضدة، تتوصل الى حقائق لم تكن تنتبه إليها سابقا، ربما بأيعاز من زوجها (بدون أن تشير إليه)، كانت تطرز الخزامى التي لا تحبها على خفي زوجها لأن الآنسة ي تحب الخزامى، وقضت الصيف مع زوجها على شاطيء البحيرة لأنها لا تطيق ساحل البحر، وأطلقا أسم والدها على أبنهما، وتلبس نفس ألوان ملابسها، وتقرأ نفس كتبها، وتأكل الأطباق التي تحبها، وتشرب ما تشربه . . .
إن السيدة س مدركة أن كل هذه الأشياء جاءتها من الآنسة ي بتأثير زوجها، ولكنها حرصا على حمايته لها ولطفليهما أضطرت أن ترضخ للأمر الواقع، لذلك فهي تكرهها أشد الكره، وكلما أرادت أن تهرب منها لا تستطيع، فهي تطاردها كالحية، إذ كلما نشرت جناحيها حطا بها الى الأرض، أو كما هي تقول: أرقد في الماء وقدماي موثقتان، وبقدر ما أكافح بذراعي أهبط ثم أهبط حتى أصل الى القاع . . ولعل صمتها وهدوئها غير مكترثة لأحد يزيد من حنقها عليها، ولكنها رغم ذلك لا تغضب منها لأنها تعرف بأنها تعيسة وشريرة في آن .
فألآ تغضب السيدة س من الآنسة ي ولا يقلقها علاقة زوجها بها، تكسب هاتان الجملتان كالجمل السابقة عكس ما يعنيان إليهما تماما، ذلك أن كل ما تعلمته منها لم تتعلمه برغبة منها وإنما بدافع من زوجها، وحتى إن لم يكن كذلك فهو بدافع حرص العيش تحت سقف واحد، ما معناه أنها بقدر ما تغضب منها بنفس القدر يقلقها علاقتها بزوجها، ذلك أنها ليست ضيقة العقل مثلها لتنسحب من حياته كما أنسحبت هي مرة من حياته وما زالت حسب تصور السيدة س أن الآنسة ي لحد الآن نادمة على فعلتها هذه، بينما هي ليست كذلك، بدليل أنها عشية العيد جالسة وحدها في المقهى، لا يعنيها أن يكون القمر هلالا أو بدرا، أو أن يكون غيرها من الناس سعداء أو تعساء، وإن دلت هذه العزلة على شيء فأنما تدل على تمردها بالضد تماما من منحى السيدة الجانحة لبناء الأسرة، هذا الجنوح الذي أتاح لها أن تكسب ما فقدته هي، لذلك فالأقوى من وجهة نظرها (هي ) السيدة س، لأن الآنسة ي لم تنل منها شيئا وإنما أعطتها، بينما هذه المسألة هي ألأخرى بعكس ذلك .
إذا كانت السيدة س تظن أنها الأقوى لأنها أستطاعت أن تحتفظ ب (بوب) زوجا لها وأبا لطفليها، فأنها أساءت الظن عندما لم تعد تفطن أن زوجها قد جعل منها صورة مستنسخة من صورة الآنسة ي وطبق الأصل منها، إن لم تكن هي بعينها من خلال ما تهواه وتكرهه وتأكله وتشربه، لأنه أحب الآنسة التي تخلت عنه ولم يحب السيدة، أحب الآنسة المتمردة ولم يحب السيدة المستسلمة، لذا فالأقوى هي الآنسة ي وليس السيدة س، ذلك بالأضافة الى ذلك أنها لم تنبس طوال مدة المسرحية بكلمة واحدة وإنما كل ما أرادت أن تقوله قالته عن طريق النظرة والفزع والسخرية والأستغراب والضحك والحركة لتتفوق الأيحاءات الستة الصامتة على الصفحات العشر الناطقة .

المصادر:
1- أوغست سترندبيرغ، ترجمة الدكتور فاضل الجاف، الطبعة الأولى 1993.
2- فن الكتابة، سام سمايلي، ترجمة سامي عبد الحميد- دار المدى.
3- أوغست سترندبيرغ، ترجمة الدكتور فاضل الجاف، الطبعة الأولى1993.
4- مسرحية الأب، ترجمة وتقديم عبد الحليم البشلاوي.
5- المصدر السابق نفسه.
6- المصدر السابق نفسه.
7- المصدر السابق نفسه.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.
- مقاربة بين مسرحيات سترندبيرغ وأبسن
- جدلية الانتماء والخيانة في مسرحيات يوسف الصائغ
- مسرحيات توفيق الحكيم....والمسخ
- مقاربة بين روايتي الكافرة و حجر الصبر
- الرجع البعيد بين تقنية الأيحاء وعملية التطهير
- وحدها شجرة الرمان . . بين تقنية المكان. . وعملية التناص
- الآنسة جوليا.. وحلم التحرر من السلطة
- السمات المشتركة في مسرحيات ابسن
- مناطق التغريب في مسرحيات بريخت
- تينيسي ويليامز.. والكوميديا السوداء
- هل مسرحية ايفانوف فاشلة...؟..!
- مسرحيات محي الدين زنكنة في توظيف الرمز للبناء الدرامي
- مسرحيات جليل القيسي : الانتظار + الحلم + اليأس = الموت او ال ...
- الغواية بين روايتي عزازيل و الوسوسة الاخيرة للمسيح
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف الاربع الطويلة
- قراءة في صنعة مسرحيات تشيكوف
- (الخال فانيا...بين برودة الحدث...وغلبة النماذج) الرديئة على ...
- في بغديدا الخطيئة الاولى ...بين الامكانيات المحدودة ..وعدم ت ...
- النص المسرحي.. (الشبيه).. وتوظيف الرموز والدلالات


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - مسرحيات سترندبيرغ . . . بين الخيانة الزوجية وإقتران البداية بالنهاية . .