أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - الصهيونية العمالية في فلسطين: منهج الاستيطان المحض















المزيد.....



الصهيونية العمالية في فلسطين: منهج الاستيطان المحض


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 6120 - 2019 / 1 / 20 - 10:38
المحور: القضية الفلسطينية
    


لعب الإيديولوجية الصهيونية العمالية و الأحزاب و المؤسسات الناتجة عنها دورا مركزيا في نشاط الحركة الصهيونية في فلسطين منذ ثلاثينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي, وكان لها, منذ العام 1948, مسارا مصيريا حاسما افترق فيه المشروع الصهيوني عن غيره من المشاريع الاستعمارية الاستيطانية المماثلة. ويثير كتاب غيرشون شافير الصادر في العام 1989 بعنوان "الأرض والعمل وأصول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، 1882-1914 " جدلا قويا في أن اعتماد استراتيجية تقوم على النزعة الاقتصادية الانفصالية واستبعاد العمالة العربية المحلية في نهاية الحقبة العثمانية في فلسطين , إنما كان بسبب تعاطي الصهيونية العمالية مع الأرض و سوق العمل أكثر من كونه تعاطي إيديولوجي مجرد, وكما يقول شافير أدى هذا المسعى في نهاية المطاف إلى قبول معظم الصهاينة للمساومة الإقليمية في العام 1948. ويقدم شافير هنا مقاربة بديلة عن تلك الرومنسية و المثالية التي تتناول بدايات الحركة الصهيونية في فلسطين, و الأوليات التي يرى شافير أن الصهيونية العمالية أولتها اهتمامها للتكيف مع الظروف المحلية في فلسطين و وصفه للفترة ما قبل العام 1914 , حيث دمجت فترة التكوين الأساسي للتاريخ الصهيوني / الإسرائيلي الدور المركزي على وجه الخصوص للإكراه وعنف الدولة (ليس من قبل الحركة الصهيونية وإسرائيل فحسب ولكن أيضا من قبل الدولة الاستعمارية البريطانية ، وفيما بعد ، من قبل الولايات المتحدة) في تحقيق وإدامة دولة يهودية تهيمن الآن على كل فلسطين وتستمر في إخضاع السكان الأصليين, و يمكن فهم منهج عمل شافير باستخدام المقارنة التي قدمها مفكر صهيوني عمالي في عشرينيات القرن الماضي بين يهود فلسطين و الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا . و وفق هذا المنظور ,لا يسعنا النظر إلى حقبة الصهيونية العمالية "المعتدلة" باعتبارها المعيار الذي افترقت عنه إسرائيل بعد العام 1967, بل ينظر لها كمرحلة من تاريخ طويل تميزت في أحيان كثيرة بمنطق نزع الملكية و التوسع و الهيمنة.
وفي حين كان المشروع الصهيوني في فلسطين يحمل سمات هامة مشتركة مع مشاريع استعمارية استيطانية أخرى في العصر الحديث, فقد امتلك ما يميزه من خصائص محددة (1). وإحدى هذه السمات المميزة للصهيونية المميزة هي الهيمنة الواضحة لحركة اجتماعية سياسية عرّفت ذاتها ليس كحركة صهيونية فحسب بل و إلى حد ما كحركة اشتراكية أيضا , لفترة امتدت لأكثر من نصف قرن ( من أوائل ثلاثينات القرن الماضي حتى سبعينياته) , هذه الحركة المتنوعة والمتصارعة داخليا في كثير من الأحيان و التي هيمنت على القيادة و على الكثير من المؤسسات الهامة للجالية اليهودية في فلسطين ( الييشوف) منذ قيام إسرائيل في العام 1948 ( الدولة التي خلقتها الصهيونية ) هي ما يمكن وصفها باسم " الصهيونية العمالية" التي اعتبرت أن الطبقة العاملة اليهودية والحركة العمالية في فلسطين بمثابة طليعة المشروع الصهيوني للهجرة والاستيطان وبناء الدولة ، وقد مارست في ذروة قوتها هذه الهيمنة عبر شبكة كثيفة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي صاغت بصورة قوية العديد من مجالات الحياة اليهودية في فلسطين ما قبل الدولة ثم في إسرائيل. غير أن هذه الهيمنة بدأت بالتآكل في السبعينيات، وفي العقود التي أعقبت انتصار اليمين الصهيوني في انتخابات العام 1977، تفسخت قواعد قوتها التي كانت تتبجح بها في السابق أو تم تفكيكها. ونتيجة لذلك، ازدادت هامشية حزب العمل الإسرائيلي، وأطراف اليسار الصهيوني الأخرى والمؤسسات التابعة له في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الإسرائيلية اليهودية.
نال الدور المركزي الذي لعبته الصهيونية العمالية في هذه الفترة التاريخية الطويلة قدرا كبيرا من الاهتمام البحثي(2). وهنا أشارك بشكل نقدي بما أعتبره التحليل الأكاديمي الأكثر إبداعًا وإثارة للاهتمام لدور الصهيونية العمالية في صياغة المشروع الصهيوني في بدايته، باستخدام مقال - تم تجاهله إلى حد كبير من قبل الباحثين - نشر في أواخر عشرينيات القرن الماضي لمفكر وقائد عمالي صهيوني بارز، استكشف فيه أنه يمكن للصهيونية العمالية الاستفادة من دروس “الفصل حسب اللون" في جنوب إفريقيا و تطبيقها في فلسطين. إن غرضي من القيام بذلك هو تسليط الضوء ليس فقط على بعض العوامل والديناميكيات التي ساعدت في إعطاء المشروع الصهيوني طابعه الخاص وتمييزه عن مشاريع مماثلة في أماكن أخرى ، ولكن أيضا لفهم أفضل لما هو مشترك بينها، لاسيما فيما يتعلق بالطرق التي يحكم فيها الإكراه والعنف وعمل الدولة العلاقة بين المستوطنين أو الأقليات السائدة من ناحية والسكان الأصليين من جهة أخرى, في فلسطين كما في أي مكان آخر
تفكيك الصبغة الأسطورية للصهيونية المبكرة في فلسطين
يطعن عالم الاجتماع غيرشون شافير في كتابه "الأرض والعمل" وأصل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، 1882-1914 في افتراض التيار الرئيسي للباحثين في تاريخ الصهيونية( وهم في معظمهم صهاينة) بأن الأفكار والقيم التي جلبها معهم العديد من اليهود القادمين من شرق أوروبا والذين استقروا في فلسطين في فترة الهجرة الثانية "عليا " (1904-1914) يمكنها أن تحدد بصورة جيدة السمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الرئيسية للييشوف، وتاليا إسرائيل في أول عقدين أو ثلاثة من وجودها(3) .فعلى سبيل المثال، تفترض الكثير من الأدبيات التقليدية (والإسرائيلية الشعبية) أن إنشاء الكيبوتز وغيره من أشكال المشاريع الجماعية أو التعاونية، والقوة الاجتماعية والسياسية للحركة الصهيونية العمالية، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والسياسات التي ميزت إسرائيل في عقودها المبكرة نبعت من القيم الاشتراكية التي اكتسبها رواد "الهجرة الثانية" هؤلاء (المؤسطرين بشدة ) [يعرفون باسم حالوتزيم halutzim]) في أوروبا و ثم سعوا لتحقيقها في فلسطين(4). و بديلا عن هذه الصورة[الأسطورية[ يعتمد شافير على الإرث التاريخي-الاجتماعي الذي يمثله بارينغتون مور وتصنيف أشكال الاستيطان الأوروبي في الخارج المستمد من أعمال دي.كي. فيلدهاوس وجورج فريدريكسون لإنتاج تحليل أكثر مادية لتطور المشروع الصهيوني المبكر (5). و لم يعر شافير كبير اهتمام إلى تلك الأفكار والرؤى التي كانت محشوة برؤوس رواد الهجرة الثانية عندما نزلوا من قواربهم القادمة من أوروبا، بل اهتم أكثر بطبيعة و عقابيل تفاعلاتهم مع الظروف على الأرض في فلسطين نفسها. وانصبه جهده المركزي على طبيعة استجاباتهم -التي أنجزوها في نهاية المطاف عبر صيرورة طويلة الأمد من التجربة والخطأ- إلى البيئة الاجتماعية الاقتصادية السلبية التي واجهوها هناك، لا سيما الأسواق المحلية للأرض والعمل، وفقا لما حملته تلك المجموعة من الصهاينة من رؤية بروليتارية و صراع طبقي غير مثبت من الناحية العملية في السياق الفلسطيني.
قدم شافير توصيفا إمبريقيا ثريا و إسهابا تاريخيا متينا وتحليليا محفزا للكيفية التي قامت فيها الحركة الصهيونية العمالية المبكرة في فلسطين في بدايات العام 1914 بوضع حلول قابلة للاستمرار لمعضلتين رئيسيتين واجههما أعضاؤها (والمشروع الاستيطان الصهيوني الذي سعوا إلى قيادته و تشكيله). أولاً، بعد فشل الجهود لتأمين فرص عمل لهؤلاء الوافدين الجدد كعمال زراعيين مأجورين في مزارع يملكها اليهود، بسبب أجورهم المرتفعة وفرص العمل المحدودة، فتم اختراع شكل جديد من أشكال الاستيطان الزراعي الجماعي[أي الكيبوتس] ( الذي تلقى الدعم المالي والتقني من المنظمة الصهيونية التي يقودها البرجوازيين) يمكنه أن يستوعب المهاجرين الجدد ويحافظ عليهم بفعالية أكبر ويساعد على تحقيق الاستيطان اليهودي على الأرض. ثانياً, تخلت الحركة الصهيونية العمالية الناشئة في الفترة ذاتها (بعد الكثير من الجدل والخلاف) عن جوانب رئيسية من إيديولوجيتها الأولية واعتنقت العقائد المزدوجة "لاحتلال العمل" [كيبوش هعفودا] و "العمالة العبرية[ عفودا عفريت] .لم يتم تصوير هذه المبادئ على أنها مجرد تحويل المهاجرين اليهود (من الطبقة المتوسطة إلى حد كبير) إلى رواد عماليين مميزين (يفضلون أن يكونوا زراعيين) من خلال العمل الجسدي في القضية القومية، ولكن أيضا إنشاء طبقة عاملة يهودية آمنة في فلسطين من خلال الاستبعاد الأقصى في جميع قطاعات القطاع اليهودي في الاقتصاد المحلي للعمالة العربية المحلية ذات التكلفة الأقل. وهذا من شأنه أن يخلق أو يحافظ على فرص العمل في فلسطين للمهاجرين اليهود الحاليين والمستقبليين وبدون ذلك من المرجح أن يكون تأسيس مشروع الاستيطان الصهيوني موضع تساؤل.
تبنت الصهيونية بحلول العام 1914 استراتيجية تنمية اجتماعية اقتصادية تقوم على أساس الانفصال الاقتصادي واستبعاد العمالة العربية التي كان هدفها على المدى الطويل التطور المتدرج (المدعوم بشكل كبير من قبل الحركة الصهيونية الدولية) لاقتصاد يهودي حصري للعمالة اليهودية عالية الأجر في فلسطين, وهذا بدوره سيمكن في نهاية المطاف من إنشاء دولة يهودية قابلة للحياة(6). يصف شافير هذا النموذج ,بالاعتماد على تصنيف فيلدهاوس-فريدريكسون لأشكال الاستيطان الأوروبي، بأنه "الأسلوب الانفصالي للاستيطان المحض"، حيث يسعى أصحابه إلى إنشاء مجتمع مستوطن متجانس ومستقل لا يعتمد إلى حد كبير على( في الواقع يستبعد) العمالة المحلية(7). و يذكر شافير عن العواقب الهائلة على المسار المستقبلي للصهيونية في فلسطين التي نجمت عن تبني هذا المسار بحلول العام 1914 , فقد ساهم هذا الشكل الاستيطاني في صياغة جوانب المجتمع اليهودي في فلسطين (ومن ثم إسرائيل في العقود الأولى) بصورة حاسمة، الأمر الذي كرس بدوره أسس الهيمنة الاجتماعية والسياسية للصهيونية العمالية، حتى حين ارتكز استعداد الحركة في الفترة ما بين 1947-1949 لقبول دولة يهودية في جزء فقط من فلسطين – في مواجهة اليمين الصهيوني ، الذي رفض التقسيم وطالب بدولة يهودية في كل فلسطين.
كتاب غيرشون شافير بلا شك مؤلفا بارزا، بوصفه عمل ريادي في التحليل التاريخي الاجتماعي الذي فكك بصورة فعالة الكثير من الرومانسيات والأساطير التي اشتملت عليها الدراسات التي تناولت فترة الهجرة الثانية, لاسيما (وليس حصريا على كل حال ) من جانب الباحثين الإسرائيليين. إلى جانب أن الكتاب يعتبر الدراسة الأكثر تفصيلاً التي أنتجتها هذه الفترة ، فقد وفر الكتاب أيضا طريقة عالية الإنتاجية لوضع الصهيونية ضمن تصنيف المشروعات الاستعمارية الاستيطانية, وبهذا فهو, على هذا النحو, إسهاما هائلا في الأدبيات البحثية المتعلقة بالصهيونية.
على الرغم من مزاياه العديدة ،ثمة جوانب من حجة شافير يمكن للمرء أن يستغلها بشكل مفيد. على سبيل المثال، لاحظت في مكان آخر أنه على الرغم من أن تركيز شافير على الأرض وأسواق العمل مكنه من تقويض المقاربات المثالية والطوعية والإيديولوجية لتاريخ الصهيونية المبكر, إلا أن أسلوب التحليل (الذي ربما كان مفرطًا في الاقتصاد) يتعامل مع الأيديولوجية والثقافة والحياة السياسية كعوامل هامشية، مما يعني استبعاد بعض الأمور الهامة في القصة(8). فضلا عن المسألة التي تقول باستمرار الاستراتيجية الصهيونية العمالية و المؤسسات في التطور خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين, وعلى سبيل المثال . على سبيل المثال، لم يكتسب الكيبوتز شكله التنظيمي و أهميته سوى في في عشرينيات القرن الماضي ,و سوف يحتفظ الكيبوتز [ الذي أعاد شافير صياغته بذكاء و الذي يصفه " بطريقة سجالية" بأنه "النواة الحقيقية لتشكيل الدولة الإسرائيلية" (ص 184)] بشكله و أهميته السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية خلال نصف القرن التالي أو نحو ذلك, وفقط في أوائل الثلاثينيات ضمنت الصهيونية العمالية موقعها البارز بين مجموعة من القوى الاجتماعية والسياسية التي تناضل من أجل قيادة الييشوف والحركة الصهيونية. لذا يبدو من المعقول أن نسأل ما إذا كانت هذه التطورات وغيرها أمرا لا مفر منه، أو كما كان متوقعا قبل تطورات ما قبل العام 1914 ، كما قد يوحي شافير. ولتوسيع نطاق هذه المسألة , نقول بأن تحقيب شافير و اصراره على أن الخطوط الأساسية لمشروع المستوطنات الصهيونية قد تشكلت على نحو حاسم في الفترة 1904-1914 نتيجة الاعتماد المبكر لهذا على نموذج الاستيطان المحض ، يمكن اعتباره ضمنا أن جميع ما تبع ذلك كان في الأساس يتكشف عبر منطق، أو مجموعة متماسكة من الديناميكيات أو العمليات ناتجة عن القيود والاختيارات في فترة ما قبل عام 1914. قد يحجب هذا المنهج قدرتنا على رؤية التطور التاريخي للييشوف باعتبار أن تشكيله تم من خلال مجموعة واسعة من العوامل (وفي أغلب الأحيان طارئ) على طول المسار , وصولاً إلى العام 1948. والأهم من ذلك، أنه قد يحجب أيضا دور لإكراه وتدخل الدولة والعنف التي لعبت دورا في تسهيل تحقيق الاستراتيجية الصهيونية العمالية التي حددها شافير باعتبارها استراتيجية أساسية لتشكيل الدولة والمجتمع الإسرائيليين.
الصهيونية العمالية و مسألة "التنظيم المشترك"
لمعالجة هذه القضايا، أود أن أبدأ بلفت الانتباه إلى مقطع في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب شافير الذي ألمح بإيجاز كيف ولماذا يعتقد أن مسار الصهيونية التاريخي اختلف عن مسار جنوب أفريقيا: تم تحويل أهداف التيار الصهيوني السائد على الرغم من أننا ابتدأنا بالهدف المتطرف المتمثل في تفوق اليهود على مستوى حيازة الأرض في فلسطين، في ظل الظروف غير المبشرة [كذا] لاستعمار الأرض و أسواق العمل في هذا الجزء من الإمبراطورية العثمانية, فبعد أن فشلت الصهيونية في اجتذاب جماهير الشعب اليهودي واستمرارية اعتمادها على الدعم المالي الخارجي الهائل, ساهم هذا في الحد من طموحها و التغاضي عن مسار يحتمل أن يحولها عن مسار مشابه لجنوب أفريقيا : فسعت نحو نموذج من التطور الاقتصادي المتشعب لتقسيم الأرض, و على الرغم من أن هذه الاستراتيجية لم تنبع من تقدير التطلعات الوطنية الفلسطينية، بل من الحقائق التي لا مفر منها للديمغرافيا الفلسطينية ،فقد كان من المتوقع للحركة العمالية أن تقطع شوطا طويلا في طريق حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ثم أصبحت بعد ذلك وريثا له ، وفي الوقت نفسه التيار السائد في [المنظمة الصهيونية]. وبالتالي، التخلي التدريجي [بعد عام 1967] عن خطط التقسيم، مع رؤيتهم المرافقة لدولتين إسرائيلية و عربية جنبا إلى جنب في أرض إسرائيل / فلسطين، لصالح العودة إلى الأحلام المبكرة الداعية إلى التفوق في حيازة الأرض مع كل نتائجها المؤسفة، من شأنه أن يشير إلى الاستبدال النهائي و / أو التحول للحركة العمالية(9).
إن ﻣﻘﺎرﻧﺔ اﻟﻤﺴﺎر اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻠﻤﺸﺮوع اﻟﺼﻬﻴﻮﻧﻲ ﻣﻊ ﻣﺴﺎر ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ أخضع العديد ممن غامروا بتبنيها إلى الإساءات ذات الدوافع السياسية، وﻟﻜﻦ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ بحثية, ليس ثمة اعتراض جاد على مثل هذا التحليل المقارن, فحتى الصهاينة, في الواقع, وجدوا مثل هذه المقارنات مفيدة في بعض الأحيان، و سوف أتطرق هنا إلى مثال واحد: مقال لزعيم صهيوني عمالي بارز نُشر في أواخر العشرينات من القرن الماضي قارن فيه بوضوح وضع اليهود في فلسطين مع وضع الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا. قد تساعد مناقشة هذا المقال في توضيح بعض القيود التي يفرضها نهج شافير وتمكننا من الوصول إلى فهم أكثر شمولية لخصوصيات الصهيونية.
ولد مؤلف المقال حاييم أرلوسوروف في العام 1899 لعائلة من الطبقة المتوسطة في مدينة رومني، في أوكرانيا التي كانت حينها خاضعة للروس. و في العام 1905 فرت عائلته إلى ألمانيا هربا من موجة المذابح المعادية للسامية المدعومة من النظام القيصري لمواجهة الثورة التي اندلعت في ذلك العام (10). درس أورلوسوروف الاقتصاد في جامعة برلين, وأعد أطروحته فيها والتي كانت بعنوان (تحليل نقدي لمفهوم ماركس عن الصراع الطبقي) تحت إشراف فيرنر سومبارت. وأصبح أرلوسوروف صهيونيا مع مرور الوقت، وفي الواقع كان أحد قادة حزب هبوعيل هتسعير[ العامل الفتى] أو حزب العمل الصهيوني في ألمانيا، وهو تيار اشتراكي-ديمقراطي (لكنه غير ماركسي صريح) أصر على أن اليهود المستقرين في فلسطين يجب أن يحولوا أنفسهم إلى طبقة عاملة (زراعية بالدرجة الأولى) تكون بمثابة طليعة للخلاص الوطني للشعب اليهودي.
هاجر أرلوسوروف إلى فلسطين في العام 1924. بمزيج من العبقرية الشابة و الخبرة الجامعية الألمانية في مجال الاقتصاد -وهو أمر نادر الحدوث بين قادة الصهيونية العمالية, حيث لم يتجاوز معظمهم المدارس الثانوية في المدن الصغيرة في روسيا القيصرية و جل ما كانوا يجيدوه جدال غير بارع للإرث الاشتراكي الديمقراطي الروسي أكثر من كونه تحليلا شبه أكاديمي-ارتقى بسرعة ليصبح شخصية هامة ليس فقط في حزبه الخاص بل أيضا في الحركة الصهيونية ككل. وقد حظي باهتمام خاص بسبب تحليلاته للمسائل الاقتصادية والمالية الصهيونية، التي قدمت مبررات قوية للسياسات التي كانت الصهيونية العمالية تحث بها الحركة الصهيونية الدولية ككل في الوقت الذي كانت لاتزال فيه هذه الأخيرة يهيمن عليها(لا سيما خارج فلسطين) "صهاينة عموميين " غير اشتراكيين أو ربما معادين للاشتراكية. في تلك السنوات كان على كل من الصهاينة العموميين والصهاينة العماليين أن يواجهوا تحديًا من الفصيل "التنقيحي Revisionist’ " الجديد داخل الحركة الصهيونية الدولية. كان التنقيحين محبطين لإعطاء الأولوية لحركة العمل البطيء للهجرة والاستيطان ؛و طالبوا الصهيونية بدلاً من ذلك بتوجيه نفسها نحو تأمين السيطرة على كل فلسطين (بما في ذلك ما هو اليوم الأردن) في أقرب وقت ممكن و بأي وسيلة ممكنة ، حتى لو كان ذلك يعني التصادم ليس فقط مع الأغلبية العربية في البلاد بل و بريطانيا أيضا التي احتلت فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى و التي التزمت رسميا منذ وعد بلفور 1971 بحماية ودعم المشروع الصهيوني(11).
وبحلول صيف العام 1927 ، كان حاييم أرلوسوروف مشغولاً في تل أبيب - التي تأسست قبل أقل من عقدين من الزمن كأول مدينة حصرية يهودية في فلسطين- في صياغة مقال يمثل جوهر تدخله فيما رآه كسجال حاسم حول سياسة الحركة العمالية الصهيونية فيما يتعلق بقضية العلاقات مع العمال العرب في فلسطين التي كانت على رأس جدول أعمال المؤتمر الثالث القادم للمنظمة العامة للعمال العبريين في أرض إسرائيل، المعروف باسم الهستدروت ( هستدروت تعني بالعبرية "منظمة") (12). التي تأسست في العام 1920 ، سعت الهستدروت إلى تنظيم كل العمال اليهود في فلسطين وحشدهم لتنفيذ المهام الصهيونية الحاسمة في الهجرة والاستيطان والتنمية الاقتصادية, امتلكت الهستدروت نحو 25000 عضوا و شبكة متنامية من المؤسسات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية مما جعلها بحلول عشرينيات القرن الماضي بمثابة العجلة الرئيسية التي حاول فيها الحزبان الصهيونيان العماليان الرئيسيان- حزب أرلوسوروف هبوعيل هتسعير و الحزب الأكبر أحدوت هعفودا (اتحاد العمل ، بقيادة السكرتير العام للهستدروت ديفيد بن غوريون) – السعي لبناء قواعدهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية و و المضي حثيثا نحو (وقد نجحا في النهاية ) الهيمنة على الييشوف والحركة الصهيونية.
التزمت منظمة الهستدروت بثبات بمبادئ العمل العبري واحتلال العمل ، وهو ما سبق لي أن عرّفته (أو أعيد تعريفه) في فترة "الهجرة الثانية" ليعني تحقيق العمل اليهودي الحصري في كل مؤسسة يهودية في فلسطين., فضلا عن الالتزام بالحد الأقصى للعمالة اليهودية في القطاع العام. لقد اعتقد معظم الصهاينة العماليين أن هذه السياسات فقط هي التي يمكن أن تكفل خلق فرص عمل كافية أو تأمينها في فلسطين بالنسبة لليهود الذين اعتادوا على مستوى معيشي أوروبي ينافسهم الآن وفرة من عمالة عربية رخيصة (وغير منظمة تقريبا). كما اعتبر هؤلاء القادة أن هذه السياسات تعد شرطا أساسيا لا غنى عنه لخلق اقتصاد يهودي في فلسطين يكون مكتفيا ذاتيا و منفصلا عن الاقتصاد العربي ، قدر الإمكان.
على الرغم من احتضان الهستدروت الثابت لمبدأ العمل العبري ، الذي سعت إلى تطبيقه في مواجهة مقاومة قوية (وناجحة في كثير من الأحيان) من قبل بعض أرباب العمل اليهود (وخاصة أصحاب مزارع الحمضيات ومقاولي البناء) الذين أصروا على توظيف عمال عرب أكثر رخصا و أقل إزعاجا، هذه المنظمة والحزبين الصهيونيين العماليين اللذين كانا منذ أوائل عشرينيات القرن العشرين يتصارعان بشأن سياساتهما تجاه الطبقة العاملة العربية الوليدة في فلسطين ، والتي بدأت عناصر منها بتنظيم نفسها. وغالبا ما كانت القضية التي تواجه الهستدروت مؤطرة كمسألة "التنظيم المشترك": مع الأخذ في الاعتبار أولوية النضال من أجل العمل العبري، وكان السؤال الجوهري يتمثل في الشكل أو الإطار التنظيمي الذي ينبغي على اليهود استخدامه في مؤسسات "مختلطة" (عادة ما تعني الحكومة) وخاصةً شركة سكك حديد فلسطين للتعاون أو حتى التوحد مع العمال العرب سعياً وراء مصالحهم الاقتصادية المشتركة؟ و بصورة أكثر شمولا , كيف ينبغي للهستدروت، كمؤسسة مركزية للحركة الصهيونية العمالية ذات مهمة "قومية" ( أي صهيونية) و طبقة عمالية “يهودية"، أن تقيم علاقات تواصل مع العدد القليل من النقابات العربية الفلسطينية القائمة أو بعض الحركة العمالية العربية المستقبلية؟
وقد أدرك قادة الصهيونية العمالية تماما ,عند النظر في هذه الأسئلة، وجود معارضة عربية فلسطينية واسعة للصهيونية، بالرغم من رفضهم الشديد لشرعية النزعة القومية العربية الفلسطينية وأصالتها، كما أنكروا وجود أي قاعدة شعبية أو جماهيرية لها، وأصر أولئك الصهاينة العماليين ( شعبيا على الأقل) أن النزعة القومية هذه ليست سوى أداة في يد نخبة ضئيلة من ملّاك الأرض العرب الأثرياء و المسلمين المتزمتين الذين رأوا في التقدم والتنمية والتنوير الذي جلبته الصهيونية إلى فلسطين تهديداً لقدرتهم على السيطرة على الفلاحين و العمال العرب واستغلالهم. ومضى بن غوريون أبعد من ذلك إلى حد القول في العام 1924 إن مصير العامل اليهودي في فلسطين (وبالتالي المشروع الصهيوني) يرتبط ارتباطا وثيقا بمصير العامل العربي . فأعلن أنه في حين لا يوجد أساس لأي حل وسط أو اتفاق بين الحركة الصهيونية والقيادة القومية أو العمالية العربية الفلسطينية ، كان ثمة أساس محتمل للتفاهم والتعاون بين العمال العرب واليهود بما يخدم في نفس الوقت الأهداف الطويلة الأمد للصهيونية ، وخاصة أهداف الصهيونية العمالية. و تمكن بن غوريون, من خلال تمثيل الطبقة العاملة العربية الوليدة كحليف محتمل للصهيونية، من التغلب على التناقض الواضح بين التزامه الراسخ من ناحية بالأغلبية اليهودية و (في النهاية) دولة يهودية في فلسطين، و الالتزام الرسمي ناحية أخرى بالديمقراطية في الوقت الذي كان فيه الجدل محتدما حول مسألة مجلس تشريعي منتخب لفلسطين يمثل العرب واليهود (13).
و استمر بن غوريون في إثارة الجدل حول أشكال التحالف بين العمال اليهود والعرب كطريقة للتغلب على المشاكل التي تواجه الطبقة العاملة اليهودية في فلسطين، لاسيما منافسة العمالة العربية الرخيصة وذلك في المناقشة التي سبقت المؤتمر الثالث للهستدروت، الذي كان من المقرر عقده في تموز -يوليو 1927. وأصر بن غوريون و رفاقه في حزب أحدوت هعفودا على ضرورة بقاء الهستدروت كمنظمة يهودية وصهيونية حصرا والاستمرار في الكفاح من أجل العمل العبري. بيد أنهم كانوا يأملون كذلك تخفيف الضغط التنافسي على الهستدورت الذي تسببه العمالة العربية سواء في الوظائف أو أجور العمال اليهود من خلال قيام حكومة فلسطين أو النقابات العربية بتحسين أجور العمال العرب , و في خضم ذلك كان هناك فصيل صغير لكن مؤثر على يسار الطيف الصهيوني العمالي يطالب بنقل وظائف الهستدروت الصهيونية صراحة إلى هيئة أخرى ، وأن يعترف هذا الجسم الجديد بالعمال العرب وتحويل نفسه إلى أداة للصراع الطبقي العربي اليهودي. و بحسب رؤيتهم من شأن عملية التنمية الرأسمالية الحتمية في فلسطين ، التي أدت إلى نمو الطبقة العاملة العربية وتنظيمها ، ووصول العمال العرب إلى الأجور المرتفعة، في المستقبل غير البعيد أن تقضي على التهديد الذي تشكله العمالة لعربة الرخيصة وغير المنظمة. وقد أزال مثل هذا التكهن لأتباعه باطمئنان ودون أي تناقض بين التزامهم بالصهيونية من ناحية, التزامهم المعلن بالدولية البروليتارية والنضال الطبقي من ناحية أخرى (14).
أورلوسوروف و العمل العربي و اليهودي
هاجم حاييم أورلوسوروف, في مقالته حول مسألة التنظيم المشترك(15) التي نشرها في العام 1927 كلا الوضعين, مستحضرا بصورة ضمنية مهارته كخبير اقتصادي ذو تربية أكاديمة و سمعة عريقة كمحلل اجتماعي محنك, فطالب جميع الأحزاب وتيارات الحركة الاشتراكية العبرية في أرض إسرائيل[ المصطلح العبري لفلسطين] أن ترى الحقائق كما هي دون أن يقحموا هذه الحقائق بصورة قسرية في تصورات و مذاهب مسبقة. ولا ينبغي لهذه الحركة و تياراتها و قادتها الامتناع عن استخلاص الاستنتاجات المتعلقة بالمهام الأساسية للعامل العبري في هذا البلد حتى وإن كانت تلك الاستنتاجات تناقض بوضوح الصيغ المقبولة. وكانت مسألة العلاقات بين العمالة اليهودية والعربية , بالنسبة له من بين القضايا الأساسية التي تواجه المشروع الصهيوني, فقد كان لهذه العلاقة -كما راها أرلوسوروف- جانبين أولاً: "يواجه العامل العبري في كل خطوة يخطوها منافسه البدائي من السكان المحليين الذين تزيد معايير احتياجاتهم عن الصفر بقليل بخلاف العامل لعبري الذي يتمتع بمعيار أوروبي لتلبية احتياجاته" .و يكمن سبب الفرق الشاسع في الأجور المتحصل عليها لكل طرف في "الاختلاف الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الواسع الذي يفرق الشعبين في أرض إسرائيل عن الأخر ". ثانياً ، لم يكن العامل اليهودي ذو الأجر المرتفع في فلسطين مواطنا مولودا في البلد و ننخرط في اقتصاد وطني طبيعي, بل كان [بكلمات أرلوسوروف] مهاجرا و في ذات الوقت رائدا، وكان نضاله للحصول على عمل جزء من صراع الصهيونية في سبيل الهجرة والاستيطان. ومن ثم كان من المستحيل تجنب الصدامات الناجمة عن المنافسة بين العمال العرب واليهود. و كان البعض قد اقترح , لحل هذه المعضلة, أن تقوم منظمة الهستدروت بالالتزام التام بالتنظيم المشترك , انطلاقا من القناعة بأنه يمكن للعمل النقابي العربي اليهودي المشترك القضاء على (أو التخفيف على الأقل ) مشكلة المنافسة بينما يمهد في ذات الوقت الطريق نحو الشغل العبري بحدوده القصوى أو الحصرية في القطاع اليهودي ضمن الاقتصاد الفلسطيني, في الوقت الذي كان فيه أرلوسوروف يؤكد على أن مثل هذا المسار قد يقوض في الواقع الأساس الاقتصادي والاجتماعي لليشوف ويؤدي إلى تفاقم التوترات السياسية مع العرب, ومن هنا كانت الحاجة إلى تقصي موضوعي فيما إذا كان مثل هذا التنظيم المشترك قادر بأي حال من الأحوال على القضاء فعليا على "الصراعات الناجمة عن التنافس بين العمالة العبرية الحديثة والمكلفة، والعمالة العربية البدائية الرخيصة ، وتخلق للعمال العبرانيين شروطا أكثر ملائمة لخوض نضالهم". لغزو العمل والاستيطان ". وهذا بدوره يتطلب تحليلاً ديناميكيًا للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين اليهود والعرب في فلسطين يتقصى تأثير الهجرة اليهودية والاستيطان على الاقتصاد و المجتمع العربي في فلسطين، وايضا الطرق التي تأثر بها هذا الاقتصاد.
وكان أرلوسوروف قد لاحظ في خضم النقاش بشأن التنظيم المشترك قيام بن غوريون وآخرون برفع شعار "العمالة العربية في القطاع العربي، والعمالة اليهودية في القطاع اليهودي ، والعمال المختلطون في القطاع المختلط (الحكومي)". كان بن غوريون يصر على أنه عندما يستبعد العمال اليهود العمالة العربية الرخيصة من العمل في القطاع اليهودي ، فإنهم لا يقومون بذلك استنادا إلى معايير الفصل و التمييز بحق العرب على أساس قومي, بل كانوا يدافعون عن أنفسهم فقط كعمال منظمين من التهديد الذي تشكله العمالة الرخيصة غير المنظمة , وهو الأمر الذي سخر منه أرلوسوروف: فالعامل العربي الذي يجد نفسه فجأة ملقى خارج حدود المستوطنة العبرية التي يتعامل معها، وهذا ليس لكونه عربي، بل كونه عاملا غير منظم و بأجر رخيص و سوف يوضحون له أن "هذا النضال في اتجاهه التاريخي هو أيضا صراع لرفع المستوى المادي الاجتماعي للعامل العربي الذي يعيش في أرض إسرائيل" ... ولا شك هنا من وجود "التناقضات القومية الأساسية". و كما يرى أرلوسوروف فإن العمال العرب الذين يطردون من أعمالهم من غير الرجح أن يقتنعوا بمثل هذه الشعارات أو تساعدهم في تعزيتهم بسبب فقدانهم لوظائفهم.
كما وجد أرلوسوروف أيضا ـن مقاربة بن غوريون تلك خاطئة و خيالية بطرق أخرى¸ فمثلا: هل يرفض اليهود حقا التوظيف في القطاع العربي إذا أتيحت لهم الفرصة؟ في الواقع ، كان العمال اليهود قد انتقلوا بالفعل إلى القطاع العربي وأزاحوا العرب من بعض مراكزهم ، على سبيل المثال كانت عملية نقل الحمضيات من البيارات إلى ميناء يافا، حكرا لعقود عدة لأصحاب الجمال العرب قبل أن يأتي اليهود بشاحناتهم و يزاحموهم في عملهم. و بصورة اشمل , لم يكن الاقتصاد العربي و الاقتصاد اليهودي قطاعين منغلقين في وجه بعضهما البعض على الدرجة من الإحكام ؛ في الواقع ، كانت الحدود بينهما قابلة للاختراق, فقد كانت سلع الشركات اليهودية المصنعة عن طريق العمل العبري تجد طريقها للأسواق العربية , في الوقت ذاته الذي كانت فيه البضائع و المنتجات العربية تدخل في الاقتصاد اليهودي مما يدل على كيفية ارتباط كلا الاقتصادين ببعضهما البعض . غير أن ما كان يشغل بال أرلوسوروف هو مسالة العمالة العربية الرخيصة التي شكلت تهديدا متواصلا للعمالة اليهودية مرتفعة الأجر. كان هناك على الدوام عرض غير محدود تقريبا من العمالة العربية الرخيصة ليس من داخل فلسطين فحسب , بل و من بالبلدان المجاورة أيضا , ومثل هذا الواقع كان يعني استمرار الضغط على الوظائف و الأجور اليهودية, ولعل هذا ما كان يجعل من إصرار بن غوريون على عدم وجود تناقض قومي جوهري بين العمال و اليهود إصرارا سخيفا, نظرا لأن ولا مقاربة لمسألة التنظيم المشترك أخذت هذه الحقيقة الاقتصادية الجوهرية بعين الاعتبار. أما أولئك الذين يقعون على اليسار و الذين اعتقدوا أن التنظيم المشترك يمكنه تحقيق المساواة في الأجور بين العمال العرب و اليهود كانوا يتجاهلون ببساطة حقيقة أن فلسطين كانت بلدا فقيرا يقع في منطقة فقيرة و متخلفة و الأجور فيه متدنية. وكان من المرجح للتنظيم المشترك أن يتسبب في استبدال العمال اليهود بعمال عرب , مما يؤدي إلى انهيار المشروع الصهيوني , مما دفع في الواقع بالاقتصادي الاستيطاني اليهودي القائم على الاكتفاء الذاتي و العمالة اليهودية عالية الأجر , أن يكون اقتصاد مستورد لرأس المال , كما يقول ارلوسوروف, أي رأس المال المستثمر في فلسطين من قبل المهاجرين اليهود والمستثمرين ولكن الأهم من ذلك هو "رأس المال الوطني" الذي تنشطه مؤسسات المنظمة الصهيونية وتوجهه إلى فلسطين للاستيطان اليهودي والتنمية الاقتصادية.
مقارنة بين فلسطين و جنوب افريقيا
قام أرلوسوروف إلى منهجية عقد المقار نات في سبيل تدعيم حججه لتعزيز حججه ضد رؤى التنظيم المشترك التي كان يتبناها بن غوريون وخصومه في أقصى يسار الطيف الصهيوني كانت غايته من تلك المقارنات توضيح التحدي الذي تواجهه الحركة الصهيونية العمالية في فلسطين: فما هي الدولة الأخرى التي لامست ظروفاً مشابهة للظروف التي سيواجهها العمال اليهود في فلسطين؟ لم يكن من السهل العثور على حالات مماثلة ، فلا يوجد على وجه التقريب مثالا أو أمثله لجهود قام بها أشخاص يعملون في مستوطنة بمعيار احتياجات أوروبية لتحويل بلد ذي مستوى منخفض من الأجور أقل مما هو عليه من خلال هجرة العمالة الرخيصة إلى موقع للهجرة الجماعية و الاستيطان الجماعي دون استخدام وسائل قسرية. لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية-كنموذج- أية مقارنة مفيدة، لأسباب مختلفة، و الأمر ذاته ينطبق على أستراليا ونيوزيلندا، بسبب استبعاد هذه النماذج بصورة كبيرة المهاجرين غير البيض. وخلص أرلوسوروف, في النهاية, وبعد استعراضه للاحتمالات المختلفة إلى أن "إقليم دولة جنوب أفريقيا، ومسألة العمل هناك، هو المثال الوحيد الذي يتشابه بشكل كافٍ مع الظروف الموضوعية والمشاكل التي تسمح لنا بالمقارنة". و الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من هذه المقارنة, كما يرى, كانت لها آثار واضحة على سياسة الصهيونية العمالية في فلسطين ، على الرغم من الاختلافات بين القضيتين.
ابتدأ أرلوسوروف بالإشارة إلى أنه في العام 1922 كان في جنوب أفريقيا حوالي 1.5 مليون شخص من أصول أوروبية ونحو 5.5 مليون غير أوروبي ، منهم 97٪ أفارقة أو من أجناس مختلطة.
كان العمال المحليون يفوقون عدد العمال الأوروبيين إلى ح كبير في قطاعات الزراعة والتصنيع وتعدين الذهب، على الرغم من احتكار الأوروبيون للحرف لتي تتطلب المهارة العالية و الوظائف شبه الماهرة و وظائف الإشراف وبالتالي كانوا يتلقون رواتب أعلى بكثير, ومن أجل الحفاظ على المكانة المميزة للعمال البيض، منعت جنوب أفريقيا تدفق المزيد من المهاجرين من آسيا, ومن ثم ، بدءا من قانون العمل و المناجم للعام 1911 (الذي يشار إليه عموما باسم "قانون الفصل حسب اللون Color Bar Act ") الذي حافظ على تقسيمات عريضة من سوق العمل لصالح البيض. كما ذهبت حكومة الائتلاف الوطني - العمل الجديدة التي جاءت إلى السلطة في عام 1924 في أعقاب (وردا على) القمع الدموي لـ "تمرد راند"[ إضراب عام ضخم وانتفاضة من قبل عمال المناجم البيض] إلى ما هو أبعد حين تبنت ما أصبح يعرف باسم "سياسة العمل المتحضرة" ، المصممة لحماية وظائف العمال البيض ذوي الأجور العالية ووضعهم المميز باستبعاد الأفارقة وغيرهم من غير البيض من قطاعات واسعة من سوق العمل. تجلت هذه السياسة في سلسلة من القوانين واللوائح و التشريعات التي منحت نقابات (البيض) الاعتراف الرسمي وحقوق المساومة الجماعية، وحمت العمال البيض من المنافسة غير البيضاء في سوق العمل من خلال تحديد الحد الأدنى للأجور وظروف العمل بمعيار "أوروبي" ، و عززت فعالية الفصل حسب اللون في المناجم و في العديد من قطاعات الصناعات الأخرى في جميع أنحاء البلاد. جنبا إلى جنب مع سلسلة القوانين التي سعت لتقييد الأفارقة في " المحميات المحلية " والسيطرة على حركتهم، وهو الاساس الذي تم وضعه لم سيتم توسعيه بعد العام 1948 وتقويته وتنظيمه في منظومة فصل عنصري[أبارتيد] كاملة (16).
لم يكن أرلوسوروف معنيا هنا بالمسالة الأخلاقية لمثل هذه الإجراءات : لا يهم إذا كنا نرفض هذه السياسة [...] أو نسوغها. البعد السياسي الكلي للمسألة لا ينبغي له أن يقارن [بفلسطين] ولا أن يأخذنا نحن [اليهود في فلسطين] بعين الاعتبار , فما هم هنا هو تسليط الضوء على العوامل الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية التي جلبت ، بشكل صحيح أو عن طريق الخطأ ، قوانين الفصل حسب اللون .
جادل أرلوسوروف بمواجهة العمال اليهود من حيث هم سوقا تهيمن عليه عمالة عربية وفيرة و رخيصة مما يجعلهم قريبي الشبه مع وضع العمال البض في جنوب أفريقيا . ويصر , بطبيعة الحال على أنه لم يكن بإمكانهم في ظل الوضع السياسي في فلسطين متابعة المسار الذي اتبعه العمال البيض المنظمون في جنوب إفريقيا، أي استبعاد غير اليهود من الوظائف ذات الأجور المرتفعة من خلال التشريعات وتعليمات الدولة. ولا يمكن أن يلعب التنظيم المشترك أي دور مفيد ، نظراً للارتباطات بين الاقتصادين العربي واليهودي في فلسطين: فربما لا يمكن مواجهة قوى سوق العمل ، وبالتالي لن تؤدي إلا إلى زيادة الضغط على الأجور اليهودية ، مما يؤدي في النهاية إلى طرد معظم العمال اليهود من فلسطين. قد تؤدي جهود التنظيم المشترك إلى تفاقم التوترات السياسية بين العرب واليهود. وخلص أرلوسوروف إلى أنه "ما دام هناك مستويان للأجور في أرض إسرائيل"، فإن الاقتصاد المحلي [العربي] واقتصاد المستوطنات [اليهودية] ليسا اقتصادا واحد, ونتيجة لذلك لم يتبلور مجتمع العمال في جسم واحد، وينبغي أن تتطور الحركات "العمالية" لكلا الشعبين بشكل مستقل في مجالين منفصلين. و باختصار، و على الرغم من الشعارات والتأكيدات التي تقدم بها بن غوريون والمعارضة الصهيونية اليسارية فقد كان للصراع بين العمال اليهود والعرب في فلسطين جذور اقتصادية حقيقية وأبعاد قومية قوية، ولم يكن بالإمكان التخلص منها أو حلها بسهولة أو بسرعة. وتنبأ أرلوسوروف بأن فلسطين , ولعقود قادمة ستحتوي من ناحية على اقتصاد يهودي حديث ذو عمالة مرتفعة الأجر الذي سيتم تدعيم توسعه عن طريق رأس المال و من ناحية أخرى اقتصاد العربي ذو عمالة منخفضة الأجر يتكيف تدريجيا مع الاقتصاد اليهودي, كان الرد الوحيد من الناحية الاقتصادية على وضع العمال اليهود في فلسطين هو أن تنسي الحركة العمالية اليهودية التنظيم المشترك وما شابه ذلك من المدافعات, وتسعى عوض عن ذلك (وبدعم من الحركة الصهيونية الأوسع) جاهدة إلى رفع الأجور الحقيقية ومستويات المعيشة للعمال اليهود من خلال الاستثمار في البنية التحتية والخدمات، وفي نفس الوقت رفع إنتاجية القطاع اليهودي من خلال الاستثمار في التدريب المهني والتقني. قد يساعد في هذا أيضا قيام حكومة فلسطين بإغلاق حدود البلاد أمام العمال المهاجرين من البلدان المجاورة ؛ غير أنه, وعلى المدى البعيد, يصر أرلوسوروف على أن المخرج الوحيد للعمال اليهود في فلسطين هو سياسة العمل العبري المتمثلة في الإقصاء إلى جانب وتائر تنمية سريعة منفصلة ممكنة للاقتصاد اليهودي.
كان موضوع التنظيم المشترك محل جدل حامي عندما عقد المؤتمر الثالث للهستدروت فعليا في تموز-يوليو من العام 1927، و في ختام أعمال المؤتمر أتى القرار المتعلق بالتعاون بين العمال العرب واليهود الذي تم تبنيه أخيراً تعبيرا عن صدى شعارات بن غوريون إلا أن مضمونه كان يمثل مقاربة أرلوسوروف بشكل واضح. وقد اعترف القرار بالحاجة إلى "التعاون بين العمال اليهود والعرب في الأمور الحيوية المشتركة بينهم" ، لكنه أكد بعد ذلك مباشرة على أن "أساس العمل المشترك هو الاعتراف بقيمة وحقوق الهجرة اليهودية الأساسية لفلسطين". وبينما أعلن عن إقامة "تحالف دولي لعمال فلسطين" ، يشمل كلا من اليهود والعرب ، فقد أكدت القرارات من جديد على استقلالية منظمة الهستدروت و التزامها التام بمهمتها الصهيونية(17). في السنوات التي تلت كف العمال العرب عن احتلالهم مكانا رئيسيا في خطاب و سلوك التيار الرئيسي للصهيونية العمالية ، على الرغم من أنه , كما ناقشت ذلك في مواضع أخرى, كان العمال العرب في أماكن العمل الاستراتيجية السياسية والاقتصادية من وقت لآخر هدفا لتنظيم الجهود من قبل الهستدروت ،و بطرق متعددة مختلفة حتى العام 1948 كانت قضية العلاقات مع العمال العرب و الحركة العمالية العربية التي كان في نشاط متزايد [ في الأربعينيات](وغالبا بقيادة شيوعية ) تشق طريقها على جدول أعمال الهستدروت (18). وقد ركزت الحركة الصهيونية العمالية ,بدلاً من ذلك ،و حتى قيام دولة إسرائيل في العام 1948 ،على تنفيذ الاستراتيجية التي كانت تتشكل منذ فترة ما قبل الحرب والتي ساهم أرلوسوروف في صياغتها في أواخر عشرينات القرن العشرين. وكانت هذه الاستراتيجية -كما يقول مايكل شاليف بدقة- مبنية على "زواج المصلحة" بين حركة عمالية بدون عمل وحركة استيطان بدون مستوطنين (19). وحشدت الأحزاب العمالية الصهيونية، من أوائل سنوات القرن العشرين وصولاً إلى أوائل الثلاثينيات من القرن، عددًا كبيرًا من اليهود الذين لديهم دوافع عالية للهجرة إلى فلسطين و الاستقرار بها وعلى استعداد للقيام بأي مهام ضرورية من أجل إرساء أسس الدولة اليهودية المستقبلية، في حين أن المنظمة الصهيونية التي يقودها الممولون البرجوازيون كانت تقوم بجمع المال اللازم للحصول على الأراضي من أجل الاستيطان، وخلق البنية التحتية وفرص العمل، وتقديم الخدمات بحيث يكون للعمال مصدر رزق ويكونوا قادرين على العمل كقوات طليعية ومصادمة لمشروع الاستيطان في فلسطين نفسها. كما عملت القيادة الصهيونية على الحفاظ على علاقات جيدة مع بريطانيا التي حكمت فلسطين والتي كان دعمها للصهيونية أساسياً لنجاحها. وكما أشرت من قبل ، فإن هذه الاستراتيجية ساعدت أيضاً الحركة الصهيونية العمالية على أن تصبح القوة الاجتماعية-السياسية الأولى في إطار الييشوف ثم داخل الحركة الصهيونية الدولية. كما أنها سوف تهيمن على إسرائيل ليس فقط سياسياً ولكن أيضاً ثقافياً واجتماعياً ،منذ قيام تلك الدولة في العام 1948 حتى سبعينيات القرن الماضي ، عندما تم كسر قبضتها على السلطة أخيرًا من قبل الأحفاد الأيديولوجيين للصهيونية التصحيحية.
عكس المسار المهني الخاص لأرلوسوروف صعود الصهيونية العمالية ، على الرغم من أنه لن يعيش ليرى انتصارها. وقد لعب في العام 1930 دورا بارزا في تحقيق اندماج حزبه مع حزب بن غوريون أحدوت هعفودا لتشكيل ما بات يعرف باسم الماباي "وهو اختصار يعني حزب عمال أرض إسرائيل"، الذي أصبح أحد كبار قادته والذي سوف يهيمن بطرق مختلفة على الييشوف والسياسة الإسرائيلية حتى العام 1977. وبعد عام واحد من تشكيل الماباي تم انتخاب اورلوسوروف عضوا في السلطة التنفيذية للمنظمة الصهيونية كممثل للماباي وعين في المنصب الرئيسي لمدير الدائرة السياسية للوكالة اليهودية. ويشير صعوده إلى هذه المناصب، فضلا عن ارتقاء بن غوريون إلى عضوية الوكالة التنفيذية اليهودية وبعد بضع سنوات إلى رئاسته إلى القوة السياسية المتنامية لـ "ماباي" (وقوة الحركة الصهيونية العمالية التي قادتها) داخل الحركة الصهيونية الأوسع.
في حزيران-يونيو 1933 ، تم إطلاق النار على أرلوسوروف فمات على الفور وذلك أثناء تجواله مع زوجته على شاطئ تل أبيب.و لم يعرف القاتل قط ، ولكن في ذلك الوقت (ولعقود بعد ذلك) يلقي الصهاينة بالتهام على الجناح اليميني الغاضب (من بين أمور أخرى) من دور أرلوسوروف الرائد في المراحل الأولى من المفاوضات بين الحركة الصهيونية والنظام النازي المعادي للسامية الذي وصل للتو إلى السلطة في ألمانيا. فقد ساعد أرلوسوروف , اثناء تلك المفاوضات , في وضع أسس اتفاق نقل " أنجز بعد أشهر قليلة من اغتياله يتم بموجبه حصول اليهود الألمان الذين سيسمح بمغادرتهم نحو فلسطين في الحصول على جزء من عائدات بيع البضائع الألمانية ن قبل الحركة الصهيونية على سبيل التعويض عن ممتلكاتهم المصادرة من قبل الدولة الألمانية، وجزء آخر من هذه العائدات سيعود لصالح بناء الدولة الصهيونية في فلسطين بما في ذلك شراء الأراضي و التنمية الصناعية (20). كان هذا الاتفاق مثيرا للجدل لأنه كسر المقاطعة الاقتصادية الدولية التي تبناها اليهود والجماعات الأخرى المناهضة للفاشية التي انطلقت ضد النظام النازي الذي كان لا يزال هشا ،كما ساهم هذا الاتفاق ارتفاع حدة التصعيد بين الماباي و التصحيحيين . بيد أنه رغم كل هذا , يمكن القول أن هذا الاتفاق يحمل معنى منطقيا من الناحية السياسية و المعنوية لجهة إصرار أرلوسوروف على الأهمية الحاسمة لتنمية الاقتصاد اليهودي في فلسطين من خلال استثمار "رأس المال القومي" كوسيلة للتغلب على ظروف سوق العمل غير الملائمة للعمال اليهود.
العنف ، و الإكراه ، و الاستبعاد
يقدم تحليل أرلوسوروف السبيل للفهم الكامل لحدود تركيز شافير على فترة ما قبل عام 1914 وعلى موائمة الصهيونية العمالية للظروف الاجتماعية-الاقتصادية في أواخر الحقبة العثمانية في فلسطين باعتبارها تكوينًا حاسمًا. وكما رأينا، أكد أرلوسوروف في مقالته التي نشرها في العام 1927 أنه لم يكن هناك "أي مثال أو أمثلة على وجه التقريب [أي ، بخلاف الصهيونية] لجهود قام به أشخاص يعملون في مستوطنات بمعيار احتياجات أوروبية لتحويل بلد ذي مستوى منخفض من الأجور [ ...] إلى موقع للهجرة الجماعية والاستيطان الجماعي (دون استخدام وسائل قسرية)". و سوف أسلط الضوء على النتيجة الأخيرة من المقطع السابق كي ألفت الانتباه إلى شيء مهم مفقود أو محذوف في مقالة أرلوسوروف وأيضا من توصيف شافير.
من نافل القول التأكيد على صحة ما قاله أرلوسوروف بافتقار الحركة الصهيونية في العشرينات إلى النفوذ السياسي الذي تمكن العمال البيض المنظمون في جنوب إفريقيا من اختباره بعد العام 1924 والذي استخدموه لتقوية وتوسيع الفصل حسب اللون . لم تسيطر الحركة الصهيونية على الدولة الاستعمارية البريطانية في فلسطين: في حين أن السلطات البريطانية كانت ملتزمة بتشجيع إقامة "وطن قومي" للشعب اليهودي في فلسطين ، فقد سعت أيضا لتجنب نفور الأغلبية العربية في فلسطين العربية بشكل كامل، وبالطبع كان عليهم أن يأخذوا في الاعتبار المصالح الإمبريالية الأوسع. صحيح أن القيادة الصهيونية في فلسطين وبريطانيا كرست الكثير من الوقت والجهد لممارسة الضغط على البريطانيين من أجل المعاملة التفضيلية ، بما في ذلك تخصيص أكبر عدد ممكن من الوظائف الحكومية لليهود بدلاً من العرب. ولكن هذا الضغط, بالطبع لم يكن هو نفسه قادر على استخدام جهاز الدولة لحفظ مجموعة واسعة من الفئات المهنية لأقلية متميزة، كما كان الحال في جنوب إفريقيا المعاصرة. ومع ذلك، خلال الفترة الاستعمارية البريطانية (1918-1948) ، أي بعد الفترة التي اعتبرها شافير تكوينية، استخدمت الحركة الصهيونية العمالية بالتأكيد وسائل قسرية لتعزيز استراتيجية العمل العبري، بما في ذلك المقاطعة، والضغط الاجتماعي ،والاعتصام الجماهيري ( وفي بعض الأحيان العنف) ضد أرباب العمل اليهود الذين رفضوا توظيف اليهود فقط(21).مع ذلك ، فإن النضال المستمر منذ عقود من أجل العمل العبري لم يكن ناجحا تماما. في الواقع، لم يكن ناجحا بسبب غياب تدخل الدولة في سوق العمل, وعلى سبيل المثال , لم تفلح منظمة الهستدروت (باستثناء فترة وجيزة خلال الثورة العربية الفلسطينية 1936-1939) ,رغم جهودها المستمرة, في استبعاد العمال العرب العاملين في مزارع الحمضيات اليهودية، و لا إبعادهم الكلي عن قطاعات أخرى من الاقتصاد اليهودي, و لم يتمكن العمال اليهود من أن يضمنوا بصورة فعالة نسبة متزايدة من الوظائف التي سعوا إليها في القطاع الحكومي على حساب العمالة العربية. في الواقع ، لم يتم كسب الصراع لصالح العمل العبري إلا بعد قيام إسرائيل في العام 1948 (وتحول جذري في السياق الديموغرافي) حيث يمكن لتدخل الدولة بصورة واسعة حفظ جزء كبير من سوق العمل الإسرائيلي لليهود - وهذا (ليس مفاجئًا). و كما أظهر ذلك مايكل شاليف, قادت الهجرة اليهودية (خاصة من الدول العربية والإسلامية) في خمسينيات القرن الماضي والبطالة العالية بين اليهود الدولة (التي تعمل بشكل وثيق مع الهستدروت) لمحاولة حجز الوظائف في القطاعين الخاص والعام الإسرائيليين لليهود عن طريق منع العرب الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في (والآن مواطنون رسميون) إسرائيل من العمل فيها, و لم يتم تخفيف هذه السياسات إلا عندما بدأ النقص في الايي العاملة في الازدياد ابتداء من العقد الثاني من وجود الدولة فبذلت جهود حثيثة للاستفادة من هذه العمالة الرخيصة لصالح الاقتصاد الإسرائيلي الذي يهيمن عليه اليهود، من بين أمور أخرى من خلال السماح لمواطني الدولة الفلسطينيين في الانضمام إلى الهستدروت والاستفادة من التبادلات العمالية التي تديرها (22). و يمكننا أن نرى أن مقاربة شافير ,عند الأخذ بما سبق بعين الاعتبار ,لا تترك مجالاً للتطورات لما بعد ما يراها الفترة التكوينية من 1904 إلى 1914 فحسب، بل إنها تخفق أيضًا في التعامل مع حقيقة أن الاستراتيجية الصهيونية العمالية والاقتصادية في حد ذاتها و الاستبعاد لقومي لم يكونوا -و لا بمقدورهم أن - يلعبوا الدور الحاسم في تمهيد الطريق لانتصار المشروع الصهيوني الذي يعزوه شافير إلى هذه الاستراتيجية. وفي نهاية المطاف ، لا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح إلا لأنها تكشفت في سياق شكلته ديناميات أخرى ، والأهم من ذلك لأهدافنا ، عمل الدولة ، والأشكال المختلفة من القسر ، والصراع العنيف.
لم يكن ذيوع نسبة كبيرة من هذا القسر و العنف مباشرة ن قبل الحركة الصهيونية قبل عام 1948 أو إسرائيل بعد ذلك وعوض عن هذا فقد تم تنفيذ هذه الاستراتيجيات من قبل الآخرين. لقد كان المشروع الصهيوني، منذ نشأته ، بحاجة إلى دعم وحماية من قوة خارجية من أجل التغلب على سلبيته الديموغرافية وغيرها من الحروب على الأرض ، داخل فلسطين وفي المنطقة الأوسع ، ناهيك عن تزايد مقاومة السكان الأصليين. لقد كرس تيودور هرتزل ، الذي أسس المنظمة الصهيونية في العام 1897 ، الكثير من وقته وطاقته على مدى السنوات التي تلت جهدا (غير ناجح في حياته) لتأمين الدعم للصهيونية من قبل واحدة أو أكثر من القوى العظمى في أوروبا ،وفي تقويم صحيح تماما فإن عدم توفر مثل الدعم كان من المحتمل أن ينتهي بالصهيونية كواحد من المخططات الطوباوية التي طفت على سطح الأحداث في أوروبا في تلك الفترة(23). وقد توجت الجهود الصهيونية لتأمين دعم القوى الكبرى في النهاية بالنجاح في العام 1917، عندما أيدت بريطانيا هذا المشروع خلال ربع قرن وتسهيل غرس مجتمع يهودي قابل للبقاء في فلسطين ، لكن ليس بدون تردد وصراعات.
ونتيجة لذلك ، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، لم تمارس معظم أعمال الدولة والقسر اللازمة لتسهيل نجاح الصهيونية في مواجهة المعارضة العربية المتزايدة لأغلبية يهودية ودولة يهودية في فلسطين على يد الحركة الصهيونية نفسها , وإنما من قبل الدولة الاستعمارية البريطانية. في الواقع ، من دون الدعم و الحماية البريطانيين، لم يكن للمشروع الصهيوني في فلسطين أن يتحقق ببساطة. فعلى سبيل المثال ، من المشكوك فيه إلى حد كبير ، أنه حتى بعد عقدين من الهجرة والاستيطان والتنمية على نطاق واسع تحت الحماية البريطانية، كان يمكن للييشوف أن يقاوم ثورة العرب الفلسطينيين في الفترة 1936-1939 ضد الحكم الاستعماري البريطاني والصهيونية. كما أنها لم تكن قادرة على التطور ديمغرافيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا إلى الحد الذي تستطيع فيه تحدي السيطرة البريطانية على فلسطين في أعوام 1945-1947 ومن ثم الاستمرار في هزيمة أعدائها الفلسطينيين والعرب والسيطرة على ثلاثة أرباع البلاد. لعبت القوى الخارجية الأخرى أدواراً حاسمة في نجاحات الصهيونية. لقد تم تسهيل انتصار إسرائيل في عام 1948-49 بشكل كبير من خلال ظرف دولي فريد مكنها من كسب الدعم السياسي من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكثير من الحسم العسكري لنجاحات إسرائيل العسكرية المبكرة قدمتها تشيكوسلوفاكيا، حيث استولى الشيوعيون على الحكم في شباط- فبراير 1948. وطورت إسرائيل تحالفا عسكريا وسياسيا وثيقا مع فرنسا بدء من أوائل الخمسينيات وحتى أوائل الستينيات، على قاعدة العداء المشترك للموجة المتصاعدة للقومية العربية، التي دعمت القضية الفلسطينية والنضال الجزائري من أجل الاستقلال. و بعد ذلك أي منذ منتصف الستينيات و بصورة أكثر قوة بعد انتصارها في حرب حزيران-يونيو 1967, أصبحت الولايات المتحدة الممول الخارجي الرئيسي لإسرائيل، والمزود الأول لها من لسلاح ، والمؤيد السياسي. وبعبارة أخرى ، فإن توسيع إطار التحليل ليشمل ليس فلسطين فقط، ولكن أيضًا السياقات الاستعمارية والدولية ذات الصلة، يمكن أن يساعدنا في رؤية أشكال الإكراه والعنف التي كانت أساسا تدعم المشروع الصهيوني و ضرورية لنجاحه.
بالإضافة إلى أخذ الدعم الخارجي في الاعتبار بشكل كامل ، فإن أي تفسير لنجاح استراتيجية الصهيونية العمالية والمشروع الصهيوني الأوسع لإنشاء دولة يهودية في أرض ذات أغلبية عربية ساحقة يجب أن يستحضر العنف المرتبط بشكل التقسيم الذي تم تنفيذه بالفعل في 1947-49 ، وإلى عواقب ذلك العنف. في المقطع الذي نُقل عنه في وقت سابق أكد شافير أن استراتيجية الصهيونية العمالية المتعلقة بمبدأ الانفصال الاقتصادي تكمن على قاعدة قبولها النهائي للتقسيم، الناجمة عن تفهم "الحقائق التي لا مفر منها للديمغرافيا الفلسطينية". لكن تلك الحقائق الديموغرافية كانت في الواقع بعيدة المنال، عن طريق التهجير الجماعي، من خلال الفرار أثناء الحرب و عمليات الطرد للغالبية العظمى من العرب الذين عاشوا في الجزء الفلسطيني الذي أصبح إسرائيل في 1947-1949 - وهي عملية لعب فيها المسؤولون وضباط ضباط الجيش من الحركة الصهيونية العمالية دورًا قياديا (24). ومن الجدير بالذكر أيضًا أن بن غوريون وزملائه امتنعوا عن محاولة احتلال ما تبقى من فلسطين الانتدابية في الأعوام 1948-49 ، ليس لأنهم فضلوا دولة يهودية أصغر بل لأنهم فضلوا دولة بأكثرية ديموغرافية يهودية و أقلية ديمغرافي عربية و ليس بسبب اي التزام مبدئي من قبلهم لتقاسم الأرض مع سكانها العرب. و البديل عن احتلال كل فلسطين كان فهم الصهيونية أن مثل هذه المحاولة في احتلال البلد كانت ستدخل دولة إسرائيل الجديدة في صراع مع شرق الأردن (شريكها في تقسيم فلسطين) ، ومع بريطانيا ، وربما مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أيضاً(25).
لذلك يمكن إعادة صياغة حجة شافير حول الارتباط بين الانفصال الاقتصادي والتقسيم، في التأكيد على أن التحقيق الكامل لاستراتيجية الصهيونية العمالية بالانفصال الاقتصادي تتطلب استخدام الإكراه والعنف من أجل إزاحة ز استبعاد معظم أو كل الفلسطينيون الذين يعيشون داخل حدود الدولة اليهودية. وهذا هو ، الشرط المسبق لتحقيق الغزو (مجازيا ) للعمالة هو الاستيلاء (العسكري) على الأرض وتشريد معظم سكانها الفلسطينيين. لقد أدرك حاييم أرلوسوروف ذلك في نهاية حياته القصيرة نسبياً. في مقالته المذكورة، حين أصر على أن "البعد السياسي الكامل للمسألة [التي تؤسس قانونا الفصل حسب اللون والتفوق الأبيض في جنوب إفريقيا] لا يتطابق (مع فلسطين) ولا أن يأخذنا بعين الاعتبار [أي اليهود في فلسطين]" .لكن في غضون سنوات قليلة، يبدو أنه توصل إلى أن تحقيق أهداف الصهيونية سيتطلب في نهاية المطاف عمل صبور و طويل الأمد للهجرة ، وشراء الأراضي ، والاستيطان ، وتطوير اقتصاد حصري يهودي عالي الأجر في فلسطين. و سيكون استخدام القوة في نهاية المطاف أمر لا مفر منه إذا ما أرادت الصهيونية النجاح في مساعيها. وقد أوجز أرلوسوروف ما رآه من خيارات صارخة توجه حركتهم في رسالة وجهها في حزيران-يونيو 1932 إلى حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، لم يتم نشرها حتى العام 1949.
إن تزايد المعارضة العربية للصهيونية والضغط من أجل إنهاء الانتداب البريطاني قد يؤدي إلى استقلال لفلسطين بينما كان اليهود لا يزالون أقلية. إن تجنب تدمير المشروع الصهيوني قد يتطلب في هذه الظروف فترة انتقالية من الحكم الثوري المنظم للأقلية اليهودية [...] حكومة الأقلية القومية التي ستنتزع جهاز الدولة والإدارة والسلطة العسكرية من أجل الحيلولة دون خطر إغراقنا من حيث العدد وتعرضنا للخطر من قبل انتفاضة . وخلال هذه الفترة الانتقالية ، سيتم تنفيذ سياسة منهجية للتنمية والهجرة والاستيطان (26)
هذا ، بالطبع ، شبيه بما حدث في روديسيا في العام 1965 ، عندما أعلنت حكومة الأقلية البيضاء استقلالها عن بريطانيا من أجل منع حكم الأغلبية. كما أنه يحمل بعض الشبه بأحداث 1947-49 في فلسطين، عندما (مع تأييد الكثير من المجتمع الدولي)، هزمت الأقلية اليهودية (التي لا تزال أقل من ثلث سكان البلاد حتى أيار-مايو 1948) أعدائها و لقد قاموا بتشكيل دولة في معظم فلسطين ، وما رافق ذلك من تطورات أدت إلى نزوح أكثر من نصف سكان البلاد العرب الأصليين.
خطأ ما بعد 1967
و في النظر إلى تلك الأحداث , من الواضح القول أن الإكراه و العنف و تدخل الدولة لعبوا جميعا دورا مركزيا في صياغة و تشكيل تاريخ فلسطين بعد العام 1914 ، بما في ذلك تحقيق المشروع الصهيوني وتشكيل شخصية إسرائيل ومسارها. في ضوء ذلك ، قد نود النظر في ملاحظة مفادها أن شافير استعرض في المقدمة الأصلية لكتابه ، فيما وصفه "خطأ ما بعد عام 1967". كان هذا هو رأي [العديد من الإسرائيليين] بأن عملية تراكم الأراضي الإسرائيلية لم تنته في العام 1948 ولكن يجب أن تستمر من خلال ضم الأراضي بحكم الواقع أو بحكم القانون للأراضي المحتلة وسكانها إلى إسرائيل ، وبالتالي القضاء على إمكانية وجود فلسطين إلى جنب مع إسرائيل.
وعبر هذا المسار أكد شافير "سوف يستلزم رفض الدرس التاريخي المستفاد المؤلم القاضي بأنه لا يوجد في أرض إسرائيل / فلسطين ثمة بديل واقعي للسيادة يتم التعبير عنه و يحدده التقسيم الإقليمي"(27) .ويتسق هذا الإطار مع تتبع شافير لجذور التنازل عن الأرض إلى التجربة التاريخية المبكرة واستراتيجية الصهيونية العمالية ، لاسيما احتضانها لنموذج بديل من الاستيطان المحض . وبطرق عديدة، فإن هذا النموذج، الذي يعود أصوله لعمل و بناء شافير، والعقلية التي صاحبت ذلك، يظل في الواقع مهيمنا في إسرائيل. تشير استطلاعات الرأي وأفضليات التصويت إلى أن الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين لا يزالون اليوم يؤيدون إسرائيل كدولة يهودية من الناحية الديمغرافية قدر الإمكان. ويدعي الكثير من الصهاينة (ليس جميعهم على كل حال ) الآن أنهم مستعدون للتخلي عن السيطرة عن بعض الأراضي في الضفة الغربية (وبالطبع غزة) لضمان احتفاظ إسرائيل بأغلبية يهودية كبيرة. ولكن إذا نظرنا إلى الوراء إلى ما يزيد على 130 عامًا من النشاط الصهيوني في فلسطين ونوسع فهمنا لما استلزمه فعليا من مقتضيات المستوطنات الصهيونية المبكرة في فلسطين في أواخر الخلافة العثمانية إلى دولة يهودية تهيمن الآن على كل فلسطين، قد نتساءل ما إذا كان التصرف تجاه التسوية الإقليمية التي قال شافير أنها جزء لا يتجزأ من نموذج الاستيطان النقي يمكن اعتباره بشكل أساسي جوهر المشروع الصهيوني وطبيعته الأصيلة و الإثنية، والذي شكل مسلك إسرائيل لما بعد 1967 انحرافا فيه ، "خطأ" كما وصفه شافير. ليس من الواضح على الإطلاق، من الناحية التاريخية أو في الوقت الحاضر، أن نموذج الاستيطان النقي قد أدى بالفعل إلى التقسيم، بمعنى القبول الجدي للصهيونية ( و من ثم لإسرائيل) لحق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولة في جزء من وطنهم.
في الواقع ، بدلاً من فهم نصف قرن من تفوق الصهيونية العمالية (وقبولها المعلن للتسوية الإقليمية) كدولة صهيونية عادية أو طبيعية، والتي كانت منها تطورات ما بعد 1967 عد انحرافا غير طبيعي، قد نفهم مصلحة الصهيونية العمالية في التقسيم على أنها مرتبطة بمرحلة معينة في تاريخ المشروع الصهيوني، وهي مرحلة تحدد شروطها المحتملة بالواقع الديموغرافي في فلسطين، وفقدان الصهيونية لسلطة الدولة (قبل العام 1948)، ثم من خلال سيطرة إسرائيل على جزء فقط من فلسطين (قبل عام 1967).وكما رأينا، لم تكن النزعة الانفصالية السياسية، وبالتالي، السياسية التي افترضها شافير كمحور مركزي لمنطق الصهيونية العمالية، كافية لتحقيق أهداف الصهيونية. كما أن إقامة دولة يهودية في أي جزء هام من فلسطين يتطلب أيضاً تشريد أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين وإخضاع البقية ، وهذا ما كان يمكن تحقيقه فقط من خلال الاستخدام الواسع النطاق للإكراه والعنف.
عندما تأسست إسرائيل في عام 1948 كدولة عرفت نفسها على أنها لا تمثل مواطنيها بل الشعب اليهودي في كل مكان، كانت قادرة على نشر سلطة الدولة بشكل منظم وفعال لتعزيز مشروع الاستيطان الصهيوني. وقد تم ذلك من خلال، كما رأينا، الاستبعاد الأولي لغير اليهود من معظم سوق العمل، و أيضا و لكن بطريقة أكثر حسما، عن طريق المصادرة الجماعية للاستخدام الحصري لليهود للأراضي التي يملكها الفلسطينيون، بمن فيهم أولئك الذين تم تهجيرهم في عام 1947-49 و كذلك العديد ممن باتوا يعدون مواطنين رسميا في إسرائيل. وبعد الاستيلاء على ما تبقى من فلسطين في عام 1967، امتد منطق الاستيلاء على الأراضي والاستيطان على ما يبدو إلى الضفة الغربية وغزة ، ومعظمها بدعم أو على الأقل موافقة من ورثة الصهيونية العمالية.
منذ العام 1967 ، وخاصة منذ بداية "فترة أوسلو" في أوائل التسعينيات عندما كانت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في طور التقدم ،بدى نظام السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين يتحرك نحو شيء ما أقرب إلى نموذج الأبارتيد في جنوب أفريقيا كنظام فصل عنصري / قومي / عرقي وحكم الأقلية وديمقراطية الشعب الأسمى herrenvolk ، رغم ذلك (بشكل ملحوظ) دون الاعتماد الكبير على العمالة المحلية التي ميزت جنوب أفريقيا (28). بمعنى ما، فإن ما لدينا هو استمرار نموذج الاستيطان النقي (الإصرار على الحفاظ على دولة يهودية في معظم فلسطين قدر الإمكان) إلى جانب هيمنة تلك الدولة بالقوة على ما تبقى من فلسطين والإكراه القسري والعنيف في كثير من الأحيان لسكانها غير اليهود (الكثير منها الآن تحت حواجز مادية مختلفة). هناك بالتأكيد العديد من الإسرائيليين الذين ينظرون (مثل شافير) إلى ما حدث منذ عام 1967 كخطأ فظيع ويؤمنون أنه لكي تبقى إسرائيل دولة يهودية (و ديمقراطية) يجب أن تنسحب من الأراضي المحتلة عام 1967. ولكن هناك منطق صهيوني قوي للاستيطان. والتوسع والنزوح يعمل ضد مثل هذه النتيجة.
ونتيجة لذلك ، فإن الدولة التي تحكم باسم مواطني إسرائيل اليهود البالغ عددهم خمسة ملايين ونصف (وتزعم أنها تتحدث باسم كل اليهود في كل مكان) تهيمن اليوم ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، على كل ما كان فلسطين في الماضي، حيث تحكم أكثر من مليون و ربع المليون من الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية و نحو أربع ملاين و ربع مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية القابعين تحت السيطرة الإسرائيلية الظالمة والوحشية في كثير من الأحيان. كما أن هناك أربعة أو خمسة ملايين فلسطيني أو أكثر، معظمهم من أبناء و أحفاد اللاجئين في العام 1948، يعيشون خارج فلسطين التاريخية، في بلدان الشرق الأوسط وما وراءه. وبالتالي، فإن مجموعة محظوظة تتمتع بالحرية - ربما اليوم لا تزال تشكل أغلبية ضئيلة للغاية من مجموع سكان الأرض، ولكن في غضون سنوات قليلة من شبه المؤكد أن تصبح أقلية داخل فلسطين التاريخية -يحكمون بالقوة أغلبية تابعة ومحرومة سوف تصبح قريبا أغلبية.
إن النظرة الكاملة لهذه التطورات تتعدى نطاق هذا المقال ، ولكن قد يتم تسليط الضوء على عامل حاسم واحد من خلال ملاحظة التناقض الكبير بين العزلة السياسية والاقتصادية والمعنوية المتنامية التي وجدها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في أواخر الثمانينيات من جهة و الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الهائل اللامحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى إسرائيل منذ منتصف الستينيات من ناحية أخرى. هذا الدعم - وليس شيئًا يمكن أن يأخذه نهج شافير بعين الاعتبار - وهو ما مكن إسرائيل من الحفاظ على احتلال عسكري وحشي والاستيلاء على الأراضي والموارد الأخرى من السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وغرس الكتل الاستيطانية اليهودية هناك ، وشن هجمات عسكرية متكررة على الفلسطينيين وغيرهم (على سبيل المثال ، اللبنانيين)، وتحدي التوافق العالمي تقريبا على حل معقول لصراعها مع الفلسطينيين.
اليوم ، كما هو الحال بالنسبة لمعظم القرن الماضي ، إن لم يكن كله ، إذن ، يجب على المرء ، مقابل كل الأهمية التي ينبغي على المرء أن ينسبها إلى الخصوصيات والتفاعلات والديناميات المحلية ، الإقرار بعدم وجود معنى لهذا المشروع الاستيطاني المعين والنزاعات الدامية المستمرة التي يواصلها دون الأخذ في الاعتبار الطرق التي تم بها حمايته واستدامته وتمكينه من قبل قوة عظمى خارجي راعية له - مرة أخرى إبراز مركزية سلطة الدولة (المحلية والعالمية) ، والإكراه والعنف في هذا شأن مشاريع أخرى مماثلة.
شكر وتقدير
قدمت النسخ المبكرة من هذه المقالة في ندوة ميلون سوير حول "الاستيطان، العرق والسيادة الجزئية في أمريكا الشمالية ، جنوب أفريقيا وإسرائيل / فلسطين" في جامعة ستانفورد (نيسان 2004) ، وفي "الغزو بوصفه بنية وليس حدثا : ورشة عمل حول ماضي و حاضر الاستعمار الاستيطاني ( تشرين أول 2009) في جامعة كاليفورنيا UCLA
شكري للمشاركين ، وللمحررين (والمستشارين) للدراسات الاستعمارية الاستيطانية ، لتعليقاتهم المفيدة ؛ شكر خاص لجويل بينين وغابرييل بيتربيرغ ، وقبل كل شيء لغيرشون شافير ، الذي كان رده الرائع على هذا النقد لعمله مثاليًا.
.......................
عنوان المقال الأصلي: Land,Labor and the Logic of Zionism: Acritical Engagement with Gershon Shafir
الناشر: Settler Colonial Studies: http://www.tandfonline.com/action/journalInformation?journalCode=rset20
المؤلف: ZACHARY LOCKMAN
المترجم: محمود الصباغ
ملاحظات:

1- حول مسألة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية ، انظر (ضمن جملة أمور)
Maxime Rodinson, Israel: A Colonial-Settler State? (New York: Monad Press, 1973)- Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, 1882-1914 (Cambridge: Cambridge University Press, 1989- updated edition, Berkeley: University of California Press, 1996)- Lorenzo Veracini, Israel and Settler Society (London: Pluto, 2006)- Derek Penslar, Israel in History: the Jewish State in Comparative Perspective (London: Routledge, 2007), ch. 5- and Gabriel Piterberg, The Returns of Zionism: Myths, Politics and Scholarship in Israel (London: Verso, 2008).
2- أنظر على سبيل المثال
Yonathan Shapiro, The Formative Years of the Israeli Labour Party: the Organisation of Power, 1919-1930 (London: Sage Publications, 1976), and Gershon Shafir and Yoav Peled, Being Israeli: the Dynamics of Multiple Citizenship (Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
3-يثبت التأريخ الصهيوني بناء تحقيبي حول سلسلة من موجات الهجرة اليهودية المتميزة إلى فلسطين ، المعروفة باسم عليوت و ضمن هذا التوصيف تكون العاليا الأولى - أول تدفق كبير للمهاجرين اليهود بدافع رؤية النهضة القومية - بدأت في العام 1881 وانتهت في العام 1903. وتبعتها العاليا الثانية من 1904-1914 وهلم جرا ، وصولا إلى 1948 و إقامة دولة إسرائيل.
4-أنظر مثلا S. N. Eisenstadt, Israeli Society (New York: Basic Books, 1967).
5- يستشهد شافير بكل من:
D.K. Fieldhouse, The Colonial Empires: A Comparative Survey from the Eighteenth Century (London: Weidenfeld & Nicolson, 1966), and George Frederickson, ‘Colonialism and Racism: The United States and South Africa in Comparative Perspective’, in George Frederickson, The Arrogance of Race: Historical Perspectives on Slavery, Racism and Social Inequality (Middletown, CT: Wesleyan University Press, 1988).
6- للاطلاع على مناقشة أكمل لهذه القضايا وما يتصل بها ، انظر
Zachary Lockman, Comrades and Enemies: Arab and Jewish Workers in Palestine, 1906-1948 (Berkeley: University of California Press, 1996).
7- Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, p. 19.
8-انظر مراجعتي لكتاب شافير في مجلة لدراسات الفلسطينية Journal of Palestine Studies, 19, 4 (1990), pp.115-117.
9- Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, pp. xiiixiv.
10-للاطلاع على مراجعة موجزة غير نقدية لحياة و فكر أرلوصوروف , انظر Shlomo Avineri, Arlosoroff (New York: Grove Weidenfeld, 1989). . أنظر أيضا
Miriam Geter, Hayyim Arlozorov: biografiya politit (Hayyim Arlosoroff: a Political Biography) (Tel Aviv: Hakibbutz Hame’uhad, 1977).
11-للاطلاع على مقدمة موجزة حول أصل و دوافع وعد بلفور , انظر Zachary Lockman, ‘Balfour Declaration’ في جويل كريغر و آخرون "تحرير"
The Oxford Companion to International Relations (Oxford: Oxford University Press, forthcoming 2012).
و للاطلاع على دراسات حديثة , انظر
Jonathan Schneer, The Balfour Declaration: the Origins of the Arab-Israeli Conflict (New York: Random House, 2010)
12 غالباً ما يشير الصهاينة العماليين الأوائل إلى أنفسهم ومنظماتهم كـ"عبريين" بدلاً من "يهود" (يهودي) للتعبير استنكارهم ورفضهم للدياسبورا اليهودية والتعرف بدلاً من ذلك على أنفسهم مع العبرانيين القدماء الذين عاشوا كشعب ذو سيادة في وطنه - كما يتطلع الصهاينة الحديثون إلى ذلك- ه. وقد ساعد هذا التعريف أيضًا هؤلاء المهاجرين اليهود الذين وصلوا حديثًا من أوروبا على تصور أن لهم صلة تاريخية عميقة بفلسطين ، مما يمنحهم ادعاءًا لامتلاكه أقوى من سكانه العرب الأصليين.
13 يناقش هذا الحديث بشكل أكمل في
Zachary Lockman, ‘Exclusion and Solidarity: Labor Zionism and Arab Workers in Palestine, 1897-1929’, in Gyan Prakash (ed.), After Colonialism: Imperial Histories and Postcolonial Displacements (Princeton: Princeton University Press, 1994).
14 فيما يتعلق بتاريخ هذا الاتجاه السياسي ، انظر:
Elkana Margalit ، Anatomia shel smol: Po alei Tziyon Smol be eretz yisra el (Anatomy of a Left: Po alei Tziyon Smol in the Land of Israel) (Jerusalem: Hebrew University press ، 1976).
15 Hayyim Arlosoroff (rendered in Hebrew as Arlozorov), Leshe’eilat ha’irgun hameshutaf (On the Question of Joint Organisation) (Tel Aviv: Hapo’el Hatza’ir, 1927). الترجمة من العبرية هي من وضعي
كما يتضمن كتاب غابرييل بيتربرغ المعنون The Return of Zionism مناقشة مثيرة للاهتمام من هذا المقال نفسه ، وإن كان من زاوية مختلفة عن منجم وفي خدمة حجة مختلفة إلى حد ما.

16 الأدبيات البحثية حول تاريخ جنوب أفريقيا الحديث كبيرة ومعقدة. وقد تكون نقطة البداية المثيرة للاهتمام هي كتاب جورج فريدريكسون
White Supremacy: a Comparative Study in American and South African History (New York: Oxford University Press, 1981).
17 Histadrut archives, Tel Aviv, minutes of the Third Congress of the Histadrut.
18 See Lockman, Comrades and Enemies.
19 Michael Shalev, Labour and the Political Economy in Israel (Oxford: Oxford University Press, 1992), p. 35.
20 See Edwin Black, The Transfer Agreement: the Untold Story of the Secret Agreement between the Third Reich and Jewish Palestine (New York: MacMillan, 1984).
21 See Anita Shapira, Hama’avak Hanikhzav: ‘Avoda ‘Ivrit, 1929-1939 (The Futile Struggle: Hebrew Labor, 1929-1939) (Tel Aviv: Tel Aviv University Press, 1977),and Stephen A. Glazer, ‘Picketing for Hebrew Labor: a Window on Histadrut Tactics and Strategy’, Journal of Palestine Studies, 30, 4 (2001), pp. 39-54.
22 See Shalev, Labour and the Political Economy in Israel.
23 كلحة مختصر عن الصهيونية ( و البيبلوغرافيا) تنظر زاخري لوكمان " الصهيونية" في
Cheryl A. Rubenberg (ed.), Encyclopedia of the Israeli-Palestinian Conflict (Boulder: Lynne Rienner, 2010), vol. 3.
24 See Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), but also Nur Masalha, The Expulsion of the Palestinians: the Concept of Transfer in Zionist Thought, 1882-1948 (Washington, DC: Institute of Palestine Studies, 1992).
25 See Avi Shlaim, The Politics of Partition: King Abdullah, the Zionists and Palestine,1921-1951 (New York: Columbia University Press, 1990).
26 مقتبس من أفنيري: "أرلوسوروف " ص 95 , عمل أفنيري بصورة مميزة جاهدا لتفسير هذا المقطع غير المناسب
27 Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, pp.xii, xiv.
28 انظر على سبيل المثال
Oren Yiftachel, Ethnocracy: Land and Identity Politics in Israel/Palestine (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2006)
ومنذ العام 1967 و حتى أوائل التسعينيات ، كانت أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة يعملون داخل إسرائيل. ولكن منذ بداية أوسلو ، تم منع العمال الفلسطينيين إلى حد كبير من دخول إسرائيل ، في حين تم استيراد عدد كبير من العمال المهاجرين من بلدان أخرى ليحلوا محلهم في الطبقات الدنيا من القوى العاملة الإسرائيلية.
الصهيونية العمالية في فلسطين: منهج الاستيطان المحض
لعب الإيديولوجية الصهيونية العمالية و الأحزاب و المؤسسات الناتجة عنها دورا مركزيا في نشاط الحركة الصهيونية في فلسطين منذ ثلاثينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي, وكان لها, منذ العام 1948, مسارا مصيريا حاسما افترق فيه المشروع الصهيوني عن غيره من المشاريع الاستعمارية الاستيطانية المماثلة. ويثير كتاب غيرشون شافير الصادر في العام 1989 بعنوان "الأرض والعمل وأصول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، 1882-1914 " جدلا قويا في أن اعتماد استراتيجية تقوم على النزعة الاقتصادية الانفصالية واستبعاد العمالة العربية المحلية في نهاية الحقبة العثمانية في فلسطين , إنما كان بسبب تعاطي الصهيونية العمالية مع الأرض و سوق العمل أكثر من كونه تعاطي إيديولوجي مجرد, وكما يقول شافير أدى هذا المسعى في نهاية المطاف إلى قبول معظم الصهاينة للمساومة الإقليمية في العام 1948. ويقدم شافير هنا مقاربة بديلة عن تلك الرومنسية و المثالية التي تتناول بدايات الحركة الصهيونية في فلسطين, و الأوليات التي يرى شافير أن الصهيونية العمالية أولتها اهتمامها للتكيف مع الظروف المحلية في فلسطين و وصفه للفترة ما قبل العام 1914 , حيث دمجت فترة التكوين الأساسي للتاريخ الصهيوني / الإسرائيلي الدور المركزي على وجه الخصوص للإكراه وعنف الدولة (ليس من قبل الحركة الصهيونية وإسرائيل فحسب ولكن أيضا من قبل الدولة الاستعمارية البريطانية ، وفيما بعد ، من قبل الولايات المتحدة) في تحقيق وإدامة دولة يهودية تهيمن الآن على كل فلسطين وتستمر في إخضاع السكان الأصليين, و يمكن فهم منهج عمل شافير باستخدام المقارنة التي قدمها مفكر صهيوني عمالي في عشرينيات القرن الماضي بين يهود فلسطين و الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا . و وفق هذا المنظور ,لا يسعنا النظر إلى حقبة الصهيونية العمالية "المعتدلة" باعتبارها المعيار الذي افترقت عنه إسرائيل بعد العام 1967, بل ينظر لها كمرحلة من تاريخ طويل تميزت في أحيان كثيرة بمنطق نزع الملكية و التوسع و الهيمنة.
وفي حين كان المشروع الصهيوني في فلسطين يحمل سمات هامة مشتركة مع مشاريع استعمارية استيطانية أخرى في العصر الحديث, فقد امتلك ما يميزه من خصائص محددة (1). وإحدى هذه السمات المميزة للصهيونية المميزة هي الهيمنة الواضحة لحركة اجتماعية سياسية عرّفت ذاتها ليس كحركة صهيونية فحسب بل و إلى حد ما كحركة اشتراكية أيضا , لفترة امتدت لأكثر من نصف قرن ( من أوائل ثلاثينات القرن الماضي حتى سبعينياته) , هذه الحركة المتنوعة والمتصارعة داخليا في كثير من الأحيان و التي هيمنت على القيادة و على الكثير من المؤسسات الهامة للجالية اليهودية في فلسطين ( الييشوف) منذ قيام إسرائيل في العام 1948 ( الدولة التي خلقتها الصهيونية ) هي ما يمكن وصفها باسم " الصهيونية العمالية" التي اعتبرت أن الطبقة العاملة اليهودية والحركة العمالية في فلسطين بمثابة طليعة المشروع الصهيوني للهجرة والاستيطان وبناء الدولة ، وقد مارست في ذروة قوتها هذه الهيمنة عبر شبكة كثيفة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي صاغت بصورة قوية العديد من مجالات الحياة اليهودية في فلسطين ما قبل الدولة ثم في إسرائيل. غير أن هذه الهيمنة بدأت بالتآكل في السبعينيات، وفي العقود التي أعقبت انتصار اليمين الصهيوني في انتخابات العام 1977، تفسخت قواعد قوتها التي كانت تتبجح بها في السابق أو تم تفكيكها. ونتيجة لذلك، ازدادت هامشية حزب العمل الإسرائيلي، وأطراف اليسار الصهيوني الأخرى والمؤسسات التابعة له في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الإسرائيلية اليهودية.
نال الدور المركزي الذي لعبته الصهيونية العمالية في هذه الفترة التاريخية الطويلة قدرا كبيرا من الاهتمام البحثي(2). وهنا أشارك بشكل نقدي بما أعتبره التحليل الأكاديمي الأكثر إبداعًا وإثارة للاهتمام لدور الصهيونية العمالية في صياغة المشروع الصهيوني في بدايته، باستخدام مقال - تم تجاهله إلى حد كبير من قبل الباحثين - نشر في أواخر عشرينيات القرن الماضي لمفكر وقائد عمالي صهيوني بارز، استكشف فيه أنه يمكن للصهيونية العمالية الاستفادة من دروس “الفصل حسب اللون" في جنوب إفريقيا و تطبيقها في فلسطين. إن غرضي من القيام بذلك هو تسليط الضوء ليس فقط على بعض العوامل والديناميكيات التي ساعدت في إعطاء المشروع الصهيوني طابعه الخاص وتمييزه عن مشاريع مماثلة في أماكن أخرى ، ولكن أيضا لفهم أفضل لما هو مشترك بينها، لاسيما فيما يتعلق بالطرق التي يحكم فيها الإكراه والعنف وعمل الدولة العلاقة بين المستوطنين أو الأقليات السائدة من ناحية والسكان الأصليين من جهة أخرى, في فلسطين كما في أي مكان آخر
تفكيك الصبغة الأسطورية للصهيونية المبكرة في فلسطين
يطعن عالم الاجتماع غيرشون شافير في كتابه "الأرض والعمل" وأصل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، 1882-1914 في افتراض التيار الرئيسي للباحثين في تاريخ الصهيونية( وهم في معظمهم صهاينة) بأن الأفكار والقيم التي جلبها معهم العديد من اليهود القادمين من شرق أوروبا والذين استقروا في فلسطين في فترة الهجرة الثانية "عليا " (1904-1914) يمكنها أن تحدد بصورة جيدة السمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الرئيسية للييشوف، وتاليا إسرائيل في أول عقدين أو ثلاثة من وجودها(3) .فعلى سبيل المثال، تفترض الكثير من الأدبيات التقليدية (والإسرائيلية الشعبية) أن إنشاء الكيبوتز وغيره من أشكال المشاريع الجماعية أو التعاونية، والقوة الاجتماعية والسياسية للحركة الصهيونية العمالية، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية والسياسات التي ميزت إسرائيل في عقودها المبكرة نبعت من القيم الاشتراكية التي اكتسبها رواد "الهجرة الثانية" هؤلاء (المؤسطرين بشدة ) [يعرفون باسم حالوتزيم halutzim]) في أوروبا و ثم سعوا لتحقيقها في فلسطين(4). و بديلا عن هذه الصورة[الأسطورية[ يعتمد شافير على الإرث التاريخي-الاجتماعي الذي يمثله بارينغتون مور وتصنيف أشكال الاستيطان الأوروبي في الخارج المستمد من أعمال دي.كي. فيلدهاوس وجورج فريدريكسون لإنتاج تحليل أكثر مادية لتطور المشروع الصهيوني المبكر (5). و لم يعر شافير كبير اهتمام إلى تلك الأفكار والرؤى التي كانت محشوة برؤوس رواد الهجرة الثانية عندما نزلوا من قواربهم القادمة من أوروبا، بل اهتم أكثر بطبيعة و عقابيل تفاعلاتهم مع الظروف على الأرض في فلسطين نفسها. وانصبه جهده المركزي على طبيعة استجاباتهم -التي أنجزوها في نهاية المطاف عبر صيرورة طويلة الأمد من التجربة والخطأ- إلى البيئة الاجتماعية الاقتصادية السلبية التي واجهوها هناك، لا سيما الأسواق المحلية للأرض والعمل، وفقا لما حملته تلك المجموعة من الصهاينة من رؤية بروليتارية و صراع طبقي غير مثبت من الناحية العملية في السياق الفلسطيني.
قدم شافير توصيفا إمبريقيا ثريا و إسهابا تاريخيا متينا وتحليليا محفزا للكيفية التي قامت فيها الحركة الصهيونية العمالية المبكرة في فلسطين في بدايات العام 1914 بوضع حلول قابلة للاستمرار لمعضلتين رئيسيتين واجههما أعضاؤها (والمشروع الاستيطان الصهيوني الذي سعوا إلى قيادته و تشكيله). أولاً، بعد فشل الجهود لتأمين فرص عمل لهؤلاء الوافدين الجدد كعمال زراعيين مأجورين في مزارع يملكها اليهود، بسبب أجورهم المرتفعة وفرص العمل المحدودة، فتم اختراع شكل جديد من أشكال الاستيطان الزراعي الجماعي[أي الكيبوتس] ( الذي تلقى الدعم المالي والتقني من المنظمة الصهيونية التي يقودها البرجوازيين) يمكنه أن يستوعب المهاجرين الجدد ويحافظ عليهم بفعالية أكبر ويساعد على تحقيق الاستيطان اليهودي على الأرض. ثانياً, تخلت الحركة الصهيونية العمالية الناشئة في الفترة ذاتها (بعد الكثير من الجدل والخلاف) عن جوانب رئيسية من إيديولوجيتها الأولية واعتنقت العقائد المزدوجة "لاحتلال العمل" [كيبوش هعفودا] و "العمالة العبرية[ عفودا عفريت] .لم يتم تصوير هذه المبادئ على أنها مجرد تحويل المهاجرين اليهود (من الطبقة المتوسطة إلى حد كبير) إلى رواد عماليين مميزين (يفضلون أن يكونوا زراعيين) من خلال العمل الجسدي في القضية القومية، ولكن أيضا إنشاء طبقة عاملة يهودية آمنة في فلسطين من خلال الاستبعاد الأقصى في جميع قطاعات القطاع اليهودي في الاقتصاد المحلي للعمالة العربية المحلية ذات التكلفة الأقل. وهذا من شأنه أن يخلق أو يحافظ على فرص العمل في فلسطين للمهاجرين اليهود الحاليين والمستقبليين وبدون ذلك من المرجح أن يكون تأسيس مشروع الاستيطان الصهيوني موضع تساؤل.
تبنت الصهيونية بحلول العام 1914 استراتيجية تنمية اجتماعية اقتصادية تقوم على أساس الانفصال الاقتصادي واستبعاد العمالة العربية التي كان هدفها على المدى الطويل التطور المتدرج (المدعوم بشكل كبير من قبل الحركة الصهيونية الدولية) لاقتصاد يهودي حصري للعمالة اليهودية عالية الأجر في فلسطين, وهذا بدوره سيمكن في نهاية المطاف من إنشاء دولة يهودية قابلة للحياة(6). يصف شافير هذا النموذج ,بالاعتماد على تصنيف فيلدهاوس-فريدريكسون لأشكال الاستيطان الأوروبي، بأنه "الأسلوب الانفصالي للاستيطان المحض"، حيث يسعى أصحابه إلى إنشاء مجتمع مستوطن متجانس ومستقل لا يعتمد إلى حد كبير على( في الواقع يستبعد) العمالة المحلية(7). و يذكر شافير عن العواقب الهائلة على المسار المستقبلي للصهيونية في فلسطين التي نجمت عن تبني هذا المسار بحلول العام 1914 , فقد ساهم هذا الشكل الاستيطاني في صياغة جوانب المجتمع اليهودي في فلسطين (ومن ثم إسرائيل في العقود الأولى) بصورة حاسمة، الأمر الذي كرس بدوره أسس الهيمنة الاجتماعية والسياسية للصهيونية العمالية، حتى حين ارتكز استعداد الحركة في الفترة ما بين 1947-1949 لقبول دولة يهودية في جزء فقط من فلسطين – في مواجهة اليمين الصهيوني ، الذي رفض التقسيم وطالب بدولة يهودية في كل فلسطين.
كتاب غيرشون شافير بلا شك مؤلفا بارزا، بوصفه عمل ريادي في التحليل التاريخي الاجتماعي الذي فكك بصورة فعالة الكثير من الرومانسيات والأساطير التي اشتملت عليها الدراسات التي تناولت فترة الهجرة الثانية, لاسيما (وليس حصريا على كل حال ) من جانب الباحثين الإسرائيليين. إلى جانب أن الكتاب يعتبر الدراسة الأكثر تفصيلاً التي أنتجتها هذه الفترة ، فقد وفر الكتاب أيضا طريقة عالية الإنتاجية لوضع الصهيونية ضمن تصنيف المشروعات الاستعمارية الاستيطانية, وبهذا فهو, على هذا النحو, إسهاما هائلا في الأدبيات البحثية المتعلقة بالصهيونية.
على الرغم من مزاياه العديدة ،ثمة جوانب من حجة شافير يمكن للمرء أن يستغلها بشكل مفيد. على سبيل المثال، لاحظت في مكان آخر أنه على الرغم من أن تركيز شافير على الأرض وأسواق العمل مكنه من تقويض المقاربات المثالية والطوعية والإيديولوجية لتاريخ الصهيونية المبكر, إلا أن أسلوب التحليل (الذي ربما كان مفرطًا في الاقتصاد) يتعامل مع الأيديولوجية والثقافة والحياة السياسية كعوامل هامشية، مما يعني استبعاد بعض الأمور الهامة في القصة(8). فضلا عن المسألة التي تقول باستمرار الاستراتيجية الصهيونية العمالية و المؤسسات في التطور خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين, وعلى سبيل المثال . على سبيل المثال، لم يكتسب الكيبوتز شكله التنظيمي و أهميته سوى في في عشرينيات القرن الماضي ,و سوف يحتفظ الكيبوتز [ الذي أعاد شافير صياغته بذكاء و الذي يصفه " بطريقة سجالية" بأنه "النواة الحقيقية لتشكيل الدولة الإسرائيلية" (ص 184)] بشكله و أهميته السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية خلال نصف القرن التالي أو نحو ذلك, وفقط في أوائل الثلاثينيات ضمنت الصهيونية العمالية موقعها البارز بين مجموعة من القوى الاجتماعية والسياسية التي تناضل من أجل قيادة الييشوف والحركة الصهيونية. لذا يبدو من المعقول أن نسأل ما إذا كانت هذه التطورات وغيرها أمرا لا مفر منه، أو كما كان متوقعا قبل تطورات ما قبل العام 1914 ، كما قد يوحي شافير. ولتوسيع نطاق هذه المسألة , نقول بأن تحقيب شافير و اصراره على أن الخطوط الأساسية لمشروع المستوطنات الصهيونية قد تشكلت على نحو حاسم في الفترة 1904-1914 نتيجة الاعتماد المبكر لهذا على نموذج الاستيطان المحض ، يمكن اعتباره ضمنا أن جميع ما تبع ذلك كان في الأساس يتكشف عبر منطق، أو مجموعة متماسكة من الديناميكيات أو العمليات ناتجة عن القيود والاختيارات في فترة ما قبل عام 1914. قد يحجب هذا المنهج قدرتنا على رؤية التطور التاريخي للييشوف باعتبار أن تشكيله تم من خلال مجموعة واسعة من العوامل (وفي أغلب الأحيان طارئ) على طول المسار , وصولاً إلى العام 1948. والأهم من ذلك، أنه قد يحجب أيضا دور لإكراه وتدخل الدولة والعنف التي لعبت دورا في تسهيل تحقيق الاستراتيجية الصهيونية العمالية التي حددها شافير باعتبارها استراتيجية أساسية لتشكيل الدولة والمجتمع الإسرائيليين.
الصهيونية العمالية و مسألة "التنظيم المشترك"
لمعالجة هذه القضايا، أود أن أبدأ بلفت الانتباه إلى مقطع في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب شافير الذي ألمح بإيجاز كيف ولماذا يعتقد أن مسار الصهيونية التاريخي اختلف عن مسار جنوب أفريقيا: تم تحويل أهداف التيار الصهيوني السائد على الرغم من أننا ابتدأنا بالهدف المتطرف المتمثل في تفوق اليهود على مستوى حيازة الأرض في فلسطين، في ظل الظروف غير المبشرة [كذا] لاستعمار الأرض و أسواق العمل في هذا الجزء من الإمبراطورية العثمانية, فبعد أن فشلت الصهيونية في اجتذاب جماهير الشعب اليهودي واستمرارية اعتمادها على الدعم المالي الخارجي الهائل, ساهم هذا في الحد من طموحها و التغاضي عن مسار يحتمل أن يحولها عن مسار مشابه لجنوب أفريقيا : فسعت نحو نموذج من التطور الاقتصادي المتشعب لتقسيم الأرض, و على الرغم من أن هذه الاستراتيجية لم تنبع من تقدير التطلعات الوطنية الفلسطينية، بل من الحقائق التي لا مفر منها للديمغرافيا الفلسطينية ،فقد كان من المتوقع للحركة العمالية أن تقطع شوطا طويلا في طريق حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ثم أصبحت بعد ذلك وريثا له ، وفي الوقت نفسه التيار السائد في [المنظمة الصهيونية]. وبالتالي، التخلي التدريجي [بعد عام 1967] عن خطط التقسيم، مع رؤيتهم المرافقة لدولتين إسرائيلية و عربية جنبا إلى جنب في أرض إسرائيل / فلسطين، لصالح العودة إلى الأحلام المبكرة الداعية إلى التفوق في حيازة الأرض مع كل نتائجها المؤسفة، من شأنه أن يشير إلى الاستبدال النهائي و / أو التحول للحركة العمالية(9).
إن ﻣﻘﺎرﻧﺔ اﻟﻤﺴﺎر اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻠﻤﺸﺮوع اﻟﺼﻬﻴﻮﻧﻲ ﻣﻊ ﻣﺴﺎر ﺟﻨﻮب أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ أخضع العديد ممن غامروا بتبنيها إلى الإساءات ذات الدوافع السياسية، وﻟﻜﻦ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ بحثية, ليس ثمة اعتراض جاد على مثل هذا التحليل المقارن, فحتى الصهاينة, في الواقع, وجدوا مثل هذه المقارنات مفيدة في بعض الأحيان، و سوف أتطرق هنا إلى مثال واحد: مقال لزعيم صهيوني عمالي بارز نُشر في أواخر العشرينات من القرن الماضي قارن فيه بوضوح وضع اليهود في فلسطين مع وضع الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا. قد تساعد مناقشة هذا المقال في توضيح بعض القيود التي يفرضها نهج شافير وتمكننا من الوصول إلى فهم أكثر شمولية لخصوصيات الصهيونية.
ولد مؤلف المقال حاييم أرلوسوروف في العام 1899 لعائلة من الطبقة المتوسطة في مدينة رومني، في أوكرانيا التي كانت حينها خاضعة للروس. و في العام 1905 فرت عائلته إلى ألمانيا هربا من موجة المذابح المعادية للسامية المدعومة من النظام القيصري لمواجهة الثورة التي اندلعت في ذلك العام (10). درس أورلوسوروف الاقتصاد في جامعة برلين, وأعد أطروحته فيها والتي كانت بعنوان (تحليل نقدي لمفهوم ماركس عن الصراع الطبقي) تحت إشراف فيرنر سومبارت. وأصبح أرلوسوروف صهيونيا مع مرور الوقت، وفي الواقع كان أحد قادة حزب هبوعيل هتسعير[ العامل الفتى] أو حزب العمل الصهيوني في ألمانيا، وهو تيار اشتراكي-ديمقراطي (لكنه غير ماركسي صريح) أصر على أن اليهود المستقرين في فلسطين يجب أن يحولوا أنفسهم إلى طبقة عاملة (زراعية بالدرجة الأولى) تكون بمثابة طليعة للخلاص الوطني للشعب اليهودي.
هاجر أرلوسوروف إلى فلسطين في العام 1924. بمزيج من العبقرية الشابة و الخبرة الجامعية الألمانية في مجال الاقتصاد -وهو أمر نادر الحدوث بين قادة الصهيونية العمالية, حيث لم يتجاوز معظمهم المدارس الثانوية في المدن الصغيرة في روسيا القيصرية و جل ما كانوا يجيدوه جدال غير بارع للإرث الاشتراكي الديمقراطي الروسي أكثر من كونه تحليلا شبه أكاديمي-ارتقى بسرعة ليصبح شخصية هامة ليس فقط في حزبه الخاص بل أيضا في الحركة الصهيونية ككل. وقد حظي باهتمام خاص بسبب تحليلاته للمسائل الاقتصادية والمالية الصهيونية، التي قدمت مبررات قوية للسياسات التي كانت الصهيونية العمالية تحث بها الحركة الصهيونية الدولية ككل في الوقت الذي كانت لاتزال فيه هذه الأخيرة يهيمن عليها(لا سيما خارج فلسطين) "صهاينة عموميين " غير اشتراكيين أو ربما معادين للاشتراكية. في تلك السنوات كان على كل من الصهاينة العموميين والصهاينة العماليين أن يواجهوا تحديًا من الفصيل "التنقيحي Revisionist’ " الجديد داخل الحركة الصهيونية الدولية. كان التنقيحين محبطين لإعطاء الأولوية لحركة العمل البطيء للهجرة والاستيطان ؛و طالبوا الصهيونية بدلاً من ذلك بتوجيه نفسها نحو تأمين السيطرة على كل فلسطين (بما في ذلك ما هو اليوم الأردن) في أقرب وقت ممكن و بأي وسيلة ممكنة ، حتى لو كان ذلك يعني التصادم ليس فقط مع الأغلبية العربية في البلاد بل و بريطانيا أيضا التي احتلت فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى و التي التزمت رسميا منذ وعد بلفور 1971 بحماية ودعم المشروع الصهيوني(11).
وبحلول صيف العام 1927 ، كان حاييم أرلوسوروف مشغولاً في تل أبيب - التي تأسست قبل أقل من عقدين من الزمن كأول مدينة حصرية يهودية في فلسطين- في صياغة مقال يمثل جوهر تدخله فيما رآه كسجال حاسم حول سياسة الحركة العمالية الصهيونية فيما يتعلق بقضية العلاقات مع العمال العرب في فلسطين التي كانت على رأس جدول أعمال المؤتمر الثالث القادم للمنظمة العامة للعمال العبريين في أرض إسرائيل، المعروف باسم الهستدروت ( هستدروت تعني بالعبرية "منظمة") (12). التي تأسست في العام 1920 ، سعت الهستدروت إلى تنظيم كل العمال اليهود في فلسطين وحشدهم لتنفيذ المهام الصهيونية الحاسمة في الهجرة والاستيطان والتنمية الاقتصادية, امتلكت الهستدروت نحو 25000 عضوا و شبكة متنامية من المؤسسات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية مما جعلها بحلول عشرينيات القرن الماضي بمثابة العجلة الرئيسية التي حاول فيها الحزبان الصهيونيان العماليان الرئيسيان- حزب أرلوسوروف هبوعيل هتسعير و الحزب الأكبر أحدوت هعفودا (اتحاد العمل ، بقيادة السكرتير العام للهستدروت ديفيد بن غوريون) – السعي لبناء قواعدهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية و و المضي حثيثا نحو (وقد نجحا في النهاية ) الهيمنة على الييشوف والحركة الصهيونية.
التزمت منظمة الهستدروت بثبات بمبادئ العمل العبري واحتلال العمل ، وهو ما سبق لي أن عرّفته (أو أعيد تعريفه) في فترة "الهجرة الثانية" ليعني تحقيق العمل اليهودي الحصري في كل مؤسسة يهودية في فلسطين., فضلا عن الالتزام بالحد الأقصى للعمالة اليهودية في القطاع العام. لقد اعتقد معظم الصهاينة العماليين أن هذه السياسات فقط هي التي يمكن أن تكفل خلق فرص عمل كافية أو تأمينها في فلسطين بالنسبة لليهود الذين اعتادوا على مستوى معيشي أوروبي ينافسهم الآن وفرة من عمالة عربية رخيصة (وغير منظمة تقريبا). كما اعتبر هؤلاء القادة أن هذه السياسات تعد شرطا أساسيا لا غنى عنه لخلق اقتصاد يهودي في فلسطين يكون مكتفيا ذاتيا و منفصلا عن الاقتصاد العربي ، قدر الإمكان.
على الرغم من احتضان الهستدروت الثابت لمبدأ العمل العبري ، الذي سعت إلى تطبيقه في مواجهة مقاومة قوية (وناجحة في كثير من الأحيان) من قبل بعض أرباب العمل اليهود (وخاصة أصحاب مزارع الحمضيات ومقاولي البناء) الذين أصروا على توظيف عمال عرب أكثر رخصا و أقل إزعاجا، هذه المنظمة والحزبين الصهيونيين العماليين اللذين كانا منذ أوائل عشرينيات القرن العشرين يتصارعان بشأن سياساتهما تجاه الطبقة العاملة العربية الوليدة في فلسطين ، والتي بدأت عناصر منها بتنظيم نفسها. وغالبا ما كانت القضية التي تواجه الهستدروت مؤطرة كمسألة "التنظيم المشترك": مع الأخذ في الاعتبار أولوية النضال من أجل العمل العبري، وكان السؤال الجوهري يتمثل في الشكل أو الإطار التنظيمي الذي ينبغي على اليهود استخدامه في مؤسسات "مختلطة" (عادة ما تعني الحكومة) وخاصةً شركة سكك حديد فلسطين للتعاون أو حتى التوحد مع العمال العرب سعياً وراء مصالحهم الاقتصادية المشتركة؟ و بصورة أكثر شمولا , كيف ينبغي للهستدروت، كمؤسسة مركزية للحركة الصهيونية العمالية ذات مهمة "قومية" ( أي صهيونية) و طبقة عمالية “يهودية"، أن تقيم علاقات تواصل مع العدد القليل من النقابات العربية الفلسطينية القائمة أو بعض الحركة العمالية العربية المستقبلية؟
وقد أدرك قادة الصهيونية العمالية تماما ,عند النظر في هذه الأسئلة، وجود معارضة عربية فلسطينية واسعة للصهيونية، بالرغم من رفضهم الشديد لشرعية النزعة القومية العربية الفلسطينية وأصالتها، كما أنكروا وجود أي قاعدة شعبية أو جماهيرية لها، وأصر أولئك الصهاينة العماليين ( شعبيا على الأقل) أن النزعة القومية هذه ليست سوى أداة في يد نخبة ضئيلة من ملّاك الأرض العرب الأثرياء و المسلمين المتزمتين الذين رأوا في التقدم والتنمية والتنوير الذي جلبته الصهيونية إلى فلسطين تهديداً لقدرتهم على السيطرة على الفلاحين و العمال العرب واستغلالهم. ومضى بن غوريون أبعد من ذلك إلى حد القول في العام 1924 إن مصير العامل اليهودي في فلسطين (وبالتالي المشروع الصهيوني) يرتبط ارتباطا وثيقا بمصير العامل العربي . فأعلن أنه في حين لا يوجد أساس لأي حل وسط أو اتفاق بين الحركة الصهيونية والقيادة القومية أو العمالية العربية الفلسطينية ، كان ثمة أساس محتمل للتفاهم والتعاون بين العمال العرب واليهود بما يخدم في نفس الوقت الأهداف الطويلة الأمد للصهيونية ، وخاصة أهداف الصهيونية العمالية. و تمكن بن غوريون, من خلال تمثيل الطبقة العاملة العربية الوليدة كحليف محتمل للصهيونية، من التغلب على التناقض الواضح بين التزامه الراسخ من ناحية بالأغلبية اليهودية و (في النهاية) دولة يهودية في فلسطين، و الالتزام الرسمي ناحية أخرى بالديمقراطية في الوقت الذي كان فيه الجدل محتدما حول مسألة مجلس تشريعي منتخب لفلسطين يمثل العرب واليهود (13).
و استمر بن غوريون في إثارة الجدل حول أشكال التحالف بين العمال اليهود والعرب كطريقة للتغلب على المشاكل التي تواجه الطبقة العاملة اليهودية في فلسطين، لاسيما منافسة العمالة العربية الرخيصة وذلك في المناقشة التي سبقت المؤتمر الثالث للهستدروت، الذي كان من المقرر عقده في تموز -يوليو 1927. وأصر بن غوريون و رفاقه في حزب أحدوت هعفودا على ضرورة بقاء الهستدروت كمنظمة يهودية وصهيونية حصرا والاستمرار في الكفاح من أجل العمل العبري. بيد أنهم كانوا يأملون كذلك تخفيف الضغط التنافسي على الهستدورت الذي تسببه العمالة العربية سواء في الوظائف أو أجور العمال اليهود من خلال قيام حكومة فلسطين أو النقابات العربية بتحسين أجور العمال العرب , و في خضم ذلك كان هناك فصيل صغير لكن مؤثر على يسار الطيف الصهيوني العمالي يطالب بنقل وظائف الهستدروت الصهيونية صراحة إلى هيئة أخرى ، وأن يعترف هذا الجسم الجديد بالعمال العرب وتحويل نفسه إلى أداة للصراع الطبقي العربي اليهودي. و بحسب رؤيتهم من شأن عملية التنمية الرأسمالية الحتمية في فلسطين ، التي أدت إلى نمو الطبقة العاملة العربية وتنظيمها ، ووصول العمال العرب إلى الأجور المرتفعة، في المستقبل غير البعيد أن تقضي على التهديد الذي تشكله العمالة لعربة الرخيصة وغير المنظمة. وقد أزال مثل هذا التكهن لأتباعه باطمئنان ودون أي تناقض بين التزامهم بالصهيونية من ناحية, التزامهم المعلن بالدولية البروليتارية والنضال الطبقي من ناحية أخرى (14).
أورلوسوروف و العمل العربي و اليهودي
هاجم حاييم أورلوسوروف, في مقالته حول مسألة التنظيم المشترك(15) التي نشرها في العام 1927 كلا الوضعين, مستحضرا بصورة ضمنية مهارته كخبير اقتصادي ذو تربية أكاديمة و سمعة عريقة كمحلل اجتماعي محنك, فطالب جميع الأحزاب وتيارات الحركة الاشتراكية العبرية في أرض إسرائيل[ المصطلح العبري لفلسطين] أن ترى الحقائق كما هي دون أن يقحموا هذه الحقائق بصورة قسرية في تصورات و مذاهب مسبقة. ولا ينبغي لهذه الحركة و تياراتها و قادتها الامتناع عن استخلاص الاستنتاجات المتعلقة بالمهام الأساسية للعامل العبري في هذا البلد حتى وإن كانت تلك الاستنتاجات تناقض بوضوح الصيغ المقبولة. وكانت مسألة العلاقات بين العمالة اليهودية والعربية , بالنسبة له من بين القضايا الأساسية التي تواجه المشروع الصهيوني, فقد كان لهذه العلاقة -كما راها أرلوسوروف- جانبين أولاً: "يواجه العامل العبري في كل خطوة يخطوها منافسه البدائي من السكان المحليين الذين تزيد معايير احتياجاتهم عن الصفر بقليل بخلاف العامل لعبري الذي يتمتع بمعيار أوروبي لتلبية احتياجاته" .و يكمن سبب الفرق الشاسع في الأجور المتحصل عليها لكل طرف في "الاختلاف الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الواسع الذي يفرق الشعبين في أرض إسرائيل عن الأخر ". ثانياً ، لم يكن العامل اليهودي ذو الأجر المرتفع في فلسطين مواطنا مولودا في البلد و ننخرط في اقتصاد وطني طبيعي, بل كان [بكلمات أرلوسوروف] مهاجرا و في ذات الوقت رائدا، وكان نضاله للحصول على عمل جزء من صراع الصهيونية في سبيل الهجرة والاستيطان. ومن ثم كان من المستحيل تجنب الصدامات الناجمة عن المنافسة بين العمال العرب واليهود. و كان البعض قد اقترح , لحل هذه المعضلة, أن تقوم منظمة الهستدروت بالالتزام التام بالتنظيم المشترك , انطلاقا من القناعة بأنه يمكن للعمل النقابي العربي اليهودي المشترك القضاء على (أو التخفيف على الأقل ) مشكلة المنافسة بينما يمهد في ذات الوقت الطريق نحو الشغل العبري بحدوده القصوى أو الحصرية في القطاع اليهودي ضمن الاقتصاد الفلسطيني, في الوقت الذي كان فيه أرلوسوروف يؤكد على أن مثل هذا المسار قد يقوض في الواقع الأساس الاقتصادي والاجتماعي لليشوف ويؤدي إلى تفاقم التوترات السياسية مع العرب, ومن هنا كانت الحاجة إلى تقصي موضوعي فيما إذا كان مثل هذا التنظيم المشترك قادر بأي حال من الأحوال على القضاء فعليا على "الصراعات الناجمة عن التنافس بين العمالة العبرية الحديثة والمكلفة، والعمالة العربية البدائية الرخيصة ، وتخلق للعمال العبرانيين شروطا أكثر ملائمة لخوض نضالهم". لغزو العمل والاستيطان ". وهذا بدوره يتطلب تحليلاً ديناميكيًا للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين اليهود والعرب في فلسطين يتقصى تأثير الهجرة اليهودية والاستيطان على الاقتصاد و المجتمع العربي في فلسطين، وايضا الطرق التي تأثر بها هذا الاقتصاد.
وكان أرلوسوروف قد لاحظ في خضم النقاش بشأن التنظيم المشترك قيام بن غوريون وآخرون برفع شعار "العمالة العربية في القطاع العربي، والعمالة اليهودية في القطاع اليهودي ، والعمال المختلطون في القطاع المختلط (الحكومي)". كان بن غوريون يصر على أنه عندما يستبعد العمال اليهود العمالة العربية الرخيصة من العمل في القطاع اليهودي ، فإنهم لا يقومون بذلك استنادا إلى معايير الفصل و التمييز بحق العرب على أساس قومي, بل كانوا يدافعون عن أنفسهم فقط كعمال منظمين من التهديد الذي تشكله العمالة الرخيصة غير المنظمة , وهو الأمر الذي سخر منه أرلوسوروف: فالعامل العربي الذي يجد نفسه فجأة ملقى خارج حدود المستوطنة العبرية التي يتعامل معها، وهذا ليس لكونه عربي، بل كونه عاملا غير منظم و بأجر رخيص و سوف يوضحون له أن "هذا النضال في اتجاهه التاريخي هو أيضا صراع لرفع المستوى المادي الاجتماعي للعامل العربي الذي يعيش في أرض إسرائيل" ... ولا شك هنا من وجود "التناقضات القومية الأساسية". و كما يرى أرلوسوروف فإن العمال العرب الذين يطردون من أعمالهم من غير الرجح أن يقتنعوا بمثل هذه الشعارات أو تساعدهم في تعزيتهم بسبب فقدانهم لوظائفهم.
كما وجد أرلوسوروف أيضا ـن مقاربة بن غوريون تلك خاطئة و خيالية بطرق أخرى¸ فمثلا: هل يرفض اليهود حقا التوظيف في القطاع العربي إذا أتيحت لهم الفرصة؟ في الواقع ، كان العمال اليهود قد انتقلوا بالفعل إلى القطاع العربي وأزاحوا العرب من بعض مراكزهم ، على سبيل المثال كانت عملية نقل الحمضيات من البيارات إلى ميناء يافا، حكرا لعقود عدة لأصحاب الجمال العرب قبل أن يأتي اليهود بشاحناتهم و يزاحموهم في عملهم. و بصورة اشمل , لم يكن الاقتصاد العربي و الاقتصاد اليهودي قطاعين منغلقين في وجه بعضهما البعض على الدرجة من الإحكام ؛ في الواقع ، كانت الحدود بينهما قابلة للاختراق, فقد كانت سلع الشركات اليهودية المصنعة عن طريق العمل العبري تجد طريقها للأسواق العربية , في الوقت ذاته الذي كانت فيه البضائع و المنتجات العربية تدخل في الاقتصاد اليهودي مما يدل على كيفية ارتباط كلا الاقتصادين ببعضهما البعض . غير أن ما كان يشغل بال أرلوسوروف هو مسالة العمالة العربية الرخيصة التي شكلت تهديدا متواصلا للعمالة اليهودية مرتفعة الأجر. كان هناك على الدوام عرض غير محدود تقريبا من العمالة العربية الرخيصة ليس من داخل فلسطين فحسب , بل و من بالبلدان المجاورة أيضا , ومثل هذا الواقع كان يعني استمرار الضغط على الوظائف و الأجور اليهودية, ولعل هذا ما كان يجعل من إصرار بن غوريون على عدم وجود تناقض قومي جوهري بين العمال و اليهود إصرارا سخيفا, نظرا لأن ولا مقاربة لمسألة التنظيم المشترك أخذت هذه الحقيقة الاقتصادية الجوهرية بعين الاعتبار. أما أولئك الذين يقعون على اليسار و الذين اعتقدوا أن التنظيم المشترك يمكنه تحقيق المساواة في الأجور بين العمال العرب و اليهود كانوا يتجاهلون ببساطة حقيقة أن فلسطين كانت بلدا فقيرا يقع في منطقة فقيرة و متخلفة و الأجور فيه متدنية. وكان من المرجح للتنظيم المشترك أن يتسبب في استبدال العمال اليهود بعمال عرب , مما يؤدي إلى انهيار المشروع الصهيوني , مما دفع في الواقع بالاقتصادي الاستيطاني اليهودي القائم على الاكتفاء الذاتي و العمالة اليهودية عالية الأجر , أن يكون اقتصاد مستورد لرأس المال , كما يقول ارلوسوروف, أي رأس المال المستثمر في فلسطين من قبل المهاجرين اليهود والمستثمرين ولكن الأهم من ذلك هو "رأس المال الوطني" الذي تنشطه مؤسسات المنظمة الصهيونية وتوجهه إلى فلسطين للاستيطان اليهودي والتنمية الاقتصادية.
مقارنة بين فلسطين و جنوب افريقيا
قام أرلوسوروف إلى منهجية عقد المقار نات في سبيل تدعيم حججه لتعزيز حججه ضد رؤى التنظيم المشترك التي كان يتبناها بن غوريون وخصومه في أقصى يسار الطيف الصهيوني كانت غايته من تلك المقارنات توضيح التحدي الذي تواجهه الحركة الصهيونية العمالية في فلسطين: فما هي الدولة الأخرى التي لامست ظروفاً مشابهة للظروف التي سيواجهها العمال اليهود في فلسطين؟ لم يكن من السهل العثور على حالات مماثلة ، فلا يوجد على وجه التقريب مثالا أو أمثله لجهود قام بها أشخاص يعملون في مستوطنة بمعيار احتياجات أوروبية لتحويل بلد ذي مستوى منخفض من الأجور أقل مما هو عليه من خلال هجرة العمالة الرخيصة إلى موقع للهجرة الجماعية و الاستيطان الجماعي دون استخدام وسائل قسرية. لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية-كنموذج- أية مقارنة مفيدة، لأسباب مختلفة، و الأمر ذاته ينطبق على أستراليا ونيوزيلندا، بسبب استبعاد هذه النماذج بصورة كبيرة المهاجرين غير البيض. وخلص أرلوسوروف, في النهاية, وبعد استعراضه للاحتمالات المختلفة إلى أن "إقليم دولة جنوب أفريقيا، ومسألة العمل هناك، هو المثال الوحيد الذي يتشابه بشكل كافٍ مع الظروف الموضوعية والمشاكل التي تسمح لنا بالمقارنة". و الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من هذه المقارنة, كما يرى, كانت لها آثار واضحة على سياسة الصهيونية العمالية في فلسطين ، على الرغم من الاختلافات بين القضيتين.
ابتدأ أرلوسوروف بالإشارة إلى أنه في العام 1922 كان في جنوب أفريقيا حوالي 1.5 مليون شخص من أصول أوروبية ونحو 5.5 مليون غير أوروبي ، منهم 97٪ أفارقة أو من أجناس مختلطة.
كان العمال المحليون يفوقون عدد العمال الأوروبيين إلى ح كبير في قطاعات الزراعة والتصنيع وتعدين الذهب، على الرغم من احتكار الأوروبيون للحرف لتي تتطلب المهارة العالية و الوظائف شبه الماهرة و وظائف الإشراف وبالتالي كانوا يتلقون رواتب أعلى بكثير, ومن أجل الحفاظ على المكانة المميزة للعمال البيض، منعت جنوب أفريقيا تدفق المزيد من المهاجرين من آسيا, ومن ثم ، بدءا من قانون العمل و المناجم للعام 1911 (الذي يشار إليه عموما باسم "قانون الفصل حسب اللون Color Bar Act ") الذي حافظ على تقسيمات عريضة من سوق العمل لصالح البيض. كما ذهبت حكومة الائتلاف الوطني - العمل الجديدة التي جاءت إلى السلطة في عام 1924 في أعقاب (وردا على) القمع الدموي لـ "تمرد راند"[ إضراب عام ضخم وانتفاضة من قبل عمال المناجم البيض] إلى ما هو أبعد حين تبنت ما أصبح يعرف باسم "سياسة العمل المتحضرة" ، المصممة لحماية وظائف العمال البيض ذوي الأجور العالية ووضعهم المميز باستبعاد الأفارقة وغيرهم من غير البيض من قطاعات واسعة من سوق العمل. تجلت هذه السياسة في سلسلة من القوانين واللوائح و التشريعات التي منحت نقابات (البيض) الاعتراف الرسمي وحقوق المساومة الجماعية، وحمت العمال البيض من المنافسة غير البيضاء في سوق العمل من خلال تحديد الحد الأدنى للأجور وظروف العمل بمعيار "أوروبي" ، و عززت فعالية الفصل حسب اللون في المناجم و في العديد من قطاعات الصناعات الأخرى في جميع أنحاء البلاد. جنبا إلى جنب مع سلسلة القوانين التي سعت لتقييد الأفارقة في " المحميات المحلية " والسيطرة على حركتهم، وهو الاساس الذي تم وضعه لم سيتم توسعيه بعد العام 1948 وتقويته وتنظيمه في منظومة فصل عنصري[أبارتيد] كاملة (16).
لم يكن أرلوسوروف معنيا هنا بالمسالة الأخلاقية لمثل هذه الإجراءات : لا يهم إذا كنا نرفض هذه السياسة [...] أو نسوغها. البعد السياسي الكلي للمسألة لا ينبغي له أن يقارن [بفلسطين] ولا أن يأخذنا نحن [اليهود في فلسطين] بعين الاعتبار , فما هم هنا هو تسليط الضوء على العوامل الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية التي جلبت ، بشكل صحيح أو عن طريق الخطأ ، قوانين الفصل حسب اللون .
جادل أرلوسوروف بمواجهة العمال اليهود من حيث هم سوقا تهيمن عليه عمالة عربية وفيرة و رخيصة مما يجعلهم قريبي الشبه مع وضع العمال البض في جنوب أفريقيا . ويصر , بطبيعة الحال على أنه لم يكن بإمكانهم في ظل الوضع السياسي في فلسطين متابعة المسار الذي اتبعه العمال البيض المنظمون في جنوب إفريقيا، أي استبعاد غير اليهود من الوظائف ذات الأجور المرتفعة من خلال التشريعات وتعليمات الدولة. ولا يمكن أن يلعب التنظيم المشترك أي دور مفيد ، نظراً للارتباطات بين الاقتصادين العربي واليهودي في فلسطين: فربما لا يمكن مواجهة قوى سوق العمل ، وبالتالي لن تؤدي إلا إلى زيادة الضغط على الأجور اليهودية ، مما يؤدي في النهاية إلى طرد معظم العمال اليهود من فلسطين. قد تؤدي جهود التنظيم المشترك إلى تفاقم التوترات السياسية بين العرب واليهود. وخلص أرلوسوروف إلى أنه "ما دام هناك مستويان للأجور في أرض إسرائيل"، فإن الاقتصاد المحلي [العربي] واقتصاد المستوطنات [اليهودية] ليسا اقتصادا واحد, ونتيجة لذلك لم يتبلور مجتمع العمال في جسم واحد، وينبغي أن تتطور الحركات "العمالية" لكلا الشعبين بشكل مستقل في مجالين منفصلين. و باختصار، و على الرغم من الشعارات والتأكيدات التي تقدم بها بن غوريون والمعارضة الصهيونية اليسارية فقد كان للصراع بين العمال اليهود والعرب في فلسطين جذور اقتصادية حقيقية وأبعاد قومية قوية، ولم يكن بالإمكان التخلص منها أو حلها بسهولة أو بسرعة. وتنبأ أرلوسوروف بأن فلسطين , ولعقود قادمة ستحتوي من ناحية على اقتصاد يهودي حديث ذو عمالة مرتفعة الأجر الذي سيتم تدعيم توسعه عن طريق رأس المال و من ناحية أخرى اقتصاد العربي ذو عمالة منخفضة الأجر يتكيف تدريجيا مع الاقتصاد اليهودي, كان الرد الوحيد من الناحية الاقتصادية على وضع العمال اليهود في فلسطين هو أن تنسي الحركة العمالية اليهودية التنظيم المشترك وما شابه ذلك من المدافعات, وتسعى عوض عن ذلك (وبدعم من الحركة الصهيونية الأوسع) جاهدة إلى رفع الأجور الحقيقية ومستويات المعيشة للعمال اليهود من خلال الاستثمار في البنية التحتية والخدمات، وفي نفس الوقت رفع إنتاجية القطاع اليهودي من خلال الاستثمار في التدريب المهني والتقني. قد يساعد في هذا أيضا قيام حكومة فلسطين بإغلاق حدود البلاد أمام العمال المهاجرين من البلدان المجاورة ؛ غير أنه, وعلى المدى البعيد, يصر أرلوسوروف على أن المخرج الوحيد للعمال اليهود في فلسطين هو سياسة العمل العبري المتمثلة في الإقصاء إلى جانب وتائر تنمية سريعة منفصلة ممكنة للاقتصاد اليهودي.
كان موضوع التنظيم المشترك محل جدل حامي عندما عقد المؤتمر الثالث للهستدروت فعليا في تموز-يوليو من العام 1927، و في ختام أعمال المؤتمر أتى القرار المتعلق بالتعاون بين العمال العرب واليهود الذي تم تبنيه أخيراً تعبيرا عن صدى شعارات بن غوريون إلا أن مضمونه كان يمثل مقاربة أرلوسوروف بشكل واضح. وقد اعترف القرار بالحاجة إلى "التعاون بين العمال اليهود والعرب في الأمور الحيوية المشتركة بينهم" ، لكنه أكد بعد ذلك مباشرة على أن "أساس العمل المشترك هو الاعتراف بقيمة وحقوق الهجرة اليهودية الأساسية لفلسطين". وبينما أعلن عن إقامة "تحالف دولي لعمال فلسطين" ، يشمل كلا من اليهود والعرب ، فقد أكدت القرارات من جديد على استقلالية منظمة الهستدروت و التزامها التام بمهمتها الصهيونية(17). في السنوات التي تلت كف العمال العرب عن احتلالهم مكانا رئيسيا في خطاب و سلوك التيار الرئيسي للصهيونية العمالية ، على الرغم من أنه , كما ناقشت ذلك في مواضع أخرى, كان العمال العرب في أماكن العمل الاستراتيجية السياسية والاقتصادية من وقت لآخر هدفا لتنظيم الجهود من قبل الهستدروت ،و بطرق متعددة مختلفة حتى العام 1948 كانت قضية العلاقات مع العمال العرب و الحركة العمالية العربية التي كان في نشاط متزايد [ في الأربعينيات](وغالبا بقيادة شيوعية ) تشق طريقها على جدول أعمال الهستدروت (18). وقد ركزت الحركة الصهيونية العمالية ,بدلاً من ذلك ،و حتى قيام دولة إسرائيل في العام 1948 ،على تنفيذ الاستراتيجية التي كانت تتشكل منذ فترة ما قبل الحرب والتي ساهم أرلوسوروف في صياغتها في أواخر عشرينات القرن العشرين. وكانت هذه الاستراتيجية -كما يقول مايكل شاليف بدقة- مبنية على "زواج المصلحة" بين حركة عمالية بدون عمل وحركة استيطان بدون مستوطنين (19). وحشدت الأحزاب العمالية الصهيونية، من أوائل سنوات القرن العشرين وصولاً إلى أوائل الثلاثينيات من القرن، عددًا كبيرًا من اليهود الذين لديهم دوافع عالية للهجرة إلى فلسطين و الاستقرار بها وعلى استعداد للقيام بأي مهام ضرورية من أجل إرساء أسس الدولة اليهودية المستقبلية، في حين أن المنظمة الصهيونية التي يقودها الممولون البرجوازيون كانت تقوم بجمع المال اللازم للحصول على الأراضي من أجل الاستيطان، وخلق البنية التحتية وفرص العمل، وتقديم الخدمات بحيث يكون للعمال مصدر رزق ويكونوا قادرين على العمل كقوات طليعية ومصادمة لمشروع الاستيطان في فلسطين نفسها. كما عملت القيادة الصهيونية على الحفاظ على علاقات جيدة مع بريطانيا التي حكمت فلسطين والتي كان دعمها للصهيونية أساسياً لنجاحها. وكما أشرت من قبل ، فإن هذه الاستراتيجية ساعدت أيضاً الحركة الصهيونية العمالية على أن تصبح القوة الاجتماعية-السياسية الأولى في إطار الييشوف ثم داخل الحركة الصهيونية الدولية. كما أنها سوف تهيمن على إسرائيل ليس فقط سياسياً ولكن أيضاً ثقافياً واجتماعياً ،منذ قيام تلك الدولة في العام 1948 حتى سبعينيات القرن الماضي ، عندما تم كسر قبضتها على السلطة أخيرًا من قبل الأحفاد الأيديولوجيين للصهيونية التصحيحية.
عكس المسار المهني الخاص لأرلوسوروف صعود الصهيونية العمالية ، على الرغم من أنه لن يعيش ليرى انتصارها. وقد لعب في العام 1930 دورا بارزا في تحقيق اندماج حزبه مع حزب بن غوريون أحدوت هعفودا لتشكيل ما بات يعرف باسم الماباي "وهو اختصار يعني حزب عمال أرض إسرائيل"، الذي أصبح أحد كبار قادته والذي سوف يهيمن بطرق مختلفة على الييشوف والسياسة الإسرائيلية حتى العام 1977. وبعد عام واحد من تشكيل الماباي تم انتخاب اورلوسوروف عضوا في السلطة التنفيذية للمنظمة الصهيونية كممثل للماباي وعين في المنصب الرئيسي لمدير الدائرة السياسية للوكالة اليهودية. ويشير صعوده إلى هذه المناصب، فضلا عن ارتقاء بن غوريون إلى عضوية الوكالة التنفيذية اليهودية وبعد بضع سنوات إلى رئاسته إلى القوة السياسية المتنامية لـ "ماباي" (وقوة الحركة الصهيونية العمالية التي قادتها) داخل الحركة الصهيونية الأوسع.
في حزيران-يونيو 1933 ، تم إطلاق النار على أرلوسوروف فمات على الفور وذلك أثناء تجواله مع زوجته على شاطئ تل أبيب.و لم يعرف القاتل قط ، ولكن في ذلك الوقت (ولعقود بعد ذلك) يلقي الصهاينة بالتهام على الجناح اليميني الغاضب (من بين أمور أخرى) من دور أرلوسوروف الرائد في المراحل الأولى من المفاوضات بين الحركة الصهيونية والنظام النازي المعادي للسامية الذي وصل للتو إلى السلطة في ألمانيا. فقد ساعد أرلوسوروف , اثناء تلك المفاوضات , في وضع أسس اتفاق نقل " أنجز بعد أشهر قليلة من اغتياله يتم بموجبه حصول اليهود الألمان الذين سيسمح بمغادرتهم نحو فلسطين في الحصول على جزء من عائدات بيع البضائع الألمانية ن قبل الحركة الصهيونية على سبيل التعويض عن ممتلكاتهم المصادرة من قبل الدولة الألمانية، وجزء آخر من هذه العائدات سيعود لصالح بناء الدولة الصهيونية في فلسطين بما في ذلك شراء الأراضي و التنمية الصناعية (20). كان هذا الاتفاق مثيرا للجدل لأنه كسر المقاطعة الاقتصادية الدولية التي تبناها اليهود والجماعات الأخرى المناهضة للفاشية التي انطلقت ضد النظام النازي الذي كان لا يزال هشا ،كما ساهم هذا الاتفاق ارتفاع حدة التصعيد بين الماباي و التصحيحيين . بيد أنه رغم كل هذا , يمكن القول أن هذا الاتفاق يحمل معنى منطقيا من الناحية السياسية و المعنوية لجهة إصرار أرلوسوروف على الأهمية الحاسمة لتنمية الاقتصاد اليهودي في فلسطين من خلال استثمار "رأس المال القومي" كوسيلة للتغلب على ظروف سوق العمل غير الملائمة للعمال اليهود.
العنف ، و الإكراه ، و الاستبعاد
يقدم تحليل أرلوسوروف السبيل للفهم الكامل لحدود تركيز شافير على فترة ما قبل عام 1914 وعلى موائمة الصهيونية العمالية للظروف الاجتماعية-الاقتصادية في أواخر الحقبة العثمانية في فلسطين باعتبارها تكوينًا حاسمًا. وكما رأينا، أكد أرلوسوروف في مقالته التي نشرها في العام 1927 أنه لم يكن هناك "أي مثال أو أمثلة على وجه التقريب [أي ، بخلاف الصهيونية] لجهود قام به أشخاص يعملون في مستوطنات بمعيار احتياجات أوروبية لتحويل بلد ذي مستوى منخفض من الأجور [ ...] إلى موقع للهجرة الجماعية والاستيطان الجماعي (دون استخدام وسائل قسرية)". و سوف أسلط الضوء على النتيجة الأخيرة من المقطع السابق كي ألفت الانتباه إلى شيء مهم مفقود أو محذوف في مقالة أرلوسوروف وأيضا من توصيف شافير.
من نافل القول التأكيد على صحة ما قاله أرلوسوروف بافتقار الحركة الصهيونية في العشرينات إلى النفوذ السياسي الذي تمكن العمال البيض المنظمون في جنوب إفريقيا من اختباره بعد العام 1924 والذي استخدموه لتقوية وتوسيع الفصل حسب اللون . لم تسيطر الحركة الصهيونية على الدولة الاستعمارية البريطانية في فلسطين: في حين أن السلطات البريطانية كانت ملتزمة بتشجيع إقامة "وطن قومي" للشعب اليهودي في فلسطين ، فقد سعت أيضا لتجنب نفور الأغلبية العربية في فلسطين العربية بشكل كامل، وبالطبع كان عليهم أن يأخذوا في الاعتبار المصالح الإمبريالية الأوسع. صحيح أن القيادة الصهيونية في فلسطين وبريطانيا كرست الكثير من الوقت والجهد لممارسة الضغط على البريطانيين من أجل المعاملة التفضيلية ، بما في ذلك تخصيص أكبر عدد ممكن من الوظائف الحكومية لليهود بدلاً من العرب. ولكن هذا الضغط, بالطبع لم يكن هو نفسه قادر على استخدام جهاز الدولة لحفظ مجموعة واسعة من الفئات المهنية لأقلية متميزة، كما كان الحال في جنوب إفريقيا المعاصرة. ومع ذلك، خلال الفترة الاستعمارية البريطانية (1918-1948) ، أي بعد الفترة التي اعتبرها شافير تكوينية، استخدمت الحركة الصهيونية العمالية بالتأكيد وسائل قسرية لتعزيز استراتيجية العمل العبري، بما في ذلك المقاطعة، والضغط الاجتماعي ،والاعتصام الجماهيري ( وفي بعض الأحيان العنف) ضد أرباب العمل اليهود الذين رفضوا توظيف اليهود فقط(21).مع ذلك ، فإن النضال المستمر منذ عقود من أجل العمل العبري لم يكن ناجحا تماما. في الواقع، لم يكن ناجحا بسبب غياب تدخل الدولة في سوق العمل, وعلى سبيل المثال , لم تفلح منظمة الهستدروت (باستثناء فترة وجيزة خلال الثورة العربية الفلسطينية 1936-1939) ,رغم جهودها المستمرة, في استبعاد العمال العرب العاملين في مزارع الحمضيات اليهودية، و لا إبعادهم الكلي عن قطاعات أخرى من الاقتصاد اليهودي, و لم يتمكن العمال اليهود من أن يضمنوا بصورة فعالة نسبة متزايدة من الوظائف التي سعوا إليها في القطاع الحكومي على حساب العمالة العربية. في الواقع ، لم يتم كسب الصراع لصالح العمل العبري إلا بعد قيام إسرائيل في العام 1948 (وتحول جذري في السياق الديموغرافي) حيث يمكن لتدخل الدولة بصورة واسعة حفظ جزء كبير من سوق العمل الإسرائيلي لليهود - وهذا (ليس مفاجئًا). و كما أظهر ذلك مايكل شاليف, قادت الهجرة اليهودية (خاصة من الدول العربية والإسلامية) في خمسينيات القرن الماضي والبطالة العالية بين اليهود الدولة (التي تعمل بشكل وثيق مع الهستدروت) لمحاولة حجز الوظائف في القطاعين الخاص والعام الإسرائيليين لليهود عن طريق منع العرب الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في (والآن مواطنون رسميون) إسرائيل من العمل فيها, و لم يتم تخفيف هذه السياسات إلا عندما بدأ النقص في الايي العاملة في الازدياد ابتداء من العقد الثاني من وجود الدولة فبذلت جهود حثيثة للاستفادة من هذه العمالة الرخيصة لصالح الاقتصاد الإسرائيلي الذي يهيمن عليه اليهود، من بين أمور أخرى من خلال السماح لمواطني الدولة الفلسطينيين في الانضمام إلى الهستدروت والاستفادة من التبادلات العمالية التي تديرها (22). و يمكننا أن نرى أن مقاربة شافير ,عند الأخذ بما سبق بعين الاعتبار ,لا تترك مجالاً للتطورات لما بعد ما يراها الفترة التكوينية من 1904 إلى 1914 فحسب، بل إنها تخفق أيضًا في التعامل مع حقيقة أن الاستراتيجية الصهيونية العمالية والاقتصادية في حد ذاتها و الاستبعاد لقومي لم يكونوا -و لا بمقدورهم أن - يلعبوا الدور الحاسم في تمهيد الطريق لانتصار المشروع الصهيوني الذي يعزوه شافير إلى هذه الاستراتيجية. وفي نهاية المطاف ، لا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح إلا لأنها تكشفت في سياق شكلته ديناميات أخرى ، والأهم من ذلك لأهدافنا ، عمل الدولة ، والأشكال المختلفة من القسر ، والصراع العنيف.
لم يكن ذيوع نسبة كبيرة من هذا القسر و العنف مباشرة ن قبل الحركة الصهيونية قبل عام 1948 أو إسرائيل بعد ذلك وعوض عن هذا فقد تم تنفيذ هذه الاستراتيجيات من قبل الآخرين. لقد كان المشروع الصهيوني، منذ نشأته ، بحاجة إلى دعم وحماية من قوة خارجية من أجل التغلب على سلبيته الديموغرافية وغيرها من الحروب على الأرض ، داخل فلسطين وفي المنطقة الأوسع ، ناهيك عن تزايد مقاومة السكان الأصليين. لقد كرس تيودور هرتزل ، الذي أسس المنظمة الصهيونية في العام 1897 ، الكثير من وقته وطاقته على مدى السنوات التي تلت جهدا (غير ناجح في حياته) لتأمين الدعم للصهيونية من قبل واحدة أو أكثر من القوى العظمى في أوروبا ،وفي تقويم صحيح تماما فإن عدم توفر مثل الدعم كان من المحتمل أن ينتهي بالصهيونية كواحد من المخططات الطوباوية التي طفت على سطح الأحداث في أوروبا في تلك الفترة(23). وقد توجت الجهود الصهيونية لتأمين دعم القوى الكبرى في النهاية بالنجاح في العام 1917، عندما أيدت بريطانيا هذا المشروع خلال ربع قرن وتسهيل غرس مجتمع يهودي قابل للبقاء في فلسطين ، لكن ليس بدون تردد وصراعات.
ونتيجة لذلك ، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، لم تمارس معظم أعمال الدولة والقسر اللازمة لتسهيل نجاح الصهيونية في مواجهة المعارضة العربية المتزايدة لأغلبية يهودية ودولة يهودية في فلسطين على يد الحركة الصهيونية نفسها , وإنما من قبل الدولة الاستعمارية البريطانية. في الواقع ، من دون الدعم و الحماية البريطانيين، لم يكن للمشروع الصهيوني في فلسطين أن يتحقق ببساطة. فعلى سبيل المثال ، من المشكوك فيه إلى حد كبير ، أنه حتى بعد عقدين من الهجرة والاستيطان والتنمية على نطاق واسع تحت الحماية البريطانية، كان يمكن للييشوف أن يقاوم ثورة العرب الفلسطينيين في الفترة 1936-1939 ضد الحكم الاستعماري البريطاني والصهيونية. كما أنها لم تكن قادرة على التطور ديمغرافيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا إلى الحد الذي تستطيع فيه تحدي السيطرة البريطانية على فلسطين في أعوام 1945-1947 ومن ثم الاستمرار في هزيمة أعدائها الفلسطينيين والعرب والسيطرة على ثلاثة أرباع البلاد. لعبت القوى الخارجية الأخرى أدواراً حاسمة في نجاحات الصهيونية. لقد تم تسهيل انتصار إسرائيل في عام 1948-49 بشكل كبير من خلال ظرف دولي فريد مكنها من كسب الدعم السياسي من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكثير من الحسم العسكري لنجاحات إسرائيل العسكرية المبكرة قدمتها تشيكوسلوفاكيا، حيث استولى الشيوعيون على الحكم في شباط- فبراير 1948. وطورت إسرائيل تحالفا عسكريا وسياسيا وثيقا مع فرنسا بدء من أوائل الخمسينيات وحتى أوائل الستينيات، على قاعدة العداء المشترك للموجة المتصاعدة للقومية العربية، التي دعمت القضية الفلسطينية والنضال الجزائري من أجل الاستقلال. و بعد ذلك أي منذ منتصف الستينيات و بصورة أكثر قوة بعد انتصارها في حرب حزيران-يونيو 1967, أصبحت الولايات المتحدة الممول الخارجي الرئيسي لإسرائيل، والمزود الأول لها من لسلاح ، والمؤيد السياسي. وبعبارة أخرى ، فإن توسيع إطار التحليل ليشمل ليس فلسطين فقط، ولكن أيضًا السياقات الاستعمارية والدولية ذات الصلة، يمكن أن يساعدنا في رؤية أشكال الإكراه والعنف التي كانت أساسا تدعم المشروع الصهيوني و ضرورية لنجاحه.
بالإضافة إلى أخذ الدعم الخارجي في الاعتبار بشكل كامل ، فإن أي تفسير لنجاح استراتيجية الصهيونية العمالية والمشروع الصهيوني الأوسع لإنشاء دولة يهودية في أرض ذات أغلبية عربية ساحقة يجب أن يستحضر العنف المرتبط بشكل التقسيم الذي تم تنفيذه بالفعل في 1947-49 ، وإلى عواقب ذلك العنف. في المقطع الذي نُقل عنه في وقت سابق أكد شافير أن استراتيجية الصهيونية العمالية المتعلقة بمبدأ الانفصال الاقتصادي تكمن على قاعدة قبولها النهائي للتقسيم، الناجمة عن تفهم "الحقائق التي لا مفر منها للديمغرافيا الفلسطينية". لكن تلك الحقائق الديموغرافية كانت في الواقع بعيدة المنال، عن طريق التهجير الجماعي، من خلال الفرار أثناء الحرب و عمليات الطرد للغالبية العظمى من العرب الذين عاشوا في الجزء الفلسطيني الذي أصبح إسرائيل في 1947-1949 - وهي عملية لعب فيها المسؤولون وضباط ضباط الجيش من الحركة الصهيونية العمالية دورًا قياديا (24). ومن الجدير بالذكر أيضًا أن بن غوريون وزملائه امتنعوا عن محاولة احتلال ما تبقى من فلسطين الانتدابية في الأعوام 1948-49 ، ليس لأنهم فضلوا دولة يهودية أصغر بل لأنهم فضلوا دولة بأكثرية ديموغرافية يهودية و أقلية ديمغرافي عربية و ليس بسبب اي التزام مبدئي من قبلهم لتقاسم الأرض مع سكانها العرب. و البديل عن احتلال كل فلسطين كان فهم الصهيونية أن مثل هذه المحاولة في احتلال البلد كانت ستدخل دولة إسرائيل الجديدة في صراع مع شرق الأردن (شريكها في تقسيم فلسطين) ، ومع بريطانيا ، وربما مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أيضاً(25).
لذلك يمكن إعادة صياغة حجة شافير حول الارتباط بين الانفصال الاقتصادي والتقسيم، في التأكيد على أن التحقيق الكامل لاستراتيجية الصهيونية العمالية بالانفصال الاقتصادي تتطلب استخدام الإكراه والعنف من أجل إزاحة ز استبعاد معظم أو كل الفلسطينيون الذين يعيشون داخل حدود الدولة اليهودية. وهذا هو ، الشرط المسبق لتحقيق الغزو (مجازيا ) للعمالة هو الاستيلاء (العسكري) على الأرض وتشريد معظم سكانها الفلسطينيين. لقد أدرك حاييم أرلوسوروف ذلك في نهاية حياته القصيرة نسبياً. في مقالته المذكورة، حين أصر على أن "البعد السياسي الكامل للمسألة [التي تؤسس قانونا الفصل حسب اللون والتفوق الأبيض في جنوب إفريقيا] لا يتطابق (مع فلسطين) ولا أن يأخذنا بعين الاعتبار [أي اليهود في فلسطين]" .لكن في غضون سنوات قليلة، يبدو أنه توصل إلى أن تحقيق أهداف الصهيونية سيتطلب في نهاية المطاف عمل صبور و طويل الأمد للهجرة ، وشراء الأراضي ، والاستيطان ، وتطوير اقتصاد حصري يهودي عالي الأجر في فلسطين. و سيكون استخدام القوة في نهاية المطاف أمر لا مفر منه إذا ما أرادت الصهيونية النجاح في مساعيها. وقد أوجز أرلوسوروف ما رآه من خيارات صارخة توجه حركتهم في رسالة وجهها في حزيران-يونيو 1932 إلى حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية، لم يتم نشرها حتى العام 1949.
إن تزايد المعارضة العربية للصهيونية والضغط من أجل إنهاء الانتداب البريطاني قد يؤدي إلى استقلال لفلسطين بينما كان اليهود لا يزالون أقلية. إن تجنب تدمير المشروع الصهيوني قد يتطلب في هذه الظروف فترة انتقالية من الحكم الثوري المنظم للأقلية اليهودية [...] حكومة الأقلية القومية التي ستنتزع جهاز الدولة والإدارة والسلطة العسكرية من أجل الحيلولة دون خطر إغراقنا من حيث العدد وتعرضنا للخطر من قبل انتفاضة . وخلال هذه الفترة الانتقالية ، سيتم تنفيذ سياسة منهجية للتنمية والهجرة والاستيطان (26)
هذا ، بالطبع ، شبيه بما حدث في روديسيا في العام 1965 ، عندما أعلنت حكومة الأقلية البيضاء استقلالها عن بريطانيا من أجل منع حكم الأغلبية. كما أنه يحمل بعض الشبه بأحداث 1947-49 في فلسطين، عندما (مع تأييد الكثير من المجتمع الدولي)، هزمت الأقلية اليهودية (التي لا تزال أقل من ثلث سكان البلاد حتى أيار-مايو 1948) أعدائها و لقد قاموا بتشكيل دولة في معظم فلسطين ، وما رافق ذلك من تطورات أدت إلى نزوح أكثر من نصف سكان البلاد العرب الأصليين.
خطأ ما بعد 1967
و في النظر إلى تلك الأحداث , من الواضح القول أن الإكراه و العنف و تدخل الدولة لعبوا جميعا دورا مركزيا في صياغة و تشكيل تاريخ فلسطين بعد العام 1914 ، بما في ذلك تحقيق المشروع الصهيوني وتشكيل شخصية إسرائيل ومسارها. في ضوء ذلك ، قد نود النظر في ملاحظة مفادها أن شافير استعرض في المقدمة الأصلية لكتابه ، فيما وصفه "خطأ ما بعد عام 1967". كان هذا هو رأي [العديد من الإسرائيليين] بأن عملية تراكم الأراضي الإسرائيلية لم تنته في العام 1948 ولكن يجب أن تستمر من خلال ضم الأراضي بحكم الواقع أو بحكم القانون للأراضي المحتلة وسكانها إلى إسرائيل ، وبالتالي القضاء على إمكانية وجود فلسطين إلى جنب مع إسرائيل.
وعبر هذا المسار أكد شافير "سوف يستلزم رفض الدرس التاريخي المستفاد المؤلم القاضي بأنه لا يوجد في أرض إسرائيل / فلسطين ثمة بديل واقعي للسيادة يتم التعبير عنه و يحدده التقسيم الإقليمي"(27) .ويتسق هذا الإطار مع تتبع شافير لجذور التنازل عن الأرض إلى التجربة التاريخية المبكرة واستراتيجية الصهيونية العمالية ، لاسيما احتضانها لنموذج بديل من الاستيطان المحض . وبطرق عديدة، فإن هذا النموذج، الذي يعود أصوله لعمل و بناء شافير، والعقلية التي صاحبت ذلك، يظل في الواقع مهيمنا في إسرائيل. تشير استطلاعات الرأي وأفضليات التصويت إلى أن الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين لا يزالون اليوم يؤيدون إسرائيل كدولة يهودية من الناحية الديمغرافية قدر الإمكان. ويدعي الكثير من الصهاينة (ليس جميعهم على كل حال ) الآن أنهم مستعدون للتخلي عن السيطرة عن بعض الأراضي في الضفة الغربية (وبالطبع غزة) لضمان احتفاظ إسرائيل بأغلبية يهودية كبيرة. ولكن إذا نظرنا إلى الوراء إلى ما يزيد على 130 عامًا من النشاط الصهيوني في فلسطين ونوسع فهمنا لما استلزمه فعليا من مقتضيات المستوطنات الصهيونية المبكرة في فلسطين في أواخر الخلافة العثمانية إلى دولة يهودية تهيمن الآن على كل فلسطين، قد نتساءل ما إذا كان التصرف تجاه التسوية الإقليمية التي قال شافير أنها جزء لا يتجزأ من نموذج الاستيطان النقي يمكن اعتباره بشكل أساسي جوهر المشروع الصهيوني وطبيعته الأصيلة و الإثنية، والذي شكل مسلك إسرائيل لما بعد 1967 انحرافا فيه ، "خطأ" كما وصفه شافير. ليس من الواضح على الإطلاق، من الناحية التاريخية أو في الوقت الحاضر، أن نموذج الاستيطان النقي قد أدى بالفعل إلى التقسيم، بمعنى القبول الجدي للصهيونية ( و من ثم لإسرائيل) لحق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولة في جزء من وطنهم.
في الواقع ، بدلاً من فهم نصف قرن من تفوق الصهيونية العمالية (وقبولها المعلن للتسوية الإقليمية) كدولة صهيونية عادية أو طبيعية، والتي كانت منها تطورات ما بعد 1967 عد انحرافا غير طبيعي، قد نفهم مصلحة الصهيونية العمالية في التقسيم على أنها مرتبطة بمرحلة معينة في تاريخ المشروع الصهيوني، وهي مرحلة تحدد شروطها المحتملة بالواقع الديموغرافي في فلسطين، وفقدان الصهيونية لسلطة الدولة (قبل العام 1948)، ثم من خلال سيطرة إسرائيل على جزء فقط من فلسطين (قبل عام 1967).وكما رأينا، لم تكن النزعة الانفصالية السياسية، وبالتالي، السياسية التي افترضها شافير كمحور مركزي لمنطق الصهيونية العمالية، كافية لتحقيق أهداف الصهيونية. كما أن إقامة دولة يهودية في أي جزء هام من فلسطين يتطلب أيضاً تشريد أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين وإخضاع البقية ، وهذا ما كان يمكن تحقيقه فقط من خلال الاستخدام الواسع النطاق للإكراه والعنف.
عندما تأسست إسرائيل في عام 1948 كدولة عرفت نفسها على أنها لا تمثل مواطنيها بل الشعب اليهودي في كل مكان، كانت قادرة على نشر سلطة الدولة بشكل منظم وفعال لتعزيز مشروع الاستيطان الصهيوني. وقد تم ذلك من خلال، كما رأينا، الاستبعاد الأولي لغير اليهود من معظم سوق العمل، و أيضا و لكن بطريقة أكثر حسما، عن طريق المصادرة الجماعية للاستخدام الحصري لليهود للأراضي التي يملكها الفلسطينيون، بمن فيهم أولئك الذين تم تهجيرهم في عام 1947-49 و كذلك العديد ممن باتوا يعدون مواطنين رسميا في إسرائيل. وبعد الاستيلاء على ما تبقى من فلسطين في عام 1967، امتد منطق الاستيلاء على الأراضي والاستيطان على ما يبدو إلى الضفة الغربية وغزة ، ومعظمها بدعم أو على الأقل موافقة من ورثة الصهيونية العمالية.
منذ العام 1967 ، وخاصة منذ بداية "فترة أوسلو" في أوائل التسعينيات عندما كانت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في طور التقدم ،بدى نظام السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين يتحرك نحو شيء ما أقرب إلى نموذج الأبارتيد في جنوب أفريقيا كنظام فصل عنصري / قومي / عرقي وحكم الأقلية وديمقراطية الشعب الأسمى herrenvolk ، رغم ذلك (بشكل ملحوظ) دون الاعتماد الكبير على العمالة المحلية التي ميزت جنوب أفريقيا (28). بمعنى ما، فإن ما لدينا هو استمرار نموذج الاستيطان النقي (الإصرار على الحفاظ على دولة يهودية في معظم فلسطين قدر الإمكان) إلى جانب هيمنة تلك الدولة بالقوة على ما تبقى من فلسطين والإكراه القسري والعنيف في كثير من الأحيان لسكانها غير اليهود (الكثير منها الآن تحت حواجز مادية مختلفة). هناك بالتأكيد العديد من الإسرائيليين الذين ينظرون (مثل شافير) إلى ما حدث منذ عام 1967 كخطأ فظيع ويؤمنون أنه لكي تبقى إسرائيل دولة يهودية (و ديمقراطية) يجب أن تنسحب من الأراضي المحتلة عام 1967. ولكن هناك منطق صهيوني قوي للاستيطان. والتوسع والنزوح يعمل ضد مثل هذه النتيجة.
ونتيجة لذلك ، فإن الدولة التي تحكم باسم مواطني إسرائيل اليهود البالغ عددهم خمسة ملايين ونصف (وتزعم أنها تتحدث باسم كل اليهود في كل مكان) تهيمن اليوم ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، على كل ما كان فلسطين في الماضي، حيث تحكم أكثر من مليون و ربع المليون من الفلسطينيين كمواطنين من الدرجة الثانية و نحو أربع ملاين و ربع مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية القابعين تحت السيطرة الإسرائيلية الظالمة والوحشية في كثير من الأحيان. كما أن هناك أربعة أو خمسة ملايين فلسطيني أو أكثر، معظمهم من أبناء و أحفاد اللاجئين في العام 1948، يعيشون خارج فلسطين التاريخية، في بلدان الشرق الأوسط وما وراءه. وبالتالي، فإن مجموعة محظوظة تتمتع بالحرية - ربما اليوم لا تزال تشكل أغلبية ضئيلة للغاية من مجموع سكان الأرض، ولكن في غضون سنوات قليلة من شبه المؤكد أن تصبح أقلية داخل فلسطين التاريخية -يحكمون بالقوة أغلبية تابعة ومحرومة سوف تصبح قريبا أغلبية.
إن النظرة الكاملة لهذه التطورات تتعدى نطاق هذا المقال ، ولكن قد يتم تسليط الضوء على عامل حاسم واحد من خلال ملاحظة التناقض الكبير بين العزلة السياسية والاقتصادية والمعنوية المتنامية التي وجدها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في أواخر الثمانينيات من جهة و الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الهائل اللامحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى إسرائيل منذ منتصف الستينيات من ناحية أخرى. هذا الدعم - وليس شيئًا يمكن أن يأخذه نهج شافير بعين الاعتبار - وهو ما مكن إسرائيل من الحفاظ على احتلال عسكري وحشي والاستيلاء على الأراضي والموارد الأخرى من السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، وغرس الكتل الاستيطانية اليهودية هناك ، وشن هجمات عسكرية متكررة على الفلسطينيين وغيرهم (على سبيل المثال ، اللبنانيين)، وتحدي التوافق العالمي تقريبا على حل معقول لصراعها مع الفلسطينيين.
اليوم ، كما هو الحال بالنسبة لمعظم القرن الماضي ، إن لم يكن كله ، إذن ، يجب على المرء ، مقابل كل الأهمية التي ينبغي على المرء أن ينسبها إلى الخصوصيات والتفاعلات والديناميات المحلية ، الإقرار بعدم وجود معنى لهذا المشروع الاستيطاني المعين والنزاعات الدامية المستمرة التي يواصلها دون الأخذ في الاعتبار الطرق التي تم بها حمايته واستدامته وتمكينه من قبل قوة عظمى خارجي راعية له - مرة أخرى إبراز مركزية سلطة الدولة (المحلية والعالمية) ، والإكراه والعنف في هذا شأن مشاريع أخرى مماثلة.
شكر وتقدير
قدمت النسخ المبكرة من هذه المقالة في ندوة ميلون سوير حول "الاستيطان، العرق والسيادة الجزئية في أمريكا الشمالية ، جنوب أفريقيا وإسرائيل / فلسطين" في جامعة ستانفورد (نيسان 2004) ، وفي "الغزو بوصفه بنية وليس حدثا : ورشة عمل حول ماضي و حاضر الاستعمار الاستيطاني ( تشرين أول 2009) في جامعة كاليفورنيا UCLA
شكري للمشاركين ، وللمحررين (والمستشارين) للدراسات الاستعمارية الاستيطانية ، لتعليقاتهم المفيدة ؛ شكر خاص لجويل بينين وغابرييل بيتربيرغ ، وقبل كل شيء لغيرشون شافير ، الذي كان رده الرائع على هذا النقد لعمله مثاليًا.
.......................
عنوان المقال الأصلي: Land,Labor and the Logic of Zionism: Acritical Engagement with Gershon Shafir
الناشر: Settler Colonial Studies: http://www.tandfonline.com/action/journalInformation?journalCode=rset20
المؤلف: ZACHARY LOCKMAN
المترجم: محمود الصباغ
ملاحظات:

1- حول مسألة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية ، انظر (ضمن جملة أمور)
Maxime Rodinson, Israel: A Colonial-Settler State? (New York: Monad Press, 1973)- Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, 1882-1914 (Cambridge: Cambridge University Press, 1989- updated edition, Berkeley: University of California Press, 1996)- Lorenzo Veracini, Israel and Settler Society (London: Pluto, 2006)- Derek Penslar, Israel in History: the Jewish State in Comparative Perspective (London: Routledge, 2007), ch. 5- and Gabriel Piterberg, The Returns of Zionism: Myths, Politics and Scholarship in Israel (London: Verso, 2008).
2- أنظر على سبيل المثال
Yonathan Shapiro, The Formative Years of the Israeli Labour Party: the Organisation of Power, 1919-1930 (London: Sage Publications, 1976), and Gershon Shafir and Yoav Peled, Being Israeli: the Dynamics of Multiple Citizenship (Cambridge: Cambridge University Press, 2002).
3-يثبت التأريخ الصهيوني بناء تحقيبي حول سلسلة من موجات الهجرة اليهودية المتميزة إلى فلسطين ، المعروفة باسم عليوت و ضمن هذا التوصيف تكون العاليا الأولى - أول تدفق كبير للمهاجرين اليهود بدافع رؤية النهضة القومية - بدأت في العام 1881 وانتهت في العام 1903. وتبعتها العاليا الثانية من 1904-1914 وهلم جرا ، وصولا إلى 1948 و إقامة دولة إسرائيل.
4-أنظر مثلا S. N. Eisenstadt, Israeli Society (New York: Basic Books, 1967).
5- يستشهد شافير بكل من:
D.K. Fieldhouse, The Colonial Empires: A Comparative Survey from the Eighteenth Century (London: Weidenfeld & Nicolson, 1966), and George Frederickson, ‘Colonialism and Racism: The United States and South Africa in Comparative Perspective’, in George Frederickson, The Arrogance of Race: Historical Perspectives on Slavery, Racism and Social Inequality (Middletown, CT: Wesleyan University Press, 1988).
6- للاطلاع على مناقشة أكمل لهذه القضايا وما يتصل بها ، انظر
Zachary Lockman, Comrades and Enemies: Arab and Jewish Workers in Palestine, 1906-1948 (Berkeley: University of California Press, 1996).
7- Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, p. 19.
8-انظر مراجعتي لكتاب شافير في مجلة لدراسات الفلسطينية Journal of Palestine Studies, 19, 4 (1990), pp.115-117.
9- Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, pp. xiiixiv.
10-للاطلاع على مراجعة موجزة غير نقدية لحياة و فكر أرلوصوروف , انظر Shlomo Avineri, Arlosoroff (New York: Grove Weidenfeld, 1989). . أنظر أيضا
Miriam Geter, Hayyim Arlozorov: biografiya politit (Hayyim Arlosoroff: a Political Biography) (Tel Aviv: Hakibbutz Hame’uhad, 1977).
11-للاطلاع على مقدمة موجزة حول أصل و دوافع وعد بلفور , انظر Zachary Lockman, ‘Balfour Declaration’ في جويل كريغر و آخرون "تحرير"
The Oxford Companion to International Relations (Oxford: Oxford University Press, forthcoming 2012).
و للاطلاع على دراسات حديثة , انظر
Jonathan Schneer, The Balfour Declaration: the Origins of the Arab-Israeli Conflict (New York: Random House, 2010)
12 غالباً ما يشير الصهاينة العماليين الأوائل إلى أنفسهم ومنظماتهم كـ"عبريين" بدلاً من "يهود" (يهودي) للتعبير استنكارهم ورفضهم للدياسبورا اليهودية والتعرف بدلاً من ذلك على أنفسهم مع العبرانيين القدماء الذين عاشوا كشعب ذو سيادة في وطنه - كما يتطلع الصهاينة الحديثون إلى ذلك- ه. وقد ساعد هذا التعريف أيضًا هؤلاء المهاجرين اليهود الذين وصلوا حديثًا من أوروبا على تصور أن لهم صلة تاريخية عميقة بفلسطين ، مما يمنحهم ادعاءًا لامتلاكه أقوى من سكانه العرب الأصليين.
13 يناقش هذا الحديث بشكل أكمل في
Zachary Lockman, ‘Exclusion and Solidarity: Labor Zionism and Arab Workers in Palestine, 1897-1929’, in Gyan Prakash (ed.), After Colonialism: Imperial Histories and Postcolonial Displacements (Princeton: Princeton University Press, 1994).
14 فيما يتعلق بتاريخ هذا الاتجاه السياسي ، انظر:
Elkana Margalit ، Anatomia shel smol: Po alei Tziyon Smol be eretz yisra el (Anatomy of a Left: Po alei Tziyon Smol in the Land of Israel) (Jerusalem: Hebrew University press ، 1976).
15 Hayyim Arlosoroff (rendered in Hebrew as Arlozorov), Leshe’eilat ha’irgun hameshutaf (On the Question of Joint Organisation) (Tel Aviv: Hapo’el Hatza’ir, 1927). الترجمة من العبرية هي من وضعي
كما يتضمن كتاب غابرييل بيتربرغ المعنون The Return of Zionism مناقشة مثيرة للاهتمام من هذا المقال نفسه ، وإن كان من زاوية مختلفة عن منجم وفي خدمة حجة مختلفة إلى حد ما.

16 الأدبيات البحثية حول تاريخ جنوب أفريقيا الحديث كبيرة ومعقدة. وقد تكون نقطة البداية المثيرة للاهتمام هي كتاب جورج فريدريكسون
White Supremacy: a Comparative Study in American and South African History (New York: Oxford University Press, 1981).
17 Histadrut archives, Tel Aviv, minutes of the Third Congress of the Histadrut.
18 See Lockman, Comrades and Enemies.
19 Michael Shalev, Labour and the Political Economy in Israel (Oxford: Oxford University Press, 1992), p. 35.
20 See Edwin Black, The Transfer Agreement: the Untold Story of the Secret Agreement between the Third Reich and Jewish Palestine (New York: MacMillan, 1984).
21 See Anita Shapira, Hama’avak Hanikhzav: ‘Avoda ‘Ivrit, 1929-1939 (The Futile Struggle: Hebrew Labor, 1929-1939) (Tel Aviv: Tel Aviv University Press, 1977),and Stephen A. Glazer, ‘Picketing for Hebrew Labor: a Window on Histadrut Tactics and Strategy’, Journal of Palestine Studies, 30, 4 (2001), pp. 39-54.
22 See Shalev, Labour and the Political Economy in Israel.
23 كلحة مختصر عن الصهيونية ( و البيبلوغرافيا) تنظر زاخري لوكمان " الصهيونية" في
Cheryl A. Rubenberg (ed.), Encyclopedia of the Israeli-Palestinian Conflict (Boulder: Lynne Rienner, 2010), vol. 3.
24 See Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), but also Nur Masalha, The Expulsion of the Palestinians: the Concept of Transfer in Zionist Thought, 1882-1948 (Washington, DC: Institute of Palestine Studies, 1992).
25 See Avi Shlaim, The Politics of Partition: King Abdullah, the Zionists and Palestine,1921-1951 (New York: Columbia University Press, 1990).
26 مقتبس من أفنيري: "أرلوسوروف " ص 95 , عمل أفنيري بصورة مميزة جاهدا لتفسير هذا المقطع غير المناسب
27 Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, pp.xii, xiv.
28 انظر على سبيل المثال
Oren Yiftachel, Ethnocracy: Land and Identity Politics in Israel/Palestine (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2006)
ومنذ العام 1967 و حتى أوائل التسعينيات ، كانت أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة يعملون داخل إسرائيل. ولكن منذ بداية أوسلو ، تم منع العمال الفلسطينيين إلى حد كبير من دخول إسرائيل ، في حين تم استيراد عدد كبير من العمال المهاجرين من بلدان أخرى ليحلوا محلهم في الطبقات الدنيا من القوى العاملة الإسرائيلية.



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فراس السواح: الموقف الفضيحة
- -أيام العجوز- و الشتاء و-المستقرضات- و-سالف العنزة-
- -متلازمة-شارلي إيبدو: نقد أم شخصنة؟
- في حضرة الانتفاضة الفسطينية الأولى
- علم الآثار الإسلامي وأصل الأمة الإسبانية.
- The Green Mile: المعجزة في غير مكانها وزمانها
- العميل السري /جوزيف كونراد : الفوضى و بروباغاندا الفعل
- هل مازال الدانوب أزرقاً في ليالي فيينّا
- -وحيد القرن- لحظةيوجين يونيسكو القلقة
- The Bridges of Madison County:ضد -الحب الرجعي-؟
- آرامياً تائهاً كان أبي: اللاتاريخ في التاريخ
- الصنايعي The Machinist : تحية إلى ديستويفسكي
- شوكولاة : نكهة اللذة و فائض الألم
- Shutter Island: الجنون كوسيلة لقهر  فوضى هذا العالم
- الأب ثاوذورس داود: الهروب أماماً نحو الماضي
- -تكيف- Adaptation: -أن تكون تشارلي كوفمان-
- ليلى و الذئب:قصة أخرى
- عماد حقي:مرثية الزمن القادم
- الحدود تجاعيد الأرض
- Blue Jasmine: انكشاف الطبقة الارستقراطية و أوهام الحياة المع ...


المزيد.....




- سعودي يوثق مشهد التهام -عصابة- من الأسماك لقنديل بحر -غير مح ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل ضرباته ضد أهداف تابعة لحماس في غزة
- نشطاء: -الكنوز- التي تملأ منازلنا في تزايد
- برلين تدعو إسرائيل للتخلي عن السيطرة على غزة بعد الحرب
- مصر تعلن عن هزة أرضية قوية في البلاد
- روسيا تحضر لإطلاق أحدث أقمارها لاستشعار الأرض عن بعد (صور)
- -حزب الله- يعلن استهداف ثكنة إسرائيلية في مزارع شبعا
- كييف: مستعدون لبحث مقترح ترامب تقديم المساعدات لأوكرانيا على ...
- وسائل إعلام: صواريخ -تسيركون- قد تظهر على منظومات -باستيون- ...
- رئيس الوزراء البولندي: أوروبا تمر بمرحلة ما قبل الحرب وجميع ...


المزيد.....

- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ
- أهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخص فلسطين ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود الصباغ - الصهيونية العمالية في فلسطين: منهج الاستيطان المحض