أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - تاج السر عثمان - كتاب الدولة السودانية : النشأة والخصائص















المزيد.....



كتاب الدولة السودانية : النشأة والخصائص


تاج السر عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 6120 - 2019 / 1 / 20 - 15:14
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الخرطوم 2003

تقديم :ـ

يتكون هذا الكتاب من قسمين :ـ
القسم الأول : دراسة بعنوان "الدولة السودانية النشأة والخصائص" كانت قد صدرت في حلقات في صحيفة الأيام في الفترة يونيو 2001 ـ أغسطس 2001م في ملحق حوار الثقافات ، وكان الهدف هو محاولة لدراسة التطور التاريخي للدولة السودانية والتعرف علي خصائصها وسماتها بذهن مفتوح بدون قوالب نظرية مسبقة نصب فيها قسراً الدولة السودانية .
ينطلق هذا البحث من تاريخية الدولة السودانية ، ويسعى للبحث في سماتها وخصائصها ، اعتماداً علي ما تيسر لنا من معلومات ومعطيات أتاحتها لنا الكشوفات الأثرية والبحث العلمي التاريخي .
وكما هو معلوم ، انه رغم أهمية الإطار النظري العام ألا أن لكل دولة تاريخيتها وخصوصياتها في التطور بفعل اختلاف الثقافات والجماعات الاثنية ، والعوامل التاريخية المختلفة .
تم إضافة حلقة خاصة بالدولة في حضارة النوبة المسيحية حتى يكتمل التسلسل التاريخي للدولة السودانية .


يتكون البحث من الأتي :ـ
القسم الأول : الدولة السودانية : النشأة والخصائص ويشمل: -
نشأة الدولة السودان القديم .
الدولة في حضارتي نبتة ومروي .
الدولة في حضارة النوبة المسيحية .
4/ دولة الفونج .
نشأة وتطور الدولة في دارفور .
دولة الحكم التركي المصري .
دولة المهدية .
دولة الحكم الإنجليزي المصري ( الحكم الثنائي).
واختتمنا بمآلات الدولة المستقلة ، والنفق المظلم الذي دخلت فيه ، وضرورة الدولة المدنية الديمقراطية التي فيها متسع للجميع ، التي تشكل سداً منيعاً ضد التجزئة والتشرذم والتمزق.
كما أشرنا لاهم مصادر البحث في نهاية كل قسم من الدراسة .
أما القسم الثاني فيتكون من دراسات ومقالات كانت قد نشرت في صحيفة الأيام .
تاج السر عثمان
الخرطوم 22/2/2003م
القسم الأول
الدولة السودانية : النشأة والخصائص


(1)
نشأة الدولة في السودان القديم*
هنالك مصاعب جمة تواجه الباحث في نشأة وسمات وتطور الدولة السودانية ، أهمها شح المعلومات عن العلائق الاجتماعية ، وخاصة عندما يدور الحديث عن السودان القديم وحضارته الشامخة ، مثل حضارة كرمة ونبته ومروي وان المعرفة في هذا الجانب في حالة تطور وتجدد دائمين ، مع تطور الكشوفات الأثرية والتطور في استنطاق وفك ما تبقي من ما نحته الأجداد علي جدران تلك الآثار العتيقة التي تحكي قصة وامجاد وعظمة أجدادنا.وبالتالي فان البحث يكون بذهن مفتوح انطلاقا ًمن تحليل ملموس علي الأرض مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة التي تظهر مع تقدم الكشوفات الأثرية والبحث العلمي التاريخي.
فليس هناك أحكام واستنتاجات نهائية في هذا المضمار.
1/ الدولة السودانية: النشأة والتطور:-
نبدأ من حقيقة بسيطة ، وهي أن الإنسان السوداني قبل ظهور الدولة ،وفي زمان موغل في القدم مارس في عصور ما قبل التاريخ ( العصر الحجري ) النشاط نفسه الذي قام به إنسان العصور الحجرية في بقية أنحاء العالم ، كما أوضحت الحفريات التي قام بها علماء الآثار في خور أبي عنجه ، والشهيناب والخرطوم وما عثروا عليه من آثار تلك

الحفريات ، نجد أن الإنسان السوداني عاش



علي الصيد وجمع الثمار ،كما استخدم أدوات إنتاج مصنوعة من الخشب والحجر والعظام واكتشف في مراحل متقدمة تقنية النار التي طهي بها الطعام ، وحمي بها نفسه من الحيوانات المفترسة، كما عرف صناعة الفخار وبناء المسكن من الأجر (الطين)في العصر الحجري الحديث بدلاً من السكن في الكهوف أو جذوع الأشجار الضخمة ،وكان هذا الإنسان يتطور مع تطور التقنية وأدوات الإنتاج ،ومع وجود فائض من الأغذية (فائض اقتصادي)يساعده علي أيجاد وقت الفراغ اللازم لتنمية مهاراته وصناعاته الحرفية الأخرى. ودار فن ونشاط الإنسان في تلك العصور حول الصيد، فنلاحظ رسوم الحيوانات علي الكهوف، وفن الرقص والدراما الذي يدور حول الصيد. وقياساً علي ما حدث في اغلب المجتمعات البشرية القديمة ، أن إنسان تلك العصور عرف التقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء ، حيث أن الرجال ينصرفون إلى الصيد،والنساء يقمن بالأعمال المنزلية وجني الثمار وصيد الحيوانات غير المؤذية .
ونتيجة لشح الفائض الاقتصادي نتصور أن ذلك المجتمع كان يقوم علي التعاون والجماعية في العمل ، وبالتالي لم تظهر الفوارق الطبقية والدولة ولم يظهر نظام الرق .

2


2/اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات
في نهاية العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، نسمع عن بداية اكتشاف الزراعة، وعن اكتشاف تربية الحيوان، أي ما يعرف الثورة النيولوتية ، وهي أول ثورة اقتصادية عرفها الإنسان ، والتي تم فيها الانتقال من مجتمع يقوم اقتصاده علي الصيد والتقاط الثمار إلى مجتمع زراعي رعوي .
وفي حضارة المجموعة (أ) وحضارة المجموعة (ج) اللتين أشار أليهما علماء الآثار بعد العصور الحجرية ، نجد أنفسنا أمام تشكيلة اجتماعية انتقالية ، ونلاحظ أن الإنسان السوداني مارس الزراعة والرعي بدرجات متفاوتة في تلك الحضارتين ، ولاريب أن انتقال المجتمع السوداني من تشكيلة اجتماعية بدائية ، كانت تقوم علي الصيد والتقاط الثمار إلى مجتمع زراعي رعوي اخذ فترة تاريخية طويلة ومعقدة .ومن خلال عمليات التبادل التجاري كما أوضحت أثار حضارة المجموعة (أ) ، نلاحظ أن تلك الحضارة عرفت الفائض الاقتصادي .كما عرفت تلك الحضارة استخدام المعادن تلك التقنية المتطورة التي ارتبطت بمرحلة ارقي من العصر الحجري فيما يختص باستخدام المعادن (نحاس، برونز،....الخ.) بدلاً من استخدام الخشب والحجر والعظام وصناعة الأواني وأدوات الزينة وأدوات الإنتاج كما يظهر لنا من وجود المواد المصنوعة من النحاس ضمن مخلفات أثار
تلك الحضارة .وطبيعي انه مع اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات أن قبائل وشعوب تلك الحضارة بدأت تشهد بذور الفوارق الاجتماعية نتيجة التفاوت في امتلاك الفائض من الغذاء في و ملكية الماشية كما أن الدولة لم تتبلور بشكل واضح في حضارة المجموعة (أ) لسبب الانخفاض في الفائض الاقتصادي وضعف أو بدايات بذور الفوارق الطبقية ،وبالتالي لم تظهر السلالات الحاكمة والتي أصلا تعيش علي إنتاج الفائض ، وتكون مهامها ممارسة الحكم وشئون السياسة مع الموظفين والكهنة ، وفيما يختص بالبنية الفوقية أو البنية الثقافية - الفكرية ، نلاحظ أن حضارة المجموعة (أ) لم تعرف اللغة المكتوبة ، وربما حدث تطور في فنون تلك الحضارة نتيجة لاكتشاف الزراعة فالرقص يعبر بشكل من الأشكال عن العمليات الزراعية من بذر وحصاد كما أن الرعي وتربية الحيوانات كان له أثره علي رسوما تهم وفنونهم ورقصهم وأغانيهم ودياناتهم كما أن الانتقال إلى مجتمع زراعي رعوي ارتبط ايضاً بتطور دياناتهم الوثنية التي ارتبطت بحياتهم نفسها مثل ألا لهه التي تنزل الأمطار فتسقي الزرع والضرع وخوفهم من غضبها الذي يتجلي في الجفاف وانحسار النيل أو الفيضانات المدمرة هذا إضافة لتطور الديانات الوثنية المرتبطة بالأيمان والخلود والحياة بعد الموت كما نلاحظ ذلك من الأشياء والطعام الموجود مع الموتى في الجبانات والتي ترتبط بالمجتمعات الزراعية الرعوية ( بقر ، خيول ، خبز ، لبن ...الخ) وكانت الديانات تتطور مع تطور المجتمع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .أما سكان حضارة المجموعة (ج) فقد اتضحت لنا طبيعتهم الرعوية كما يظهر من اهتمامهم الشديد بالأبقار التي رسموها علي الصخور وشكلوها من الطين ورسموها علي أسطح انيتهم كما نلاحظ أن منازلهم كانت من الخيام والقطا طي وغير ذلك مما يتطلبه الترحال من وقت لاخر هكذا نلاحظ أن المجتمع السوداني كان يعيش حالة المخاض ليشهد ميلاد الحضارة السودانية وانه كان يعيش مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة من مجتمع بدائي إلى مجتمع زراعي رعوي وان التشكيلة الاجتماعية الانتقالية بدأت تشهد بذور الفوارق الاجتماعية الطبقية وبدايات الإنتاج الفائض وعمليات التبادل التجاري مع المملكة المصرية المجاورة وبدايات استخدام المعادن وغير ذلك من بذور التطور الحضاري .
3/ مملكة كرمة :ـ
التراكمات الحضارية السابقة آدت إلى تحولات نوعية فقد شهد سودان وادي النيل اقدم دولة سودانية هي مملكة كرمة كان ذلك نتاج التطور واتساع الفروق الاجتماعية وظهور الطبقات المالكة والتي كانت من وظائفها حماية امتيازات ( ملوك ، كهنه، إداريين ، موظفين …) وحماية التجارة وبسط الأمن وبالتالي ظهر الجيش ليقوم بتلك الوظائف وتحت ظل هذه الدولة شهد السودان قيام أول مدن كبيرة وشهد أول انقسام بين المدينة والريف كما تطورت التجارة مع المملكة المصرية وتطورت الصناعة الحرفية مثل الفخار ، السلاح، العناقريب أدوات الزينة ..الخ. وشهد السودان أول انقسام طبقي وعرف المجتمع طبقتين أساسيتين : الطبقة المالكة التي تشمل الملوك، وحكام الأقاليم، والكهنة، والإداريين، والموظفين، والتجار، وطبقة الشعب التي تضم المزارعين، والحرفيين، الرقيق ، الرعاة. كما عرفت دولة كرمة الفائض الاقتصادي الناتج من تطور الزراعة والرعي والتجارة والصناعة الحرفية ويتضح ذلك من الاكتشافات الأثرية التي أمدتنا بمعلومات عن تطور في تلك الجوانب .وعلي أساس هذه القاعدة الاقتصادية ولعوامل متداخلة ومتشابكة دينية وسياسية نشأت الدولة ويبدو أن تراكم الفائض الاقتصادي في يد الكهنة من العوامل التي أدت إلى قيام الدولة ونشأة المدينة التي قامت حول معبد أو مبني ديني ويتضح ذلك من الأراضي الزراعية التي كان يملكها الكهنة والتي كانت تمد الدولة والمعابد بالاحتياجات.
ويفيدنا عالم الآثار شارلس بونية في مؤلفه (كرمة مملكة النوبة) . بان المدينة عرفت التنظيم الإداري وبوجود ملك علي قمة المجتمع وكهنة وطبقات واداريين في المدينة والريف وكان قادة الجيش جزءاً من الطبقة الحاكمة .كما تطور فن الحرب كما يتضح من خلال بناء الحصون والخنادق والأسلحة ( سيوف ، خناجر ، سهام ) قامت الدولة بتنظيم النشاط التجاري وكانت الأساطيل البحرية القادمة من وسط إفريقيا أو من المناطق القريبة من البحر الأحمر ( في الآثار وجدت نماذج من المراكب من الطين أو الحجر) ويمتلك البحارة عدداً من المراكب المتنوعة التي صنعت من خشب السنط أو الحراز إضافة للنقل النهري كانت هناك القوافل المؤلفة من الرجال والدواب تحت حماية عسكرية ، وفي التبادل التجاري مع مصر ،هناك عدد من البضائع المنتجة بالمصانع المصرية ، تتوجه نحو كرمة كذلك المواد الغذائية المعبئة في جرار. وعرفت كرمة الطبقة التجارية التي كانت تتكون من مجموعة المصريين المستوطنين بكرمة ( التجار الأجانب).
أشار بونيه إلي أن الكهنة كانوا يمتلكون ثروة كبيرة وهذه الثروات مع نفوذهم الديني مكنت لهم في الأرض ووجد الكهنة وقت الفراغ الذي جعلهم يفكرون آو ربما كان لهم علم بالفلك وأسرار بعض الصناعات والهندسة ...الخ وكان لهم تنظيم إداري دقيق جعلهم يتمكنون من جمع الزكاة أو الهدايا من المواطنين ، كما توضح السلال والأختام والصناديق الخشبية ،كان من وظائف الكهنة مساعدة الفقراء والمحتاجين من الفوائض الاقتصادية والعينية التي كانت تصلهم ، وربما كان المعبد الكبير ضمن مخلفات آثار تلك الحضارة ، وبحكم وضعه الديني كان التجار والأغنياء يحفظون فيه ثرواتهم وبضائعهم النادرة .
واخيراً لا نعرف شيئا عن البنية الفوقية ( الثقافية ـ الفكرية) لمملكة كرمة لان الآثار لم توضح لنا إن ملوك كرمة تبنوا اللغة الرسمية مكتوبة وبالتالي لم يتركوا وراهم أي سجلات تساعدنا في معرفة أسمائهم أو حدود مملكتهم ، واعمالهم ونشاطاتهم الأخرى ولكن نسمع عن ثقافة كرمة المتطورة التي نتجت عن الاحتكاك مع العالم الخارجي وتبادل الفنون وحاصل هذا التفاعل أدى إلى ثقافة كرمة المتطورة والمتميزة .علي إن حضارة كرمة لم يكتب لها الاستمرار ، إذ قضي عليها التدخل المصري في السودان في زمن الأسرة الثامنة عشر الذي عجل بنهاية مملكة كرمة فوقعت بلاد النوبة بين الشلال الأول والرابع تحت الاحتلال المصري.

هوامش :ـ
1/ شارلس بونيه: كرمة مملكة النوبة ( دار الخرطوم للطباعة والنشر 1997 م) ترجمة احمد محمد علي حاكم وإشراف : صلاح الدين محمد احمد ص 207 وما بعدها
2/ تاج السر عثمان : مدخل لدارسة التاريخ الاقتصادي - الاجتماعي للسودان القديم (مخطوط غير منشور).


(2)
الدولة في حضارتي نبتة ومروي*

في الحلقة السابقة أشرنا لنشأة الدولة السودانية ، وتابعنا مسار تطورها منذ عصور ما قبل التاريخ ، حيث لاحظنا أن مجتمعات وقبائل العصور الحجرية كانت تقوم علي الصيد والتقاط الثمار والتعاون والجماعية في العمل ، ولم تظهر الفوارق الاجتماعية ونظام الرق ولم تظهر الدولة .
وخلال فترة حضارتي المجموعة (أ) والمجموعة (ج) كان المجتمع السوداني يعيش حالة المخاض ليشهد ميلاد الحضارة السودانية ، وانه كان يعيش مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة من مجتمع بدائي إلي مجتمع زراعي رعوي ، وان التشكيلة الاجتماعية الانتقالية بدأت تشهد بذور الفوارق الاجتماعية الطبقية ، وبدايات الإنتاج الفائض وعمليات التبادل التجاري مع المملكة المصرية المجاورة ، وبدايات استخدام المعادن وغير ذلك من بذور التطور الحضاري . وأدت تلك التراكمات الحضارية الكمية إلى تحول نوعي حيث شهد سودان وادي النيل أقدم دولة سودانية هي مملكة كرمة ، وكان ذلك لعوامل دينية وسياسية واقتصادية ، ولاتساع الفروق الاجتماعية وظهور الطبقات المالكة : ( ملوك، كهنة، إداريين، موظفين ...الخ) ، و ظهر الجيش لحماية التجارة وبسط الأمن ، ولحماية مصالح الطبقات الحاكمة .
ونتابع في هذه الحلقة تطور الدولة خلال فترة حضارة نبتة ومروي .
مملكة نبتة :ـ
التطور الآخر في مسار الدولة السودانية هو قيام مملكة نبتة (850 ق.م ـ300ق.م) التي اتسعت حدودها شمالاً وضمت في فترة معينة مصر نفسها وأسست الآسرة المالكة الخامسة والعشرون وكانت وظائف تلك الدولة هي جمع وتركيز الفائض الاقتصادي ، ومساعدة الفقراء والمحتاجين من الرعايا وخدمة الآلهة ببناء المعابد، وحفظ أمن المملكة من هجمات القبائل الصحراوية المجاورة ، وحماية مصالح الطبقات الحاكمة . كما تطور الانقسام الطبقي واتسعت الهوة بين الحكام والشعب كما يتضح من أن الملوك والحكام جمعوا ثروات ضخمة ويظهر ذلك من آثارهم سواء كان ذلك في بناء المعابد والتماثيل الضخمة أو امتلاك المعادن الثمينة ( الذهب ، الفضة ، ...الخ ).
ومن الناحية الثقافية الفكرية ظل التأثير المصري قوياً في مملكة نبتة فمثلاً صار ملوك الآسرة الخامسة والعشرون يحملون الألقاب الفرعونية ويستعملون اللغة الهيروغليفية المصرية ويعبدون إلهة مصر (آمون ) لمدة طويلة . كان الكهنة يتحكمون في الدولة والملوك من زاوية أن الكهنة كانوا ينتخبون الملوك ويعزلونهم وكان بعض الملوك يصارعون ضد هذا التحكم وطبيعة نظام الحكم الكهنوتي أو الملوك الآلهة في نبتة الآلهة يظهر في افتتاحية مسلة الملك( بعانخي ) التي كتبت في القرن الرابع قبل الميلاد التي جاء فيها:-
أنا الملك من صلب الرب
آمون الخالق والخالق أبدا
ثم يواصل ويقول :-
ربما يصنع الرب الملوك
وربما يلد الرجال الملوك
ولكنما آمون خلقني وحدي (1)
ونفهم من أعلاه أن بعانخي هو من صلب الرب وان الرب هو الذي يصنع الملوك بمعني أن الكهنة في نهاية الآمر هم الذين يختارون الملوك وهم الذين يأمرون بقتلهم قتلا طقسياً باعتبار أن ذلك هو مشيئة الرب التي يجب عليهم تنفيذها عن طواعية .
ولم تخل لوحة من لوحات تتويج ملوك نبتة ومروي من نصوص تؤكد شرعية تولي كل منهم للعرش وإسناد ذلك لادارة الإله آمون .(2)
وإذا كانت السلطة الدينية ، ومازالت تحتاج للقوة لتحميها وتدعمها عند نزوعها للتوسع ،فان ذينك الدورين أنيطا بالإله آمون بصفته المعطي لسلطان ملوك مروي .(3)
كما كان للمعابد الآمونية مصادر تدور عليها رزقاً دائما يمكنها من الإيفاء بالتزاماتها اليومية والموسمية نحو أفراد الأسرة المالكة ومصادر ذلك هي : الهبات والانعامات الملكية التي تصلها عقب الزيارات والغزوات .(4)
ومثال أن بعانخي كان يوزع الغنائم المأخوذة من المدن المنهزمة في مصر لمعابد الآلهة فيها ، وان الملك (آمون نوكي يركي) اهدي الإله (آمون ) مقاطعات بحالها وان نستاسين قدم قطعاناً كبيرة من الأبقار للإله آمون بنيته عقب حروبا ته الناجحة .(5)
ولعل ذلك ماحدا بهيرودتس حينما علم بما كان يصيب المعابد الامونية من أسلاب الحروب إلى القول بان المرويين كانوا يأتمرون للكهنة ، كلما طلبوا إليهم الذهاب للحرب .(6) ويبدوا أن سلطة الملوك كانت مطلقة علي الرعايا. كما يتضح ذلك من مسلة بعانخي التي جاء فيها:ـ
انتم يا من تعيشون أمواتا .
البؤساء - الضعفاء الموتى .
ويا أبواب المدينة ومداخلها .
إذا لم تنصاع لأوامري.
سيصب عليك الملك لعنته .
وهناك دوافع روحية لطاعة آمون منها : هو الذي ينزل الإمطار فيسقي الزرع والضرع والفيضان العميم . خلق الجبال والأراضي المرتفعة ، خلق الشهور ، أوجد الصيف وفصله ، الشتاء ويومه ، آمون رع سيد عروش الأرض .(7)
جاء في قطعة أخرى يصف فيها (هارسيونيق) رحلته لارض نبته ، حيث تم تتويجه يقول فيها :-
ياملك ارض المحس
تعال مندفعاً مع تيار النهر إلى..
تعال هنا لمعبد آمون ..
أعطى تاج الملوك ارض المحس
لاهبكم كل البقاع
ولاهبكم الفيضان العميم .
والأمطار الدافقة ..
واضع كل الأعداء تحت رحمتكم
فلا عاش من يعاديكم
والدم .. الدم .. للأعداء
من هذه الوثيقة تتضح وظائف أخرى من وظائف الملوك منها :ـ
أن الملك هو ممثل الاله آمون في الأرض ، وان هذا الملك هو الذي يهب الرعايا ( كل البقاع)
وإذا جاز التفسير يمكن القول بان الملك هو المتحكم في كل الأراضي الزراعية الخصبة التي يهبها لرعاياه للعمل فيها ، وانه يهبهم الفيضان العميم اللازم للزرع والضرع وبحسبان أن النيل هو عصب حياه رعايا نبته ، إضافة للأمطار الدافقة التي تسبب الفيضان والتي بدونها لا تكون حياة.

14

مملكة مروي :ـ
كانت مملكة مروي (300ق.م -350م) تطوراً ارقي واوسع في مسار الدولة السودانية ، وفيها تجسد الاستقلال الحضاري واللغوي والديني.
- في الجانب الاقتصادي : تطورت أساليب وفنون الرعي وتربية الحيوانات حيث ظهر اهتمام اكبر بالماشية وبناء الحفائر لتخزين المياه واستعمالها في فترات الشح.
- دخلت الساقية السودان في العهد المروي ، واحدثت تطوراً هائلاً في القوه المنتجة حيث حلت قوة الحيوان محل قوة الإنسان العضلية ، وتم إدخال زراعة محاصيل جديدة ، أصبحت هنالك اكثر من دورة زراعية واحدة .
- ازدهرت علاقة مروي التجارية مع مصر في عهود البطالمة واليونان والرومان ، وكانت أهم صادرات مروي إلى مصر هي : سن الفيل والصمغ والروائح والخشب وريش النعام بالإضافة إلى الرقيق ، وكانت التجارة تتم بالمقايضة .
- شهدت مروي صناعة الحديد الذي شكل ثورة تقنية كبيرة . وتم استخدامه في صناعة الأسلحة وأدوات الإنتاج الزراعية مما أدى إلى تطور الزراعة والصناعة الحرفية ، كما تطورت صناعة الفخار المحلي اللامع .
وفي الجانب الثقافي - الفكري شهدت هذه الفترة اختراع الكتابة المروية ،وكان ذلك خطوة كبيرة في نضوج واكتمال حضارة مروي، وظهرت آلهة جديدة محلية : ابادماك ،ارنستوفس , سبوي مكر .
تفاعل المرويون مع ثقافات وحضارات اليونان والرومان كما يتضح في فنون ونقوش المرويين في المعابد ، وكانت حصيلة التفاعل حضارة مروية سودانية ذات خصائص وهوية مستقلة ، كما تطورت فنون الرسم.والموسيقي نتيجة للتطورات الاقتصادية والثقافية والتفاعل مع العالم الخارجي . وعلي مستوي الدولة استمر الصراع بين الملوك والكهنة وهنا ترد قصة ارجمنيسي (اركماني ) (*) الشهيرة أو هي انه كان للكهنة سلطة علي الملوك في مروي وكان من عادة كهنة مروي انهم إذا غضبوا علي ملك أرسلوا أليه رسلاً يأمرونه بقتل نفسه بحجة أن ذلك يسر الآلهة . قيل وكان الأمر يسحره فيخضع له صاغراً،حتى قام ارجمنيس الذي كان ملكاً حربياً مثقفاً بآداب اليونان وعلومهم ، وكان يكره الكهنة ولا يطيق غطرستهم ، فأرسلوا أليه أمرا ليقتل نفسه فهاجه الأمر وحمل عليهم في الهيكل الذهبي الذي كانوا يقيمون فيه وقتلهم عن أخرهم ، وسن قوانين جديدة لمملكته وحور كثيراً في ديانة الأثيوبيين ( السودانيين)(8).
ويتضح من هذه الرواية التطور الجديد الذي حدث في علاقة الدين أو الكهنة بالدولة. وكانت دولة مروي مركزية ، فكان الملك يحكم المناطق المجاورة للعاصمة حكماً مباشراً ، أما المناطق البعيدة عن العاصمة فيولي عليها بعض الملوك وهم خاضعين له ، وكان رمز الخضوع تقديم بعض الإتاوات السنوية إليه توسع الجيش كما يتضح مما ذكره بعض المؤرخين أن مروي كانت تجهز للحرب جيشاً مؤلفاً من 250 آلف مقاتل (9) وكانت تقاليد المرويين الراسخة القديمة تقتضي بان تلعب والدة الملك دوراً فعالاً في حكم البلاد ، فكان لقبها الخاص (كنداكة) ، وإذا توفت والدة الملك فبوسعه أن يختار سيدة من الأسرة المالكة تحل محل الملكة آلام . وبالإضافة لنظام الملكة الام كان للمرويين عادت خاصة بهم مثل نظام الوراثة المتداولة من الأخ إلى الأخ عن طريق الام.
واخيراً يمكن أن نتصور أن ملوك مروي الذين كانوا يحكمون باسم الآلهة ، كانت لهم سيطرة مطلقة علي الرعايا ، كما كانوا يمتلكون الأراضي الزراعية ويعتبرون العاملين فيها عبيداً لهم ، هذا إضافة إلى الضرائب والإتاوات التي كانت تصلهم من الرعايا والأقاليم وغنائم واسلاب الحروب ومن عائد التجارة ، وعليه يمكن أن نتصور أن هؤلاء الملوك جمعوا ثروات تم تحويلها إلى كنوز من الذهب والفضة وانفاق جزء كبير منها في بناء الأهرامات والأعمال الفنية العظيمة الشامخة التي تلمسها في أطلال وأثار ـ مروي / كبوشية .

هوامش
1/انظر النص الكامل في عبد الهادي صديق ،أصول الشعر السوداني،دار جامعة الخرطوم 1989، ص 19. وهي مقطوعات اختارها د.هيكوك من أعداد مختلفة من مجلة السودان في رسائل ومدونات ومجلة كوش (مجلدات كوش بأجزائها )
2/ د. عمر حاج الزاكي : الإله آمون في مملكة مروي ، مطبوعات كلية الدراسات العليا تحت رقم (5) ـ جامعة الخرطوم (1983ص29).
3/ نفسه ص 31
4/ نفسه ص 86
5/ نفسه ص 86
6/ نفسه ص 86
7/ نفسه ص 28
* أحد ملوك مروي ويعتقد انه تلقي تعليماً يونانياً ودرس الفلسفة
8/ نعوم شقير : تاريخ السودان ( تحقيق د/ محمد إبراهيم أبو سليم ) دار الجيل بيروت 1981 ص39
9/ المرجع السابق ص47 9





(3)
الدولة في حضارة النوبة المسيحية
(550م - 1500م)
كانت حضارة النوبة المسيحية التي نشأت علي ضفاف النيل الخالد راقية ومتطورة : اقتصادياً وثقافياً ، وهي من الحضارات التي شهدت لحظات الازدهار والاضمحلال والزوال ، ولكنها تبقي في مجري التاريخ السوداني العام مكوناً من مكونات الحضارة والثقافة السودانية.
1/ وفي كنف دويلات النوبة المسيحية ، كان النشاط الاقتصادي يتكون من الزراعة حيث كانوا يزرعون القمح والشعير والحبوب والنخل والقطن والبصل والموز والبقول ....الخ .كما استخدموا تقنية الساقية ، كما عرفوا السماد بروث البهائم ، وعرفوا ثلاث دورات للزراعة بعد استخدام السماد .
- كما كانت القبائل البعيدة من النيل تمارس حرفة الرعي ، فقد كانت ثروتهم تتكون من الماشية والأغنام والإبل . كما مارسوا حرفة الصيد حيث كانوا يصطادون السمك ، والحيوانات المتوحشة مثل : السلاحف والزراف والقرود والفهود التي كانوا يصدرونها للبلاد المجاورة .
هذا إضافة للعمل في الخارج ، حيث اعتاد أهل النوبة آن يذهبوا إلى مصر للعمل ويعودوا إلى بلادهم بعد أن جمعوا الأموال التي كانوا يحتاجونها - كما عرف النوبة التجارة مع مصر وغيرها ، حيث كانوا
19
يصدرون إلى مصر كميات من ريش النعام،وسن الفيل والآبنوس والصندل والرقيق ، وغيرها من الأخشاب والتبر الذي يستخرج منه الذهب من رمال الأنهار، أو من جبال كردفان أو البحر الأحمر وبعض المعادن في صحراء العتمور . وكانوا يقايضون المصريين بالأنسجة والأقوات، وكان للنوبة تجارة مع القبائل الاستوائية تسمي (التجارة الصامتة) حيث كانوا يحملون إليهم الملح وقطعاً من المنسوجات والحديد ،وكانوا يجلبون منهم الذهب والبخور ، أما الشعوب الأفريقية الأخرى فكان النوبة يستوردون منهم : سن الفيل والأسود والزرافات والطيور النادرة والسموم القوية . إضافة للتبادل والمقايضة ، فقد عرف النوبة النقد واستخدموا الدينار والدرهم في تعاملهم مع التجار المسلمين في بلاد مريس (النوبة السفلي).
- كما عرف النوبة صناعة الحديد الذي كانوا يستخرجونه ويصنعونه في مروي الواقعة بالقرب من كبوشية ، والتي كانت من اكبر مراكز صناعة الحديد ، تصدره إلى كل الجهات في القارة شرقاً وغرباً وجنوباً ،كما عرفوا صناعة النسيج من القطن ، وصناعة الخمور من الذرة والبلح،وعرفوا صناعة السواقي والمراكب ،وصناعة الفخار التي كانوا بارعين فيها ، كما توضح الآثار من الفخار الموجودة في متحف السودان . إضافة إلى الحديد،عرفوا استخراج الذهب والفضه هذا إضافة لصناعه أدوات الإنتاج الزراعي من الخشب والحديد وصناعة السلال والأطباق من سعف النخيل والدوم ،وصناعه أدوات القتال الدرق ، الأقواس ، نشاب ) ، وكانوا بارعين في استخدام النشاب والأقواس حتى أطلق عليهم المؤرخون العرب (رماه الحدق ) أبان قتالهم لجيش عبد الله بن آبى السرح .
- كما عرف النوبة المدن الصناعية والتجارية والثقافية مثل : فرس ، دنقلا ، سوبا ، ابريم ، وادي العلاقي ..الخ ، وكنتاج طبيعي لتطور النشاط الاقتصادي من زراعة ورعي ، وتجارة وصناعة حرفية .
2/وبعد حروب النوبة والمسلمين دخلت دوله النوبة في معاهدة مع الدولة الإسلامية ، التي كان يمتلكها والي مصر، أطلق عليها اتفاقية البقط ، والتي كانت نتيجة الهدنه والمصلحة التي تمت بين الدولتين ، وهي عبارة عن اتفاق تجاري - سياسي .
3/ كانت التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية تتميز بنظام إقطاعي بخصائص معينه تختلف عن نظام الإقطاع الأوربي أو الشرقي حيث كان المالك الفعلي للأرض هو الملك أو من ينوب عنه والعاملين عبارة عن اقنان وفقاً لعلاقات الإنتاج العبودية أما عن سمات نظام الرق . فقد كان الرقيق يصدر للخارج إضافة إنه كان عنصراً هاماً وأساسيا في اتفاقية البقط وكان وسيلة تبادل (عملة) كما كان يستخدم في استخراج الذهب والزمرد في وادي العلاقي.
كانت التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية للنوبة تتكون من أنماط إنتاج متداخلة ومترابطة في شمولها وعمقها ويمكن تلخيصها في الأتي :ـ
أ/ نمط إنتاج إقطاعي كانت الأراضي فيه ملكاً للحكام النوبة ، وكان الفلاحون بمثابة عبيد لأولئك الحكام.
ب/ نمط الإنتاج العبودي ، وبالوظائف التي حددناها سابقاً للرقيق في بلاد النوبة .
ج) نمط الإنتاج السلعي حيث عرف النوبة اقتصاد السلعة ـ النقد، في بلاد مريس التي كانوا يستخدمون فيها الدينار والدرهم ، إضافة إلى المقايضة جنوب بلاد مريس ، كما كان للنوبة تجارة مع بلاد مصر والحجاز وغيرهما ، وقامت مدن تجارية وثقافية ودينيه ، كما ازدهرت الصناعة الحرفيه . وهكذا نري الخصوصيات والمميزات التي كانت تتم بها تشكيلة النوبة ، ونلاحظ تميزها عن النماذج ألا وربيه والشرقية ، وقد تحمل تشكيلة النوبة بعض السمات من هذه أو تلك ، ولكنها تتميز عن كل منها بخصوصياتها ومميزاتها المتفردة .
4/ ورثت الدولة النوبية عن المملكة المروية تقاليد نظام الحكم الإقطاعي المركزي مع اختلاف الظروف والشروط التاريخية ، كما ورثوا تقاليد الملكة آلام في تسيير شئون الدولة، والواقع أن حدود ممالك النوبة المسيحي هي نفسها حدود المملكة المروية القديمة التي بلغ نفوذها ساحل الجبال الأثيوبية شرقاً ، وسهل دارفورغرباً ، والجزيرة بين النيلين جنوباً. وكان لملوك النوبة سلطه مطلقه علي رعاياهم ،وكان الملك هو صاحب الأمر والشعب كله عبيده، لا يخالفون له أمراً ولا يعصونه ، كما كان ملوك النوبة يتمتعون بسلطة سياسية ودينيه في الوقت نفسه . وهذا هو الاختلاف عن مملكتي نبته ومروي حيث كان فيها الكهنة ينتخبون الملوك ويعزلونهم إذا شاءوا، أي آن السلطة الفعلية كانت في يد الكهنة . أما في ممالك النوبة فقد جمع الملك بين السلطة الدينية والدنيوية ، وهذا في حد ذاته تطور ملحوظ، في هذا الجانب ،أي الانتقال من حكم الكهنة المطلق الذي يؤله الملك إلى نظام يجمع فيه الملك بين السلطة الدينية والدنيوية . وبعد اتفاقية البقط تأثر النظام السياسي والاجتماعي في دوله المقرة بعوامل داخليه وخارجية جعلته في حاله عدم استقرار ، ونتيجة لذلك استمر في تدهور واضمحلال حتى سقوط دوله المقرة نهائياً. ، والحال نفسه ينطبق علي دولة علوة.
5/ تفاعلت المسيحية مع الأعراف المحلية ،وادي ذلك إلى تشكيل المسيحية السودانية. بخصوصياتها التي كانت تتميز بالتسامح ، فكلا الطائفتين اليعقوبية والرومية كانتا موجودتين في بلاد النوبة، كما واجهت المسيحية صعوبات في انتشارها مثل حاجز اللغة وعدم انتشار التعليم الشعبي الواسع لها.
6/ من ظواهر ازدهار الثقافة النوبية التوصل إلى تأليف أبجدية من الحروف القبطية واليونانية ، تم استخدامها في كتابة اللغة النوبية وتطورت هذه اللغة لتكون لغة القراءة والكتابة ولغة الأدب والتجارة والعبادة كما ازدهرت الثقافة النوبية والفن النوبي كما يظهر في التحف الأثرية القيمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعه الأواني الفخارية.

7/ بعد انتشار الإسلام في بلاد النوبة حدثت تحولات في البنية الثقافية يمكن تلخيـــصها في الأتي :-
أ) حل الدين الإسلامي محل الديانة المسيحية .
ب) حدث تغيير في علاقة الحكام بالمحكومين ،وزال النظام السياسي الذي يعتبر المواطنين رعايا أو عبيداً لملك النوبة .
ج) تغير نظام العائلة من نظام الأمومة إلى نظام الابوه كما حدث تنظيم الزواج والطلاق بشكل جديد حسب الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية.
د) فيما يختص بعلاقة الدين بالدولة زال الوضع الذي كان يجمع فيه ملك النوبة بين السلطتين الدينية والدنيوية وتم شبه انفصال بين الدين والدولة أو بين الدولة ورجال الدين فمثلاً كان شيوخ الصوفية بعيدين عن الدولة الإسلامية في سنار رغم تأثيرهم الروحي علي الناس والحكام ورغم أن الدولة كانت تقوم علي الشريعة والأعراف المحلية .
هـ) حلت اللغة العربية محل اللغة النوبية كلغة تجارة وعباده ودولة وادب ولغة دواوين الدولة ورغم زوال الدولة النوبية ألا أن الثقافة النوبية ظلت من المكونات العضوية الهامة للثقافة السودانية.



أهم المصادر:ـ
1/ الشاطر بصيلي عبد الجليل : معالم تاريخ سودان وادي النيل (القاهرة 1955م)
2/ تاج السر عثمان الحاج : تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي (بحث غير منشور)
3/ د . الأب .ج . فانتيني : تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة والسودان الحديث (الخرطوم 1978م)
4/ د. مصطفي محمد مسعد : المكتبة السودانية العربية ( القاهرة 1972م)
5/ د. مصطفي محمد مسعد : الإسلام والنوبة في العصور الوسطي (القاهرة1960م)
6/ د. محمد إبراهيم أبو سليم : الساقية ( معهد الدراسات الافرواسيوية 1980م).
7/ د. يوسف فضل : دراسات في تاريخ السودان ( دار جامعة الخرطوم 1972م )




(4)
دولة الفونج
أشرنا في الحلقات السابقة إلى أن ظهور الدولة السودانية كان مع قيام مملكة كرمة ، وبعد ذلك تطورت الدولة واتسع نطاقها في ممالك نبتة ومروي وممالك النوبة المسيحية . وبالتأمل في خصائص تطور الدولة السودانية نلاحظ أنها كانت تتميز بوحدة الاستمرارية والانقطاع ومن مراكز متعددة ، فنجد مملكة كرمة التي زالت لتحل محلها مملكة نبته التي قامت بعدها مروي ، وبعد مروي قامت ممالك النوبة المسيحية ( نوباطيا ، المقرة ، علوة ) * ، وكانت كل مملكة تشكل حلقة ارقي واوسع في سلسلة تطور الممالك أو الدويلات السودانية ، كما كانت كل مملكة تستوعب منجزات الحضارات السابقة في مضمار الإنتاج المادي والروحي وتضيف الجديد . وهذه من سمات وخصائص الدولة السودانية التي اتسمت بوحدة الاضمحلال والانبعاث من جديد ، وفقاً لقوانين التطور الباطني والارتباط والتفاعل مع العالم الخارجي .
*السمة الثانية للدولة في الممالك السودانية القديمة السابقة لقيام دولة الفونج ، أنها كانت تعبيراً عن انقسام طبقي بسيط : طبقة الحكام (ملوك، كهنة ، موظفين ...... الخ) وطبقة الشعب ، وكانت تعبر عن مصالح الحكام والأسر المالكة وما حولها من كهنة وموظفين وخدم وحشم ، إضافة لوظائف الدولة السياسية والدينية والأمنية الأخرى .
*السمة الثالثة للطبقات المالكة في حضارات كرمة ونبته ومروي والنوبة المسيحية ، أنها شأن الطبقات المالكة في الحضارات الزراعية القديمة الأخرى أنها طورت الفنون التي ظهرت علي جدران الأهرامات والمعابد والكنائس ، وطورت الصناعات الحرفية(الأواني الفخارية ، أدوات الزينة من ذهب وفضة وبرونز ونحاس وغيرها) ، كما أنها طورت أو استفادت من منجزات الحضارات الزراعية الأخرى ، المعارف اللازمة للزراعة ، الفصول الزراعية ، وتطوير أدوات الإنتاج الزراعي ...الخ . وبعبارة أخرى استفادت من تراكم الفائض الاقتصادي في تطوير وازدهار الفنون وبناء المعابد والأهرامات وغيرها من الآثار الجميلة التي لازالت أطلالها قائمة إلى اليوم .
وجاءت دولة الفونج التي قامت علي حدود مملكتي المقرة وعلوة السابقة في الفترة (1504م - 1821م) وكانت تطوراً أوسع واشمل في مسار تطور الدولة السودانية ،ويمكن أن نحدد ابرز سمات تلك الدولة في النقاط التالية :
1/ كان جهاز الدولة متشعباً ومتعدد الوظائف ، واستطاع الفونج استنباط نظام سياسي واجتماعي لا مركزي اعتمد علي الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية والذي حمل بعض السمات والتقاليد السابقة لملوك النوبة وأضاف لها الجديد . كما شهدت دولة الفونج البذورالأولى لنظم الإدارة والتنظيم في الدولة السودانية ، وكانت دولة الفونج حلقة ارقي في مسار تطور الدولة السودانية منذ نشؤها من خلال التخصص والوظائف المختلفة للدولة وتشعبها ( جهاز دولة ، قضاء، جيش، نظام سياسي واجتماعي) . كما استنبط الفونج نظاماً قضائياً اعتمد في إحكامه علي الشريعة الإسلامية والعرف .
2/ تفاعلت تعاليم الإسلام مع الموروث المحلي وكانت الحصيلة الإسلام السوداني المتميز والذي اتسم بتنوع الطرق الصوفية ووحدة الفقه مع التصوف ، وتعدد المذاهب (مذاهب الأمام مالك والشافعي ) ، وظهور التنظيم الاجتماعي الصوفي كشكل ارقي واوسع من التنظيم القبلي ، والذي يتميز بالقدرات الكلية والمطلقة لشيخ الطريقة ،هذا إضافة للتسامح الذي تميز به الإسلام في السودان.
3/ شهدت دولة الفونج انماطاً مختلفة من علاقة الدين بالدولة ( فعلي مستوي المركز في سنار) ، كان رجال الدين أو المشايخ في انفصال أو استقلال عن الدولة ، بمعني أن الدولة علي مستوي المركز كانت دولة مدنية اعتمدت في قيامها علي الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية .
وفي لحظات ضعف الدولة المركزية ظهرت دويلات دينية مصغرة داخل دولة الفونج ، مثل دولة العبدلاب في عهد الشيخ عجيب ، أو دولة المجاذيب في الدامر والتي كان يجمع فيها شيوخ الطرق مباشرة بين السياسة والدين .ويمكن القول أن دولة الفونج كانت مرحلة انتقالية لقيام الدولة المدنية السودانية .
4/ وكانت وظائف ومهام جيش دولة الفونج هي تأديب وقمع الممالك التي ترفض دفع الجزية ، إضافة لقمع الانتفاضات والثورات الداخلية وقمع تمرد القبائل الأخرى علي سلطة الفونج ، هذا فضلاً عن حملات الفونج في حروبهم الداخلية ضد ( المسبعات ، الشلك ، تقلي ) من اجل جلب الرقيق أو حروبهم الخارجية مع الحبشة .
5/ استنبط أهل الفونج نظاماً للتعليم كان ملائماً لاحتياجات النظام الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وعن طريق هذا النظام الذي اعتمد علي الخلاوي ، انتشرت اللغة العربية والإسلام في السودان ، وجاء ذلك النظام أصيلاً ، وليس تقليداً اعمي لنظم التعليم التي كانت سائدة في العالم الإسلامي يومئذ ، بل اخذ واقعٍ وخصوصية السودان ونظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الاعتبار ، فضلاً عن ان نظام التعليم كان يسهم في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي .
6/ فى دولة الفونج كانت التشكيلة الاقتصادية متعددة الأنماط فقد عرفت نمط الإنتاج البدائي، نمط الإنتاج العبودي ، نمط الإنتاج الإقطاعي السائد، ونمط الإنتاج السلعي الصغير وما نتج عنه من تطور السلعة . النقد ، وتطور التجارة الداخلية والخارجية وتطور الإنتاج الزراعي والصناعة الحرفية ، وظهور الطبقة التجارية وقيام المدن والمواني.
وكان نمط الإنتاج الاقطاعي السائد يحمل بعض سمات الإقطاع الشرقي من زواية ملكية السلطان للأرض وتوزيعها علي الزعماء والشيوخ بحجم معينة وفي كل حالة يحدد الخراج أو الإعفاء منه. وكانت مصادر تراكم ثروة السلاطين تتكون من العائد من التجارة والضرائب التى كانت تستند على الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية. علي أن النظام الاقتصادي كان يعيد إنتاج نفسه بوسائل قمعية وبقوة الأعراف المحلية .
7/ تطور التركيب الطبقي لدولة الفونج من الشكل البسيط الذي كان قائماً في الممالك السابقة ، إلى الشكل المعقد والذي يعكس التطور الاجتماعي وتطور التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية ، واصبح لدينا ألوان طيف طبقي هي : طبقة السلاطين ، والملوك ، زعماء القبائل ، طبقة التجار، الطبقة المتوسطة ( قضاء ، فقهاء ، كتبه ، مقاديم وقادة الجيش ........ الخ ) ، شيوخ الطرق الصوفية ، طبقة المزارعين ، الرعاة ، الرقيق .
وكانت الدولة تعبر عن مصالح الطبقات المالكة من ملوك وسلاطين وكبار التجار وزعماء القبائل والشيوخ المتحالفين مع السلاطين والملوك.
8/عرفت دولة الفونج مؤشرين من مؤشرات التخلف وهما:ـ
أ/ المجاعات التي كانت تنتج من نقص الأغذية بسبب الجفاف أو قلة الأمطار والنقص في الفائض أو المخزون من الحبوب أو الأغذية وخضوع إنسان الفونج لسيطرة قوي الطبيعة في هذا الجانب وتخلفه عن تطوير القوي المنتجة في الزراعة لمواجهة تلك الكوارث .
ب/ الأوبئة والأمراض التي كانت تحصد البشر حصداً أيام الفونج وأهمها الجدري والحمي الصفراء واثر ذلك في إعادة إنتاج التخلف ، بسبب موت الآلاف من القوي البشرية المنتجة.

1/احمد بن الحاج (كاتب الشونة) : تاريخ ملوك السودان ،تحقيق د.مكي شبيكة (1947م) طبع ماكوركوديل الخرطوم.
2/ الشاطر بصيلي عبد الجليل : تاريخ وحضارات السودان الشرقي الأوسط (الهيئة المصرية للكتاب 1972م).
3/ تاج السر عثمان الحاج (مخطوط غير منشور) تاريخ الفونج الاقتصادي - الاجتماعي.
4/ حسين سيد احمد المفتي : تطور نظام القضاء في السودان (الخرطوم 1959م) الجزء الأول .
5/ د. محمد إبراهيم أبو سليم : الفونج والأرض ( وثائق تمليك) مطبعة التمدن 1967م.
6/ د. محمد إبراهيم أبو سليم ، د.ج. ل سبولدنق : وثائق من سلطنة سنار في القرن الثامن عشر دار جامعة الخرطوم للنشر 1992م .
7/ بروفيسور محمد عمر بشير : تطور التعليم في السودان ترجمة هنري رياض واخرين (دار الثقافة بيروت1970م).
8/ د. يوسف فضل (تحقيق) : كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعر في السودان ، تأليف محمد النور من ضيف الله (ط 3 دار جامعة الخرطوم للنشر 1985م)
OFAHEY and SPULDING :KINGDOM OF SUDAN (LONDON1974)
10/ ب.م هولت : الأولياء والصالحون والإسلام في السودان ، ترجمة هنري رياض والجنيد علي عمر (دار الجيل بيروت ط3 1986م).


(5)
نشأة وتطور الدولة في دارفور
معلوم أن سلطنة دارفور قامت علي الأطراف الغربية من سودان وادي النيل في أواسط القرن السابع عشر، وتزعم الروايات المحلية أن تأسيس أول دولة في بعض جهات دارفور ترجع إلى الداجو خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، بالإضافة للداجو تشير أيضاً للتنجرالذين بسطوا نفوذهم علي المنطقة الوسطي في نحو أول القرن الخامس .ولا تفيدنا المصادر والروايات بمعلومات مفصلة علي البنية الاقتصادية الاجتماعية لدولتي الداجو والتنجر والتي توضح بهذا القدر أو ذاك الخلفية لاعراف وعادات متوارثة لسلطنة دارفور من تلك الممالك القديمة . ويري أوفاهي أن تاريخ دارفور ضارب في القدم يعود إلى العهد النوبي بل والمروي ولكن الاثاريين وحدهم هم الذين يستطيعون أن يؤسسوا لذلك (1) .
وكانت سلطنة دارفور تحد من الشرق بجبل الحلة أو حلة الشريف التابعة لام كدادة وتحد من الغرب بوادي يفصل بين الجنينة التابعة لدارفور وادري التابع للسودان الفرنسي ، وتحد من الشمال لوادي هور في الصحراء الواقفة شمال كتم وتحد من الجنوب بحر العرب بمديرية بحر الغزال (2) وكانت عاصمتها جبل مرة فنقلها السلطان موسى إلى كبكابية ، تم نقل السلطان محمد تيراب إلى بلدة جنوب الفاشر واخيراً نقلها السلطان عبد الرحمن الرشيد إلى الفاشر ولم تزل بالفاشر إلى سقوطها عام 1874م عندما هزم الزبير باشا رحمه السلطان إبراهيم قرض في واقعة منوا شي الشهيرة واضحت دارفور تابعة للإدارة التركية المصرية .
أما سلطنة دارفور الثانية فقامت علي يد السلطان علي دينار واستمرت حتى مقتله في زالنجي عام 1916م.
وتتباين الاراء حول تاريخ سلطنة دارفور ، ولكن ما يهمنا هنا أن سلطنة دارفور الإسلامية كانت نتاج تطور تاريخي طويل مرت بمراحل تفكك المجتمعات البدائية وقيام المجتمع الزراعي الرعوي وظهور التفاوت الاجتماعي الذي أدى لنشؤ ممالك وسلطنات الداجو والتنجر ،إلى أن تطور هذا الشكل في سلطنة دارفورالإسلامية والتي كانت بمثابة تطور أوسع واشمل لقيام السلطات والسلالات الحاكمة في الأقاليم .
دولة الفور :
استندت دولة دارفور الإسلامية في تركيبها إلى الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية ، وهى امتداد وتطور للدويلات أو الممالك السابقة التي بدأت تظهر في المنطقة قبل الإسلام مثل ممالك الداجو والتنجر .
ويرى د.سمير أمين(أن الدولة في غرب أفريقيا كانت قد ظهرت إلى الوجود في القرن العاشر والتاسع عشر ، غطت الدولة منطقة غرب أفريقيا ،مالى ، ممالك أو لوف ،سولنقاى ،بامبارا،بيل ، هوسا ، موسى
، ساراكوا ، انشانتى ، بوروبا،.....الخ).
ومعلوم أن الدولة تظهر كعملية طويلة ومعقدة مع تفكك المشاعة البدائية وظهور أول انقسام طبقي أي مع ظهور الفوارق الطبقية،لان الدولة ما هي ألا الأداة التي تسيطر خلالها طبقة أو طبقات مع اخذ خصوصيات ونشؤ كل دولة فى الاعتبار وتداخل وتفاعل العوامل الاقتصادية والطبقية والسياسة والدينية التي تؤدى إلي نشؤها .
ويمكن أن نجمل بعض الملاحظات على سمات وخصائص دولة دار فور في النقاط التالية:ـ
(1) القوة الرئيسية الحاسمة فى تركيب دولة الفور كانت قوة السلطان الذي كان يتمتع بنفوذ مطلق . أما الجهاز الذي يليه رغم تضخمه ورغم كثرة الألقاب فلم يكن اكثر من معاون ومنفذ لمشيئة السلطان ودولة الفور كانت دولة ملكية استبدادية ، وحكم السلطان فيها كان نافذاً ومطلقاً ، وبالتالي فان تلك الدولة كانت طبقية وتعبر عن مصالح السلطان والشريحة الحاكمة واصحاب الأراضي اوالحواكير.
وإذا قارنا دولة الفور بدولة الفونج نلاحظ أن دولة الفونج أخذت الشكل الامركزي بينما دولة الفور أخذت الشكل المركزي ،
قام النشاط الاقتصادي فى السلطنة على الزراعة والرعى إضافة للتجارة والصناعة الحرفية ، ونظم سلاطين الفور ملكية الأراضي ، فقد اعتبر السلطان كل أراضى السلطنة ملكاً خاصا له يقسمها السلطان في حواكيرلاتباعه ويحدد الخراج أو الإعفاء منة لكل حالة علي حدة استناداً للشريعة الإسلامية والعرف إضافة لذلك فقد كان سلاطين الفور يحكمون قبضتهم علي التجارة.
3/ عرفت سلطنة الفور التفاؤت الطبقي أو الفوارق الاجتماعية والتي تتلخص في :- السلاطين والملوك ، واصحاب الحواكير ، التجار ، الفقراء والعلماء ،أرباب الصنائع ، المزارعون ، الرقيق .
4/ كانت التشكيلة الاجتماعية تتكون من الأنماط الإنتاجية التالية :-
أ/ نمط الإنتاج البدائي للقبائل التي كانت تقطن جنوب السلطنة( دار فرتيت) والذي كان يقوم علي الصيد والتقاط الثمار وتربية الحيوانات هذا إضافة إلى أن تلك القبائل البدايئة نفسها كانت عرضة لحملات صيادين وتجار الرقيق وقد كان اغلب الرقيق الذي كانت تصدره السلطنة للخارج يجلب من تلك المناطق .
)ب) نمط الإنتاج العبودي : فقد كانت تجارة الرقيق أحد مصادر الأرباح للسلاطين وتجار الرقيق إضافة إلى انهم كانوا يعملون بالزراعة والرعي وفقاً لعلائق الإنتاج العبودية،هذا إضافة لدور الرقيق في جيش السلطنة فضلاً عن انه كان وسيلة تبادل أو دفع الجزية أو الخراج .
ج) نمط الإنتاج الإقطاعي السائد والذي يتميز بهيمنة السلطان المركزية أو في نظام حكم إقطاعي استبدادي مطلق ، يحتكر السلطان فيه الأراضي ويعطيها لمن يشاء وينزعها عن ممن يشاء هذا إضافة لاحتكار السلطان للتجارة ، هذا فضلا عن علائق السخرة فقد كان المزارعون يجبرون على العمل فى أراضى السلاطين وحكام الأقاليم بلا مقابل ، إضافة للاستحواذ على الجزء الاكبرمن فوائض إنتاج المزارعين وتقسيمه بين أصحاب الحواكير وحكام الأقاليم والسلاطين.
د) نمط الإنتاج الصناعي الصغير : وما ينتج عنه من تقسيم عمل حيث ظهر أصحاب الحرف وأرباب الصنائع من حدادين ، نجارين والفخرانجية .... الخ . كما ظهرت الأسواق ، وتطورت الحياة الاجتماعية وظهرت فئات اجتماعية جديدة : فقرا ، علما ، كتاب ، وادارين وتجار...... الخ .
5/ حول البنية (الإنتاجية - الطبقية أو القاعدة الاقتصادية نشأت بنية ثقافية - فكرية كانت في تفاعل مع القاعدة الاقتصادية وتسهم بهذا القدر اوذاك في إعادة إنتاج النظام الإقطاعي السائد ، فقد استنبط سلاطين الفور نظاماً سياسياً وادارياً استند إلى الإسلام والأعراف المحلية.
وبعد انتشار الثقافة الإسلامية تفاعل الإسلام مع الموروثات المحلية في المنطقة مما أدى إلى بروز الإسلام في دارفور بشكله المميز ، كما أصبحت اللغة العربية أداة التدوين بجانب لغة الفور التي ظلت لغة الحديث ولغة الحياة العامة ، وانتشرت المساجد والخلاوي بالإضافة لسفر أنباء دارفور إلى مراكز العلم كالدامر والغبش وكترانج والأزهر طلباً للعلم وكان الفقرا والعلما يلعبون دوراً كبيراً في حياة الناس الاجتماعية والروحية ، وكانت لهم أراضيهم المعفية من الضرائب التى يعمل فيها المزارعون بدون مقابل غير البركات ، وكان السلاطين يرتبطون بوشائج قويه مع بعض أفراد هذه الفئة وبعبارات أخري يمكن القول أن النظام الإقطاعي فى السلطنة كان يعيد إنتاج نفسه بوسائل سياسية وقمعيه واقتصادية ووسائل روحية يلعب فيها العلما والفقرا دوراً أساسياً .
أما نظام القضاء فقد استند على الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية، وان سلاطين الفور قننوا الأعراف فى قانون أطلقوا عليه قانون دالي. كما عرفت السلطنة الجيش النظامي التي كانت وظائفه تتلخص فى أهداف السلطنة للتوسع الخارجي وحماية السلطنة من الغزو الخارجي وقمع المعارضة الداخلية.
وكان جيش السلطنة متطورا من الناحية التقنية حيث كان يستخدم الاسلحه النارية.


الهوامش
1/ ر.س. إوفاهي : الدولة والمجتمع فى دارفور (مركز الدراسات السودانية القاهرة 2000 ) ص14، ترجمة عبد الحفيظ عمر سليمان.
2/مذكرات محمد عبد الرحيم (مخطوطة) ضمن حسين سيد احمد المفتى: تطور نظام القضاء فى السودان- الجزء الأول الخرطوم 1959 ) ص 47
* للمزيد من التفاصيل عن الآراء المتباينة لتاريخ سلطنه دارفور راجع د. يوسف فضل : مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي (1450 ـ 1821م) ( دار جامعة الخرطوم للنشر 1989م )
3/ د/ سمير أمين : الصراع الطبقي في أفريقيا ، مجلة الفكر المعاصر مايو 1979م ص 18- 19
للمزيد من التفاصيل راجع د محمد إبراهيم أبو سليم الفور والأرض ، وثائق تمليك الخرطوم معهد الدراسات الافروراسيوية، جامعة الخرطوم 1975م)
4/ تاج السر عثمان : ملامح من تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي(دار عزة للنشر – الخرطوم 2001م )


(6)
دولة الحكم التركي ــ المصري
1/ شكلت دولة الحكم التركي تطورا جديد في مسار تطور الدولة السودانية والذي أشرنا إليه في الحلقات السابقة : دولة كرمه ، نبته ، مروى، والنوبة المسيحية، الفونج والفور. وتلك الدول كانت مستقلة وكانت نتائج تطور باطني. ولكن الجديد أن السودان خلال فترة الحكم التركي (1821م-1885م)عرف دولة تابعة ضمت رقعة واسعة في البلاد،بعد ضم دارفور والمديريات الجنوبية الاستوائية، أعالي النيل ، بحر الغزال.
وكانت تلك الدولة مفرطة في المركزية وما جاءت نتاج لتطور باطني بل تم زرعها من الخارج وعلى نمط الدولة في الإمبراطورية العثمانية التي كانت بقيادة الأتراك والألبان المتحالفين مع كبار الملوك المحليين والعلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وكبار العسكريين من المماليك أو قادة الجيوش من المرتزقة وكانت دولة مدنية رغم إنها كانت استبدادية وتقوم على القهر.
2/ كانت دولة الحكم التركي في السودان تمثل تحالف الحكام العسكريين والمدنيين (أتراك ، مصريين، أوربيين) وزعماء العشائر وكبار الملاك والتجار وكبار العلماء والفقهاء المرتبطين بجهاز الدولة وبعض القيادات والزعامات الدينية، وهذه الدولة في مضمونها كانت طبقية، بمعنى أنها كانت تعبر عن مصالح هذا التحالف الطبقي الحاكم.
وكان من مهام هذه الدولة اعتصار واستنزاف الفقراء من الرعاة والمزارعين وصغار الملاك لاستخلاص اكبر قدر ممكن من الضرائب منهم، بينما كان كبار الملاك في ذلك التحالف الحاكم أما معفياً من الضرائب أو يتهرب منها بالرشوة وكانت وظيفة هذه الدولة أيضا قمع الانتفاضات والثورات ضد النظام، كما كانت وظيفتها أيضا هي تنظيم تصدير الفائض الاقتصادي إلى الخارج أو تنظيم كل القدرات الاقتصادية والبشرية وتوظيفها في خدمة مصالح الطبقات الحاكمة في مصر.
وكانت دولة الحكم التركي، بمعنى آخر، امتداداً أو ذراعاً حاكماً للتحالف الطبقي الحاكم في القاهرة الذي كان بدوره يقهر ويقمع الشعب المصري ويمتد هذا القهر ليشمل شعوب ومستعمرات إمبراطورية محمد علي واعتصارها بهدف تحقيق التراكم اللازم لتحقيق أهداف محمد علي الاقتصادية والعسكرية .
3/ وباحتلال محمد علي للسودان عرف السودان لاول مرة نمطاً جديدا من الدولة هو نمط الدولة المدنية العصرية والتي عرف فيها السودانيون بذور التعليم المدني الحديث والقضاء المدني ، وبذور نمط الإنتاج الرأسمالي ، واتساع دائرة العمل المأجور والتعامل بالنقد ، واقتلاع المزارعين من أراضيهم والقذف بهم أو الهجرة ألي مناطق اخري من السودان أو خارج السودان ، إضافة لاتساع السوق الداخلية بعد اتساع رقعة السودان خاصة بعد ضم سواكن ودار فور والمديريات الجنوبية ألي بقية أنحاء السودان مما أدى إلى اتساع التجارة الخارجية والداخلية وارتباط السودان بالسوق العالمي ، وبالتالي عرف السودانيون وكامتداد أوسع للتحولات التي بدأت تحدث أيام الفونج المدن التجارية وبداية تفكك وتحلل النظام القبلي ، وظهرت طرق صوفية أوسع واكبر من الطرق التي كانت سائدة أيام الفونج مثل الختمية التي ضمت اتباعاً من شمال وشرق السودان وكردفان وبعبارة اخري بدا يشهد السودان بداية بذور تكوين القومية السودانية أو الدولة القومية السودانية.
4/ شهدت دولة الحكم التركي توسعا في زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة ، مما أدى ألي زيادة المحاصيل الزراعية في الأسواق ، فنجد أن الحكومة في هذه الفترة تجلب عدداً من خوليه الزراعة ، وتعمل على تطور زراعة القطن وتشق القنوات للتوسع في زراعة الأحواض وتشجيع تعمير السواقي وترسل الطلاب إلى مصر للتعليم والتدريب الزراعي وتجلب المحاريث لحراثة الأرض وتعمل على بناء المخازن في المراكز الرئيسية على طول الطريق إلى مصر لتوفير مياه الشرب لتسهيل الحركة التجارية وتصدير المواشي بشكل خاص كما اهتمت الحكومة بإدخال محاصيل نقدية جديدة مثل الصمغ، السنامكي ،النيلة ....الخ.واهتمت بالثورة الحيوانية وجلبت الفلاحين والعمال المهرة في الزراعة واهتمت بالتقاوي المحسنة والأشجار المثمرة واهتمت بمكافحة الآفات مثل الجراد .
ولكن رغم تلك التحسينات التي أدخلتها الحكومة بهدف تطوير القوى المنتجة في الزراعة والإنتاج الحيواني ألا أن الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها على المزارعين والرعاة أدت إلى هزيمة هذا الهدف، فقد هجرالاف المزارعين سواقيهم في الشمالية ، كما هرب الاف الرعاة بمواشيهم إلى تخوم البلاد وهكذا نجد أن سياسة الحكومة التي كانت تعتمد على القهر والضرائب الباهظة أدت إلى انخفاض الإنتاج الزراعي والحيواني، وبالتالي أدي ألي تدهور الأحوال المعيشية وأدي ذلك ألي المجاعات والأمراض والخراب الاقتصادي وغير ذلك مما شهده السودان في السنوات الأخيرة للحكم التركي- المصري.
5/ شهدت تلك الفترة قيام صناعات جديدة مثل صناعة البارود وصناعة النيلة وصناعة حلج القطن وصناعة الذخيرة كما تطور قطاع الخدمات حيث تطورت المواصلات (بواخر نهرية) إدخال التلغراف كما تم تحسين ميناء سواكن وتم توصيل خط السكة الحديد إلى مدينة وادي حلفا (الشلال).
6/عرفت دولة الحكم التركي التفاوت الطبقي وكان التركيب الطبقي للدولة يتكون من : الحكام وكبار موظفي الدولة الأجانب والمحليين ،زعماء ومشايخ الطرق الصوفية، الجنود، المزارعون، العمال والموظفين المأجورين، الرقيق.
7/ حول سمات وخصائص التشكيلية الاقتصادية- الاجتماعية لدولة الحكم التركي نلاحظ الآتي:-
(أ) كانت تشكيلية تابعة، ولم تكن مستقلة على نمط التشكيلات السابقة الرأسمالية في السودان لممالك السودان القديم وفي العصور الوسطى.والمقصود بتشكيلة تابعة هو أن كل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة كان موظفاً لخدمة أهداف دولة محمد علي في مصر، وبالتالي تم إفقار السودان وتدمير قواه المنتجة (المادية والبشرية) وكان ذلك جذراً أساسياً من جذور تخلف السودان الحديث.كما اتسعت تجارة الرقيق بشكل لا مثيل له في السابق.
(ب) أرتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عن طريق تصدير سلع مثل الصمغ العربي ، العاج ، القطن ...الخ.
كما شهد السودان خلال تلك الفترة غرس بذور نمط الإنتاج الرأسمالي في السودان على الأقل في سمتين أساسيتين من سمات نمط الإنتاج الرأسمالي هما :
*اتساع عمليات التعامل بالنقد والعمل المأجور بعد اقتلاع المزارعين من سواقيهم وأراضيهم.
*الارتباط بالتجارة العالمية.
(ج) التحولات التي أحدثها نظام الحكم التركي محدودة (الاقتصاد ، التعليم ، الصحة، المواصلات ....الخ).وظل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في السودان خلال تلك الفترة حبيس القطاع المعيشي ( التقليدي) وظلت قوي الإنتاج وعلائق الإنتاج بدائية ومتخلفة.
ويمكن القول أن السودان في تلك الفترة شهد تدمير أو خسارة للتشكيلة الاجتماعية القديمة دون كسب تشكيلة اجتماعية أرقى، وهذه العملية شبيهة إلى حد ما بتدمير الاستعماريين البريطانيين لنمط الحياة القبلي القديم في الهند والتي وصفها ماركس بقوله " أن سكان الهند خسروا عالمهم القديم دون كسب لعالم جديد " .
8/ شهدت تلك الفترة تراكمات كمية من الانتفاضات والثورات ضد النظام ما أن تندلع انتفاضة ويتم إخمادها حتى تندلع أخري من جديد، وأدت تلك التراكمات الكمية من الانتفاضات إلى تحول كيفي في الثورة المهدية.
وهكذا نجد جذور الثورة السودانية الحديثة التي ترجع إلى فترة الحكم التركي وبداية قانونها الأساسي الذي يبدأ بمقاومة النظم الاستبدادية بأشكال وصيغ مختلفة ويتم تتويجها بالانتفاضة الشاملة التي تطيح بالنظام ، على ان عنف ووحشية دولة الحكم التركي هي التي ولدت الانتفاضة الشعبية المسلحة في الثورة المهدية.
9/ كما شهدت هذه الفترة غرس بذور الثقافة الحديثة، التعليم المدني الحديث ، القضاء المدني، الطباعة ، الصحافة ،بدايات المسرح، وبدايات استقلال فن الشعر الغنائي ، عن الدين وعن نمط الغناء التقليدي (الدلوكه) الذي كان سائداً أيام الفونج.
10/ عرف السودانيون خلال فترة الحكم التركي المصري الملكية الخاصة للأرض وبيع الأراضي ورهنها وتوريثها حسب الشريعة الإسلامية والأعراف، وكان ذلك من التطورات التي شهدها السودان
في ملكية الأراضي وتعبيراً عن ارتباط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي .
كما عرفت التشكيلة الاجتماعية انماطاً مختلفة من الإنتاج التي كانت سائدة في التشكيلات الاجتماعية السابقة مثل نمط الإنتاج البدائي، و نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي، ولكن الجديد هنا كما أشرنا سابقاً أن السودان عرف البذور الأولى لنمط الإنتاج الرأسمالي والذي نشأ مع اتساع التعامل بالنقد والارتباط بالتجارة العالمية وتحول قوة العمل إلى بضاعة، واقتلاع آلاف الفلاحين من أرضيهم نتيجة للقهر والضرائب الباهظة .


أهم المراجع:-
1/ د.بشير كوكو حميدة: ملامح من تاريخ السودان في عهد الخديوي إسماعيل (مطبوعات كلية الدراسات العليا بحث رقم "10"1983م)
2/ د. حسن أحمد إبراهيم : محمد علي في السودان ، دار جامعة الخرطوم للنشر، بدون تاريخ ، رسالة ماجستير 1965م.
3/ د.مكي شبيكه:السودان عبر القرون (دار الثقافة بيروت 1965م).
4/ د. محمد إبراهيم أبو سليم :الساقية ، معهد الدراسات الآفرواسيوية 1980م.
5/ د.محمد سعيد القدال: تاريخ السودان الحديث (القاهرة 1993م).
6/ على تخوم العالم الإسلامي، حقبة من تاريخ السودان (1822-1841م) الجزء الأول والثاني ، ترجمة من الإيطالية للإنجليزية ريتشاردهل والي العربية عبد العظيم محمد عكاشة.
7/ التقرير الرسمي لرحلة محمد علي باشا إلى السودان: تحقيق وتقديم د.حسن أحمد إبراهيم (دار جامعة الخرطوم للنشر 1991م).
8/ نعوم شقير، تاريخ السودان ـ تحقيق د/ محمد إبراهيم أبو سليم (دار الجيل بيروت 1981م)–
9/ سلاطين باشا : السيف والنار في السودان (دار الجيل بيروت طبعة 1988م).
10/ تاج السر عثمان : تاريخ التركية الاقتصادي ـ الاجتماعي (مخطوط غير منشور)
(11) Hill .R: Egypt in the Sudan (1820-1881)London 1959.
(12) Holt .P.M:Amodern History of the Sudan (London 1961).

(7)
دولة المهدية
كانت دولة المهدية تطوراً جديداً في مسار الدولة السودانية المستقلة ، وامتداداً للممالك والدويلات السودانية المستقلة، ولكن دولة المهدية جاءت بخصائص وسمات معينة تميزها عن الشكل والمحتوى الذي نشأت بهما الممالك والدويلات السابقة.
وإذا أخذنا الشكل الذي كانت تنشأ به الممالك والسلطنات السابقة، نجد أنها كانت تظهر لصعود سلالة جديدة للحكم سواء كانت هذه السلالة من داخل أو خارج السودان على سبيل المثال السلالات التي أنشأت الممالك السودانية المستقلة السابقة جاءت نتيجة لاستيلاء أو اغتصاب السلطة من سلالة معينة بعد أن وحدت القبائل وكونت جيشاً وأسست ممالك كان نظام الحكم فيها وراثياً ، وهذا النمط عرفته شعوب العالم الأخرى في العصور التاريخية القديمة والوسيطة.
وبقيام دولة المهدية نجد أنفسنا إمام حالة جديدة ومتطورة في مسار تطور الدولة السودانية تتميز بالخصائص التالية:
1/ جاءت دولة المهدية نتاج ثورة شعبية مسلحة ، وضمت قياداتها أشخاصا من قبائل متعددة (نيلية وغير نيلية)، أي أن القيادة لم تكن محصورة في البداية في قبيلة أو سلالة معينة.
2/ جاءت قيادات الثورة المهدية من أوساط الشعب ومن فئاته وقواه الاجتماعية المتعددة فمثلا نرى أن الأمام محمد احمد المهدي انحدر من أسرة كانت تعمل في صناعة المراكب إضافة لتعليمة الديني وعمله لاكثر من عشرين عاما في طريقة السمانية الصوفية ، أي انه جاء من داخل المؤسسة الصوفية وبعد أن تجاوزها والخليفة عبد الله انحدر من أسرة دينية (كان والده شيخاً في خلوة).
هذا إضافة إلى من كانوا يعملون بالتجارة من أمثال عثمان دقنة وكركساوي ، ومن كانوا يعملون في جهاز الدولة التركي مثل إبراهيم عدلان ومحمد خالد زقل...الخ. ومن كانوا يعملون شيوخ أو معلمين في خلاوي مثل محمد الخير عبد الله خوجلي (أستاذ المهدي)....الخ أي أن قيادات الثورة المهدية ضمت أفراداً من أصول اجتماعية متباينة .
وبالتالي يمكن القول ، إذا أردنا أن نؤرخ من هذه الزاوية للدولة السودانية المستقلة الحديثة ، أنها تبدأ بدولة المهدية رغم أنها كانت دولة دينية .
3/ من حيث طبيعة الدولة المهدية ، نري أنها جاءت بعد القضاء علي دولة الحكم التركي.
والتي كانت دولة مدنية ، وحلت محلها دولة المهدية ذات الطبيعة الدينية والتي استمدت نموذجها من الدولة الإسلامية التي قامت في عهد النبي (ص) ومن بيت مال ودار قضاء وإفتاء وجيش .... الخ ، واصبح المهدي علي راس الدولة باعتباره خليفة رسول الله ، ويليه خلفاؤه وأمناؤه الذين كان يستعين بهم في تصريف الشئون المدنية والإدارية والعسكرية والقضائية وغيرها.
هذا بالإضافة ألي أن الأمام المهدي ومن بعده الخليفة جمع بين السلطة الدينية والزمنية وكان مصدر التشريع ، وبحكم انه خليفة رسول الله وله صلة مباشرة به ، وهذه الصلة قد تتم في حضرة، في يقظة أو منام.
وكانت وظائف هذه الدولة متعددة ومتنوعة فهي دولة عسكرية أي أنها كانت في حالة حروب داخلية وخارجية مستمرة وكان لها وظائفها الاقتصادية وكانت الدولة عن طريق بيت المال لها أراضيها (ملكية الدولة) التي تؤجرها للمزارعين بنسب معينة من المحصول وكانت مصادر دخلها من الغنائم والضرائب والزكاة والعشور.
4/ ورثت دولة المهدية جهاز دولة الحكم التركي كما استعانت المهدية بالموظفين والكتبة الذين كانوا عاملين في جهاز الدولة السابق وواصلت دولة المهدية النظام المركزي الذي ساد في فترة الحكم التركي ويمكن القول وفي سياق تطور الدولة السودانية المستقلة من حيث اتساع الرقعة الجغرافية ، أن دولة المهدية هي أول دولة سودانية مستقلة شملت تقريباً حدود السودان الحالية (عدا المناطق التي كانت يستولي عليها الأتراك والمصريون مثل سواكن وبعض مديريات الجنوب) وهكذا كانت حدود مروي أكبر من حدود نبتة وحدود ممالك النوبة المسيحية أكبر من حدود مروي وحدود دولة الفونج أوسع من حدود ممالك النوبة المسيحية . وجاءت دولة الحكم التركي لتضم دارفور وكردفان والمديريات الجنوبية ثم حل محلها دولة المهدية السودانية المستقلة لتضم تلك الدولة الواسعة الحدود، أي حدود السودان الحالية تقريباً . استفادت دولة المهدية من المؤسسات الإنشائية والاقتصادية التي أقامتها دولة الحكم التركي مثل المطبعة الحكومية (مطبعة الحجر) مصنع الذخيرة الترسانة البخارية واستطاعت أن تديرها وتستفيد منها كما ضمت بعض المؤسسات التجارية والصناعية لملكيتها مثل: العصاصير والطواحين ومصنع الصابون واستطاعت أن تشغلها عن طريق تأجيرها للتجار، ولكن دولة المهدية ألغت التعليم المدني (المدارس الابتدائية والمدارس التبشيرية) ورجعت ألي نظام الخلاوي فقط، رغم أن الشكلين كانا موجودين منذ أيام الحكم التركي المصري. كما ألغت المهدية القانون المدني الذي كان سائداً في العهد التركي وحلت محله الشريعة الإسلامية والتشريعات المستمدة من الأمام المهدي والتشريعات الأخرى المستمدة من الأعراف المحلية .
أبقت المهدية علي الهيكل الإداري لدولة الحكم التركي - المصري ،واستبدلت منصب الحاكم العام أو الحكمدار بالإمام المهدي خليفة رسول الله "ص" ومن بعده الخليفة عبد الله ، كما استبدلت مناصب مديري المديريات بعمال الأقاليم ( أو ولاة الأقاليم).
كما أصدرت عملة وطنية مستقلة ، ويمكن القول أن دولة المهدية هي أول دولة سودانية في تاريخ السودان الحديث تصدر عملة وطنيه مستقلة.
5/ لاول مرة في تاريخ السودان الحديث تطرح دولة المهدية مسألة الأرض أو الإصلاح الزراعي حيث أن المهدي في أول منشور له في غرب السودان الغي الملكية الخاصة للأرض وطرح شعار الأرض لمن يفلحها من منظور أيديولوجية المهدي وهي أن الأرض لله ، وكان هذا في الفترة (1881-1884م) وعندما كان غالبية الثوار من الفقراء والمعدمين من الرعاة والمزارعين، ولكن في الفترة (1884-1885م) تراجع الأمام المهدي واقر الملكية الخاصة، كما قامت ملكية الدولة للأرض بعد مصادرة أراضي الترك والنصارى، وكانت علائق التوزيع في أراضي الدولة تتم بين الدولة والمزارعين أما بالربع أو الثلث أو النصف ، أما علاقات الإنتاج العبودية فقد بقيت كما هي.
ويمكن القول أن دولة المهدية أحدثت تغييراً جزئياً جديداً في علاقات الإنتاج.
6/ عرفت دولة المهدية التفاوت الاجتماعي والطبقي، وعرفت فئات وشرائح مثل الحكام والأمراء والتجار وقادة الجيش، والمزارعون ، والرعاة والعاملين باجر ، والرقيق.
7/ تطورت التجارة الداخلية واستمرت التجارة الخارجية والارتباط بالسوق الرأسمالي العالمي رغم الحواجز الأيديولوجية ورغم محاصرة المهدية تجارياً ولكن بدرجة أقل عما كان علية الحال أيام الحكم التركي - المصري ، كما شهد السودان في تلك الفترة تطور النظام التجاري واتساع الطبقة التجارية، وتزايد الإنتاج من أجل السوق وظهرت الأسواق المستديمة ،إضافة للأسواق الموسمية كما تطورت الصناعة الحرفية وجمعت الطبقة التجارية ثروات طائلة ،أي حققت تراكماً كبيراً في رأس المال التجاري ، ولولا تخلف الزراعة ولولا الحصار العالمي كان من الممكن أن تلج الطبقة التجارية ميدان الصناعة وخاصة أن بعضها كان ناجحاً في إدارة مصنع الصابون ومشاريع الدولة التجارية الأخرى مثل المشارع والطواحين والعصاصير. ولكن الاستعمار الإنجليزي قضى على الصناعات الحرفية التي كانت مزدهرة أيام المهدية (نسيج، أحذية ، حدادة، نجارة ...الخ ) كما توضح خريطة سوق امدرمان أيام المهدية.
وبدخول البضائع الإنجليزية الجيدة الصنع وبكميات كبيرة،وبدون جمارك من أقمشة وأدوية وأدوات منزلية وبأسعار رخيصة تم القضاء على الصناعات الحرفية . وعليه ومنذ تلك اللحظة بدأ التخلف الاقتصادي والاجتماعي من خلال تخصص السودان في إنتاج محصول نقدي واحد( القطن) وبالمقابل اصبح السودان مستهلكاً للبضائع الأوروبية ، وتم تدمير الصناعة الوطنية وتوقف التنوع في زراعة المحاصيل الغذائية الأخرى.
8/ عرفت دولة المهدية المؤشرات العامة للتخلف التي يحددها الاقتصاديون مثل انتشار الأوبئة والأمراض والمجاعات التي فتكت بالناس، أي ضعف الخدمات الصحية وتخلف المواصلات وضعف القوى المنتجة في الزراعة التي بسببها لم تستطع المهدية تأمين فائض كافئ من الغذاء تواجه به المجاعات والكوارث الطبيعية كما تراجعت البدايات والأسس العلمية التي أدخلتها الحكومة التركية في مكافحة الجراد الذي كان يهدد الإنتاج والمحاصيل الزراعية.
إضافة إلى تمويل الجيوش غير المنتجة ، وكل ذلك قلل من الإنتاج الزراعي ومن فائض الإنتاج الزراعي والذي يعتبر هاماً لانطلاق الصناعة والتجارة. ولكن دولة المهدية لم تعرف مشكلة أو مؤشرات الانفجار السكاني بالعكس فان السودان في نهاية دولة المهدية كان يعاني من مشكلة نقص سكاني حيث قضت حروب المهدية على ثلاثة أخماس سكان السودان حسب تقدير نعوم شقير، والذين كان يقدر عددهم في السنوات الأخيرة لفترة الحكم التركي ب9 ملايين نسمة أي تقلص إلى حوالي سبعة مليون.
كما عرفت فترة المهدية هجرات واسعة من الريف إلى المدن لأغراض اقتصادية وحربية ،أي زادت نسبة التحضر.
ولكن ظلت الغالبية العظمى من السكان تعيش على الزراعة والرعي واكثر من 90% من السكان كانوا يعيشون في القطاع التقليدي (المعيشي). ، أي أن الاقتصاد في جملته ورغم دخول اقتصاد السلعة النقد وبروز الرأسمالية التجارية والصناعية ظل في غالبيته العظمى اقتصاداً تقليدياً (معيشياً)عندما غزت قوات كتشنر السودان عام 1898م.
9/ مع اتساع حروب المهدية الداخلية والخارجية تطور تنظيم الجيش حسب اختلاف وتطور المراحل المختلفة للثورة المهدية "2" وكانت المراتب القيادية للجيش تتكون من رأس الميه – المقدم – الجهادي – الملازمين – الأنصاري أو الجندي.
10/ كما استنبطت دولة المهدية النظم للإدارة والكتابة في الإدارات المختلفة مثل كاتب الخليفة وكانت الراية الزرقاء وكتاب المحاكم وكتاب بيت المال في العاصمة والأقاليم وغير ذلك من أعمال السكرتارية مثل استلام الرسائل وتحديد مواعيد للمقابلات والقيام بعمليات التوثيق"3" ، هذا إضافة لاستفادتها من مطبعة الحجر في طبع منشورات المهدية والخليفة وطباعة الوثائق والمرتكزات الفكرية والدينية للمهدية مثل الراتب ومؤلفات كتاب المهدية مثل حسين الزهراء وإسماعيل عبد القادر الكردفاني صاحب مؤلف كتاب "سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي"
كما عرفت دولة المهدية السجون واشهر السجون كان سجن امدرمان (الساير) والذي كان عبارة عن حوش متسع محاط بسور حصين وفي وسطه بعض أكواخ من الحجر والطين. كما كان يمارس التعذيب الوحشي في هذه السجون"4".
11/ عرفت دولة المهدية المعارضة من المنطلقات الدينية والقبلية والطبقية ، كما عرفت الصراع على السلطة ، وكان نتاج ذلك الصراع أن فقدت المهدية اغلب قياداتها التاريخية نظراً لان الصراع كان يدار
بالقمع والاستبعاد والسجن والإعدام مما أدى إلى تآكل دولة المهدية من الداخل الأمر الذي كان من أسباب هزيمتها أمام قوات كتشنر.
12/ اتخذت دولة المهدية قرارات تتعلق بالبنية العلوية الثقافية والاجتماعية للقبائل وذات جذور راسخة في حياة وتقاليد الناس مثل منع الغناء والرقص والدلاليك وحجر النساء ومنع النحاس وضرب المزامير ومنع الألعاب مثل الطاولة والطاب وهذا بالإضافة لمنع التنباك والتبغ. ورغم الجلد والقمع إلا أن الواضح إن تلك العادات كانت مستمرة مما يشير إلى أن القضايا التي تتعلق بشئون الناس الخاصة والمتعلقة بالبنية العلوية من المستحيل أزالتها بقرارات وقوانين عقوبات وانما تحتاج مواجهتها بتنمية وتطوير عادات ثقافية بديلة .
13/ أما عن حالة الفكر والثقافة في المهدية فقد كانت بائسة من جراء حروب المهدية المتواصلة وأيديولوجية المهدية نفسها التي لم تكن متسامحة مع الآراء الاجتماعية والدينية الأخرى لكونها هي الإسلام الصحيح الوحيد ، وتم إلغاء المذاهب والطرق الصوفية والدينية وإحراق الكتب ألا الكتاب (القرآن ) والحديث الصحيح وتم إلغاء التعليم المدني والعودة لنظام الخلاوى كما أن المهدية شهدت ثقافة منحازة لها وثقافة معارضة.
هوامش
1/ للمزيد من التفاصيل عن الطبقة التجارية ، راجع د.محمد سعيد القدال : السياسة الاقتصادية للدولة المهدية (دار جامعة الخرطوم للنشر 1986 ).
2/ للمزيد من التفاصيل عن تنظيم الجيش راجع المصدر السابق .ملحق رقم (2) ص 218 ـ 219 .
3/ للمزيد من التفاصيل عن نظم الإدارة في المهدية راجع د. محمد ابر أهيم آبو سليم : الحركة الفكرية في المهدية ( دار جامعة الخرطوم 1970 ) ص 81 وما بعدها .
4/ للمزيد من التفاصيل راجع حسين سيد احمد المفتى : تطور نظام القضاء في السودان ( الخرطوم 1959) ـ الجزء الأول ـ ص 159 .


(8)
دولة الحكم الثنائي (1898 ـ1956 )

مع أفول القرن التاسع عشر ، وبعد سقوط دولة المهدية ، أضحى السودان يحكم بواسطة البريطانيين و المصريين وفقا لاتفاقية الحكم الثنائي المبرمة في 19 / يناير / 1899 ، وبموجب هذه الاتفاقية أصبحت بريطانيا الطرف المهيمن والمسيطر في الحكم الثنائي ، بل في جميع الأحوال السيد الوحيد المسيطر على البلاد ، وكان البريطانيون يستغلون مصالح مصر الحيوية في مياه النيل للضغط على المصريين وتحميلهم تمويل المشاريع التي اقترحوها لإرساء دعائم الدولة ، وبناء منشاتها الأساسية في السنوات الأولى للحكم الثنائي ، كما كانت مصر تغطى العجز فى الميزانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ، هذا إضافة إلى أن مصر نفسها كانت بشكل من الأشكال تابعة لبريطانيا .
هذا من ناحية طبيعة دولة الحكم الثنائي ، أما من ناحية وظيفة هذه الدولة ، فقد أشرفت على مصالح الشركات والبنوك البريطانية في السودان ، وتنظيم عمليات تصدير الفائض الاقتصادي للخارج واستنزاف موارد السودان الاقتصادية وسد حاجات بريطانيا من القطن.
2/ من خصائص وسمات دولة الحكم الثنائي إنها تصدت للتنمية الاقتصادية والاجتماعية حيث قامت السكك الحديدية ،النقل النهري ، والميناء ومؤسسات العلاج ، وأصبحت هذه المشاريع تابعة لقطاع الدولة ، ولم يلعب القطاع الخاص ( محلى وأجنبي ) دورا حاسما أو قياديا في قيام المنشات الهامة ، على أن التنمية التي تمت كانت مقتصرة على شمال السودان ، ولم يكن هناك تطور موازى لها في جنوب السودان ، حيث كانت الإدارة هناك تركز على الأمن والنظام ، إضافة لتجاهلها مسالة تسريع وثائر التطور فيه ، وهذا أدي ألي التطور غير المتوازن الذي نشاء فى البلاد فيما بعد
3/ لاجدال ، أن دولة الحكم الثنائي خلقت نهضة اقتصادية واجتماعية وعمرانية ، رغم أن أهداف المستعمر من ذلك كانت محدودة ، أي كانت في حدود استقرار النظام والحكم وتمهيد الطريق لاستنزاف خيرات البلاد وفقا لعلائق التبادل غير المتكافئ مع البلدان الرأسمالية ، الا أن لكل نهضة نتائجها الإيجابية على التطور العام في المجتمع ولها وجهة تقدمية تنبع من طبيعة النهضة نفسها ، ورغم أن النهضة جرت بدفع من الحكم الثنائي ، وما كانت نتاج لتطور طبيعي باطني في المجتمع السوداني أو قادتها طبقة رأسمالية أو إقطاعية مستنيرة ، رغم كل ذلك أدى إنشاء السكك الحديدية والميناء ومشروع الجزيرة ومشاريع القطن الأخرى ، وكلية غردون و التعليم المدني الحديث ، وقيام الصحافة السودانية .. الخ . كل ذلك أدي إلى تحولات اجتماعية واقتصادية ، وكان لها الأثر الواضح في تطور الحركة الوطنية (أحزاب ، نقابات ، مؤتمر الخريجين ، الصحافة ...الخ ) حيث ظهرت قوة اجتماعية مثل : - العمال ، التجار ، المتعلمين ،الافندية ،الضباط ، المزارعون في المشاريع الحديثة وهذه القوى هي التي قادت النضال ضد المستعمر فيما بعد .
4/ ظل بنيان دولة الحكم الثنائي هشاً رغم ماجري من نهضة اقتصادية وعمرانية ، ولم تفرض الدولة سيطرتها الكاملة علي كل البلاد الا بعد 19 عاماً تقريباً من بداية الحكم الثنائي ، ظلت الدولة تواجه فيها تمردات القبائل في الجنوب ، وجنوب كردفان وتمردات في أواسط السودان ورغم أن الدور الحاسم في سلطة الحكم الثنائي كان للبريطانيين ، الا أن الازدواجية في الحكم والتناقضات داخل السلطة البريطانية - المصرية ، كان لها أثرها في سير الحكم وانعكس ذلك علي الأداء : سواء كان ذلك علي جهاز الدولة أو علي أجهزة القمع نفسها: تمرد القوات السودانية 1900م كان من أسبابه التناقضات بين الضباط المصرين والبريطانين، وشعور الضباط والجنود السودانين بالغبن والظلم وبالتالي انعكس على بنية وجهاز قمع الدولة ، ومثال أخر. لم تتم السيطرة على دار فور الا في عام 1916 ، بعد هزيمة ، السلطان على دينار حيث أخذت الدولة السودانية شكلها وحدودها الحالية ، هذا الوضع انعكس على الحكم الثنائي في المستقبل بعد ظهور الحركة الوطنية الحديثة وظهور قوى اجتماعية جديدة أسهمت في تشكيل مستقبل البلاد فيما بعد .
5/ تحت ظل دولة الحكم الثنائي ، بدأ السودان يجني ثمرات الحضارة والتمدن وتبلور كآمة واحدة ( رغم التفاوت بين الجنوب والشمال ) وشهد السودان التوسع في انصهار القبيلة ، وظهور المدن والأسواق والخروج إلى العالم المعاصر . وبدأت تتكون وتظهر ملامح مجتمع جديد ، وتفكك النظام القبلي القديم ، وبدا يشهد الانهيار والزوال مع النزوح للمدن ، وبدأت تظهر حركة وطنية (اللواء الأبيض ، مؤتمر الخريجين ، الأحزاب ...الخ) علي أساس وطابع جديد .
ورغم دور المستعمر ، الا أن الطبقات والفئات الرأسمالية والإقطاعية لم تنهض كقوة مستقلة بمنجزاتها الاقتصادية والفكرية ، ولم يكن لها دور حاسم في النهضة والقيادة بعد الاستقلال من حيث العمق والشمول، رغم تسلمها زمام القيادة بعد الاستقلال .
6/ وعن حصاد التنمية الاستعمارية التي باشرتها دولة الحكم الثنائي نشير إلى الأتي :-
أ/ بعد إلغاء نظام الرق وإدخال العمل المأجور وصدور قوانين ملكية الأرض , تم تمهيد الطريق لقيام تشكيلة اقتصادية اجتماعية تابعة أي خاضعة لاحتياجات بريطانيا ومد مصانعها بالقطن الذي كان المحصول النقدي الريئسي في تلك الفترة ، وقامت مشاريع زراعة القطن في السودان لتلبية ذلك الاحتياج الخارجي .
ب/ أحكمت بريطانيا سيطرتها علي تجارة السودان الخارجية من خلال سيطرة البنوك الأجنبية التي كانت تتحكم في حركة راس المال في اتساعها وانكماشها ، كما كانت الشركات البريطانية تسيطر علي معظم تجارة الصادر والوارد ، أما ما تبقي فقد سيطرت علية الشركات الأجنبية الأخرى "الأجانب المتسودنين" من يونانيين وشوام ، والجزء الضئيل المتبقي للنشاط التجاري فقد عملت فيه الرأسمالية السودانية المحلية .
ج) ترتب علي نمط التنمية التي فرضها المستعمر علي السودان وهو التخصص في زراعة محصول نقدي واحد (القطن ) أن تخلفت الصناعة وتم إجهاض أي محاولة من جانب الرأسمالية السودانية الناشئة لاقامة صناعة وطنية .
(د) في دولة الحكم الثنائي ، جري التوسع في إدخال نمط الإنتاج الرأسمالي ، وقام قطاع حديث وسط محيط متلاطم من القطاع التقليدي ، كما قامت المدن التجارية والصناعية ، وشهدت البلاد توسعاً في الزراعة المروية والآلية والمواصلات والتعليم والخدمات الصحية ولكن رغم ذلك ظل حوالي 90% من السكان مسجوناً في القطاع التقليدي الذي يعتمد علي أساليب الزراعة التقليدية وتربية الماشية ، ورغم تدفق دخول كبيرة للحكومة من مؤسسات القطاع العام من مشروع الجزيرة ومشاريع القطن الأخرى والمحالج والسكك الحديدية والخطوط الجوية ....الخ من الدخول ألا أن الضرائب كانت تمثل 64% من الإيرادات الحكومية عام 1955 –1956م ، ورغم ذلك كان يذهب منه 40% في شكل أجور للموظفين ( يستحوذ 61% منها الموظفون البريطانيون) كما كان يذهب أكثر من 20% من الإيرادات في سداد الديون مع فوائدها ، أما ميزانية التعليم مثلاً فقد كانت متواضعة لا تتعدى 2% من الميزانية عام 1938م وميزانية الصحة بلغت 4% أما نفقات قوة دفاع السودان فقد كانت 8.9% من أجمالي ميزانية الحكومة. ورغم وجود فوائض والاحتياطات العامة التي بلغت حوالي 7 ملايين جنيه عام 1947م ،ألا أن الحكومة لم تعد استثمارها في مشاريع اقتصادية واجتماعية ولم يعرف السودان برامج التنمية ألا في الأعوام 1946م -1951م،1953م -1956م بعد ضغط الحركة الجماهيرية وازدياد نمو الوعي الوطني الذي كان يطالب بزيادة ميزانية التعليم والخدمات الصحية وغير ذلك.
7/ من حيث البنية الفوقية لدولة الحكم الثنائي :ـ
أ منذ بداية الحكم، أضحت السلطة التشريعية في يد حاكم مطلق هو الحاكم العام الإنجليزي وكان من أهم القوانين التي أصدرها الحاكم العام في بداية العهد بالتشريع مايلي : قانون حجج الأراضي، قانون العقوبات (1899م –1901م) قانون القضاء المدني (1900م-1901م)، قانون المجالس البلدية 1901م،قانون المحاكم الشرعية 1902م. وظلت سلطة الحاكم العام المطلقة نافذة رغم تكوين مجلس الحاكم العام 1910م، وقيام المجلس الاستشاري لشمال السودان (1943-1947م) وقيام الجمعية التشريعية (1948م- 1952م).
وفي الفترة (1953م-1955م) وبعد اتفاقية 1953م التي كانت تتويجاً لنضال الشعب السوداني ضد الاستعمار البريطاني ورغم أن الاتفاقية أعطت الحاكم العام التفويض في إصدار الأوامر التي يراها ضرورية إلا أن من نتائج تلك الاتفاقية تكوين أول برلمان سوداني والذي تم من داخله إعلان استقلال السودان في عام 1956م.
(ب) كان من ابرز التطورات في تنظيم الجيش تأسيس المدرسة الحربية بالخرطوم عام1905م وفي عام 1925م تم إعلان تكوين قوة دفاع السودان، وكانت وظيفة الجيش أو قوة دفاع السودان فيما بعد هي حفظ الأمن وقمع الانتفاضات القبلية والدينية ومقاومة السلطان على دينار في دارفور حتى تم إخضاعه عام 1916م وقمع المظاهرات التي نشبت بعد ثورة 1924م ومقاومة تمرد القوات السودانية نفسها الاحتلال،هذا إضافة لاشتراكها في الحربين العالمية الأولى والثانية ضمن جيوش الحلفاء .
(ج) من حيث التنظيم الإداري والحكم المحلي حدثت التطورات الآتية:-
عند بداية الحكم الثنائي عام 1898م تم تقسيم السودان إلى أربعة عشر مديرية أصبحت خمسة عشر بعد ضم دارفور عام 1916م وعند وقوع الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 1930م والتي عمت معظم أنحاء العالم وشملت السودان، تم تقليص عدد المديريات إلى تسعة هي:- المديرية الشمالية ، كسلا ، النيل الأزرق، الخرطوم، كردفان ،دار فور، أعالي النيل ، الاستوائية ، بحر الغزال.
بعد هزيمة ثورة 1924م اصدر السر جون مفي عام 1927م قانون الإدارة الأهلية ويشمل قانون سلطات المشائخ لسنة 1925-1928م (رؤساء المحاكم) قانون المحاكم الأهلية لسنة 1932م. كما صدرت قوانين مماثلة للمديريات الجنوبية، وتطور الحكم المحلي حتى تم إجازة قانون الحكومة المحلية لسنة 1951م الذي نص على تنظيم مجالس الحكومة المحلية على أسس عامة في جميع أنحاء السودان حتى بعد الاستقلال وفي عام 1954م أنشئت وزارة مكتملة الشروط للحكم المحلي.
(8) شهد السودان في تلك الفترة التوسع في الدولة المدنية نتيجة للارتباط بالعالم الخارجي وتطور القضاء المدني والتعليم المدني كما شهد السودان في تلك الفترة تطوراً في التنظيم السياسي والنقابي وشهد النهضة الأدبية والفنية (شعر ، قصة ، مسرح...الخ) كما تطورت الحركة الرياضية، وحركة تعليم وعمل ونهضة المرأة السودانية وتفاعل السودانيون بأشكال متفاوتة مع منجزات العلم والتكنولوجيا والفكر الإنساني.




أهم المراجع:
1- بروفسير: محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية في السودان ترجمة هنري رياض وآخرون(الخرطوم1987م).
2-هنري رياض: موجز تاريخ السلطة التشريعية في السودان (دار الثقافة بيروت مكتبة النهضة 1967م).
3-حسين محمد أحمد شرفي: صور من الآداء الإداري في السودان (دار جامعة الخرطوم 1991م).
4-تيم نبلوك : صراع السلطة والثروة في السودان ، ترجمة الفاتح التجاني ومحمد علي جادين ( دار جامعة الخرطوم للنشر 1990م).
5-د.سعيد محمد أحمد المهدي: قوانين السودان . المجلد الأول 1901م .
6-د. زكي البحيري: التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان (دار النهضة المصرية 1988م).



(9)
التعدد الثقافي والدولة الوطنية*
مقدمة:-
نحاول في هذه الورقة متابعة المسار التاريخي للدولة السودانية ونوضح أن التعدد الثقافي كان ملازماً للدولة السودانية منذ نشأتها وحتى تكوين الدولة الوطنية الحديثة.
كما تشير الورقة إلى النفق المظلم الذي دخلت فيه الدولة الوطنية بعد الاستقلال، والفشل في إنجاز مهام النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أصبحت وحدة السودان في مهب الريح وترى ضرورة الدولة المدنية الديمقراطية باعتبارها المخرج من التشرذم والتمزق، والضمان للوحدة من خلال التنوع الثقافي والاثني واللغوي والديني.
أولا: كان التعدد الثقافي سمة أساسية من سمات الدولة السودانية منذ نشأتها فقد شهدت الدولة السودانية تعدد الأديان ابتداءاً من الوثنية إلى المسيحية ثم الإسلام ومازال التنوع الديني موجوداً في واقعنا الماثل.
كما شهدت الدولة السودانية تعدد اللغات مثل اللغة المروية في حضارة مروي واللغة النوبية في حضارة النوبة المسيحية ثم اللغة العربية التي انتشرت انتشار النار في الهشيم في عهد سلطنتي الفونج والفور، هذا إضافة للتنوع في لغات ولهجات أهل السودان.
كما استوعبت الدولة السودانية التنوع الديني واللغوي والاثني وشهدت الاستمرارية في الثقافة السودانية خلال الحقب التاريخية المختلفة.
ثانياً:-المسار التاريخي للدولة السودانية:-
شهدت حضارة كرمة ( 3000سنة ق .م) ميلاد الدولة السودانية، التي كانت نتاج تطور تاريخي، ونتاج لتطور المجتمع السوداني في مرحلة معينة ومع ارتقاء الإنسان السوداني سلم الحضارة وتفكك المجتمعات البدائية التي تقوم على الصيد والتقاط الثمار وظهور المجتمع الزراعي والرعوي وتطور المدينة والصناعة الحرفية والتبادل التجاري وظهور أول انقسام طبقي واتساع الفروق الاجتماعية كانت نشأت الدولة السودانية مرتبطة بتفاعل عوامل سياسية ودينية وطبقية واجتماعية .
من سمات وخصائص الدولة السودانية أنها كانت في حالة تطور واتساع، في كل مرحلة تعرف حالات الازدهار والانحطاط والزوال،ثم تنبعث من جديد بشكل أوسع وأكبر مما كانت عليه في السابق، كما عرفت وحدة الاستمرارية والانقطاع، وتعدد المراكز أو العواصم. وربما كان ذلك من أسباب ضعف الدولة،وعدم الاستمرارية في تقاليد الحكم .
كانت الدولة السودانية في حالة تطور باطني، وفي الوقت نفسه كانت في حالة تفاعل مع العالم الخارجي أخذا وعطاءاً.
على أن الشكل الحديث للدولة السودانية بدأ خلال فترة الحكم التركي – المصري (1821م-1885م) الذي شهد مولد السودان الحديث بشكله
الحالي تقريباً، بعد ضم دار فور وسواكن وإقليم التاكا والمديريات الجنوبية الثلاثة (الاستوائية ، بحر الغزال، أعالي النيل) من خلال التوغل جنوباً، سواء لحملات تجارة الرقيق أو تجارة العاج أو لاكتشاف منابع النيل.
كان الإنسان السوداني خلال الحقب التاريخية المختلفة يصارع ضد القهر والظلم من اجل الحرية ، ويتجلى ذلك في الثورات التي حدثت في دولة الفونج، والثورة المهدية ضد الاحتلال التركي و ثورة الاستقلال ضد الحكم الإنجليزي ، وبعد الاستقلال: كانت ثورة أكتوبر 1964م ضد دكتاتورية الفريق عبود ، وانتفاضة مارس – ابريل1985م ضد حكم الرئيس نميري.
مرت الدولة السودانية بكل المراحل التي عرفها التاريخ البشري من حيث علاقة الدين بالدولة:
فقد شهد السودان القديم الدولة الدينية أو الحكم بالحق الإلهي وعلى سبيل المثال :في دولة مروي كان كهنة آمون يحكمون بالحق الإلهي .
وفي ممالك النوبة المسيحية جمع الملوك بين وظيفتي القس والحاكم، أي جمعوا بين السلطتين الزمنية والدينية وفي سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء ، شهد السودان الشكل الجنيني للدولة المدنية ،حيث كان مشايخ الطرق الصوفية بعيدين عن ملوك سنار .
ثم قامت الدولة المدنية في فترة الحكم التركي– المصري ،و تم التراجع إلى الدولة الدينية في فترة المهدية ، وبعد ذلك اتسعت دائرة الدولة المدنية خلال فترة الحكم الإنجليزي ، وبعد الاستقلال ظلت الدولة مدنية حتى قوانين سبتمبر 1983م وبعد انقلاب 30/يونيو1989م، تم التراجع مرة أخرى إلى الدولة الدينية والتي شهدت تصاعداً لا مثيل له في السابق للحرب الأهلية في الجنوب والشرق والتي أدخلت البلاد في نفق مظلم.
ضمت الدولة السودانية شعوبا وقبائل ومناطق متباينة في التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ،وهذا التباين هو نتاج تطور تاريخي ، حيث شهد شمال ووسط السودان مولد الحضارات في السودان القديم وفي العصور الوسطى ، إضافة لسياسات المستعمر البريطاني الذي كرس التفاوت بين الشمال والجنوب من خلال نمط التنمية غير المتوازن ومن خلال قانون المناطق المقفولة الذي شمل الجنوب ومناطق الشرق ، وجنوب النيل الأزرق ، وجبال النوبة.
من سمات وخصائص الدولة السودانية النشأة المستقلة ، فيما عدا الاحتلال المصري بعد انهيار دولة كرمة ، وفترة الحكم التركي المصري ، وفترة الحكم البريطاني نلاحظ ان الممالك السودانية كانت مستقلة ، وكان الدفاع عن الوطنية السودانية مرتبطاً بالدفاع عن الدين والعقيدة ، كما حدث في مقاومة النوبة لحملة عبد الله بن أبى السرح والتي انتهت باتفاقية البقط ، والثورة المهدية التي قضت علي الاحتلال التركي ـ المصري.
بعد الاستقلال واجهت الدولة الوطنية السودانية التحديات الآتية :ـ
عدم استقرار واستمرارية التجربة الديمقراطية من جراء الانقلابات العسكرية ، ودخل السودان في الحلقة المفرغة: ديمقراطية – ديكتاتورية – ديمقراطية …… الخ .وتأثر جهاز الدولة بتلك الانقلابات ، وفقدت الدولة اغلب كادرها المؤهل بسبب التطهير ، وانهارت الخدمة المدنية، الفشل في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية المنوط بها إحداث النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، وتعزيز الديمقراطية والمؤسسات النيابية والدستورية ، ورغم إمكانيات البلاد في القطاع الزراعي والحيواني ، وبعد اكتشاف البترول والمعادن لأحداث نهضة وطنية ديمقراطية عميقة تنتشل البلاد من الظلمات إلى النور ، والي آفاق التنمية والتقدم الاجتماعي والسلام.
أصبحت الدولة السودانية مهددة في كيانها من خلال انفجار مشكلة الجنوب عشية الاستقلال ، والتي ازدادت تعقيداً بعد أن أخذت الحرب طابعاً دينياً وخاصة بعد قوانين سبتمبر 1983م ، والتي زادت النيران اشتعالاً .
وبعد 46 عاماً من الاستقلال تشهد الدولة الوطنية السودانية انهيار البنيات الأساسية التى تركها المستعمر مثل: السكك الحديدية، النقل النهري، مشاريع القطن… الخ. كما انهار القطاع الزراعي والصناعي ووصل الدين الخارجي إلى 24مليار دولار وقضت الحرب الأهلية على مليوني شخص وشردت حوالي 4مليون إلى داخل وخارج البلاد.
كما رفعت الدولة يدها عن خدمات أساسية مثل التعليم والصحة الذين دخلا دائرة الاستثمار الخاص. وأصبحت الدولة الوطنية السودانية فقي مفترق الطرق، و مهددة بالتمزق والتدخل الأجنبي ما لم تقف الحرب التي تستنزف قدرات البلاد الاقتصادية والبشرية واحلال السلام في ربوع بلادنا. فإما أن تظل الدولة السودانية مدنية ديمقراطية تستوعب التنوع الديني والثقافي واللغوي أو تتعرض للتشرذم والتجزئة .
فما هو المخرج؟
ثالثاً:- أن التحدي الذي يواجهنا : كيف يتم خلق صورة مجتمع بألوان مختلفة مرصوصة واحدة جنب الآخر كالفسيسفاء أو الموازييك؟
أصبحت الحاجة ماسة اليوم لضمان وحدة السودان إلى دولة مدنية ديمقراطية تكفل المساواة لرعاياها وحرية العقيدة والضمير والمساواة في الأديان وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء ومساواة المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن المعتقد أو العنصر أو الجنس وكفالة حرية البحث العلمي والفلسفي وحق الاجتهاد الديني وضمان الحقوق والحريات الأساسية والسياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وضمان حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية.
في الدولة المدنية الديمقراطية متسع للجميع ، ما أحوجنا لحكمة د.فرانسيس دينق حين أشار في ورقته نحو استراتيجية ثقافية في وحدة تعددية (الصحافة 28/11/2000م) (لا بد ان ندرك انه مهما كانت اجندتنا السياسية والثقافية أو الدينية لهذا الوطن انه فقط من خلال الإقناع والحسنى وليس بالقهر والفرض يمكن أن نحقق أهدافنا بطريقة متينة ومستمرة).
ما أحوجنا لحكمة الطيب صالح في رواية دومة ود حامد حين ختم روايته بقوله (لن تكون سمة ضرورة لقطع الدومة ، ليس سمة داع لإزالة الضريح الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعاً، أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء ، يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة).
فالدولة المدنية الديمقراطية فيها متسع لكل الأديان والثقافات تستوعب التنوع اللغوي والثقافي والاثني ، كل مواطن فيها لا يرى مصلحته إلا في أمور تستقيم مع مصالح الآخرين كقول أبى العلا المعري:
ولو أنى حبيت الخلد فرداً
لما أحببت بالخلـد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
في ختام كتابة (صراع الرؤى) يقول دكتور فرانسيس دينق (لا شك ان الوحدة هدف سام ونبيل ، ولكن الضمان الأفضل لتحقيقها على الصعيد الوطني هو أن تسمو القيادات فوق الشقاق الحزبي وتطرح للوطن بكامله رؤية تلهم قطاعاً عريضاً من السودانيين بغض النظر عن العرق ،الاثنية، الأقليم،أو الدين)
)دكتور فرانسيس دينق"صراع الرؤى" ترجمة د. عوض حسن ، مركز الدراسات السودانية –القاهرة 1999م،ص47) .
الدولة المدنية الديمقراطية تقبل كل صورة كقلب محي الدين بن عربي الصوفي الذي صار قلبه قابلاً لكل صورة كمثال للتعايش والتسامح الديني غير المحدود.
وخلاصة القول أن الدولة المدنية الديمقراطية هي الضمان لجعل التعدد الثقافي مصدر قوة وإخصاب وتحقيق الوحدة من خلال التنوع.
على أن الدولة المدنية الديمقراطية ليست وحدها هي الحل السحري والضمان لوحدة السودان فلا بد من استكمال ذلك بالتنمية المتوازنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل أقاليم السودان وتوفير احتياجات المواطنين في مستوى معيشة لائق وتعليم وصحة...الخ.
القسم الثاني
دراسات ومقالات

(10)
توحيد الوطن على أسس طوعيه وديمقراطية* (1)
شهدت فترة الحكم التركي – المصري(1821-1885م) ميلاد ونشأة السودان الحديث ، فقبل عام 1821م كان سودان وادي النيل عبارة عن حضارات وممالك السودان القديم وممالك النوبة المسيحية والممالك والسلطنات الإسلامية. ومع سقوط سلطنة الفونج على يد الفتح التركي المصري تم التكوين الحديث للسودان وتم ضم كردفان وإقليم التاكا وسواكن ودارفور، وكذلك تم التوغل في جنوب السودان نتيجة لعوامل مختلفة أهمها:-
أ_- تحقيق أهداف محمد علي باشا من فتح السودان ، بجلب أكبر عدد من الرقيق إلى مصر.
ب- نشاط الرحالة الأوروبيين لاكتشاف منابع النيل مثل (صمويل بيكر،سبيك....الخ)
ج- نشاط التجار والمغامرين الأوروبيين والمصريين والسودانيين وغيرهم لتحقيق أكبر قدر من الأرباح من تجارة الرقيق والعاج وريش النعام والتجارة في جنوب البلاد واستمر التوغل في الجنوب حتى برزت المعالم الأساسية لمديرياته: مديرية بحر الغزال ، مديرية أعالي النيل ، والمديرية الاستوائية.
بهذا الشكل المأساوي والدموي تكون السودان الحديث بعد غزو محمد على باشا للسودان.
دور قبائل الجنوب في الحركة الوطنية السودانية:
لم تكن قبائل وشعوب الجنوب (رغم بدائيتها) معزولة عن الحركة الوطنية السودانية في مجموعها، وان كان تعبيرها مباشراً وبواسطة النضال المسلح ضد غزو الاستعمار التركي أو البريطاني أو غزو الجلابة وتجار الرقيق أو المغامرين من تجار العاج وريش النعام.....الخ. ومثلما قاومت قبائل الشمال في بداية واثناء سنوات الاحتلال التركي – المصري في الشمال ، كذلك قاومت قبائل الجنوب بشراسة ودفاعاً عن كيانها ووجودها ضد شراهة ونهم محمد علي باشا لجلب أكبر عدد من الرقيق وكانت قبائل الجنوب تدافع عن قضيتين :-
أ- ضد المحتل الأجنبي.
ب- دفاعاً عن وجودها وكيانها ضد عصابات تجار الرقيق .
ولذلك فان مقاومتها كانت شرسة وكان الشكل المسلح الذي مازال مستمراً حتى يومنا هذا، وينطبق ذلك على شعوب وقبائل جنوب كردفان.
وهذا حق مشروع : الدفاع ضد الأجنبي والدفاع عن كيانها ووجودها التي حاولت أن تقتلعة عصابات ومجرمي تجارة الرقيق. وعندما قامت الثورة المهدية في أيامها الأولى نهضت قبائل الجنوب في تحالف مع قبائل الشمال ضد المحتل التركي، وكان هذا تعبيراً بشكل من الأشكال عن الكفاح والنضال المشترك ضد المستعمر، وبداية لتفاعل تلك القبائل ولشعورها بأنها جزء من كيان واحد كبير هو السودان، ولم تنحصر
76
مقاومة الحكم التركي في القبائل التي كان لها تماس مع القبائل العربية والمسلمة،بل شملت القبائل النيلية مثل الدينكا والشلك . وتشير المصادر التاريخية أن تلك القبائل أسهمت في الثورة المهدية في ساعاتها وأيامها الأولى.
وفي السنوات الأولى للاستعمار البريطاني (1898-1956م) قاومت قبائل الجنوب الحكم الجديد ورفضت ضرائب الدقنية الباهظة ، كما قاومت قبائل الشمال من منطلقات قبلية ودينية ، ولم يتم إخضاع قبائل الجنوب نهائياً إلا في عام 1932م.
وبعد انفجار ثورة 1924م واشتراك بعض أبناء الجنوب في قيادة الثورة ،عمل الاستعمار على عزل قبائل الجنوب عن الشمال ، وشرع في تنفيذ قانون المناطق المقفولة الذي وُضع عام 1922م لتعميق الفوارق الثقافية والدينية بين الشمال والجنوب تمهيداً لاضعاف الحركة الوطنية أو لفصل الجنوب فيما بعد عن الشمال. خاصة وان بعض قادة 1924م كانوا من قبائل الجنوب وبالتالي عرقل الاستعمار التطور السياسي والاقتصادي والثقافي لقبائل وشعوب الجنوب ، مما كان له الأثر في تمرد (1955م) مع أسباب أخرى.
وخلال ديكتاتورية الفريق عبود(1958م-1964م) كانت هنالك مصلحة للشمال والجنوب في إسقاط النظام العسكري الذي قهر الشمال ويشكل افظع للجنوب حتى قامت ثورة أكتوبر 1964م والتي كانت مشكلة الجنوب أحد أسبابها الأساسية.
وخلال ديكتاتورية نميري (1969م-1985م) قاوم السودانيون في الشمال والجنوب الديكتاتورية، ورغم وقف الحرب لفترة عشر سنوات بعد اتفاقية أديس ابابا في مارس 1972م الا ان النظام الشمولي وحكم الفرد خرق الاتفاقية ونقض العهود والمواثيق، وانفجرت الحرب من جديد وكانت من الأسباب الأساسية لاضعاف نظام نميري وإسقاطه في انتفاضة مارس- أبريل 1985م في الشمال ، وبعد الثورة المهدية التي أخذت شكل النضال المسلح ، وبعد هزيمة ثورة 1924م،اتخذ النضال الطابع الجماهيري الشعبي .أما في الجنوب كان يتخذ شكل النضال المسلح الذي كما اشرنا سابقاً تمتد جذوره إلى فترة الحكم التركي المصري ، واستمر شكل النضال المسلح حتى يومنا هذا ، وهو من التجارب الفريدة التى ابتدعتها قبائل الجنوب دفاعاً عن قضيتها.
ورغم أن هنالك مناطق في الشمال اكثر تخلفاً من الجنوب الا أن طبيعة الجنوب وأدغاله وشكل النضال المسلح هو الذي ابرز هذه القضية بشكل واضح للعالم.
إذن الجنوب لم يكن منعزلاً عن الحركة الوطنية في الشمال وكان يتعامل معها سلباً وايجاباً ،وهذا يشكل الأساس الصلد المتين للوحدة والكفاح المشترك بين الشمال والجنوب من أجل الديمقراطية والتطور المتوازن وتوحيد الوطن على أسس ديمقراطية.


فشل المحاولات االقسرية في الانفصال أو الوحدة:-
أكدت تجارب السودان وغيره من البلدان أن مفتاح الحل للمسألة القومية أو العرقية، الديمقراطية بمعناها الشامل وبمضمونها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وتعلمنا دروس التاريخ بان الدول التي سنت دساتيرها على أساس القومية العرقية أو الطائفية الدينية جلبت على نفسها الكوارث مثل مآسي النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والطائفية الإيرانية ، والدولة الدينية التي قامت باسم الإسلام (الإنقاذ) في السودان بعد تجربة 13 عاماً كان حصادها الهشيم واتخذت الحرب طابعا دينياً وشردت 4 مليون وبلغ ضحاياها 2 مليون شخص حتى باتت تهدد وحدة السودان.
كما انفجرت المسألة القومية بعد انهيار الأنظمة الشمولية التي كانت سائدة في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوربا.وفي السودان تم إثبات هذه الحقيقة من الوقائع التالية :-
أ- فشل الاستعمار البريطاني في جعل الانفصال حقيقة واقعة بوسائل قسرية (قانون المناطق المقفولة ، السياسة اللغوية في مؤتمر الرجاف 1928م ، جعل اللغة الإنجليزية لغة رسمية، انفراد المبشرين بالتعليم في الجنوب حتى بداية الحكم الذاتي،عدم المساواة بين الموظفين الشماليين والجنوبيين ....الخ ).
وجاء مؤتمر جوبا عام 1947م ورغم تدخل وضغوط الإداريين الإنجليز ليؤكد رغبة الجنوبيين في الوحدة مع الشمال وقيام مجلس تشريعي واحد في السودان.
ب- فشل ديكتاتورية عبود (الحكم العسكري الأول) في فرض الحل العسكري أو فرض الإسلام أو اللغة العربية بوسائل قسرية أو محاربة المسيحية والتبشير بوسائل قسرية وكانت النتيجة هي تعميق المشكلة واتساع رقعتها بدلاً من حلها ،أي فشلت الوحدة على أسس قسرية.
ج- فشل نظام نميري الشمولي في حل مشكلة الجنوب رغم اتخاذه التدابير الآتية:ـ
* بيان 9/ يونيو/ 1969م الذي افتقر لابسط مقومات الحل وهو غياب الديمقراطية ، وجاء الحل بواسطة انقلاب عسكري صادر الديمقراطية والحريات الأساسية في الشمال والجنوب فكيف يقدم هذا النظام حلاً ديمقراطياً للمشكلة ؟
* اتفاقية أديس أبابا في مارس 1972م ، ورغم ترحيب أهل السودان والدوائر الخارجية بوقف نزيف الدم الذي استمر لاكثر من 17 عاماً ، ألا أنها كانت تحمل عناصر فنائها في داخلها، وهي أنها صادرة من نظام ديكتاتوري شمولي غير مؤتمن علي المواثيق والعهود لافتقاده للشرعية ولغياب الديمقراطية وسيادة حكم الفرد .فكانت النتيجة أن انفجر التمرد في عام 1983م من جديد وبشكل أوسع من التمرد السابق الذي انفجر وبدا في أغسطس 1955م .
د- في الفترات التي سادت فيها الديمقراطية كانت هناك رغبة جماهيرية كبيرة من الأحزاب والشخصيات الوطنية لإيجاد حل للمشكلة مثل :-
* انعقاد مؤتمر المائدة المستديرة بعد ثورة أكتوبر 1964م ورغم فشل المؤتمر إلا انه كان خطوة هامة لتعرف الأحزاب الشمالية والجنوبية علي أفكار بعضها البعض من خلال الحوار.
* مقترحات الحلول المختلفة التي صدرت من الأحزاب ومن الهيئات والأفراد بعد انتفاضة مارس - أبريل 1985م مثل (مبادرة الميرغني- قرنق) وكادت أن تؤدي لحل المشكلة لولا أن قطعها انقلاب 30/يونيو/1989م.فزاد الجرح عمقاً والخرق اتساعاً في حرب لاتبقي ولاتذر لواحة للبشر ، لم يشهد لها تاريخنا السابق مثلاً من ناحية الخسائر ونزيف الدم والتكاليف الباهظة لتلك الحرب علي حساب قوت المواطنين وخدمات التعليم والصحة وتوقف التنمية ، ومقترحات الحلول التي قدمها نظام الإنقاذ مثل (الحكم الفيدرالي) ومبادرة السلام السودانية ، والتي ولدت ميته لأنها افتقرت لابسط مقومات الحل وهو الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية في الشمال والجنوب.
هـ - أكدت التجارب في السودان أن القيم الثقافية واللغات والأديان لا تنتشر وتزدهر ألا عبر الديمقراطية بمفهومها الواسع (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي) وحرية الضمير والمعتقد ، وعبر الروابط الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية تنتشر وبشكل حر وطبيعي اللغات والديانات ، فعلي سبيل المثال بعد انفراد المبشرين المسيحيين لاكثر من قرن بالتبشير في الجنوب لنشر تعاليم المسيحية ونشاط المبشرين المكثف خلال تلك الفترة كانت الحصيلة حسب إحصاء 1956م أن 10% من سكان الجنوب مسيحيون ومسلمون (أي اقل من 10% للمسلمين) وحتى إذا أخذنا بإحصاء مجلس الكنائس في كتابه السنوي للتبشير الصادر في 1981م نجد أن 65% من سكان الجنوب وثنيين ، 18% مسلمين ، 17% مسيحيين . ورغم انفراد المبشرين المسيحيين بالتعليم في الجنوب لاكثر من نصف قرن خلال فترة الاستعمار البريطاني نجد أن نسبة المسلمين في الإحصاء الأخير اكبر من نسبة المسيحين وان اغلبيه سكان الجنوب وثنيين ، وكذلك كانت اللغة العربية بشكل طبيعي أداة تفاهم بين قبائل الجنوب .
وخلاصة القول ، أكدت التجربة الطويلة في السودان استحالة التوحيد أو الانفصال علي أسس قسرية غير ديمقراطية ، وتوحيد الوطن يجب أن يتم علي أسس اختيارية طوعيه وديمقراطية.


(11)
توحيد الوطن علي أسس طوعيه وديمقراطية* (2)
خلال فترة الحكم التركي بذلت جهود من اجل نشر التعليم والصحة وسط قبائل الجنوب وفقاً لتعاليم المسيح عليه السلام . فنشر التعليم والصحة كان جانباً ايجابياً . والجانب الإيجابي الأخر هو تجربة كتابة الإنجيل بلغة الباريا أو الدينكا ، كيف يتم الاستفادة من هذه التجربة في استخدام اللغات المحلية في التعليم في الجنوب ؟
ولابد من تقدير تضحيات الرواد الأوائل من المبشرين والذين عانوا من الأمراض ( الملاريا ، جدري……الخ ) وهم ينشرون التعليم ويقدمون الخدمات العلاجية في أدغال وأحراش الجنوب ، ويسهمون في إدخال الحضارة والمدنية في طريقة الأكل والشرب واستخدام الملابس .
وهذا جانب جيد ومحمود من المبشرين المسيحين الأوائل رغم الأهداف الاستعمارية التي كانت خلف بعض جمعيات التبشير ، والتي كان الغرض منها استكشاف ثروات وإمكانات تلك المناطق تمهيداً لربطها بالنظام الاستعماري والسوق الرأسمالي العالمي.
الجانب الإيجابي الأخر الإنساني كان العمل علي وقف تجارة الرقيق ، تلك التجارة اللعينة اللاإنسانية وتعبئة الرأي العام العالمي ضدها وهذا عمل محمود . ولكن بعض الإرساليات أخطأت حين صورت هذه التجارة من جانب واحد فقط باعتبار أن المسؤولين عنها العرب الشماليين وحدهم ولم تعالجها كجزء من تجارة كونية كانت سائدة في العالم اسهم فيها تجار من قوميات مختلفة (أوروبيون ، عرب، سودانيون شماليون ، وجنوبيون ، ... الخ )
* خلال فترة الحكم الإنجليزي المصري عام 1898ـ1956م انفردت المؤسسات التبشيرية ولحوالي نصف قرن بالتعليم في الجنوب وقاومت هذه المؤسسات أي محاولات لتعليم حكومي مستقل عنها حتى عام 1948م .
وعندما نتناول التعليم التبشيري في الفترة نلحظ الاتي :ـ
أ‌ كانت المؤسسات التبشيرية محدودة القدرات والإمكانيات لدرجة انها كانت تتلقي مساعدات من الحكومة في فترات مختلفة للتوسع في التعليم . ورغم ذلك عارضت تلك المؤسسات التوسع في التعليم وسط الجنوبيين بطريقة مستقلة عنها ، أي عارضت إدخال تعليم حكومي أو أهلي سوداني في الجنوب ، فلا المؤسسات التبشيرية وإمكانياتها المحدودة استطاعت بمفردها ان توسع من قاعدة التعليم وسط الجنوبيين ، ولافتحت الطريق لتوسيعه بطريقة حكومية او أهلية أخرى .
ب- حتي عام 1948م كان الشرط لتلقي التعليم بواسطة المؤسسات التبشيرية هو اعتناق المسيحية وهذا جانب سلبي اذ انه ربط تلقي التعليم باعتناق المسيحية او التعميد . مما يشير الا ان التعليم لم يكن ديمقراطياً . مما يحرم الاغلبية الوثنية من التعليم من ابناء الجنوب .
ج- اتخاذ وسائل قسرية من السلطات البريطانية مثل :-
• فرض اللغة الانجليزية كلغة رسمية.
• مقاومة مساواة اجور الموظفين الشماليين والجنوبيين .
• توجيه التعليم في وجهه دعائيه ضد الشماليين عموماً باعتبارهم احفاد تجار الرقيق دون الشرح الموضوعي لجذور تجار الرقيق .
د- ركز التعليم التبشيري في البداية علي أبناء زعماء القبائل وابناء الرقيق الذين تم تحريرهم مع بداية الحكم البريطاني وهذا كان له الأثر في خلق بعض الكادر الجنوبي الأول من السياسيين الذين تلقوا توجيهات خاطئة بواسطة تلك المؤسسات ضد الشمال والشماليين عموماً.
هـ- التعليم التبشيري لم يكن موحداً ، بل ان كل إرسالية كان لها نظمها التعليمية الخاصة بها وبعضها كان يركز علي التعليم النظري والبعض الآخر مثل (الإرسالية الكاثوليكية) ركزت علي التعليم الفني والمهني .
وعدم التوحيد هذا لم يسهم في خلق شعور قومي موحد وسط الجنوبيين . مما اسهم في تعميق الخلافات والصراعات القبلية وسط المثقفين الجنوبيين فيما بعد .
العقلية الاستعلائية
المقصود بالعقلية الاستعلائية هي تلك الحالة الفكرية والعقلية التي تنظر للقبائل الزنجية في الجنوب وفي وضع اقل او ادني ، أي النظرة العنصرية او العرقية ورغم زوال نظام الرق نهائياً كنظام انتاجي وكتجارة مع بداية القرن الماضي الا ان البنية الفوقية لهذا النظام ظلت وستظل مستمرة ، فالبنية الفوقية (الفكرية) لاتزول تلقائياً بزوال اساسها المادي .بل تستمر لفترة طويلة حتي بعد زوال اساسها المادي او الاقتصادي والعلاقة بين البنية التحتية (الاقتصادية) والبنية الفوقية ليست آلية (ميكانيكية) فهي علاقة انعكاس معقد .
استمرت العقلية الاستعلائية وسط بعض الشماليين التي تعامل الجنوبيين وكأنهم اقل من الحقوق الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو المهنية أو الاجتماعية بين الشماليين والتي تتعامل معهم من خلال الاستعلاء والنظرة العرقية المتعصبة وسط بعض الجنوبيين استمرت آثار المعاملة غير الإنسانية أثناء تجارة الرقيق واستغلال الجلابة لابناء الجنوب .
استمرت وسوف تستمر هذه الرواسب التي خلقت جرحاً لن يندمل بسهولة من الأحقاد والضغائن الناجم عن اضطهاد القرون ، وتبقي حزازات النفوس كما هيا كما قال الشاعر وهذه حقيقة موضوعية لانقفز من فوقها ويجب مواجهتها ومناقشاتها بجرأة ومعالجتها من خلال العمل الفكري الثقافي الدؤوب ومن خلال التوضيح والشرح وتصحيح العلاقة بين الشمال والجنوب والاعتراف فعلاً لا قولاً بالمساواة التامة بين قبائل وشعوب الجنوب والشماليين وحسب مواثيق حقوق الإنسان والاعتراف فعلاً لا قولاً بالفوارق العرقية والثقافية .
كما أن هذه المشكلة يحلها التطور الإنساني والفكري والثقافي العام للإنسان السوداني في الشمال والجنوب .
هذا إضافة للعوامل الأخرى منها التطور الاقتصادي والاجتماعي غير المتوزان بين الشمال والجنوب والذي كان له انعكاسه في تعميق جذور المشكلة .
العقلية الاستعلائية كانت واضحة منذ ظهور الحركة الوطنية الحديثة خلال ثورة 1924م ومعلوم أن بعض قادة جمعية اللواء الأبيض كانوا من القبائل الجنوبية أو الزنجية وان أحراش الجنوب كانت معقلاً من معاقل ثورة 1924م ومعلوم ايضاً أن بعض القيادات الدينية والقبلية وكبار التجار وكبار الخريجين الذين وصلوا لمراكز إدارية مرموقة في جهاز الدولة الاستعماري وكانوا ضد جمعية اللواء الأبيض وعلي وفاق مع الإنجليز وعلي خلاف مع شعار وحدة وادي النيل الذي كانت ترفعة جمعية اللواء الأبيض .
وقد وصفت (صحيفة الحضارة) جمعية اللواء الأبيض بما يلي " علي الجمعية أن تدرك أن الأمة تشعر بالإساءة عندما ينبريء اقل الرجال شأناً واوضعهم مكانة في المجتمع بالتظاهر بأنهم يعبرون عن فكرة الأمة " .
وكاتب صحيفة الحضارة هنا كان يعبر عن العقلية الاستعلائية التي كانت تري في علي عبد اللطيف انه من اقل الرجال شأناً وأوضعهم مكاناً في المجتمع لا لسبب ألا لأصوله الزنجية ومضت المقالة تقول
أن نشاط الجمعية (يسبب الإزعاج للطبقة التجارية ودوائر المال) وناشدت جميع الوطنيين الحقيقيين (إلى سحق أولاد الشوارع والموالين لمصر) وفي مقالة أخري وصلت الحضارة إلى حد القول (أن أمة يقودها علي عبد اللطيف هي أمة وضيعة) ، والعقلية الاستعلائية هنا كانت واضحة في عدم الاعتراف بالحقوق السياسية للجنوبيين قبل الاستقلال والإصرار علي الأجر غير المتساوي للعمل المتساوي . الخ . ولم تعترف الأحزاب الكبيرة للجنوبيين بأي وضع خاص في إطار السودان الموحد (فيدرالية تقرير المصير) ولم تنتبه تلك الأحزاب ألا بعد تمرد عام 1955م .
بعد تمرد عام 1955م تم الاعتراف بالحكم الإقليمي والفيدرالية ( برنامج الجبهة الإسلامية) . حالياً تم الاعتراف بحق تقرير المصير وهذه خطوة للإمام جاءت نتيجة لنضال الجنوبيين المستمر وهي خطوة للأمام بدلاً من التعامي ودفن الرؤوس في الرمال , إلى الاعتراف بالمشكلة .
وهذا نتاج نضال الجنوبيين والقوة الديمقراطية في الشمال وتطور الفكر الإنساني الرافض للتفرقة العنصرية والتمييز بين الناس علي أساس اللون او الجنس او العرق .
ومن الأشكال الجديدة للاستغلال التي كانت تعبر عن العقلية الاستعلائية كانت ضريبة الرأس والضرائب الباهظة علي الأبقار وعمل السخرة ، والأجر غير المتساوي بين العمال الجنوبيين والشماليين ومحاولات فرض اللغة العربية والدين الإسلامي علي الجنوبيين بالقسر .
* ومع نهوض الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية في أواخر الأربعينيات واوائل الخمسينيات من القرن الماضي نال الجنوبيون بعض الحقوق مثل :-
أ- الحقوق والحريات الديمقراطية والمدنية .
ب- كسر طوق المناطق المقفولة .
ج- المشاركة في الانتخابات البرلمانية .
د- الأجر المتساوي للعمل المتساوي بين الموظفين الشماليين والجنوبيين.
هـ- الزيادة في التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية .
* العقلية الاستعلائية ايضاً تجلت في الوعود التي كان يقدمها زعماء الأحزاب الشمالية الكبيرة للجنوبيين في أول برلمان سوداني ولم يتم الوفاء بالعهود. مثال جماعة بولين الير (1954ـ1955م) والتي وثقت بشكل مطلق في الحزب الوطني الاتحادي الذي لم ينجز وعودها في التنمية الاقتصادية ، والأجر المتساوي للعمل المتساوي، ومناصب معقولة في السودنة ، إلغاء ضريبة الدقنية ، .... الخ) ، إضافة لعدم تنفيذ وعد الأحزاب الحاكمة للجنوبيين بالفيدرالية عشية الاستقلال . كما نشير إلى خطأ بعض الساسة الجنوبيين الذين كانوا يؤيدون الحزب الذي كان يدفع اكثر لهم ، وخطأ هؤلاء لايقل عن خطأ الذين يدفعون لهم لكسب أصواتهم في البرلمان . وهؤلاء كانوا من أسباب تفاقم المشكلة . كانت العقلية الاستعلائية واضحة في النظم العسكرية التي صادرت الديمقراطية في الشمال والجنوب والتي اعتمدت القسر والعنف والحل العسكري للمشكلة ومحاولة فرض الإسلام واللغة العربية بوسائل قسرية وقهرية ، لا بالتي هي احسن وبوسائل سلمية واقتصادية وطبيعية وإنسانية وهذه العقلية لاتقل في دوافعها وضيق افقها عن عقلية المبشرين المسيحيين الأوائل الذين حاولوا فرض المسيحية من خلال عزل الجنوب عن الشمال بوسائل قسرية ...... الخ . والعقلية الاستعلائية أنتجت وسط بعض الساسة والقادة الجنوبيين رد الفعل المتطرف غير الموضوعي ضد كل ما هو شمالي وعدم إمكانية أي تعايش بين الشمال والجنوب باعتبارهما قومتين مختلفتين تماماً ثقافياً وعرقياً ، وبالتالي فان الحل الوحيد هو الانفصال ، أي الحل الأحادي الجانب الانفصال حتي لوكان بوسائل قسرية والحل الأحادي الجانب الأخر هو حل بعض الأحزاب الشمالية التي تري الحل في الوحدة حتى لو كانت بوسائل قسرية .
الانفصال القسري أو الوحدة القسرية هما شعارا قطبي التطرف من بعض الشماليين والجنوبيين وتوحيد الوطن يجب أن يقوم علي حرية الإرادة والاختيار وعلي أسس ديمقراطية .



(12)
نشأة وتطور المنظمات المدنية السودانية*
منذ مملكة كرمة ، بدأ يشهد سودان وادي النيل مولد المدنية ، وظل الخط البياني للمدنية السودانية صاعداً في ممالك نبتة وممالك النوبة المسيحية والسلطنات الإسلامية (الفونج، الفور، تقلي ....الخ) .
شهدت تلك المدنيات إعمار الأرض بالزراعة وتربية الماشية وقيام المدن والأسواق وعمليات التبادل التجاري واللغات المكتوبة والفنون الجميلة التي لازالت أثارها واقفة في إطلال وعاديات تلك الحضارات والمدنيات ، كما تطورت الصناعات الحرفية . ومع تلك التطورات التقنية كانت أشكال التنظيم الاجتماعي تتطور من البسيط للمعقد ومن أشكال ضيقة إلى أشكال أوسع وارحب . ويمكن تقسيم أشكال التنظيم التي تبلورت في الفترات التاريخية المختلفة في السودان علي النحو التالي :ـ
1- التنظيم القبلي
2- لتنظيم الديني( صوفي,طائفي...)
3- المنظمات المدنية (أحزاب,اتحادات,نقابات,أندية,جمعيات خيرية تعاونيات……الخ)
وهذا التقسيم يعكس مراحل تطور لا اكثر ، ذلك أن هذة الأشكال يمكن كلها أن تتواجد في المجتمع السوداني. فنجد أن التنظيم القبلي والتنظيم الصوفي والطائفي مع تنظيمات المجتمع المدني والتي تعكس التباين والتفاوت في مستويات تطور المجتمع السوداني 0
على إن التقسيم يهدف لتوضيح التسلسل والتطور في التنظيم والفكر التنظيمي في السودان, وهذا يدل على أن السودانيين عرفوا كل الأشكال التنظيمية القبلية والدينية والمدنية التي مرت بها كل بلدان العالم المتحضر, مثلما عرفوا الأديان الوثنية والمسيحية والإسلام وعرفوا الأفكار السياسية والاقتصادية والثقافية المختلفة ، أي نتاج الفكر الإنساني الحديث بحكم ارتباطهم بالعالم وتفاعلهم سلباً وايجاباً مع تلك الأفكار .
اولاً التنظيم القبلي :-
هو الشكل البدائي للتنظيم الذي كان سائداً في السودان واساس هذا التنظيم هو زعيم القبيلة والذي غالباً ما تكون سلطته وراثية ، وله نفوذه السياسي والاجتماعي والاقتصادي في القبيلة ، كم أن طاعته ملزمة لبقية أفراد القبيلة ، ويمتلك النفوذ المادي والروحي الذي يجعله يفرض مشيئة على رعاياه ,فإذا كانت القبيلة رعوية ، فشيخ أو زعيم القبيلة والذي ينظم توزيع المراعى والمراحيل ويحددها للبطون المختلفة للقبيلة . وإذا كانت زراعية فهو الذي يوزع الأرض ويكون له نصيب معلوم في خراجها ، كما أن نفوذه الاقتصادي يتمثل في امتلاكه لاكبر عدد ممكن من قطعان الجمال أو الضان ، ويتزوج اكبر عدد من النساء. في القبائل الزراعية تكون له قطعة ارض يعمل فيها أفراد القبيلة بتطوع ويتصدي زعيم القبيلة لمشاكل إفراد القبيلة اليومية ويحلها اعتماداً علي الأعراف والقوانين المحلية .
كان النظام القبلي في ذروته قبل وبعد وقيام سلطنات الفونج والفور وتقلي. الخ ، وفي مملكة الفونج نشاء الاتحاد القبلي ( الفونجي - العبدلابي ) لاسباب منها حماية أمن القوافل التجارية التي ازدهرت في ايام الفونج ،وكانت تجارة القوافل من خلال طرق معلومة الي خارج السودان وبلاد الحجاز والهند . وتطور اقتصاد السلعة - النقد أيام الفونج وظهر التعامل النقدي كما ظهرت ألا سواق في المدن التجارية الكبيرة مثل سنار وشندي وبربر وسواكن .... الخ وكان ذلك من العوامل التي أدت إلى ظهور علائق وتنظيمات ارقي من التنظيمات القبيلة واصبح شكل القبيلة رغم انه كان طاغياً لايتلائم مع التطورات الاقتصادية خاصة بعد ظهور أنظمة جديدة لملكية الأرض الزراعية والرعوية وتمليك سلطان الفونج أو الفور الأرض لرعاياه بحجج معلومة وبشروط معينه ، وهكذا بدأ الناس يتعاملون مع سلطة أوسع من سلطة زعيم القبيلة ، واصبحت سلطة القبيلة محصورة في الشئون المحلية ولكن هذه القبائل لها ارتباطاتها وعلائقها ومنافعها الاقتصادية مع القبائل الأخرى . وبدأت الشريعة الإسلامية تحل محل العُرف (نُظم الميراث) وفقاً للمذهب المالكي للأحوال الشخصية إذ أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية ولغة المكاتبات والتمليك ولغة المخاطبة واللهجات المحلية . وهكذا اصبح النظام القبلي لا يتناسب مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت .
ثانياً التنظيم الصوفي :ـ
قبل وبعد أيام الفونج ازدهرت التنظيمات الدينية والصوفية والتي كانت ارقي واكثر تطوراً من التنظيمات القبلية وكانت تعبر عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتي بدا يشهدها السودان في العهد السناري . التنظيم الصوفي بحكم أساسه الديني وفقاً للطريقة المعينة أو الطائفة النعينة يضم أفراداً لعدة قبائل وبالتالي جسّد شكلاً أوسع وارقي من التنظيم القبلي . فبعد أن كانت لكل قبيلة في شمال السودان شلوخها المعينة التي تميزهاعن القبيلة الأخرى اصبح لكل طريقة صوفية شلوخها المعينة وكان هذا تعبيراً عن أن المجتمع السوداني كان سائرأ في شكل جنيني نحو الانصهار القومي فقد لعبت التجارة والتطورات الاقتصادية وتطور نظام (السلعة – النقد) وظهور الأسواق والمدن دوراً كبيراً في ذلك ، وكان ذلك الشكل هو الشكل الملائم .
نشأت التنظيمات الصوفية مستقلة عن دولة الفونج ، وكان لزعماء الطرق الصوفية نفوذ كبير وسط السودانيين والحكام ، كما لعبت دوراً كبيراً في نشر الثقافة العربية الإسلامية وتعليم اللغة العربية من خلال الخلاوي التي انتشرت في ربوع ممالك سنار والفور وتقلي .
يقوم التنظيم الصوفي علي أساس الشيخ والمريد ، ومحور التنظيم هو الشيخ الذي يدور حوله التنظيم ، تقوم علاقة المريد مع الشيخ علي الطاعة المطلقة ، وكما هو الحال بالنسبة لاغلب القبائل ، فان المشيخة في التنظيم تكون بالوراثة .
وهذه هي طبيعة العلاقة في التنظيمات الصوفية أو الطائفية التي يمتلك الشيخ في يده مفاتيح كل شي في الطريقة ويعاونه خلفاء يعينهم الشيخ أو يعطيهم الراية في قبائلهم أو مناطقهم.
كان ملوك الفونج يمنحون شيوخ الطرق الصوفية اقطاعات معينة من الأرض معفية من الخراج ويعمل فيها المريدون أو الحيران الذين يدرسون في الخلاوي مقابل بركات ودعوات الشيخ .وكان بعض الشيوخ أصحاب غني وثروة وبالتالي ازداد نفوذ بعض زعماء الطرق الصوفية فجمعوا بين السلطة الروحية والنفوذ الاقتصادي من خلال الأراضي وقطعان الماشية والجمال والضان والثروات الضخمة التي كانوا يملكونها ، هذا إضافة للهدايا (الزكاة) التي كان يتلقاها الشيوخ من المريدين في شكل نقدي أو عيني : ذرة ،اراضي زراعية ، ماشية ، بلح ، عبيد.. الخ .
وكانوا الشيوخ يقومون بحفظ التوازن الاجتماعي بالتوزيع علي الفقراء والمحتاجين .
ومن الطرق الصوفية التي كان لها تأثير في مشيخة العبدلاب هي الطريقة القادرية.
هكذا تطور التنظيم السياسي والاجتماعي في السودان في تلك الفترة متخذاً شكل الطريقة الصوفية الذي كان ارقي من تنظيم القبيلة وكان تعبيراً عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدها السودان في تلك الفترة ولكن النظام الإقطاعي أيام الفونج لم يعد هو الشكل الملائم لتطور الطبقة التجارية التي توسعت وازدادت ثروتها ودخلت في تناقض مع السلطان الذي كان يحتكر تجارة الذهب والرقيق وبدا يشكل عقبة أمام تطور التجارة بجانب تقلبات العملة والنقد الذي كان يتحكم فيه السلطان ، كل ذلك بدا يؤدي إلى صراع بين السلطان والتجار ، إضافة إلى تفكك دولة الفونج في أيامها الأخيرة لاشتداد الصدمات القبلية مما عرقل التجارة مع الخارج ، هذا إضافة لتطور الحياة الاقتصادية وظهور المدن والأسواق والنقد وما عاد النظام الإقطاعي هو الملائم لاستيعاب التطورات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة ولكن التطور والصراع لم يؤخذ مساره الطبيعي ، بل تم دخول عامل خارجي دفع للتطورات الاقتصادية والاجتماعية إلى وضع جديد رغم العملية القسرية التي تم بها فكان الاحتلال التركي للسودان وتوحيده في وحدات إدارية جديدة بعد ضم مديريات دارفور والجنوب ، وهكذا ظهر السودان تقريباً بحدوده الحالية والتي هي أوسع من الحدود السابقة .وبدأت القبائل والطرق الصوفية تنصهر وتطورت بدرجة اكبر في ظروف واوضاع جديدة نتيجة للحروب والضرائب الباهظة التي فرت منها اغلب قبائل الشمال إلى مناطق أخري في السودان ، إضافة لتهجير القسري وظهور المدن والأسواق الكبيرة وتطور التجارة واتساع دائرة المدنية وظهور أشكال اقتصادية جديدة كل ذلك أدى إلى ظهور طوائف جديدة كبيرة وعريضة عبرت عن تلك الفترة الجديدة ، وهكذا أزدهرت طائفة الختمية وتوسع نفوذها في شرق السودان ووسط وشمال السودان وشمال كردفان ، وكان هذا تعبيراً عن تنظيم اكبر وارقي من التنظيمات الصوفية السابقة الصغيرة ، وكانت ملائمة للظروف الجديدة ، واصبح نفوذ الختمية الاقتصادي كبيراً : ملكية الأراضي والجنائن في الشمالية وشرق السودان ، وبهذا الشكل توسع نفوذ الختمية الاقتصادي والروحي أيام الحكم التركي .
ولكن تناقضات الحكم التركي وصلت إلى قمتها وما عادة الحياة تطاق في ظل الحكم التركي وتوفرت عوامل موضوعية وذاتية أدت إلى انفجار ونجاح الثورة المهدية ، وكانت الأيدلوجية المهدية هي أيدلوجية الثورة ، والثورة المهدية كانت خطوة كبيرة في توحيد قبائل السودان شماله وجنوبه ضد الاستعمار التركي ، وكانت خطوة في طريق الانصهار القومي رغم أن الأيدلوجية التي تم التعبير بها عن الثورة انبثقت من واقع الناس ومن المؤسسات والطرق الصوفية التي كانت منتشرة آنذاك، وبالتالي كانت أيدلوجية دينية ، رغم ذلك نجد أن القومية أو الوطنية السودانية عبرت عن نفسها بذلك الشكل الديني والذي كان تعبيراً عن واقع الناس يومئذ ، النقطة المتصلة بموضوعنا أن الأمام المهدي حاول إنشاء طريقة جديدة توحد شتات كل الطرق الصوفية مستنداً إلى أن المهدية خاتمة المطاف ، ولذا الغي المهدي الطرق الصوفية ،ووضع نفسه بديلاً لكل الشيوخ بل الغي حتى المذاهب الأربعة وأصبحت المهدية هي المصدر الوحيد لتعاليم الدين والأيمان بل ارتبط الأيمان الديني بالأيمان بالمهدي واعتبر الخروج عن المهدية كفراً.
كان التعبير رغم انه كان قسرياً واتخذ شكلاً دينياً ،محاولة لخلق انصهار قومي ووطني جديد وكان نجاح الثورة في أيامها الأولى وتوحيدها لقبائل شمال وجنوب السودان ، فنجد قبائل مثل الدينكا والشلك تتجاوب مع الثورة المهدية ، ما الذي يجمع بين قبائل الجنوب الزنجية وقبائل الشمال أن لم تكن الوطنية أو القومية السودانية التي حاولت أن تعبر عن نفسها في مقاومة الحكم الأجنبي ؟
حاول الأمام المهدي أيجاد طريقة اشمل وأوسع لصهر قبائل السودان رغم عدم واقعية ذلك الطرح، فالناس لاتتخلي بسهولة عن طرقها الصوفية أو انتمائها السابق بسهولة ولا بالقسر.
كانت رغبة ولكنها كانت خطوة هامة في تطور القومية السودانية كما حدث خلال فترة الكفاح المسلح أيام المهدية الأولى وخلال فترة الخليفة عبدالله من تهجير القبائل الكاملة بطريقة قسرية إلى أمد رمان ووسط السودان وتكوين جيش نظامي قومي من قبائل مختلفة …الخ.
كل ذلك اسهم في صهر ودمج النظام القبلي، وفترة المهدية فتحت الطريق أمام تطورات جديدة ارقي في التنظيم السياسي .
ثالثاً التنظيم المدني :ـ
وجاء الاحتلال الإنجليزي المصري للسودان عام 1898م ليتم من اندماج السودان من جديد للسوق الرأسمالي العالمي وبالتيارات الفكرية والسياسية والثقافية والعلمية بعد ان انفصل عنها واستقل لمدة 13 عاماً هي عمر الدولة المهدية .
وبدأت المقاومة الدينية والقبلية الأولى للحكم الثنائي والتي استمرت إلى أواخر العشرينيات من القرن الماضي ، وتمكن الاستعمار الإنجليزي من القضاء علي تلك المقاومة ، وتطورت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وظهرت مؤسسات التعليم المدني الحديث والقضاء المدني وقامت السكك الحديدية وميناء بور تسودان وتطورت المدن والأسواق ، وانتشر التعامل بالنقد( الجنيه المصري) بشكل أوسع وارتبطت أطراف السودان وازدهرت تجارة القطن والماشية والصمغ ،وفي المدن بدأت القبائل تنصهر بشكل أوسع وازدادت الهجرة من الأرياف إلى المدن.
وهكذا تطورت الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ونشأت طبقات وفئات جديدة: عمال،عمال زراعيين ، متعلمين، وتجار .... الخ .
وبدأت تظهر منظمات المجتمع المدني مثل جمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض التي قادت ثورة 1924م، وكذلك ظهر مؤتمر الخريجين، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت الأحزاب السياسية واتحادات العمال والمزارعين والطلاب والمهنيين والموظفين والشباب والنساء ،بالإضافة للحركة التعاونية والتنظيمات الخيرية المتنوعة التي شهدها المجتمع السوداني .
ومع تطور تنظيمات المجتمع المدني نجد السيد إسماعيل الأزهري يؤلف كتاباً بعنوان (الطريق إلى البرلمان) يوضح طريقة تكوين الجمعيات وكتابة دساتيرها، وتحديد واجبات المسئولين فيها من رئيس وأعضاء وتنظيم أعمالها ،و إدارة جلساتها وتوضيح مفاتيح الكلام في اجتماعاتها من سؤال واستجواب أو خطاب أو تقرير أو اقتراح ، وتقسيم هذه الاقتراحات لمعرفة أنواعها ودرجاتها وأغراضها ونتائجها.
وفي صراع الإدارة البريطانية مع الحركة الوطنية حاولت إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستندت إلى الموروثات القديمة التي ما عادت تتمشى مع التطورات الجديدة وما عادت تنسجم مع إيقاعات الحياة الجديدة لمحاربة الحركة الوطنية وحركة الخريجين والوعي الجديد ومنظمات المجتمع المدني الجديدة ،فنجدها كرست الإدارة الأهلية والقبلية مقابل الإدارة الحديثة التي كانت تتمشى مع التطورات الجديدة، فنجدها حاولت تكريس الانقسامات القبلية والطائفية والعرقية ،كما حاولت أحياء النظام القبلي الذي بداء يتخلخل نتيجة التطورات الجديدة وحاولت عزل قبائل الشمال عن الجنوب من خلال قانون المناطق المقفولة الذي كان سارياً في الجنوب وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة والشرق، وحاربت الإدارة البريطانية منظمات المجتمع المدني الحديثة من خلال قانون الجمعيات غير المشروعة بعد فشل ثورة 1924م .
وهكذا عرقلت الإدارة البريطانية التنظيمات السياسية والاجتماعية والفئوية الحديثة، ولكن الحياة فرضت نفسها وتطور التنظيم المدني الحديث وانتزع السودانيون حقهم في التنظيم السياسي والحزبي والنقابي بعد النهوض الواسع للحركة الوطنية والجماهيرية بعد الحرب العالمية الثانية .
كما لعبت تنظيمات المجتمع المدني دوراً كبيراً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بعد الاستقلال .
هكذا تطور التنظيم في السودان من أشكال بدائية قبلية إلى تنظيمات صوفية ثم إلى تنظيمات المجتمع المدني .


(13)
التعدد الاثني في المواثيق السودانية*

كان بحثاً شاقاً وطويلاً عن صيغة لتعايش سلمي ديمقراطي للمجموعات الاثنية في السودان ، توصلت الحركة السياسية السودانية في ذلك البحث إلى مواثيق ، أشارت إلى الداء والدواء .
ولكن مشكلة البلاد حتى الآن لم تصل إلى النظام الديمقراطي المستدام الذي يضع حداً للحلقة المفرغة التي شهدها السودان منذ الاستقلال : ديمقراطية - انقلاب عسكري - ديمقراطية ....الخ وعلي سبيل المثال لا الحصر :
* كفل دستور 1973م الذي جاء بعد اتفاقية أديس ابابا الحقوق والحريات الأساسية فيما يختص بالمسألة الاثنية والدينية في المواد 38، 47،52،56.والتي أشارت إلى الآتي :ـ
1/ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تميز بسبب اللغة أو الدين أو العرق أو المركز الاقتصادي أو الاجتماعي .
2/ حرية العقيدة والضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية .
3/ حظر السخرة والعمل الإجباري .
4/ حق الأجر المتساوي للعمل المتساوي .
5/ حق استعمال الاقليات للغاتها وتطوير ثقافاتها.
ولكن كعب أخيل ، كان النظام الشمولي أو حكم الفرد الذي كان سائداً في الفترة (1969- 1985م ) والذي أجهض اتفاقية أديس ابابا، واندلعت نيران التمرد من جديد ، وازداد الأمر تعقيداً بعد صدور قوانين سبتمبر 1983م .
* بعد اتفاقية مارس ـ أبريل 1985م تواصلت الجهود لحل المسألة الاثنية ، فكان إعلان كوكادام الذي وقعة وفد التجمع الوطني لإنقاذ البلاد ووفد الحركة الشعبية لتحرير السودان في 24/ مارس/1986م ، والذي أشار إلى إلغاء قوانين سبتمبر 1983م وجميع القوانين المقيدة للحريات ، واعتمد دستور 1956م المعدل في 1964م ، مع تضمين الحكم الإقليمي وكافة القضايا الأخرى التي تجمع عليها القوي السياسية ، وكان من ضمن الأجندة التي اتفق عليها في إعلان كوكادام للمؤتمر الدستوري : مسالة القوميات ، المسالة الدينية ، الحقوق الأساسية لإنسان ، التنمية والتنمية غير المتوازنة .... الخ
* وبعد ذلك جاءت مبادرة السلام السودانية (الميرغيي - قرنق) في 16/نوفمبر 1988م والتي تم فيها الاتفاق علي تهيئة المناخ الملائم لقيام المؤتمر الدستوري ، والذي يتلخص في الأتي :ـ
1/ تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمنة في قوانين سبتمبر 1983م ، وان لاتصدر إيه قوانين تحتوي علي مثل تلك المواد وذلك إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري والفصل نهائياً في مسالة القوانين .
2/ كما اتفق الطرفان علي ضرورة عقد المؤتمر الدستوري ، ولكن انقلاب 30/يونيو/1989م قطع مسار ذلك الحل ، وتم الرجوع للمربع الأول ، وتصاعدت الحرب الأهلية ، ودخلت المسالة الاثنية في مرحلة اكثر تعقيداً وخطورة .
* تواصلت الجهود للحل الديمقراطي لقضايا التعدد الاثني والديني في السودان ، فنجد إعلان نيروبي 1993م الذي أشار إلى أن تضمن القوانين المساواة الكاملة للمواطنين علي أساس المواطنة واحترام المعتقدات الدينية والتقاليد ودون تميز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة .
أشار إعلان المبادئ لمجموعة الإيقاد يوليو 1994م إلى الأتي :ـ
1/ السودان مجتمع متعدد الأعراق والاثنيات والديانات والثقافات يجب الإدراك والاستيعاب التامين لكل أنواع التنوع هذه .
2/ يجب أن يكفل القانون المساواة السياسية والاجتماعية الكاملة بين كل المواطنين في السودان .
3/ يجب التأكيد علي حق تقرير المصير علي أساس الفيدرالية ، الحكم الذاتي ... الخ لكل أهالي المناطق المختلفة .
4/ يجب أن تقوم بالسودان دولة ديمقراطية علمانية تكفل حرية الاعتقاد والعبادة لكل المواطنين السودانيين ، يجب فصل الدين عن الدولة ، يجوز للدين والأعراف أن تكون اساساً لقوانين الأحوال الشخصية .
* كان مؤتمر القضايا المصيرية : اسمرا في يونيو 1995م ، نقطة تحول حرجة في فكر الحركة السياسية السودانية فيما يتعلق بالتعدد الاثني والديني في السودان .
أشار البيان الختامي لمؤتمر القضايا المصيرية إلى حق تقرير المصير كحق اصيل وأساسي وديمقراطي للشعوب ، وان تعمل سلطة التجمع الوطني خلال الفترة الانتقالية علي بناء الثقة واعادة صياغة الدولة السودانية حتى تأتى ممارسة حق تقرير المصير دعماً لخيار الوحدة .
فيما يختص بالدين والسياسة في السودان أشار البيان إلى الأتي :ـ
1/ أن كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة في المواثيق والعهود الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان ، تشكل جزءاً لا يتجزأ من دستور السودان ، وأي قانون أو مرسوم أو قرار أو أجراء مخالف لذلك يعتبر باطلاً وغير دستوري .
2/ يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً علي حق المواطنة واحترام المعتقدات والتقاليد وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة ، ويبطل أي قانون يصدر مخالفاً لذلك ويعتبر غير دستوري .
3/ لا يجوز لأي حزب سياسي أن يؤسس علي أساس ديني .
4/ تعترف الدولة وتحترم تعدد الأديان وكريم المعتقدات وتلزم نفسها بالعمل علي تحقيق التعايش والتفاعل السلمي والمساواة والتسامح وتمنع الإكراه ، وأي فعل ، أو أجراء يحرض علي إثارة النعرات الدينية والكراهية والعنصرية في أي مكان أو منبر أو موقع في السودان
5/ يلتزم التجمع الوطني الديمقراطي بصيانة كرامة المرأة السودانية ويؤكد علي دورها في الحركة الوطنية السودانية ، ويعترف لها بالحقوق والواجبات المضمنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان .
6/ تؤسس البرامج الإعلامية والتعليمية والثقافية القومية علي الالتزام بالمواثيق والعهود وحقوق الإنسان الإقليمية والدولية .
* في ابريل 1997م تمت اتفاقية السلام بين حكومة السودان وبعض الفصائل المقاتلة في جنوب السودان ، أشارت الاتفاقية إلى أن :
1/ السودان مجتمع متعدد الأعراق والثقافات والديانات ، والإسلام دين الغالبية من السكان ، والمسيحية والمعتقدات الأفريقية لها اتباع معتبرين من المواطنين ، لكن المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات ويشارك جميع السودانيين بحكم مواطنتهم علي وجة المساواة في المسؤليات السياسية .
2/ تكفل حرية الدين والاعتقاد والعبادة .
3/ يجب توفير المناخ الملائم لممارسة الشعائر التعبدية والدعوة والتبشير والوعظ .
4/ لا يكره أي مواطن علي اعتناق أي دين أو معتقد .
5/ لا يجوز سن تشريع يضر بالحقوق الدينية لأي مواطن .
6/ في موضوع الشريعة .
أ/ الشريعة والعرف هما مصدرا التشريع .
ب/ اتفقت الأطراف علي صيغة تطبيق القوانين العامةالمستنبطة من القواعد العامة المشتركة بين الولايات تطبيقاً قومياً بينما يكون للولايات ذات الخصوصية أن تسن قوانين مكملة للقوانين الاتحادية فيما يتعلق بخصوصيتها ، وذلك إضافة إلي حق الولايات في التشريع فيما يليها من اختصاصات بما فيها العرف وتقنينه .
ولكن الاتفاقية فشلت في وقف نزيف الحرب الأهلية نسبة لطابعها الجزئي وغياب الحل الشامل الذي تشترك فيه كل أطراف النزاع والذي يشترط الديمقراطية والتحول الديمقراطي .
* أشار دستور جمهورية السودان (1998م) إلى أن جميع الناس متساوون أمام القضاء والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة ، ولا يجوز التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية وهم متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة لا يتمايزون بالمال , كما أشارت المادة (27) يكفل لآي طائفة أو مجموعة من المواطنين حقها في المحافظة علي ثقافتها الخاصة أو لغتها أو دينها وتنشئة أبنائها طوعاً في إطار تلك الخصوصية ولا يجوز طمسهاً إكراها .
كما تم تضمين تقرير المصير في دستور 1998م بعد اتفاقية السلام بين حكومة السودان وبعض الفصائل المقاتلة في جنوب السودان ، ولكن الأزمة ظلت مستمرة ومستحكمة لغياب الحل الشامل والديمقراطية0
• وفى 25/نوفمبر /1999م ، ثم توقيع نداء الوطن بين السيد الصادق المهدى والرئيس عمر البشير، أشار النداء إلى ان :
1/ تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية .
2/ لا تنال أي مجموعة وطنية امتيازاً بين انتمائها الديني والثقافي أو الاثنى .
3/تراعى المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وتكون ملزمة..
4/ الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية والاثنية في السودان
ولكن النداء ظل حبراً على ورق، لم يجد طريقة إلى الواقع وظلت الأزمة مستمرة واستحكمت حلقاتها حتى بات بنيان البلاد على شفاء جُرف هارِ على وشك الانهيار، فالوصاية الدولية على الأبواب ، بعد أن اصبح التدخل الدولي حقيقة ماثلة بعد تقرير السناتور دانفورث الأخير .

الخلاصة :ـ
وصفوة القول في هذا العرض السريع لبعض المواثيق السودانية فيما يختص بقضايا التعدد الاثني في السودان يمكن أن نصل إلى الأتي :
1/ السودان بعمقه الحضاري والتاريخي يمثل نسيجاً وعقداً فريداً في التنوع الاثنى والثقافي والديني واللغوي، فقد تعاقبت علية ألوان طيف متعددة من حضارات شادتها اثنيات متنوعة منذ حضارة كرمة ونبتة ومروى ومملكة النوبة المسيحية وسلطنتي الفونج والفور ومملكة تقلى ... إلى الخ .
هذا التنوع الماثل هو نتاج تفاعل وتطور تاريخي وثقافي لا يمكن تجاهلة والقفز من فوق ،وهذا ما أكدته المواثيق السودانية .
2/الديمقراطية شرط لاغنى عنة لازدهار وتطور التنوع الاثنى والثقافي في السودان
3/الإطار المناسب للتعايش السلمي: الاثنى والديني والثقافي هو الدولة المدنية الديمقراطية التعددية التي تمثل الشجرة الظليلة الوارفة لازدهار ذلك التنوع ،ولدعم الوحدة في تنوعها.
4/ علي أن الدولة المدنية الديمقراطية التعددية ليست وحدها المفتاح السحري لحل القضايا الاثنية في السودان ، فلابد من استكمال ذلك بأحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتوازنة ، وتوفير احتياجات الإنسان السوداني الأساسية .



عن المؤلف:ـ


• تاج السر عثمان الحاج
• اللقب : السر بابو.
• من أبناء أمبكول بمنطقة مروي بالولاية الشمالية.
• من مواليد مدينة عطبرة، يناير 1952م.
• تلقي تعليمه الأولي والاوسط والثانوي بمدينة عطبرة.
• تخرج في جامعة الخرطوم- علوم رياضيات – ابريل 1978م.
• عمل معلما للرياضيات بمدارس العاصمة الثانوية، ثم بعد ذلك تخصص في التاريخ الاجتماعي للسودان.
• باحث ومهتم بتاريخ السودان الاجتماعي.
• صدر له:
تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي، دار عزة 2003م.
لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004م.
تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي، مكتبة الشريف 2005م.
النفط والصراع السياسي في السودان، بالاشتراك مع عادل احمد ابراهيم، مكتبة الشريف 2005م. - خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية، الشركة العالمية 2006م.
الجذور التاريخية للتهميش في السودان، مكتبة الشريف 2006م.
التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي في السودان، مركز محمد عمر بشير 2006م.
تطور المرأة السودانية وخصوصيتها، دار عزة 2006م
الدولة السودانية: النشأة والخصائص، الشركة العالمية 2007م.
تقويم نقدي لتجربة الحزب الشيوعي السوداني( 1946- 1989م)، دار عزة 2008م.
دراسة في برنامج الحزب الشيوعي السوداني، الشركة العالمية 2009م.
أوراق في تجديد الماركسية، الشركة العالمية 2010م.
دراسات في التاريح الاجتماعي للمهدية، مركز عبد الكريم ميرغني 2010م
قضايا المناطق المهمشة في السودان، الشركة العالمية 2014م.
كاتب صحفي وله عدة دراسات ومقالات ومنشورة في الصحف السودانية والمواقع الالكترونية، ومشارك في العديد من السمنارات وورش العمل داخل وخارج السودان.
عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني .



#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو الإضراب السياسي العام والعصيان المدني
- كتاب الرأسمالية السودانية : النشأة والتطور والخصائص
- ثورة شعب السودان تدخل شهرها الثاني
- بعد ملحمة أم درمان النظام في طريقه للانهيار
- كتاب الإسلام السياسي وتجربته في السودان
- شعب السودان يشق طريقه نحو اسقاط النظام
- اتساع الحراك الجماهيري في السودان
- تقدم الحركة الجماهيرية وتراجع النظام بعد موكب 31 ديسمبر
- كتاب دراسة في برنامج الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
- الذكرى 53 لاستقلال السودان
- كتاب خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية
- 25 ديسمبر خطوة متقدمة نحو الانتصار
- انتفاضة 19 ديسمبر تدخل مرحلة متقدمة
- الوحدة واليقظة ضمان انتصار الشعب
- 19 ديسمبر ذكرى الاستقلال من داخل البرلمان
- فرنسا تنهض ضد برنامج - الصدمة -.
- لا بديل غير الحل الشامل
- الوضوح النظري والسياسي لما حدث في 19 يوليو 1971
- الذكرى السابعة لرحيل المناضل التجاني الطيب


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - تاج السر عثمان - كتاب الدولة السودانية : النشأة والخصائص