|
اليسار الاوروبي وتحديات العولمة
فارس إيغو
الحوار المتمدن-العدد: 6001 - 2018 / 9 / 22 - 19:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الواقع، منذ ظهور السوق الأوروبية الموحدة والعولمة الليبرالية في الثمانينيات من القرن العشرين، واليسار الأوروبي "الحكومي" هجر قضية الدفاع عن "العمل" ضد رأس المال (الذي أصبح في تناقض مع هدف "البناء الأوروبي" و "الاندماج في العولمة" القائمين على اقتصاد السوق) لإعادة التركيز على القضايا المجتمعية: تعزيز حقوق الأقليات العرقية والجنسية والدفاع عن الهجرة وسياسات استقبال المهاجرين، وتشريع المخدرات وزواج المثليين والموت الرحيم. ومع بدء عملية نقل الصناعات الإنتاجية من المركز الرأسمالي الى الأطراف والهوامش (العالم الثالث)، يتخلص المركز من العبء الزائد لعملية الإنتاج التي تخص المواد الاستهلاكية بتحويلها نحو أماكن اليد العاملة الرخيصة والامتيازات الضريبية، ليصبح الغرب مختبراً للعالم ومركزاً للأبحاث العلمية والانسانية وللصناعات عالية التكنولوجيا وإدارة فوقية لانتظام النسق الرأسمالي ومركزاً عالمياً لشؤونه المالية. والحال، انه باكتمال نقل الصناعات ذات التكنولوجيات البدائية من الغرب باتجاه العالم الثالث، فقدت البروليتاريا العمالية أهميتها بالنسبة للأحزاب اليسارية الرئيسية (والتي تسمى بالحكومية)، وأصبح اهتمام هذه الأحزاب يتجه نحو الموظفين الحكوميين والبرجوازية في المدن الكبرى وفئة النساء والأقليات العرقية والجنسية. هكذا تخلت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية تدريجيا عن الطبقات الشعبية لصالح الطبقات البرجوازية المدينية، المرتبطة بالقيم التي تنشرها العولمة وخصوصاً عالمية " الكتلة البرجوازية المُعولمة ". لقد بقيت الطبقة البرجوازية في أوروبا الغربية مُوزعة سياسياً وتمثيلياً على أحزاب من اليمين واليسار، والتي أصبحت برامجها مُتشابهة منذ التحول الليبرالي الذي حدث في أوروبا الغربية في بداية الثمانينيات؛ وكانت أول الأحزاب التي قامت بالتخلي عن الخيار الاشتراكي هو الحزب الديموقراطي الاجتماعي في ألمانيا، وآخر الأحزاب التي قامت بهذا المنعرج الليبرالي هو الحزب الاشتراكي الفرنسي وذلك بعيد الازمة الاقتصادية عام 1983 والتي دفعت الى القطيعة النهائية مع البرنامج الاشتراكي الذي انتخب على أساسه الرئيس فرانسوا ميتران عام 1981. إن توزع الصوت الليبرالي في أحزاب من اليسار واليمين حتم ضرورة توحيدها في جسم سياسي واحد، مع الدخول في عصر العولمة، وهي الحركة التي قام بها المرشح للرئاسة الفرنسية إيمانويل ماكرون عام 2017 مدفوعاً من الهيئات المالية والاقتصادية الكبيرة في فرنسا، وأدت حركة "سائرون" (1)، التي تحولت فيما بعد الى حزب سياسي، الى انهيار الحزبين الرئيسيين الذين حكما فرنسا بالتناوب منذ عام 1969، أي الحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب اليمين الكلاسيكي والذي يضم الوسط واليمين الليبرالي وقلة من السياديين المناهضين للاندماج بالاتحاد الأوروبي وذوبان فرنسا. والحال، أن العولمة وسياسات فتح الحدود ورفع الحواجز الجمركية، دفعت الى زيادة التفاوت في الدخول والثروات بين المواطنين في المجتمعات الغربية، لا سيما في البلدان التي تبنت سياسات الشفافية المرنة لسوق العمل والحد من الضرائب على الدخول المرتفعة (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وضمن الاتحاد الاوروبي ألمانيا). ويمكننا القول، بأن النظام العالمي القائم حالياً، والمبني على مبدأ التنافس المفتوح على المستوى الأممي، هو الأكثر إفرازاً للتفاوتات الاجتماعية من كل الأنظمة العالمية التي تعاقبت على البشرية. تحاول بعض التيارات من "اليسار الراديكالي" تبني سياسات مغايرة لليسار الليبرالي الذي تخلى عن الدفاع من الطبقات الشعبية، بهدف إعادة كسب تأييدها، وذلك من خلال اقتراح جدول أعمال لتعديل جذري للوضع الراهن للعولمة، كفرض المزيد من الضرائب التدريجية، وذلك على حساب رأس المال والدخول العالية، وزيادة الدخل الأدنى، واصلاح إدارة البنك المركزي الأوروبي لليورو، وتدخل البنوك المركزية لصالح الفقراء، تنظيم سوق العمل (زيادة الحد الأدنى للأجور، حماية العمال والعاطلين عن العمل) ، ومراقبة الدولة للاقتصاد (السياسات الاجتماعية ، وإعادة تأميم القطاعات المخصخصة الاستراتيجية، وحماية العمالة والخدمات العامة ، وسياسات الاستثمار العامة الطموحة) ، وتنظيم التجارة الدولية (حماية القطاع الصناعي ، وشجب اتفاقيات التجارة الحرة ، والحواجز الجمركية ضد البلدان ذات الإغراق المالي والاجتماعي أو البيئي). ونجد هذه الوعود الانتخابية لصالح الطبقات الشعبية لدى حزب " فرنسا التي لا تستسلم " (والذي يرأسه الزعيم اليساري جان لوك ميلونشون الذي انشق عن الحزب الاشتراكي الفرنسي)، ويجمع برنامج هذا الحزب اليساري الراديكالي، بين مقاومة سياسات العولمة والانفتاح دون المس بسياسات الهجرة وكذلك بالإصلاحات التقدمية المجتمعية. لكن هذه السياسات الجديدة المناهضة للعولمة التي يقدمها اليسار الراديكالي في دول أوروبا الغربية ليست كافية حتى الآن للحصول على دعم شعبي واسع النطاق، يتيح لتلك التيارات الراديكالية تشكيل أغلبية رئاسية وبرلمانية قادرة للوصول للسلطة وذلك لعدة أسباب: (1) أن جزء من الطبقات الشعبية أصبحت تناهض سياسات الهجرة وتحويل المجتمعات الاوروبية الى مجتمعات متعددة الثقافات والجماعات، وهذا الامر يدفع كثير من الاوروبيين من الطبقات الشعبية، للتصويت لأحزاب اليمين القومي ذات التوجه السيادي والاجتماعي. (2) أن شعوب بلدان أوروبا الغربية ما زالوا متشككين بالسياسات الاقتصادية الغير ليبيرالية لليسار الجذري، خوفاً من زيادة الضرائب وارتفاع العجز الحكومي وهروب الاستثمارات، وهم يتأثرون بالدعاية القوية التي يبثها الاعلام اليساري الليبرالي والذي يتهم التيار اليساري الراديكالي بـ "الشعبوية". يبدو اليسار الاوروبي ــ أو ما تبقى منه على الساحة بعد انضمام أغلب اليساريين من ذوي الميول الليبرالية، وحتى بعض الايكولوجيين الى التيارات الليبرالية الاجتماعية ــ في مأزق حرج للوصول الى السلطة بعد التجربة اليونانية المريرة لحزب " سيريزا " اليساري الراديكالي وزعيمه أليكسيس سيبراس الذي خضع للضغوط الأوروبية وطبق البرنامج الإصلاحي الذي فرضه تكنوقراط بروكسيل على الحكومة اليونانية الجديدة والتي انتخبت على أساس برنامج يريد فرض الرقابة على الاقتصاد اليوناني المريض. في فرنسا، وحد الرئيس إيمانويل ماكرون الليبراليين من اليسار واليمين، وذلك تحت شعار "المؤيدين للعولمة" والمناهضين للتيار"السيادي"، وهو ما أدى الى جعل الحزب الاشتراكي الفرنسي في حالة لا يُحسد عليها، وفي نفس الوقت جعل الأحزاب الاشتراكية الراديكالية والسيادية مهيمنة على ساحة اليسار؛ ولكنها لا تستطيع الوصول الى السلطة دون تحالفات مع تيارات سيادية أخرى. ولا يمكن للتيار السيادي المنقسم بين اليسار واليمين من توحيد صفوفه لكي يستطيع هزيمة الليبراليين من اليمين واليسار أنصار العولمة الليبرالية؟ يبدو هذا الامر مستحيل في فرنسا وألمانيا، رغم وجود تحالف يحكم في إيطاليا منذ عدة أشهر، مُشكل من حزب رابطة الشمال اليميني المناهض بقوة لسياسات الهجرة والمتحفظ على سياسات الاتحاد الأوروبي الليبرالية وحزب النجوم الخمسة الشعبوي اليساري والذي تُطالب بعض قياداته بالخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي. ان النخب المستفيدة من العولمة اليوم في أوروبا، تحاول الدفاع عن مكاسبها بالحفاظ على الوضع القائم، من خلال اعتبار أنفسهم المدافعين النهائيين عن القيم "التقدمية" و "الليبرالية" في مواجهة عودة النزعات "الشعبوية" و "القومية"، حيث يجري تصوير هؤلاء بطريقة كاريكاتورية، هي في الواقع محاولة يائسة من "الكتلة البورجوازية" للمحافظة على هيمنتها الاجتماعية والثقافية في مواجهة الضغوط المتزايدة من طرف "الكتلة الشعبية" المنقسمة بين اليمين القومي المناهض للهجرة والعولمة واليسار الراديكالي المناهض للسياسات الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية للاتحاد الاوروبي. يبدو الصراع القائم اليوم في أوروبا، حسب وصف البعض من السياسيين، بأنه صراع بين "الفئات المرتاحة في كل مكان في العالم" وهي التي تجيد لغات العصر الجديد، أي الإنجليزية ولغة الكومبيوتر والشبكة العنكبوتية وقواعد المال والاعمال، و"الفئات التي لا ترتاح إلا بالتواجد في مكان معين" أي في "وطن" و"لغة" و"ثقافة"، وهي الفئات التي أصبح صوتها مرتفعاً تحت وقع اختلال الامن الاجتماعي والثقافي في أوروبا. وهؤلاء الخاسرون، الذين يرون العولمة تقع على رؤوسهم، يوزعون أصواتهم ما بين التيار اليساري الراديكالي والتيار اليميني القومي. في مواجهة قوة هذا الخطاب السيادي، الذي يعتزم استعادة الديمقراطية "المُصادرة" من قبل تكنقراطيي الاتحاد الاوروبي للشعب، ستضطر النخب الليبرالية إلى إعادة النظر في عدتها الايديولوجية بعمق إذا لم تكن تريد أن ترى نهاية العولمة، في مذبلة للتاريخ. أما اليسار الراديكالي، فهو أمام خيارين صعبين، أولهما البقاء في المعارضة لفترة قد تطول كثيراً، وأما الخيار الثاني فهو التحالف مع التيار السيادي اليميني للوصول للسلطة، وهذا الامر ما زال مستحيلاً في فرنسا وألمانيا أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي.... (1) هناك حركات تُسمى بـ " سائرون " من كل التيارات السياسية، مثل حركة رجل الدين العراقي مقتدى الصدر، وهي حركة تنتمي الى تيار الإسلام السياسي الشيعي.
#فارس_إيغو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل العلمانية إلحادية ؟
-
المجتمع المدني في سورية بين المفهوم الإحيائي والمفهوم السياس
...
-
الديمقراطية و التنمية
-
المجتمع المدني في سورية و جدلية الشكل والمضمون
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
المزيد.....
|