أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم الراوى - قصة قصيرة : بائع العرقسوس















المزيد.....


قصة قصيرة : بائع العرقسوس


محمد عبد المنعم الراوى

الحوار المتمدن-العدد: 6001 - 2018 / 9 / 22 - 19:23
المحور: الادب والفن
    


عبد الواحد رجل تجاوز الأربعين بقليل..لكن من يراه يعتقد أنه قد تجاوز الستين.. نحيل.. ذو بشرة سمراء.. وشعر ناعم كثيف.. وشارب وذقن رماديين..لكن أكثر ما يميزه عينان عسليتان واسعتان..إذا أطل أحد فيهما يشعر بشئ من الاضطراب فلا يستطيع إطالة النظر فيهما.
يسكن الرجل غرفة شيدها بيده من صفيح وخشب فى حىّ عشوائى منذ أن نزح صبياً من بلد مجهول؟!..انطوى على نفسه فى تلك الغرفة..لم يرغب فى مخالطة أو مجالسة أحد..خاصة من أبناء الحى..لذلك كان بالنسبة لهم شخصاً مجهولاً..لا يرونه إلا حينما يخرج من غرفته ذاهباً لعمله أو عائداً منه..ينظر فى الأرض..لا يريد أن يعرف من الجالس بجانب الطريق..بينما هم ينتظرون منه سلاماً أو سؤالاً..يحاولون التعرف على المزيد من ملامحه التى تغطى عليها عمامته وشاله وشاربه وذقنه الطويلة..مظهره لا يتغير ..بل يزداد سوءً وقذارة مع مرور الأيام والسنين..ومع ذلك اعتادوا على رؤيته هكذا رغم أنهم بدأوا ينفرون من تلك الرائحة التى بدأت تفوح من مسكنه وملابسه.
لم يكن عبد الواحد مستقراً فى عمل بعينه..يوماً يحمل القصعة مع عمال البناء..يوماً يحمل البضائع ليرصها على عربات النقل..يوماً يمسح السيارات فى إحدى الساحات..هكذا كان دائم التنقل من عمل لآخر..حتى أنه بدأ يعمل يوماً ويمكث فى غرفته أياماً..لم يعد أحد من أصحاب الأعمال يطيق رائحته ولا مظهره.
اشتد عليه الجوع..خرج متوجهاً نحو المقهى..ولأنه يشعر بنفور الناس منه جلس على حجر خارج المقهى..أخذ يرقب عم راضى الرجل العجوز بائع السمين وهو يقوم بتحمير الكبدة والمخ والممبار..الرائحة تفوح والمعدة خاوية..نهض متقدما بضع خطوات نحو العربة يتأمل عم راضى وهو يملأ كل رغيف من الخبز بألوان المحمّر من أحشاء البهائم..واضعاً فوقه البقدونس والملح والكمون.
اقترب أكثر ليسأل عن الثمن بصوت خافت رغم أنه لا يحتكم على قرش واحد:
ـ بكم الرغيف؟!
لم يكن عم راضى فارغاً له..لذا لم يتنبه لسؤاله..لكن زوجته البيضاء الممتلئة التى تصغره بخمسة وعشرين عاماً وتقف بجانب العربة تساعده فى غسل الأطباق أدركت ما يسأل عنه عبد الواحد..فسارعت:
ـ الرغيف بخمسين قرش.
تراجع عبد الواحد خطوتين..وهو يقلب يده فى جيب جلبابه الخاوى..الرائحة تسد خياشيمه فتزيد معدته استغاثة وتمرداً..
فهمت المرأة..ظلت ترقبه وهى تدعك الصحون..أخيراً التفت إليه عم راضى فعاجله:
ـ عاوز حاجة؟!
اضطرب عبد الواحد.. فلا هو يستطيع العودة دون أن يخبره..ولا يستطيع أن يبوح برغبته ..خاصة فى حضور زوجة الرجل التى ما زالت ترمقه بعينيها..
لكنه تشجع ..فاقترب من عم راضى يوشوش له فى أذنه:
ـ عاوز..رغيف..وابقى...
وقبل أن يكمل عبد الواحد جملته..دفعه عم راضى بكلتا يديه بعيداً..ليس لرفض ما طلبه عبد الواحد..لأن تمتماته لم تصل لأذنيه بعد ولم يفهم منها شيئاً، بل لأنه لم يطق رائحته التى كانت أكثر عفونة من أحشاء الحيوانات التى يقوم بتجهيزها.
فارتد عبد الواحد مسرع الخطى يلوذ بغرفته..منطوياً على حزنه وجوعه معاً..ظل يتقلب على الأرض محاولا النوم..بدأت عينه تغمض..وبدأت معدته تهدأ بعض الشئ..إلا أنه استيقظ على طرقات خافتة لم يعهدها..نهض بتثاقل..فتح الباب..فإذا بزوجة عم راضى تدفعه داخلاً وتغلق الباب وراءها..وقبل أن يفتح فمه معبراً عن غضبه..مدت يدها إليه بلفافة وهى تهمس برقة:
ـ دا رغيف مخ..ودا رغيف ممبار..عملتهملك مخصوص..بالهنا والشفا.
إلا أن عبد الواحد دفع إليها اللفافة رغم شدة إحساسه بالجوع.. مد يده..فتح الباب..أشار لها بالخروج قائلاً لها بصوت محشرج:
ـ كتر خيرك يا ست
إلا أنها أسرعت بغلق الباب..حاولت إقناعه من جديد:
ـ بقولك ده رغيف مخ..وده ممبار..جبتهولك سليم زى ما هو..قلت يمكن بتحبه كده..عاوز تقطعه .. براحتك..زى ما تحب.
ربما لم يفهم عبد الواحد مقصدها بعد..لكنه عبر بشدة عن رفضه. متوجهاً نحو الباب..فارتمت بظهرها على الباب قبل أن يفتحه من جديد..سقطت دمعة من إحدى عينيها..تركتها..لعل الأخرى تلحق بها..وضعت يدها على صدره لتعبر عن إحساسها وتعاطفها معه ..أنزل يدها برفق..تقهقر بظهره خطوتين..تقدمت لتكسب الخطوتين..جلس على كرسى متهالك..جلست على الأرض فى مواجهته وهى ترفع ثوبها لتكشف عن إحدى ساقيها..طأطأ رأسه واضعاً كلتا راحتيه على جبهته..كمن خسر معركة..على الفور أطلقت سهام دموعها من جعبتها..ظلت تندب حظها العثر مع ذلك الرجل العجوز الذى خذلها منذ أول يوم تزوجته..أخيراً لمح عبد الواحد ساقها الذى أضاء ساحة حجرته المظلمة..انتفض متراجعاً للوراء كمن لا يريد أن يخسر معركته الثانية..رفعت قدراً لا بأس به من ثوبها لتمسح دموعها..هنا شعر عبد الواحد أنه سيخسر الحرب لا محالة ما دامت تشرع كل هذه الأسلحة فى وجهه وعينيه الصائمتين..فما كان منه إلا أن جذبها بعنف من ذراعها وكتفها..فطرحها أرضاً خارج غرفته..ملقياً بالطعام فى وجهها.
لكنها أصرت على عدم الخسارة حتى وإن لم تفز بالحرب..فسرعان ما فكرت فى كيفية رد اعتبارها ومعاقبته فى ذات الوقت..لذلك شرعت تصرخ صرخات مدوية تستغيث من خلالها بأهل الحى..على الفور تجمع حولها الرجال والنساء وهى ما زالت تصرخ وتبكى كاشفة عن ثيابها الممزق والجروح التى أحدثتها أظافره الطويلة..تساءل الجميع عما حدث..اتهمته بمغازلتها ومحاولة جذبها داخل غرفته..حينئذ استأسد عم راضى ليثأر لشرفه وعفة زوجته التى حافظ عليها خمسة عشر عاماً ..فدفع الناس دفعاً لاقتحام الغرفة ولسان حاله يقول:
ـ دى بنت بنوت..ازاى يفتّح عنيها على الكلام ده؟!
انطلق الجميع خاصة الرجال الذين يعرفون حقيقة المرأة جيداً ملبين نداء الرجل العجوز،يكيلون لعبد الواحد من كل أنواع السباب والضرب والركل ..لم يتركوه إلا بعدما غاب عن الوعى.
لم يفق عبد الواحد إلا بعد عصر اليوم التالى..أخذ يتحسس مواضع الألم فى جسده..والجوع الذى يعتصره منذ أول أمس..لكن أشد ما أشعره بالألم هو شعوره بالظلم..ليس مما فعله الرجال من أهل الحى به لأنهم مخدوعون..ولا من تلك المرأة اللعوب فتلك طبيعتها وربما لها العذر فى ذلك..وإنما الشعور بالظلم مما فعله ذلك الرجل العجوز عم راضى.. لأنه يعرف جيداً زوجته ومدى تقصيره فى حقها ..وأنه ـ عبد الواحد ـ لو كان استجاب لها لما افتعلت كل هذا الضجيج..ومع ذلك دفع أهالى الحى لضربه وإهانته..فضلاً عن رده بالأمس مكسور الخاطر حين طلب منه رغيفاً يأكله.
طرح عبد الواحد جسده على الأرض..واضعاً راحتيه خلف رأسه..يروح ويجئ بعقله..ماذا يفعل؟!..إنه لا يستطيع مغادرة الحى رغم كل ما يشعر به من قهر..كما لم يعد قادراً على العودة حيث أتى..يريد الآن فقط أن يأكل ويشرب ليبقى على قيد الحياة..لابد من عمل..أى عمل يتقوت منه..لم يعد هناك من يرحب به أو حتى يستمع إليه!..يتمنى أن يمارس عملاً يشعر من خلاله أنه سيد قراره..بعيداً عن أى تحكم أو مهانة..بعيداً عن هؤلاء البشر من أهل الحى الذين عرفهم بظلمهم وقسوتهم عليه..كما عرفوه رجلاً عفناً خائناً ينبغى اجتنابه!.
باع عبد الواحد كل ما تحتويه الغرفة من كراكيب..سرير صدأ من الحديد مركون منذ زمن بجوار الحائط.. ألواح خشبية مسوسة..حلة نحاسية سوداء..زجاجات بلاستيكية عفنة..أخذ يفكر حتى هداه تفكيره ليكون بائعاً للعرقسوس..عمل غير مكلف..يشعره بالحرية..يعمل وقتما شاء..يتجول كما يحلو له فى أى مكان..فى أى شارع أوحىّ أو ميدان..من الآن سيقوم بتحضيره..وغداً سيصبح عبد الواحد بائعاً للعرقسوس.
إنه يوم من أيام الصيف..شديد الحرارة..لاشك أنه موسم لكل بائعى المثلجات ..لذلك نهض عبد الواحد من نومه قبيل الظهيرة وهو يرغب فى الإسراع بالخروج على الناس العطشى..أخذ يفرك عينيه ويحك رأسه وذقنه بأظافره..توجه نحو جردل بلاستيكىّ أسود نقع فيه العرقسوس منذ ليلة أمس ليقوم بتحضير المشروب المثلج ويخرج به على باب الله..مد يده ذات الأظافر السوداء الطويلة داخل الجردل..أمسك بلفائف القماش..ظل يلفها ويعصرها حتى أتى على آخر قطرة منها..ألقى القماش على الأرض بعيداً..تناول صفيحة معدنية أحاطها الصدأ ذات مقبض خشبى أسقطها فى خزان بلاستيكى قديم حتى امتلأت بالماء..صبها فى جردل العرقسوس..مدّ يده أعلى الرف المتهالك ..متناولاً كيساً به مادة صبغية داكنة السواد..أفرغه فى الجردل..جذب عصاً خشبية ملقاةً على الأرض..ظل يقلب بها ما بداخل الجردل مع ما يتساقط من جبهته وذقنه من عرق..أخرج من تحت السرير قطعة من الثلج ملفوفة بالخيش..قبض عل حجر صغير كان يضعه خلف الباب..ظل يكسر الثلج ويلقيه داخل وعاء زجاجى ملفوف بحزامٍ بنىّ..رفع الجردل..صب الخليط فوق الثلج..أمسك بالحزام ليضعه على كتفه الأيسر..رفع الوعاء الزجاجى..لف الحزام حول وسطه بإحكام..رص الأكواب داخل الوعاء النحاسى الذى يعلو فتحة الجلباب جهة اليمين..وضع على رأسه طاقية..لف حولها شالاً قصيراً كان لونه أبيض ..وقبل أن يغادر الحجرة..التقط بأطراف أصابعه صاجين من النحاس.. حشرج بقوة جامعا ما سال من لعابه ..بصقه دفعةً واحدةً نحو زاوية الحجرة قائلاً بصوت أجش:
ـ يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم
جذب الباب خلفه بقوة ليحكم إغلاقه.. سار فى طريقه وهو يلف الصاجين النحاسيين ويطبقهما فيصدران رنيناً أخّاذاً..توقف عند عربة الفول..
وضع عبد الواحد الصاجين فوق العربة..تناول من يد جمعة طبق الفول المحبش ورغيفين وبصلاً أخضر..بعدما انتهى من فطوره توجه نحو المقهى..جلس خارجاً بعد أن وضع حمله على الكرسى المجاور..أتى الصبى ممسكاً بيده صينية عليها كوب من الشاى الثقيل وكوب من الماء..وممسكاً بيده الأخرى الشيشة..وضع الصينية على الطاولة والشيشة على الأرض..كما وضع عبد الواحد رجلاً على رجل ممسكاً بلاى الشيشة..وقبل أن يسحب الأنفاس أمسك كوب الماء..ملأ فمه..ظل يمضمض..ويلقى بما فى فمه على الأرض..تناول كوب الشاى..أتى عليه بثلاث شفطات..أخذ يعيد رص الجمر على حجر المعسل..وهو يسحب بفمه فيخرج من منخاريه دخاناً كثيفاً مَنْ يراه من بعيد يظن أن حريقاً قد شب فى الحى.
بعض رجال الحى يجلسون أيضاً على المقهى..منهم من لا يرغب فى النظر إليه..ومنهم من ينظر إليه باشمئزاز وقرف..لكن لاشك أن الكل أجمع على استحالة الاقتراب منه أو تناول أى شئٍ من يده..حينئذٍ قدم شابان غريبان عن الحى يتصببان عرقاً ..جلسا تحت الشجرة الصغيرة خارج المقهى..أشار أحدهم لصبى القهوة قائلاً:
ـ هاتلنا شفشق مية ساقعة بسرعة
أخبرهم الصبى بأن الثلج لم يأت بعد..فشعرا بامتعاض..قال الآخر:
ـ طب معندكش أى حاجة ساقعة
ـ أنا آسف يا بهوات ..كله سخن.
حينئذ لمح أحدهم الوعاء الزجاجى الممتلئ بالعرقسوس وقطع الثلج..وقد أحاطت به الشبورة وقطرات الماء المتساقطة..أخبر زميله وهو يبلع ريقه برغبته..على الفور أمر زميله الصبى بأن يأتى لهما بكوبين من العرقسوس..إلا أن الصبى عاجلهم:
ـ ما انصحكش يا أستاذ!
فانفعل الشابان على الصبى وهما لا يعلمان مقصده..
ـ انت مالك..انت حتشربنا على كيفك؟!
علا الصوت..تدخل الجالسون على المقهى..أخذ كل منهم ينصح الشابين ويوضح مقصد الصبى..
ـ يا بهوات دا خايف عليكم.
ـ ما يغركش الشكل.
ـ اشربلك كوباية عصير قصب أبرك 100 مرة.
ـ دا منقوع صرم متلج.
بالطبع انطلق عم راضى ليدلى أيضاً بشهادته:
ـ يا عالم..بالذمة ده بنى آدم الواحد يشرب من إيده حاجة.
أدرك عبد الواحد حين وصلت لسمعه تلك العبارات سبب الشجار..لكنه تجاهل الأمر..ظل يسحب من الشيشة بعنف..يطلق الدخان فى الهواء كأنه طلقات نارية يتمنى تصويبها على ألسنتهم وصدورهم جميعاً..
هو يعلم موقف أبناء الحى منه..ومدى كراهيتهم له..لكنه ـ بعد أن استراح لعمله الجديد ـ لا يرغب فى أن تعم سيرته هكذا..ويتخذ منه غرباء الحى نفس الموقف..إنهم يصرون على محاربته فى رزقه..فلمن يبيع إذن؟!..وكيف يعيش؟!
لقد شعر عبد الواحد تلك المرة بضيق لم يشعر مثله قط..ليس فقط بسبب ما بدر الآن من أبناء الحى..لأن ذلك ما تعوده وعهده فيهم، وإنما لرغبته فى مواجهتهم والانتقام منهم وهو غير مؤهل ولا قادر على ذلك..من أجل ذلك شعر أيضاً لأول مرةٍ بقسوة الوحدة ومرارتها بين هؤلاء البشر.
مال عبد الواحد جانباً يمسح بطرف كمه الدموع المتساقطة قبل أن يلمحها أحد..نهض حاملا وعاء العرقسوس..قبض على الصاجين النحاسيين..لفهما بشكل دائرىّ غريب..أطبقهما بعنف ..فأصدرا دوياً..أفزع كل الحاضرين فى المقهى..وقضى على كل جلبةٍ وضجيج..ساد الصمت والوجوم..عاد وأصدر صوتاً أشد دوياً وهو يغادر المقهى..كأنه يريد أن يعلمهم بإعلان الحرب عليهم جميعاً..مضى دون أن يلتفت خلفه..وعيونهم تنظر فى أعقابه واجمة وقلوبهم تدق مع كل دوىّ يرسله.
سار عبد الواحد شارداً لا يفكر فى وجهة معينة يقصدها..يريد فقط الابتعاد عن الحى وأهله..يتمنى أن ينسى كل شئ..اليوم الذى قدم فيه..الغرفة التى طوت عمره طياً..عم راضى وزوجته..أهل الحى الذين أبرحوه ضرباً وركلاً ولم يسئ يوماً لأحد منهم..
صعد عبد الواحد الرصيف ليتجنب السيارات المسرعة على الطريق..وإذا به وهو يستدير مع استدارة الشارع لم يلمح تلك السيارة المنطلقة فى مواجهته..حتى أنها صعدت الرصيف..فلصقته بالحائط..كأنها قادمة خصيصاً من أجله.
سقط عبد الواحد فى التو مغشياً عليه بعدما تهشم وعاء العرقسوس الزجاجى..محدثاً فى صدره وذراعه جروحاً قطعية..رجعت السيارة قليلا للخلف..نزلت منها سيدة تجاوزت الخامسة والثلاثين..تبدو على مظهرها علامات الرقى..أسرعت هلعةً تتفرس عبد الواحد..وقد أحاط بهما بعض سائقو السيارات..أخبرتهم أنها طبيبة..طلبت منهم شاكرةً أن يأتوا لها بحقيبتها من العربة..أخرجت زجاجة عطرية فواحة..أخذت ترشها على وجه عبد الواحد ورأسه..بدأ يفيق..عادت وطلبت أن يحملوه داخل سيارتها.
انطلقت به الدكتورة هبة نحو منزلها..أدخلته مستنداً على كتفها..صعدت به إحدى الغرف العلوية..أسندت ظهره على الوسادة..رفعت قدميه ليستلقى على السرير..أخذت تداوى جروحه السطحية والقطعية..أتت له بفنجان من الشاى..أخذت تساعده على رشفه..سحبت على جسده غطاء ناعماً..نصحته بالنوم..أغلقت الباب خلفها..ونزلت للأسفل.
جلست السيدة على كرسيها فى الدور الأرضى غير مصدقة أن زوجها قام بتطليقها بعد كل تلك السنين..لقد باعها فى لحظة بعدما ضحت بالكثير من أجله..سفرها للعمل بالخارج..عدم استكمالها لرسالة الدكتوراة..مالها الذى منحته إياه وخسره فى مشاريعه الفاشلة..لم تعد الآن تملك شيئاً غير تلك الجدران..لا زوج.. لا ولد..لا مال
استلقت على الكنبة المجاورة..غلبها النوم حتى الصباح..وبمجرد استيقاظها أسرعت لأعلى لتطمئن على الرجل الغريب..دقت برفق على الباب..لم يستجب لها..فتحت الباب..وجدته غارقاً فى النوم على الأرض بجوار السرير..تعجبت..لكنها تركته ليكمل نومه لحين إعداد الفطور..
عادت فأيقظته برفق..أرشدته للحمام لينظف نفسه..ناولته شيئاً من ملابس طليقها..طلبت منه أن يتخلص من ملابسه الممزقة التى تلطخت بالدماء.
غاب عبد الواحد فى الحمام وهى ما زالت فى انتظاره لتناول الفطور..أخيراً سمعت خطواته وهو يهبط الدرج..التفتت إليه..انتفضت من مكانها تتأمله..إنه رجل آخر..شاب..غير ذلك العجوز الذى أتت به بالأمس..لقد تبدل بعدما حلق شاربه وذقنه..وكشف عن شعر رأسه الأسود الكثيف الذى تنحدر منه سوالف بيضاء..وعينيه اللتين تبرقان بشكل غريب.
أجلسته فى مواجهتها..رصت أمامه العديد من الأطباق الملونة بأنواع الطعام التى لم يعهدها من قبل..عسل نحل..جبن رومى..لانشون..بيض بالبسطرمة..لاحظت خجله..أشارت إليه بتناول الفطور..مد يده على استحياء..شرع يتذوق..بدأ يأكل..أخذ يلتهم من هنا وهناك دون أن يلتفت إليها..لكنها ظلت تتفرس ملامحه..اكتشفت مدى وسامته..وعينيه الغريبتين.
صبت فنجانين من الشاى..دعته لتناولهما فى البلكون..جلس أمامها على استحياء..وهى ما زالت تتأمل ملامحه وتتعجب من تلك المصادفة التى جمعتها به..
سألته الدكتورة هبة وهى تضع رجلاً على رجل :
ـ إلا قولى يا..انت صحيح اسمك ايه؟!
أجابها وهو يركز عينيه على الأرض:
ـ عبد الواحد .. عبد الواحد يا ست هانم
ـ عندك أولاد يا عبد الواحد؟
أومأ برأسه نافياً.
ـ متجوز؟
أومأ أيضاً بالنفى.
ـ طب عايش مع مين؟!
أجابها وقد زادت عيناه لمعاناً حين رغرغت بالدموع:
ـ عايش لوحدى..أنا مقطوع من شجرة يا ست هانم.
قالت وقد ارتسمت على وجهها كل علامات التعجب:
ـ مقطوع من شجرة..وعايش لوحدك..واسمك عبد الواحد..انت فعلا إنسان غريب..
صمتت برهة ..ابتسمت..رفعت ذقنه بيدها قائلة:
ـ شوف بقى يا سيدى انت من هنا ورايح ما اسمكش عبد الواحد.
أخيراً ابتسم عبد الواحد..نظر إليها متعجباً دون أن يعلق على كلامها.
قربت وجهها من وجهه تتأمل ابتسامته الأخاذة وعينيه اللامعتين لتخبره باسمه الجديد:
ـ أيوه..انت من النهارده اسمك وحيد
ـ وحيد!
ـ أيوه وحيد..لأنك وحيد فى كل حاجة.
نهضت..أسندت ظهرها على سور البلكون قائلةً:
ـ تحب تشتغل معايا يا وحيد.
ـ اشتغل معاكى؟!..أنا يا ست هانم ما بفهمش فى حاجة غير إنى أعمل عرقسوس..وكمان ما انصحكيش إنك تشربى منه
ضحكت الدكتورة هبة..قالت:
شوف يا وحيد أنا دكتورة متخصصة فى استخلاص بعض الأدوية من الأعشاب الطبيعية..ومنها العرقسوس بتاعك.
ـ برضو مش فاهم!
ـ تعالى معايا وأنا حفهمك كل حاجة.
توجهت الدكتورة هبة لمعملها بصحبة وحيد..أطلعته على بعض الأدوية التى تقوم باستخلاصها من الأعشاب الطبيعية وإعادة مزجها وتركيبها..أخبرته بأن هذا الدواء يشفى من كذا..وهذا من كذا..وهذا مقوٍ للمناعة..وهذا منشط جنسى.
قاطعها وحيد مستفسراً عن مفهوم المناعة والمنشط الجنسى..شرحت له باقتضاب..سرح بخياله متذكراً عم راضى وزوجته.
ـ قلت ايه يا وحيد..وحيد انت رحت فين؟!
ـ ها..بتقولى حاجة يا ست هانم!
ـ لا انت مش معايا خالص..بقولك انت من النهاردة حتشتغل معايا.
ـ أيوه بس أنا حعمل إيه؟!
ـ شايف القزازة دى..
ـ أيوه..
ـ دا عبارة عن دوا تركيب ..لسة عملاه..دوا جديد من نوعه ما حدش يعرف سر تركبته فى العالم كله غيرى..أنا صحيح جربته على بعض الحيوانات..ولسة ما جربتهوش على البنى آدمين..بس أنا متأكدة من نتيجته.
ـ طب والدوا ده بيعمل إيه؟!
ـ الدوا ده خليط من مجموعة أعشاب..العرقسوس واحد منهم..وفيه خلاصة كل الأدوية اللى قدامك دى..علشان كده بيشفى الإنسان من جميع الأمراض..غير إنه بيديله قوة وصحة ونشاط أحسن من أى شاب فى العشرين.
ـ معقول؟!..أنا أعرف ناس عندهم استعداد يدفعوا نص عمرهم ويشربوا شفطة واحدة منه.
ـ هو ده بالظبط اللى أنا عاوزاه..تأكد يا وحيد إننا لو تعاونا مع بعض حخليك مليونير..وأنا كمان حقدر أعوض كل اللى خسرته..ها ايه رأيك؟!
ـ وأنا تحت أمرك..
ـ انت من النهاردة حتبقى إنسان تانى..غير اللى الناس شافوه وعرفوه قبل كده..
لقد تغير عبد الواحد بالفعل بعدما ارتدى أفخم الملابس والأحذية والنظارات الشمسية واستخدم أرقى العطور..لقد أصبح نجماً من نجوم الإعلانات التلفزيونية..يطل على الناس من خلال الشاشات بعينيه الأخاذتين..فيقنعهم بأنه أكبر وأحسن معالج لكل الأمراض البدنية والنفسية والروحية..
صار عبد الواحد بين يوم وليلة مقصداً للمتعلمين والجهلاء على حد سواء..يقصده الناس من مختلف البلدان العربية وغير العربية!
توجه عبد الواحد بأناقته التى اعتاد عليها للحى العشوائى القديم..قاصداً أول الأمر غرفته ..مكث فيها بضع دقائق..ثم توجه ناحية القهوة..قاصداً عربة السمين..وقف بمواجهة عم راضى..أخرج علبة السجائر المستوردة..أشعل سيجارة بولاعته الذهبية..انبهرت زوجة راضى بعظمة الرجل ومهابته..نغزت راضى لينتبه لوجود الرجل..فأسرع راضى فى التو بالترحيب به:
ـ أهلاً يا باشاً..يا ألف مرحب.
سحب راضى كرسياً ..مسحه بجلبابه
ـ اتفضل يا سعادة البيه..طلبات سيادتك أوامر.
ـ رغيفين مخصوص..واحد كبدة والتانى مخ.
ـ يا سلام ..طبعا مخصوص يا باشا..بس كده؟!
أتى راضى برغيفين مملوئين عن آخرهما..مصحوبين بالمخلل والصلطة والطحين..وضعهما على طاولة مسحها أيضاً بجلبابه..انطلقت زوجته نحو بقالة مجاورة..أبتاعت منها زجاجة مياه معدنيه وأخرى غازية..وضعتهما على الطاولة أمام السيد عبد الواحد مع كوبين زجاجين فارغين.
انتهى عبد الواحد من طعامه وشرابه..وقف منتفخ البطن..أشعل سيجارة أخرى..أخرج محفظة منتفخة أيضاً بالعملات الورقية..أخرج إحداها ماداً بها يده لراضى..بادره راضى:
ـ خلاص يا باشا..والله ما يحصل..خليها علينا المرة دى!
نظر إليه عبد الواحد بامتعاض قائلاً:
ـ ومخلتهاش عليك ليه المرة اللى فاتت؟!
اندهش راضى وزوجته من رد عبد الواحد..فرد متلعثماً:
ـ بس حضرتك أول مرة تشرفنا يا باشا
فخلع عبد الواحد نظارته قائلاً:
ـ ايه برضو لسه ماعرفتنيش؟!..ولا حتى انتى يا ست الكل؟!
أخذ راضى يحملق..لفّت الزوجة من أمام العربة..وقفت فى مواجهة عبد الواحد..تفرست ملامحه..صاحت:
ـ مش معقول!..دا الدكتور وحيد..اللى بيطلع فى التلفزيون!
ـ مش معقول يا وليه؟!
ـ والله زى ما بقولك كده!
طغت الفرحة على زوجة راضى..شعرت أن الفرج قد حلّ..و أخيراً ستنتهى عقدتها مع ذلك العجوز.
كذلك أخذ راضى يبالغ فى ترحيبه بالدكتور وحيد:
ـ دا أنا بدور على سعادتك من زمان!
ـ وأنا تحت أمرك..إيه مشكلتك؟!
همس راضى بمشكلته فى أذن الدكتور وحيد الذى يعلم جيداً ما يعانيه الرجل مع زوجته!
فطمأنه:
ـ لا..بسيطة!
أمر الزوجة أن تناوله الكوب الفارغ من على الطاولة..أسرعت بإحضاره..أفرغ بداخله الزجاجة التى قام بتحضيرها خصيصاً لهما فى غرفته..فى التو جذبها راضى من يده..شربها دفعة واحدة..أخذ يتمطع بجسده ويفرد ذراعيه ويخبط بكلتا يديه على صدره مشعراً زوجته بقوة وفحولة بدأت تدب وتسرى فى عروقه..والزوجة بجانبه تهلل وتزغرط..
عقد راضى حاجبيه ناظراً للدكتور عبد الواحد باستغراب:
ـ بس دا طعمه عامل زى العرقسوس:
رد عبد الواحد مقهقاً:
ـ عرقسوس بس يا عم راضى!..حرام عليك دا أنا عاملهولك مخصوص
تعجب عم راضى قائلاً:
ـ عاملهولى مخصوص !..وكمان عارف اسمى..طب ازاى؟!
وقبل أن ينصرف عبد الواحد كشف لهما عن حقيقة شخصيته..وعن حقيقة المشروب الذى أعده خصيصاً من منقوع الصرم الممزوج ببوله وما تبقى من خلاصة العرقسوس فى الجردل البلاستيكى القذر.
حينئذ سقط راضى على الأرض بجوار العربة..ظل يتقيأ ما تناوله من يد عبد الواحد..وزوجته تسنده من تحت إبطيه..وهى تصرخ وتدعو على عبد الواحد الذى أدار ظهره وانصرف:
ـ روح يا شيخ..الله يخرب بيتك..هوّ ناقص!..مش كفاية اللى هوّ فيه؟!

تمت



#محمد_عبد_المنعم_الراوى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل
- قصة قصيرة : المنزل المجاور
- قصة قصيرة : تعارف
- قصة قصيرة : مرزانة
- قصة قصيرة : -الغربة مرّة-
- قصة قصيرة : -العصفور الرمادى-
- أوعى تنكزنى جوزى جاى ورايا
- كوب شاى
- محاكمة المعلم ساطور
- قصة قصيرة: -بلوتوث-
- قصة قصيرة: -كلاكيت آخر مرّة-
- طاقية فى العِب
- رهين المحبسين
- -تحيا الوِحدة العربيّة-
- قصة فصيرة
- قصة قصيرة: كل حاجة قديمة للبيع


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبد المنعم الراوى - قصة قصيرة : بائع العرقسوس