أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نادية خلوف - دراسة اجتماعية















المزيد.....



دراسة اجتماعية


نادية خلوف
(Nadia Khaloof)


الحوار المتمدن-العدد: 5989 - 2018 / 9 / 9 - 16:09
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


تراجع الفكر في سوريّة
المقدّمة:
عندما نكون في سنّ المراهقة. نبحث عن هوّية ما. قد تكون اجتماعية، أو سياسيّة. بالنسبة لي -ورغم انتمائي لعائلة كانت تجيد القراءة- لكنّني لم أجد هويتي داخل العائلة، وعندما ذهبت إلى دمشق في الرابعة عشر من عمري كي أدرس دار المعلّمات شّتني الوراثة الاجتماعية العائلية دون أن أدري، وربما شدّني أكثر حبّ معرفة العالم، فقرّرت أن أتبنى مع ثلة من صديقاتي الفكر الشّيوعي. طبعاً لم أكن أفهم ماذا يعني. كلّ ما عرفته في الاجتماع الأوّل أنّنا ندافع عن حقوق المرأة والفقراء، لكنّني أيضاً لم أكتشف هويتي فيه، ولم أكن أعرف لماذا؟
في ذلك الوقت كانت رواية الطلقة الواحدة والأربعين ق انتشرت، وقرأتها بشكل سطحي وليس عميقاً، لكنّني لم أعجب بموضوع البطولة هذا، وبقي سرّاً لا أستطيع البوح به .
عندما رست القانون فيما بعد. كنت أردّد بيني وبين نفسي : "القانون لا يحمي المغفّلين"، وبمعنى أدّق أنّه لن يحميني لو كنت مخطئة، ولم أكن أعرف الخطأ من الصّواب حتى ذلك الوقت، لكنّني أشعر بالذّنب عندما أفكّر بالتّراجع، وكيف سوف أتّهم بالخيانة، كنت أفكّر دائماً أنّني لا أحب الحيث السّياسي، وأحب قراءة الأب، وكتابة الشعر، وأستغرب كيف ينشر النّاس قصصهم ودواوينهم لأنّني لا أعرف الطريق. لكنّني اتخذت القرار الصّعب، وهو مغادرة الحزب في سن الشّباب، وبع ذلك كانت عزلة شديدة حيث لا حماية اجتماعية، وهذا ما جعلني فيما بعد أهتم لما بين سطور الكتّاب. بل أحياناً كنت أتّهمهم بالسّر، وكنت لازلت لا أتجرّأ على الكلام، وحتى الآن أنا لا أتجرّأ.، وهنا لن أخل في حيث سياسي. بل في حديث اجتماعي ، وهو من أنا، أو من أنت؟
عند بدء الثورة السّورية. كنت أعمل في موقع إماراتي. أكتب قصصي ورواياتي عن الحبّ، والمرأة ، والقضايا الإنسانية، وفي يوم كنت بين اليقظة والحلم وأسمع موسيقى وكلمات تخترق روحي. استيقظت وإذ بأغنية " يلا ارحل يا بشار"
وكتبت أوّل مقال سياسي على موقع نور الشّرق عنوانه" صباح الحرية" وهذه ليست سيرة ذاتية بل كي أصل إلى حقيقة وهي :


أنّ الثورة السّورية سواء خرجت من الجامع، أو الكنيسة لا فرق مادام الشّعار " الشعب السوري واحد" وكانت أغاني الحريّة، الوجوه المشرقة، والذقون الحليقة بعناية، أو التي لا تنتمي إلى التّشدّد الديني، وكان هناك هدف للمتظاهرين ، هو إسقاط الدكتاتورية والحفاظ على الدّولة، ونشطت النّساء، وجدن أنهنّ من ضمن الحراك.
لا نعرف من فجّر الشّرارة الأولى، لكنّها كانت ثورة عارمة عوملت بقسوة ، وقتل مئات الآلاف من المدنيين والشّباب، وبسرعة البرق انتقلت الثورة إلى المرحلة الثّانية حيث تأسّست الفصائل المسلحة، وكانت جبهة النصرة في البدء تستعمل علم الثورة، بل حتى كان بين صفوفها بعض الأقليات الذين أعطتهم الجبهة امتيازات، وقد قال لي أحد الضباط من الأقليّات. لا يرسلوني في مهمة خطرة. يقولون أن علينا أن نحافظ عليك من أجل المستقبل.
البرامج الحوارية على الفضائيات العربية الرئيسيّة كانت تشجّع على القتل، ولو أخذنا بعين الاعتبار أن الصّحف العربية الليبرالية أغلبها مموّل من السّعودية وقطر، لعرفنا ماذا يكتب رؤساء التحرير، فهم في النهاية يعملون لصالح رب عمل، ولن يخالفوه. أخذوا شهرتهم من ذلك.
لن ندخل في أسماء الأشخاص، أو البرامج. كلّ المحطات التي كانت تدّعي أنّها مع الثورة كانت إسلاميّة التوجه، وربما استطاع الإخوان المسلمون أن يضمّوا إلى تحالفاتهم المسيحيين الذّين اختاروا طريق التنظير، واللعب على الأوتار أيضاً وعندما نقول إسلامي لا يعني أن من يمولونها قد اقتنعوا بالإسلام. الحكام من حيث المبدأ " ربما يكون الدين، والإسلام آخر ما يفكرون به .فهم في حياتهم الشخصيّة يقفزون إلى ما يحلّل لهم كلّ ما حرّم في الدين، لكن أسلمة الثورة سوف تؤجل رحيلهم عقوداً طويلة، فلا أحد يتجرّأ على مناقشة شرع الله، لأنّه قانون أزلي لا يتبدّل ولا يتغيّر.
انتهت ثورة الشباب بموتهم ، أو سجنهم، وبدأت ثورة الشيوخ من السوريين، ومع احترامنا للمسّن ،لكن لا يجوز أن يكونوا جميعاً فوق الستين ، وهؤلاء يرغبون بتعويض سنوات عمرهم الضّائع، فعرضوا خدماتهم يميناً ويساراً، وبعضهم تزوّج مسروراً بالثورة في عامه التسعين، والمهر من التبرعات.
تغيّرت مصطلحات الثّورة وشعاراته، فأصبح القائد هو نبينا محمد، وأصبح الشباب المشاركين في الحراك بذقون إسلامية، والفتيات محجبات. الحجاب موقف شخصي لا نتحدّث عنه من هذا الباب، بل ليس مصادفة أن تكون جميع فتيات القبعات الخضر محجبات، مع أن عملهنّ إنساني. من المؤكد أن هناك بعض غير المحجبات اللواتي يرغبن بذلك، ولكن! أغلب الذين انشقوا عن النظام من سفراء، ووزراء قبضوا ثمن انشقاقهم بالعملة الصعبة من قطر، أو السعودية، وأغلب اللجان التي تأسست كانت تتبع إما قطر، أو السّعودية، وربما في أحوال قليلة تتبع دول أخرى، وكانت النساء اللواتي يصرخن من أجل الثورة من أمريكا، وغيرها، وهنّ سافرات متحرّرات. أصبح خطابهنّ يبدأ بتحيّة إسلاميّة، وبآيات من الذّكر الحكيم.
هذا كلّه كان قبل أن تتوزّع الأدوار على الأرض السّورية بين جميع الذين يصطادون في الماء العكر.
أحاول أن أستبعد كلمة أسماء الأشخاص، وأسماء المحطات، فنحن نتحدّث عن ظاهرة عامّة، كما أنّني أستبعد موضوع المؤامرة سواء كانت دولية، أو إسرائيليّة، أو كما يصفونها ماسونية. الموضوع يتعلّق بالسّوق، والمال. هو عرض، وطلب، والمعروض كان أغلبهم من المنشقين" ذوي العريكة اللينة" مع النّظام يمكنهم العودة إليه في أي لحظة. هؤلاء المنشقون لم يأتوا من المريّخ هم سوريون لهم مصالح وشركات بالخليج العربي، وبدول أخرى من العالم. أولادهم يدرسون في الخارج، والبعض انشّق كنوع من الشّهامة كالضباط من الرتب الصغيرة ، هؤلاء قد يكونوا قتلوا من طرف من أطراف الفصائل، أو النّظام.
نتحدّث عن الوضع العام، والذي هيّاُ لاختفاء الأدب المتنوّع وظهور أدب جديد هو أدب التحارب، وأدب العنصرية، وكره الآخر، وبما أنّ جميع السّوريين يكتبون بالعربية بغض النظر عن انتمائهم القومي، فإنّ حركة التأليف والكتابة زادت عن الحد، أغلبها كتابات متسرعة تتعلّق بالرّأي، ويمكن أن تجد من بين الكتّاب أشخاصاً يكتبون بحماس عن القوميّة، والثورة، وتأييد هذا الدكتاتور أكثر من ذلك الدكتاتور.
سوف أحاول في هذه الدراسة، أو البحث أن أضع بعض انتاجات الأدب، وأترك للقارئ تقييمه.
الأدب لم يعد موجوداً في الذّاكرة في سوريّة، كما في الوطن العربي، هو حديث عامّي عن أشخاص يتم تقديسهم، ولا يجوز المساس بهم. نحن نعيش دكتاتورية الأدب، ودكتاتوريات متعدّدة في كل المجالات، وسوف يقتصر الحديث حول الأدب ،والفكر.
1
تأثير هجرة الأدمغة على الإبداع
الإبداع يحتاج إلى بيئة حاضنة، فإن كنت ترى بنفسك القدرة على أن تغيّر شيئاً ما عن طريق إضافة معرفة حصلت عليها، وأردت أن تقدّمها لا تستطيع أن تقوم بذلك منفرداً، تحتاج إلى محيط داعم ومشجّع ، وإن امتلكت تأهيلاً علميّاً يؤهلك لخدمة البلد الذي أنت مواطن فيه، وتحقّق من خلاله حياة كريمة، فلن تهاجر.
أغلب الذين يحتلّون الصفوف الأولى في الدول العربية بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص يحملون كفاءات أقل من أولئك الذين لا يحظون بفرصة عمل، وهنا تكون البطالة، أو البطالة المقنّعة ، وعدم الحصول على دخل كاف مما يدفع الإنسان للبحث عن مكان أفضل. هي قصّة طويلة من المعاناة بين المهاجر وذاته تنتهي باختيار الهجرة، والمقصود بالهجرة هذه هي هجرة الأدمغة وليس تلك الموجة التي تدّفق فيها السوريين كالسيل بعد الثورة السورية، فهذه قصة أخرى قد يوجد بينهم أدمغة لكنّهم بالدّرجة الأولى قدموا كي يعيشوا حياة أفضل، ومن أجل أولادهم، وقسم منهم من أجل تلقي المعونة الاجتماعيّة فقط. هم من جميع الفئات السياسية، والإثنية، وأغلبهم كفاءاته العلمية، والأدبية محدودة. هي هجرة وصفها بعض الأوروبيين " أنها هجرة اقتصادية" من أحد أسبابها الحرب، فلولا الحرب لم تفتح أوروبا أبوابها للهجرة. أظهرت بيانات الأمم المتّحدة أن أعداد المهاجرين السوريين كانت بين عامي 1990 -2005تبلغ نسبتهم 6.03 بالمئة وأصبحت نسبتها بين عامي 2005، و2010 حوالي 10.7 بالمئة، أغلبهم من القوة العاملة المؤهلة، والكفاءات العلميّة . هذا حسب إحصاءات الأمم المتحدة، كما أن أغلب المهاجرين هم من القطاع الصّحي والتعليمي، وهذا ما ترك فراغاً ثقافيّاً في التّعليم على سبيل المثال حيث هو البيئة المشجعة على الأدب، وفي غيره من مجالات الحياة أيضاً،
ووفي لتقرير المعرفة العربي فإنّ سوريّة تحتل المرتبة الأولى عربياً "كدولة طاردة للكفاءات، والعقول" وصنفتها اليونسكو من الدول "الراكدة علميّاً" في عام 2009
كان هذا قبل الحرب، وتعتبر النّسب اليوم غير محزور، ويعتبر الأدب والفكر اليوم هما من أبخس الأشياء.
كان لشعراء القبيلة في ما يدعى "جاهليّة العرب" وزن اجتماعي حيث كان الشاعر سيد القبيلة وقائدها وحكيمها وزعيمها، ثم تمّ إسكاته بعد مجيء الإسلام حيث ربط حياة الشّاعر في الجزيرة العربية بالإيمان والتّضحية فكان الغزل العذري، والأدب العفيف.
يقال: " أنّ أعذب الشّعر أكذبه" وهذه المقولة تنطبق على أفعال الشّعراء، فهم لم يستمرّوا في كتابة الحبّ العذري، بل أرادوا كتابة أعذب الشّعر، وربما أكذبه، فالشّاعر متمرّد بطبعه، لذا عادوا الشّاعر إلى المرأة والحبّ، والخيال، والموسيقى، والجمال، وهذه الأمور الجمالية خالدة. قد يخف وهجها أحياناً لتعود بقوة .
و بعد الفتوحات نذر بعضهم نفسه لرواية الشعر وجمعه، وغربلته .
الأدب هو غذاء الرّوح والنّفس، وهو حالة جماليّة تتسبّب بالتّوازن، ومع انتشار التكنولوجيا تراجعت نوعيّة الإبداع مع زيادة الإنتاج، وبذلك تخلى الأدب عن وظيفته الحقيقية في رصد المجتمع، والدّخول في تفاصيل الثقافة اليوميّة.
. . .
2
التعليم والاهتمام بالإبداع
لا يمكننا التّحدث عن الإبداع في بيئة إيديولوجية تعليمية تبني أجيالاً يعطون الملامح الأساسية عن مجتمعهم الذي وضعت الكتب المدرسية فيه لتقديس الفرد، وكانت المدائح الإيديولوجية كما المدائح النبوية ، ولو راجعنا المناهج المدرسية في لمرحلة الابتدائية لرأينا أن جميع المقررات المدرسية تشيد بالرئيس الخالد، وتحتوي على صور، وأقوال، وأشعار عنه، وهذه الكتب مقرّرة في القطّاع الخاص والعام، وربما يكون القطّاع الخاص أسوأ من العام أيضاً لأنّ المحسوبيات فيه مضاعفة، فحتى تفتح مدرسة أو معهد أو كلّية في سورية هناك طريق واضح لا حاجة لشرحها وهو: أن تكون على علاقة جيدة مع هرم النظام. أن تدفع المال لذلك الهرم، وتشاركه بالأرباح، وتقدم المدارس الخاصة الخدمة عن طريق أشخاصاً ربما غير مؤهلين مهما أظهرت زخرفات على الموضوع، لكنّ الأهمّ في الموضوع هو تدنّي المستوى التعليمي للمؤهلين لقيادة العملية التعليميّة.
لو عدنا إلى من يقبلون في مسابقة أهليّة التعليم الابتدائي على سبيل المثال، ومنذ سبعينيات القرن الماضي حيث تغيّرت أسس القبول جذرياً، فبعد أن كان هناك قبول لذوي العلامات المتقدمة، مع فحص شفوي لملاحظة كيفيّة النّطق أصبح غالية المتقدمين إلى مسابقة أهلية التعليم من ذوي الدرجات المتدنّية، وحسب المحسوبية، فمثلاً معلمة الموسيقى في معهد إعداد المعلمين لا تجيد العزف على آلة موسيقيّة، كما ان المعلمين لا يجيدون اللغة العربية، وأصبحت الأحرف اللثوية غير محسوبة على اللغة، كما أنهم لا يجيدون رياضيات الصفوف الابتدائية فالعملية التعليمية لديهم من أولها حتى آخرها كانت محسوبية . يستثنى من هؤلاء التلاميذ المجتهدين من الفقراء، أو من الذين يهتمّ آباؤهم بهم، وهم عادة ذوي كفاءة عالية- أعني الآباء-
لا يقل التعليم الثانوي والجامعي عن الابتدائي، فأغلب المعلمين إما حزبيين" بعثيين" أو من الجبهة الوطنية، وهؤلاء أيضاً يحتاجون إلى دعم كبير بالمال أحياناً وبالجاه أحياناً كي ينالوا الوظيفة. ناهيك عن مئات الآلاف من الشهادات الجامعيّة في الطبّ والهندسة حصلوا عليها من الدول الشيوعية السابقة بالمال عدا البعض القليل، أما شهادة البروفسور أو ما يدعونه دكتوراه في سورية، فغالبية رجال السلطة والصحافة، وذوي المراكز الحسّاسة نالوها عن طريق ما مشبوه، ولا يخفى علينا كم يوجد من الجامعات التي تمنح شهادات في الدول العربية والغربية، ويصل السّوري الغير حقيقي إلى حلمه عندما يضع حرف" د" أمام اسمه، بينما زميله الذي تفوّق عليه في الجامعة عاطل عن العمل.
أما في العمليّة التعليميّة، والقبول في كليات الفنون الجميلة ومعهد
التمثيل، والرياضة، فهي محصورة بقلة من غير المبدعين، وعندما ترى من يقبل في الفنون الجميلة تعتقد أنهم وضعوا شرطاً وهو أن لا يجيد الرسم مثلاً، فكل المواهب الحقيقيّة تخرج من المسابقة خاسرة.
هناك أمر على مستوى كبير من الأهميّة، وهو أنّ رغم عدم توافق أغلبية المتعلمين مع النّظام، إلا أن المثل العليا التي اختاروها كانت على ذوق النّظام، ومن روج له النّظام، فنشأت منظومة دكتاتوريّة في الأدب لا يسمح لأحد بالتعدي على حقوقها ، واختصرت أسماء المدن بأسماء الكتّاب الموالين فأطلقوا على سلميّة مثلاً سلميّة محمد الماغوط، وأطلقوا على نزار قباني شاعر المرأة، وعلى محمود درويش شاعر الثورة الفلسطينية، وجميعهم كتبوا أشياء جميلة، وأشياء غثّة ، ولكن لا يجوز اختصار المدن بالأسماء، وسأبدأ بالحديث عن شاعر المرأة نزار. سوف نتحدّث عنه كونه أيقونة الثورة السورية، لكنّ المعاصر لسيرة حياته لن ينسى ما كتبه نزار حول حافظ أسد

"إن الرئيس حافظ الأسد هو صديق الشجرة والغيمة وسنبلة القمح والحقول والأطفال والغابات، والجداول والعصافير والشعراء وفيروز وعاصي الرحباني. ولو أن عصفوراً واحداً سقط أو غمامة واحدة بكت أو سنبلة قمح واحدة انكسرت لحمل إليها حافظ الأسد وعاء المهل ووقف فوق رأسها حتى تشفى"
وهذا القول سوف يبقى ملصوقاً به، وهو الذي مدح عبد الناصر، وصدام، ثم شتم العرب ، في قصيدته المشهورة" متى يعلنون وفاة العرب" ويبدو أن أدونيس قلّده عندما خرج من بيت الطالباني في" كردستان العراق" حيث قال: "العرب أمّة سوف تنقرض"، وهو مرادف "لوفاة العرب" التي قالها نزار لإرضاء فئة سياسيّة، وقالها أدونيس من أجل كسب الأكراد.
نحن لا نتحدّث عن إنسان عادي. نتحدّث عن إنسان يسمونه شاعر المرأة وشاعر الثورة. استطاع أن يتقرّب من جميع الحكام، وحتى لو قال:" أنا هنا أيّها الأوغاد" لصفّق له ملايين العرب، فهو شاعر القومية، والحبّ، والوطنية بلا منازع، وإذا كان البعض سوف يقول: جميعنا خدعنا بالثورة الخمينّية مثلاً مع أنها واضحة، فإننا لن نغفر لشاعر" كبير" أن يقحم نفسه في السّياسة من أجل الشهرة والمال لدرجة أن يمدح رجل دين كالخميني حيث قال:
زهّر اللوز في حدائق شيراز
وأنهى المعذبون الصياما
هاهم الفرس قد أطاحوا بكسرى
بعد قهر و زلزلوا الأصناما
شيعة .. سنة
كسروا قيدهم وفكوا اللجاما
شاه مصر يبكي على شاه إيران
فأسوان ملجأً لليتامى
والخميني يرفع الله سيفاً
ويغني النبي والإسلاما
أما موقفه مع النظام السوري فقد كان هو البعيد القريب من النّظام ، ولو كان فعلاً كما يصفونه بالمعادي. لما احتفى به النّظام ودفنه في دمشق، ومع هذا نحن لا نلغي أعماله. نقرأ له، ونحبّ ما نحبّ من شعره بغض النظر عن موقفه السياسي الملتبس مع عبد الناصر، والأسد، وصدام.
هي دراسة نقدية تحمل شواهدها، وعلينا أن نبحث فقط.

3
عصر شعراء الزعماء
إنه العصر الذهبي للشعر الفلسطيني، والقومي، والتّغني بالنّضال.
من منّا لا يذكر قصيدة سجل أنا عربي لمحمود درويش المليئة بالتّحدي لإسرائيل.
العصر سياسيّ بامتياز، والفكرة القومية تحت شعارات أممية هي الطّاغية.
لم يأت الشعراء، والعلماء من فراغ. لديهم مخزون من المعرفة يرغبون في تفجيره، وتعجب بالكلمات حتى لو لم تعجبك الأفعال، كلّ من أكتب له. قرأت قسماً مما كتب، وأعجبت كثيراً أو قليلاً بما كتب، بل يمكنني القول أن كلّ من سوف أتحدّث عنهم يحظون بإعجابي لناحية ، وما أكتبه لا يتعدى البحث الذي ربما يكسر الحواجز، ويجعلنا ننظر للإنسان ليس كإله فهو في النهاية يتأثر بظروفه، ومع هذا فإنّ الظروف سوف لن تكون مواتية لأغلب النّاس كونهم ولدوا فقراء، أو مهمشين، لأن يكونوا مبدعين، وحتى لو أبدعوا فلن يعرفهم أحد، فالشهرة هي تسويق الموهبة، وتسويقها يحتاج لمال أو سلطة. ولا يمكن أن نستشهد بحكايات نادراً ما تحدث عن الجد والاجتهاد، فالاجتهاد قد يمنحك الشهادة، وترغب بعدها في مدخل يجعلك تعطي من ذلك العمل الذي بذلت جهدك فيه ، فالإنسان الطبيعي لديه طموح شخصي على الدّوام.
يمكنني القول أن المراكز التي احتلها أصحاب الفكر في الغرب كإدوار سعيد مثلاً لم تكن ناتجة في البداية على الأقل إلا عن المركز الاجتماعي ، المال، العلاقات السّياسيّة التي لم تنقطع مع الزعماء والحكام ، فوالد أدوار الأمريكي الفلسطيني ، والذي عمل في الحرب العالمية الأولى تحت إمرة جون بيرشنغ، وانتقل للعيش في القاهرة قبل ولادة إدوارو، وحسب وصفه ادوارد نفسه بمقال له عن العاصمة المصرية في كتابه “تأملات حول المنفى”:
في قاهرة داخل قاهرة داخل قاهرة. الأولى هي وسطه الاجتماعي والعائلي المنكفئ على نفسه، والثانية قاهرة الأثرياء والأقليات الأجنبية، والثالثة قاهرة المصريين، أو كما كان يصفهم الخطاب الغربي المتعالي" المحليين"
إدوارد إذن غربي الجنسية ثريّ النشأة .ويصف حياته:
في القاهرة الأولى انضباط صارم -بل خانق- لمشيئة الأب الذي رغم انتمائه إلى وسط الأثرياء الأجانب إلا أنه كان يرفض اختلاط أفراد عائلته بهم سوى في أضيق الحدود، أما القاهرة الثانية فكان أناسها يترددون من حفلات الأوبرا، إلى حفلات الباليه، ومن عروض الكوميدي فرانسيه، إلى فرقتي برلين وفيينا السمفونيتين، ومن دورات التنس إلى ملاعب الغولف، ومن الأفلام البريطانية إلى الأفلام الأميركية"
كانت القاهرة تمثّل لإدوارد" فردوساً الطّفولي"وقد أصبح حسب قوله ناصريّاً معادياً للإمبرياليّة "
.
كانت علاقة الأب مع الغربيين، والثراء هي الحاضن الأوّل الذّي مهّد لتفتّح مواهب إدوارد ، وليس بالضّرورة أن يكون الفرد كأبيه، فقد انخرط ادوارد سعيد بالنّضال الفلسطيني، وكان عضواً في المجلس الفلسطيني لعدة سنوات، وعلاقاته مع القادة الفلسطينيين الذين كانوا يشرحون قضيتهم في مختلف الدّول- والتي شاركهم في أغلبها- كان لها السّبب الأكبر في نجاحه، وقد استمعت إلى مقابلته الأخيرة قبل وفاته، وقال أنه عرض عليه منصب وزير في حكومة ياسر عرفات
ما نسمعه بأنّ لكل مجتهد نصيب لا يلامس الحقيقة في الواقع، فقد كان لوالد إدوار الفضل في الإنفاق عليه في أمريكا، ولمنظمة التّحرير الفضل في شهرته وترويج كتبه، وحتى في الجوائز التي منحت له، وكان له الفضل في اجتهاده.


لا أتحدّث عن الإنجاز، والفكر سوى كراصد ، عندما يمضي الوقت سوف يعيد التّاريخ كتابة الأسماء، والأفعال بطريقته، وهذا لا يعنّي أنّني لا أتّمتع بالفنّ الجميل، و الأدب الجميل حتى لو كان لصاحبه وجهة نظر سياسيّة مغايرة، لكن ما يدهشني كيف يمكن لنا أن نضع حنظلة كرمز، وقصائد محمود درويش كرمز أيضاً ، وهما العدّوان الذين كان أحدهما أقوى، وهو الشاعر الثوري محمود درويش ، وناجي الأضعف أمنياّ ، وحين نترحم على ياسر عرفات علينا أن لا ننسى أنه كان يتوعد من يأتي على ذكره بالسوء من الكتاب والرسامين ، وقد توعّد بحرق أصابع ناجي بالأسيد، وقد كتب سيرة حياته شاكر النابلسي في كتابه " أكلة الذّئب" ، ويُذكر أنه حتى بعد أن نفي ناجي إلى لندن تلقى تهديدات ، ومن ضمن الحوارات التهديديّة"

((محمود درويش: آه.. بس انت مش قدي يا ناجي.
ناجي العلي :شو يعني ..مش فاهم..الشغلة صارت شغلة قدود..قدك وقد غيرك..والله أنا لما برسم ما بحسب قد لحدا.. وأنت عارف يا محمود؟
محمود درويش: هلا مش وقت المزح..بدي ياك تفهم يا ناجي منيح اليوم..إني أنا محمود درويش..إللي قادر يخرجك من لندن في أية لحظة"
وقتل ناجي عن طريق شخص مجهول في لندن، واتهم الموساد الإسرائيلي. من المؤكّد أن الموساد الإسرائيلي لديه العلم، لكن اغتياله كان سياسياً لأن رسوماته تمسّ القيادات ، ومن المؤكّد أن محمود درويش أوصل رسالة لا أكثر، ومن اغتاله ليس الموساد. بل ربما دولة عربية متحالفة مع عرفات. لم يكن ناجي بعيداً عن معرفة مصيره، وهو القائل" اللي بدو يكتب لفلسطين واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حالوا أنو ميت" .
هذه الصراعات السّياسية في عهد سابق تمثّلت في الكتابات الأدبية، وربما أغلب من انجرفوا إلى اللعبة كانوا يفهمونها، لكنّ الحاكم العربي لا يتقيد بالمفردات، فعندما تنتهي صلاحيتك قد يطلق عليك رصاصة الرّحمة ، ومن منا لا يتذكر " قصيدة حبّ إلى سيف عراقي" التي كتبتها الشاعرة الشيخة سعاد آل الصّباح وألقتها أمام صدام حسين في بغداد، والتي أزيلت من دواوينها، وهي قصيدة طويلة اخترت مقطعاً منها:
لماذا تقاتل بغداد عن أرضنا بالوكالة
وتحرس أبوابنا بالوكالة
وتحرس أعراضنا بالوكالة
وتحفظ أموالنا بالوكالة
لماذا يموت العراقي حتى يؤدي الرسالة
وأهل الصحارى
سكارى وماهم بسكارى
يحبون قنص الطيور
ولحم الغزال ولحم الحبارى
لماذا يموت العراقي والآخرون
يغنون هنداً ويستعطفون نوارا ؟
لماذا يموت العراقي والتافهون
يهيمون كالحشرات ليلاً ويضطجعون نهارا ؟
لماذا يموت العراقي والمترفون
بحانات باريس يستنطقون الديارا ؟
ولولا العراق لكانوا عبيداً
ولولا العراق لكانوا غبارا
سواء كنّا من أنصار ادوارد، أو محمد، أو ناجي، أو لسنا من أنصارهم. علينا أن ندرك أنّ المعادلة التسويقيّة وحصد الجوائز يتوقّف على السلطة، والمال، فكلاهما يشتري الآخر. بشكل عام. أمّا في سورية ، فالوضع مشابه، ومختلف، كلّ الأمسيات الأدبية، والصّحف، والروايات المنشورة في سورية تمرّ من قبو أمني، لذا كان مظفر النّواب مرحباً به في سورية، والجواهري، لأنهما ضد صدام، وتلك القصيدة التي مدح فيها الجواهري حافظ الأسد بكلماتها الجزلة تجعلك في حالة دهشة حقيقة، وقد اخترت مقطعاً منها.
دِمَشْقُ صَبراً على البَلْوى فَكَمْ صُهِرَتْ
سَبائِكُ الذّهَبِ الغالي فما احْتَرَقا
على المَدى والعُروقُ الطُّهْرُ يَرْفُدُها
نَسْغُ الحياةِ بَديلاً عن دَمٍ هُرِقا
وعندَ أَعْوادِكِ الخَضْراءِ بَهْجَتُها
كالسِّنْدِيانَةِ مهما اسَّاقَطَتْ ورَقا
و(غابُ خَفَّانَ) زَئَّارٌ بهِ (أسَدٌ)
غَضْبانَ يَدْفَعُ عن أَشْبالِهِ حَنِقا
يا (حافِظَ) العَهْدِ، يا طَلاّعَ أَلْوِيَةٍ
تَناهَبَتْ حَلَباتِ العِزِّ مُسْتَبَقا
، وأما مظفّر والذي لقي شعبية كبيرة في سورية في شعره الزجلي المغنى، وكان له صلاحية تأليف مسرحيات لعرضها، إضافة إلى حريّة الحركة، وكان أكثر من استضافه من السوريين أولئك الذين يدّعون أنّهم مثقفون ثوريون، ولكن، ورغم ماضيه الكفاحي لا يمنع أنّه قبل ان يكون تحت رعاية الأسد، وعندما قال أولاد القحبة في أمسية في دمشق، تلك الجملة المشهورة التي أحبّها السوريين لأنها وصفت أنثى بالقحبة، فقد كان حضورها أمني بعثي جبهوي، وأشار بإصبعه إلى الجميع فضحكوا له وصفّقوا له
. . .
قصة ناجي ومحمود تتكرّر في سورية بطريقة أخرى، لم يعد الوضع الثوري هو أن تقف مع سورية، وكما قال ناجي العلي لكن مع اختلاف الاسم" كل شاب يكتب عن سورية أو يرسم عنها بدو يموت" وأعني هنا. كل سوري محايد يكتب بقلمه، أو يرسم بريشته، فللعبة قوانين، وللمنابر أسياد، ولن تكون حالتك استثنائية. عليك ان تعرض خدمات لأصحاب السلطة والمال، -السلطة في سورية متعدّدة فقد تكون مليشيا مثلاً- ويوافقون على خدماتك ، وإما أن تملك المال فتشتري خدماتهم، ولكل تاريخ صلاحيّة.
4
أدب السّجون السّورية
أنت في سورية، في دمشق " عاصمة الثقافة العربية" كما يسمونها، أو قلب العروبة النّابض، هي كلمات كبيرة لا علاقة لها بالواقع. في الحقيقة أن الثقافة في سورية تخصّ الكتّاب والمفكّرين والفنّانين " النّجوم" ، وهؤلاء يتكلمون، وكأنّهم سلطة، والحياة الثقافية متاحة أمامهم. فقط يسكنهم الخوف فيؤلّفون حكايات تجعل رأس النظام يشعر بالسّعادة.
لا نستطيع إحصاء عدد الكتّاب، والشعراء، والمفكرين الذين ينتظرون فرصة لعرض إنتاجهم، وقد يضيق بهم الزمان والمكان، وتضيق بهم لقمة عيشهم فتدفن أشعارهم، وأفكارهم حيث يعيشون أشباحاً ويموتون أشباحاً، وكما نعلم فإنّ النّشر في غاية الأهمية لأنّه يوصل الفكر إلى النّاس . دور النشر لا تتبنى إلا الكتاب النّجوم. بإمكان هؤلاء أن يصبحوا معارضين، وتوظّفهم دولة عربية غنيّة على خبرتهم النجومية، وممكن أن يحصدوا جوائز عربية وعالميّة، وهو موضوع تصويتي تسويقي، له بيئة حاضنة، وقد فرّ الكثير منهم من سوريّة وهم في حال يحسدون عليها، بل ويشكون إهمال السّوريين لهم مع أنّهم معارضون، مقتنعون بأنّهم سوف يذكرهم التّاريخ ممتناً لهم.
إن كلّ ما أكتبه يتناول الفكر والأدب السوري، و الفلسطيني كونه جزء هام من الفكر السّوري، كما يتضمن الفكر والأدب السرياني والكردي، والذي كتب باللغة العربية، وعن سوريّة، وقد تفوّق هؤلاء في النحو والصرف على السّوريين ا العرب أحياناً، وسوف أبحث فيه لاحقاً، كما أتناول الفكر الذي له علاقة بسورية .
أتناول أيضاً أدب المدن المهمّشة التي اختير منها شخص ليمثل بلداً كاملاً كسلميّة التي اختصرت بمحمد الماغوط، ولم تتح الفرصة لمئات الكتاب منها لأخذ مكانهم الطبيعي لأسباب كثيرة.
سوف أتحدّث باختصار عن أدب السّجون، وربما هم أدباء ومفكرون قبل أن يدخلوا السجن ، وهي تسميّة خاطئة. كان يجب تسميته أدب الإنسان.
قبل أن أتحدّث عن أدب السّجون لا بدّ لنا أن نتحدّث عن سوريّة الطّائفية، تنظر إلى الأماكن نظرة عنصرية ، فالموقف من الجزيرة السورية العليا ذات التنوع القومي والديني مثلاً هي نظرة مستعمر إلى الدّولة المستعمرة، هم ينهبون خيراتها، وينعتونها بالتخلّف، وجميع سكانها من العرب، والأكراد، والسريان والآشوريون وكل القوميات توصف بالتّخلف، وثقافة السّلطة تنعكس على ثقافة المجتمع، بل إنّ قسماً كبيراً من المجتمع السّوري لم يكن يسمع بأسماء مدنها إلا بعد الثورة السورية عام 2011 ، والتي انتهت إلى حروب متعدّدة تدار من مراكز متعدّدة حيث يوظف السّوري فيها من أجل قتل السّوري.
نعود إلى أدب السجون، وننوه أن سجناء الرأي في سورية هم المعنيون، فالمجرمون لا يعاقبون عادة إلا بعقوبات سهلة ، سجناء الرأي أغلبهم من الشّباب المبدع الذي دمروا مستقبله وحياته، ولن ننسى قصّة الصيدلاني زميل بشرى الأسد عندما ناقشها في أمر يتعلّق بالدواء فسحبوه إلى الفرع ، ثم خرج من سورية مخصيّاً مع مصّدقة تفيد أنه لا يستطيع ممارسة الجنس هذا ما كتبه في عام 2008 من ألمانيا.
لا نستطيع أن نحصي الأفكار التي كتبها السّجناء، فهي بحجم الألم . أترك لكم حريّة التّصور، وأبدأ بسجن تدمر الذي كتب على أبوابه " الداخل مفقود، والخارج مولود" وهذا يعني أنك متّهم وليس مهمّاً أن تدان ، أو لا تدان ،فنحن لسنا في فرنسا حيث المتهم بريء حتى يدان. فلا محاكمة، ولا إدانة .من يقرّر وضعك هو الجلاّد، يوجد كتب كثيرة كتبت عن السجن ومنها:
كتاب" تدمر شاهد ومشهود "
يعد أول كتاب يتناول سجن تدمر، أصدره المعتقل الأردني سليم حماد الذي اعتقلته المخابرات السورية في التسعينيات عندما كان يدرس في إحدى الجامعات السورية، اتهم حماد بالانتماء للإخوان المسلمين، وقضى (11) عامًا قبل أن يطلق سراحه

كتاب " عائد من جهنّم"
علي أبو دهن.

يعد هذا كتاب التوثيقي الذي صدر عام 2012 من أهم ما صدر عن سجن تدمر، كتبه اللبناني علي أبو دهن الذي قضى (13) عامًا في السجن، منذ اعتقاله في مدينة السويداء عام 1987
القوقعة
“رواية تسرد يوميات شاب ألقي القبض عليه لدى وصوله الى مطار بلده عائدا اليه من فرنسا وأمضى اثنتي عشرة سنة في السجن دون ان يعرف التهمة الموجهة اليه.. انه الظلم والفساد والقساوة التي لا تقرها شريعة
.
يقول بطل مصطفى خليفة “اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر وبلطف مبالغ فيه طلبا مني مرافقتهما. انا وحقيبتي التي لم ارها بعد ذلك.. ورحلة في سيارة الامن على طريق المطار الطويل وارقب الاضواء على جانبي الطريق ارقب اضواء مدينتي تقترب.”
يسأل البطل احد رجال الامن ببراءة “خير ان شاء الله.. لماذا هذه الإجراءت؟ يطلب منه السكوت، فيسكت.
يحكي بطل الرواية عن “حياة” السجن والاذلال والتعذيب بتفاصيل جنونية تكاد تكون مما يعرفه الانسان العربي المعاصر معرفة لم يعد فيها ما هو جديد له. يروي قصته وقصة صديقه وزميله الذي خرج الى الحرية بعد سنوات طويلة فلم يستطع التكيف فانتحر.

.

.
الرحيل إلى المجهول كتبه آرام كربيت
سجن في العام 1987 وخرج من السجن في 2000, منها ثمانية اعوام في عدرا بدمشق وخمسة اعوام في سجن تدمر العسكري
من كتابه الرّحيل إلى المجهول:
"الحلم والزمن.. غربة وحنين متيقظ.. مدارات طويلة.. تستلقي خلف الجدران السوداء العالية
ونحن.. ننتظر..
في المساء.. وكل مساء.. حلول الظلام وهبوطه.. خلف الجدران السوداء والعالية لتمد مخالبها وأنيابها المفترسة.. لتزحف فوق الاماكن المسترخية من جسدنا.. لتقطعه وتأكله بلذة لذيذة وفق طقوس مدروسة..
في هذه الليالي الطويلة سنمتهّن الخوف والقلق.. وسكرات اليأس والفراغ والهروب..
تحت سطوة الخوف .. كنت أقول لنفسي..
هؤلاء الذين يحكمون بلادنا.. لا منبت لهم ولا تأريخ.. قطاع طرق.. سمحت لهم العجالة المترافقة بالخوف الى البروز.. انبثقوا من العتمة.. من الليل المدلهم.. سنين طويلة كانوا في عزلة خارج مساحة الزمن المتحرك.. يقتادون الدم الفاسد والتسول..
لن يقتلونا.. لكنهم سيمثلون بأجسادنا ونحن أحياء.. لنكون عبرة لمن اعتبر.. حتى لا تسول للأخرين أن يحذو حذونا.. وبعد أن يضعفوا أروحنا وأجسادنا سيتركنا لأمراضنا المتعددة والمستعصية لتكمل الباقي.. تفتك بنا وتنهي ما تبقى لنا من أنفاس سليمة..
هؤلاء هيولة لدنة.. اخطبوط.. يلتصقون بالجلد ويفردون أنصالهم في المسامات الدقيقة.. يفردونها على طول مساحات وجودنا.. يبدأون في مص الدماء الحارة بشبق ولن يتركوا شيء على حاله إلا كرماد مبدد مجهول الهوية"

رواية “خمس دقائق وحسب” هبة الدّباغ
هي فتاة حموية اعتقلت وسجنت تسع سنوات بالنيابة عن أخيها أي" رهينة" وفي روايتها تصف ليلة اعتقالها، وتقول أنها لا تعرف السبب الذي اعتقلت من أجله
في صفحات الرواية .قصص شتى لنساء وأطفال ساقهم النظام السوري إلى السجون دون أي مراعاة أو شفقة ودون أي ذنب أو تهمة.
بالخلاص، يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية
ياسين الحاج صالح
اعتقل الشاب ياسين الحاج صالح من كلّية الطب في جامعة حلب بتهمة الانتماء إلى حزب معارض... تنقّل بين سجن حلب المركزي ومعتقل عدرا في دمشق مدّة خمسة عشر عاماً. قبل أن تنتهي مدّة حكمه يُعرض عليه أن يصبح مخبراً، يكتب التقارير ويشي بأصدقائه. يرفض ياسين، ويرحَّل مع ثلاثين سجيناً إلى سجن تدمر الرهيب، ليمضي سنة إضافية في مكان جحيمي لا تنفتح أبوابه إلا لتلقي الطعام والعقاب. .
"هناك، لا أخبار جديدة، لا طعام شهياً، لا زاد عاطفياً، لا شيء طازجاً من أي نوع. زمن آسن متجانس، أبدية لا فوارق فيها ولا مسام لها. سجناء يقتلون الوقت بما يتاح من وسائل التسلية، وآخرون يروّضونه بالكتب والأقلام. عالم بلا نساء، لا أسرار فيه ولا خصوصيات"
ولا يزال الكاتب يعاني حيث اختطفت زوجته سميرة الخليل، وحتى اليوم لم يعرف مصيرها.
هذا غيض من فيض مما تسنّى لي أن أطلع عليه، والرقم أكبر من ذلك بكثير، حيث أعداد من كتب عن السجون كبر جداً
5
سلطة الإعلام
عندما نتحدّث عن الإعلام في الموضوع السوري، فإنّنا نتحدّث عن إعلام عربي بالدرجة الأولى ،وسوريّ بالدّرجة الأخيرة ، ولكن، وبغض النظر عن ذلك، فإنّ لكل منبر إعلامي سواء كان مقروءاً أو مسموعاً . رسمياً أو مموّلاً توجهات ربما وطنيّة، أو قوميّة، أو دينيّة ، وهذه تحتاج لتمويل ضخم.
أغلب وسائل الإعلام العربية مموّلة ، ومستفيدة من تلميع صورة الحكّام، وعندما نقول مستفيدة فإنّ الأمر لا يتجاوز الأمر المادّي، وهي التي تلمّع صورة الحاكم وتصوره على أنّه المنقذ ، ولا يمكن طبعاً أن تتحدث عن تسبّبه في دمار الإنسان فهي مشاركة في حفلاته، وملذاته.
الإعلام العربي يمارس دكتاتورية على الفكر كي يبقى الواقع كما هو، أو على الأقل أن يتراجع الفهم ليبقى مقتصراً على المشاعر الدينيّة، والقوميّة، وإذا كانت ظاهرة الخوف من الأنظمة العربية شيء طبيعي لأنّها استبدادية ، إلا أنّه للجمهور علاقة مشابهة بوسائل الإعلام ، وبخاصة بعد زيادة وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تحدّثتْ عن ذلك في وقت مبكّر من سبعينات القرن الماضي الباحثة الألمانية إليزابيث نويل نيومان إلى ظاهرة الخوف التي أسمتها" دوّامة الصمت" حيث تبين أنّه" حين تتبنى وسائل الإعلام رأياً، أو توجهاً ، فإنّ الأغلبيّة سوف تقف مع ذلك التوجه، ولا يعبر المخالفون عن رأيهم، بل يصمتون "
عودة إلى الإعلام السّوري، وبدءاً من انقلاب الثامن من آذار 1963 حيث كان البيان الثاني هو الاستيلاء على وسائل النّشر حتى وصل في عام 1970 إلى الاكتفاء بصحيفة البعث، والثورة، وتشرين، وبعد عام 2000تمّ التحول إلى ما سمي باقتصاد السوق الاجتماعي، وعلى الصعيد الإعلامي تم إصدار قانون يسمح بإصدار صحف خاصة، ومن تلك الصحف النّور، أو الاشتراكي، أو غيرها وجميعها تخضع للمراقبة.
تعاقب وزراء الإعلام على الوزارة ، وكانوا يكرسّون الحالة القائمة، وكانت بثينة شعبان هي سفيرة إيران الإعلامية وممثلة الأسد، لكنّ تأثيرها كان أقل من تأثير غسّان بن جدو الذي " ربما تربى" إعلاميّاً في إيران، وهو أول من ابتكر مقولة جهاد النّكاح الذي اتهم فيها التونسيات، والمسلمين السّوريين واستطاع اثبات صحتها عن طريق الوزير التونسي "بن جدو: وصدّقناها جميعاً مع خبرتنا الطويلة في الإعلام فقد تناقلتها وسائل التواصل، والمحطات العالمية إلى أن كذّبتها لومند الفرنسية حيث ندم الكثيرون على تصديق تلك المقولة.

إذا اعتبرنا أن الشعب السوري اليوم هو الجمهور الإعلامي فإنّ علاقته مع الإعلام تتلخص بالخوف، ويعيش في" دوّامة الصّمت " التي تحدّثت عنها
الباحثة الالمانية اليزبيث نويل.
يتوجّه الإعلام اليوم إلى التّجييش، وأصبحت الفضائيات العربية هي من يقود الشّأن السّوري، حيث تحرّض على الطائفيّة والقتل، وهذا ما تفعله أيضاً المحطات التلفزيونيّة السّورية، فدمك مباح فقط بسبب هويتك الطائفيّة أو الإثنيّة ، وعندما تعيش في الدّاخل السّوري عليك أن تصمت كي تتجنب القتل، وقد لا تتجنّبه.

الأخطر في وظيفة الإعلام العربي هو التّجهيل، وهذا ما تقوم به الفضائيات العربية الممولة، والتّجهيل يبدأ من الطّفولة الأولى وهذا فعلاً ما بدأوا به ، فقد فتحوا المدارس في دول اللجوء المجاورة وفرضوا على الفتيات في السابعة ارتداء الحجاب، والمناهج دينيّة، وهذه سنوات سبع تمرّ، فمن كان في العاشرة أصبح شاباً، ومفعماً بروح المدرسة التي ربتّه. هذه المدارس للفقراء، فللأغنياء أمكنة أخرى تتسع لهم في إسطنبول، وبيروت، وعمان، وهم يعتبرون معارضتهم نوع من النبل ، وينظرون إلى هؤلاء الفقراء كما ينظر لهم الحكام كجراثيم يمكن إبادتها، أمّا أبناء هؤلاء الفقراء، فسوف يعودون إلى سوريّة المتوافق عليها بعد أن يطردون من دول الجوار، ويصبحون حطباً في الفترة التالية، وتتم المصالحات بين السّلطة والسّلطة، وأعني بالسلطة الثانية الجزء الذي غادر السلطة ليعارضها بمحبّة، ويعود لها بامتنان.
هناك اتّجاه آخر لغسل الأدمغة ، حيث تحوّل اليوم الكثير من المعارضين السّوريين إلى أبواق ضد الإسلام-مع التّحفظ على موضوع داعش كونها ظاهرة مصنوعة سوف يتم الكشف عنها ، وسوف نفاجئ أنها لم تتعدى تلك اللعبة- وكأنّهم أتوا من كوكب آخر، وهم يحاولون محاكمة التاريخ الإسلامي من خلال إبادة المسلمين في سورية، وكأنّ مسلمي سورية هم من أسس للإسلام. التّجييش الإعلامي الذي تقوده وسائل الإعلام ، يتحوّل إلى واقع، فأصبح القتل الجماعي أمراً طبيعيّاً تحت اسم محاربة الإرهاب، حيث تموت العائلات تحت القصف ضد الإرهاب، كما يجري التّشهير بحزب الإخوان المسلمين السّوري الذي هو أحد أطراف المعارضة وربما أحد مموليها، مع الترحيب بالإسلام القادم من الدّول العربية .
مع تحفّظي الكبير على فكر الإخوان ، لكن لا يمنع أن نتعاطف مع المخالفين لنا فكرياً، وربما كان" الثلاثون ألف سجين المتّهمون بالإخوان قبل الثورة" لا يعارضوننا فكرياً، ولا ينتمون للإخوان أصلاً ، وهؤلاء لم يحصل النّاجون منهم على عضوية أي تجمع شكلّه الإخوان تحت اسم معارضة.
نحن في مرحلة غسيل أدمغتنا، فإن كنت إخواني فإن قتلك حلال، وقتل المسلمين في المدن بشكل جماعي هو حلال.
استطاع الإعلام أن يقسم سورية أفقياً وعمودياً فهي الآن سنّية، وشيعيّة. عربية وكردية، وعلى القوميات الأخرى الانضمام لأحد هذين الفصيلين.
ثم قسمت عمودياً حيث يوجد توجهان عربيان، وتوجهان كرديان، وفي كل حيّ توجهان أحدهما يقتل الآخر.
والسوريون كإعلاميين، وكون أغلبنا تعلّم خلال عقود في مدرسة الأب القائد، فإنّ الهاجس الأوّل عند السوري هو الرغيف، والإعلامي من حيث المبدأ فقير يرغب في العيش، وهذا لا يبرّر الأفعال التحريضية التي يقوم بها رؤساء المنابر الإعلامية من خلال الموظفين أو ما يدعى" الصحافيين"
يمكننا القول أنّ العمل الصّحافي في الدّول العربيّة لا يحتاج إلى إلمام بفنّ الصحافة. يمكن أن تكون صحافياً دون شهادة، وتكون وظيفتك متنمّراً، أو مهرّجاً ، وهذا ما نشاهده في برامج ما يدعى " شو"
6
ما قبل وما بعد الثورة السورية 2011
من فجّر الثّورة؟
سؤال يستحق الإجابة عليه. الذي فجّرها هو الظّلم بالدّرجة الأولى.
يوجد في سورية معارضة سياسية حاولت أن توحد جهودها ولو بشكل ما مع ربيع دمشق الموهوم، لكنّ أغلبهم دخل السجون السّورية.
أغلب السوريين ينتمون إما إلى البعث، أو إلى الشبيبة في أضعف الأحوال ، أو من أحزاب الجبهة، فحزب البعث منظومة تضم أغلب السوريين، حيث لا وظيفة أو عمل لمن لا يأتي بورقة أنه عضو في البعث، أو الاتحاد النسائي، أو الشبيبة، أو أحزاب الجبهة، ونحن نعرف أن طلاب الثانوية هم من الشبيبة بنسبة 95 بالمئة عدا في مناطق تواجد الأكراد فقد كانت النسبة تنخفض إلى 80 بالمئة.
التّعدد كان موجود ضمن حزب البعث نفسه ، فيكون الشّخص ظاهريّاً بعثياً، وضمنيّاً إسلامياً على سبيل المثال . أن ما يجري في السّر هو مختلف.
عندما تقدم دراسة عليك أن تكتب الأمور بشكل محايد، وأحاول أن أكون محايدة في الأمور التي أنقلها حسب ما رأيتها.
إن قال لك سوري بأنّه ابتعث للدراسة في الخارج دون واسطة فصدّقه، فهو ابتعث لأنّه حزبي، وينتمي إلى منظومة الضّابط الفلاني، أو الشخص المتنفّذ الفلاني، وإذا قال لك سوري أنه اختير لكفاءته فلا تصدّقه، فالكفاءة آخر ما ينظر له في المناصب، وحتى الوظائف الصّغيرة.
لا يعني أن يكون الجيش، والموظفين، وطلاب المدارس بعثيين أنهم يتساوون معاً ، فهناك تقسيم في رأس الهرم: بعثي من المقربين من النظام وطائفته" العلويون" ، وهؤلاء احتلوا المناصب العليا الداخليّة والخارجيّة، بعثي من الأقليات الطائفية، وهم أبناء الزّعماء في المناطق الطوائف ومواليهم، وهؤلاء لهم نصيب من الكعكة كون زعماء الطوائف يقوم النظام بتعيينهم، وهؤلاء يخضعون لهؤلاء ،والبعثيين الذين لا حقوق لهم هو الشعب الفقير الذي لاحول له ولا قوّة، وهنا أرغب أن أشير إلى أنّه وبالرّغم أنّ بعض الأحزاب الكرديّة أنشئت بضوء أخضر من السلطة ، لكن الأكراد كشعب كانوا من أكثر الفئات السّورية التي لم تنتمي إلى حزب البعث، وأكثرهم تعرّضاً للظلم ، ومن أجرأهم حيث كانوا يحييون ذكرى المناسبات الخاصة بهم كحلبجة في المدارس رغم عدم السّماح لهم، وتعرّض الكثير منهم إلى القتل في احتفالات النيروز، كما تم حرقهم في سجن الحسكة، وكانت أحداث ملعب القامشلي 2004 هي ثورة حقيقيّة من قبل الشعب الكردي الفقير، وبينما كان بعض أفراده يموتون، كان بعض أفراد الأحزاب الكردية يحرسون تماثيل الأسد بناء على توجيه الأمن، ولم تطرح في المسيرة أفكاراً انفصالية.
كنت وسط أحداث 2004، لم أشارك في التّظاهرة. كنت إلى جانبها أراقب، وكان زوجي يقول لي:
اسمعي ما أجمل هذا النشيد. كان المتظاهرون يردّدون بصوت خفيض:
يسقط حزب البعث فقط، .أحداث لن تغيب عن ذاكرتي،
وكان زوجي من أوائل الناس الذين رافقوا الشهداء إلى مثواهم الأخير، وأتى الرّد علينا حيث كان ما كان في 2006 ، فقد كانت العقوبة من نفس العمل، وأرسلت المخابرات عملاءها من الأكراد لينزلوا يافطة معهد الرّواد الخاصة بابنتي سيناء ، ويهدّدونا ، مما اضطرنا إلى مغادرة البلد، والأسماء جميعها موثّقة من قبلي ومنشورة في سلسلة اسمها" في دارة أم العبد" في موقع ألف تودي تتحدّث عن الموضوع.
عندما أناقش السّوريين حول الفقر لا يقبلون الفكرة ، يقولون أن سورية لم يكن فيها فقر، لكنني لا بد أن أدلي بشهادتي الشّخصية هنا، ولا بد أن أطرحها رغم عدم التّوافق حولها، فقد رأيت الأطفال الذين ليس بأرجلهم أحذية في ريف الحسكة، والأطفال الإناث اللواتي يعملن في خدمة عائلات من محيطهم، وقد تركوا مدارسهم. رأيت الفقر المدقع في أغنى بقعة من أرض سورية، وهي الجزيرة السّورية العليا. كما رأيته في دمشق على الجسور التي تعجّ بالأطفال الذين يبيعون الكبريت، أو السجائر، وبالرجال والنساء من ذوي الاحتياجات الذين يمدون أيديهم للمارة، وأرى أنّ أحد أسباب الثورة السورية هو الفقر، فقد تكون الوظيفة قد حمت البعض من الفقر العلني، لكن نسبة 90 في المئة من الجزيرة السورية العليا ليس لهم وظائف، يستوردون لهم الموظفين من السّاحل السوري ، أو من وسط سورية، وهذا يعني أن أغلب أهل الجزيرة عاطل عن العمل، ولو ذهبت إلى السّاحة لاستطعت الحصول على عمال بأجر يومي زهيد.
إذا كان أهل الجزيرة السورية العليا يعتمدون على العمل الزراعي في المواسم، والذي كان يضمن كفاف عيشهم، لكنّ هذا توقّف فيما بعد فقبل الثورة بزمن طويل كانت عامودا تملك أعلى نسبة جرارات في سورية ،أصبح أهلها يغادرونها لضيق العيش إلى لبنان، وأطراف دمشق، فالمواسم القليلة ترافقت مع استنزاف المياه الجوفية بحفر الآبار البحرية التي كان يشارك فيها ضبّاط الأمن، أو على الأقل يأخذوا حصّتهم حتى يسمحوا بفتح هكذا بئر، وأصبحت الجزيرة السّورية التي يمكن أن تسدّ مجاعة العالم بالقمح .لا يكفي محصولها للأفران المحلّية، والحصول على ربطة خبز أمر شاق، أما الفساد داخل مؤسسات استلام المحصول فقد تجاوز الحدّ، وهذا ما جعل الكثير من الملاك الذين كانوا يملكون آلات زراعية إلى بيعها، والتّوقف عن العمل الزراعي لأنّ أغلبه يشبه القمار كونه يعتمد على الزراعة البعلية.
ربما كان وضع السريان والآشوريين المعيشي أفضل . ليس لأنّ ظروفهم أفضل بل لأنّ في كلّ بيت مهاجر يدعم عائلته، فهجرتهم تمتد إلى فترة المجازر العثمانية، وبعد أحداث لبنان أصبح يشار لهم كخونة، وأنّهم ليسوا مناصرين للكتائب فحسب. بل هم من الكتائب اللبنانية، وقتل بعضهم في الحرب السورية على لبنان حيث كان في الجيش العربي السوري، وهذا ما أخافهم فهاجرت أكبر نسبة منهم في تلك الفترة عن طريق لبنان، وقدموا أنفسهم كلبنانيين، وبعد حصولهم على جنسية الدولة المضيفة أظهروا هويتهم السّورية، وقد سهلّوا الهجرة لأقاربهم بعد الثورة كي لا يتعرّضوا للموت في البحر فعملوا لهم عقود عمل أتوا من خلالها، وأنا هنا أتحدّث عن الأغلبية، ومع ان " المسيحي من الجزيرة السّورية" يعتبر أن تلك المناطق هي تراثه وتاريخ أجداده، فاسم سوريا نفسه سرياني، وهناك بعض النساء السريان اسمهن سوريا، لكنّهم يتوجّسون من القتل، فقد حدث أن قتلوا في طقّة عامودا أو- كما يسميها الأكراد انتفاضة عامودا عام 1937-، حيث اعتبرها الأكراد انتفاضة ، بينما يعتبر المسيحيون أنهم قتلوا لأنّهم مسيحيون، وقد يتكرّر الأمر، فترك أغلبهم مدينة عامودا إلى أماكن أخرى في سوريّة، وهم اليوم يعتبرون أن هناك عمليّة تزوير للتاريخ، وهذا ما قاله لي أحد الآشوريين الذي أراد أن يبقى في قريته، ولكنه لجأ للسويد، وقد كان معلّماً في قرية قرب قرية تل تمر، وقد تواصل مع أقاربه في القرية فقالوا أن المدرسة أغلقت أبوابها حيث بقي فيها 4 طلاب فقط.
قال " هذه القرى نسكنها أباً عن جد، وهي تمثّل تاريخنا. نحن الآشوريون في سورية والعراق يتمّ سرقة تاريخنا أمام العالم"
ليس لي رأي في أحداث عامودا فقط أنقل الحدث وتاريخه ورؤية طرفين قد يكونا متصارعين، أحدهم يعتبر نفسه بطلاً بينما يعتبره الآخر قاتلاً .
أسباب الثورة عام 2011 كثيرة، لكن أهم سبب قريب كان نجاح المصريين في حمل مبارك على الاستقالة.
اعتمدت الثورة على الشباب الذين كانت طروحاتهم" الشعب السّوري واحد" وتقارب المكون الكردي، والعربي والمسيحي تحت هذا الشّعار. لم يستمر الأمر طويلاً حيث بدأت ترتفع الشّعارات الإسلامية، فأخافت الكثيرين من الأقليات المعارضة لحكم الأسد، والتي لا ترغب في حكم إسلامي.
قتل الشّباب الثوري، واعتقل، وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة قتل الثورة عن طريق أسلمتها، وهذا ما جرى.
وبدأت مرحلة هجرة السّوريين الأولى من ميسوري الحال، والذين لم يتضرّروا، وقد كانت مكلفة جداً حيث سعر تهريب الفرد الواحد من ثمانية إلى عشرة آلاف يورو، وهي هجرة بالطّائرة. إما من تركيا أو اليونان، وهذه المرحلة كان الغرق في البحر قليلاً.
الموجة الثانية من المهاجرين كانت الأرخص سعراً، والأكثر موتاً، وهي إمّا من مصر أو ليبيا، حيث كان يدفع الشّخص الواحد من ألف إلى ثلاثة آلاف دولار، وهذه الموجة كان ضحاياها، والغارقين في البحر كثر، ثم أتت الموجة الثالثة مشياً على الأقدام من اليونان، وفي هذه المرحلة نجح رئيس جديد في اليونان وفتح الباب إلى أوروبا وأتى النّاس بأثمان بخسة، وكان الأمر مغرياً، لكن تلك الرحلات كلّفت الكثير من الضحايا في البحر بين تركيا واليونان، حيث كان آلان الكردي رمزاً لهؤلاء الضحايا.
ليس صحيحاً أنّ كل المهاجرين هربوا من الحرب، والدليل أن بعضهم لا يزال يزور سورية بالسّر، وله أعمال داخل سورية. مع أن إقامته حماية، ولو عرفت الدولة التي منحته الحماية لسحبت منه الإقامة، بعضهم أتى متحمّسً من أجل مستقبله، ومستقبل عائلته، وهم يعملون بجد وينالون تقدير المجتمع، والكثيرين لم ينهوا اللغة، ويعيشون على الضّمان، وبعضهم تستغرب لماذا أتى، فهو يزوج بناته في الخامسة عشر بعد شهادة الشهود، دون أن يسجل الزواج، ولا زالت جريمة الشرف قائمة، حتى أنّ السويد وضعت لها عقوبة قاسية في القانون.
لا بد أن نتحدّث عن تلك الرّوح الإيجابية التي سادت المجتمع السوري مع بداية الثورة، وهذا الإحباط والانقسام اليوم، فشعار الشّعب السّوري واحد اختفى، وبرزت قضايا قوميّة ودينية حيث أصبحت الأسرة الواحدة منقسمة.
كثر الإنتاج الأدبي، والفنّي، والدراسات، والبحوث على حساب المضمون. زادت قصص التفوّق الوهميّة في الإعلام، وكأنّنا نحن نعيش حالة البعث عندما نتباهى بتفوقنا، وهي قصص في أغلبها وهميّة، فالكثير ممن تفوقوا. لم يقربوا الإعلام. زاد إنتاج الأعمال الفنّية، وعاد من كان يسيطر على الفن والأدب في الدّاخل للسيطرة من جديد، وهم مجموعات مغلقة لا يمكن اختراقها. أغلب الصحف، والفضائيات مموّلة ، والفكر النقي سيبقى " في دائرة الصّمت"
زادت الجمعيات الخيرية التي توزّع الفلافل، ويقتني أصحابها السّيارات الفارهة، كما زادت المنظمات الحقوقيّة، ومنظمات حقوق الإنسان التي تعيش على التّربح من الثورة، وكانت الحالة الفكرية حتى الآن بعد الثورة في أدنى مستوى لها، حيث أصبحت الشّتيمة والألفاظ النّابية تنزل في مقال صحافي، أو على الفضائية، أصبح عدد المتاجرين بالثورة يفوق عدد التنظيمات، وأصبح الشعب السوري الأعزل في قبضّة المناهضين للثورة سواء كانوا من أنصار إيران أو من أنصار دولة عربية غير إيران، أو أنصار النّظام، أصبح الشعب السّوري اليوم محاط بسياج من الحواجز التي تعيق حركته الجسديّة، والفكرية.
سمى بعض المهاجرين أنفسهم شاعر الثورة، أو إعلاميّ الثورة، وسّجل أحداثاً قد يكون بعضها حقيقياً، وبذلك أصبح أغلب السوريين حتى الذين انضموا إلى الحراك غير مرغوب بهم.
اخترت قصّة يقول كاتبها أنّها حقيقيّة، وقد سمى نفسه شاعر الثورات عنوان القصّة: حين يوضع المسدس على طاولة الامتحان
يكرّم المراقب أو يهان
من الحياة اليومية لمواطن سوري
بقلم طريف يوسف آغا
يقول في مقدمته : إهداء إلى جماعة كنّا عايشين
ويقول أيضاً أن القصة جرت على مرأى منه عام 1975-1980 عندما كان طالباً في كلية الهندسة في دمشق
القصة منشورة على الموقع https://sites.google.com/site/tarifspoetry/tarifspoetry-10/hyn-ywd-almsds-ly-tawlte-alamthan
اكتفيت بوضع الرابط لضيق المساحة، وأترك الرأي لكم حول الشكل، والمضمون، والمستوى، ولا يحتمل البحث لشهادات كثيرة.

الخاتمة
نحن محكومون بالبيئة التي نعيش فيها. نأكل طعاماً متشابهاً، نتحدّث بكلام متشابه، ونقرأ قراءات متشابهة ، لأنّ هذا ما توفره لنا تلك البيئة ، لكنّنا في نفس الوقت لسنا نسخة طبق الأصل، فلكلّ منا طريقة وأسلوب وقراءة مختلفة لنفس الحدث، ولنفس النّص، فهناك من يقرأ ما بين سطوره، وهناك من يقرأ قراءة عابرة، لكن مصادر البحث والقراءة غير متوفّرة حتى على النّت، والكثير من البحوث تفتقد إلى المصداقيّة.
مهمة الفن، والأدب هي: أن يصدم ويسلي بنفس الوقت، ويعيد ترتيب الأشياء، وربما لا تظهر قيمة أعمال شخص ما في حياته، فعلى سبيل المثال مات فنست فان كوخ في فقر مدقع، ولم يستطع بيع لوحاته ، وهي الآن مرتفعة الثمن ولها قيمة فنّية عالية، وإذا كان الأدب، والفن والفكر المعاصر يسوّق للحريّة ، فإن يخضع أيضاً لرغبة المتلقي، وربما لرغبة الرّاعي حيث يتلاقى العمل الإبداعي والتسويق في نقطة ما.
لو أردنا أن ننظر إلى موقف الكاتب، أو الفنان، أو الباحث من السلطة لألغينا تاريخاً طويلاً من العمل لفنانين، وكتاب، وشعراء، وهذا ليس أمراً جيداً. كلّ نص حالة بحد ذاته، فقد يكون النّص جميلاً بغض النظر عن انتماء صاحبه لهذا التّوجه، أو ذاك.
أنا أحببت قصيدة ريتا لمحمود درويش أكثر من قصيدته أنا عربي، لأنني أرى أن :أنا عربي تصلح نشيداً حربياً مقدماً لجمهور عربي متحمّس، بينما قصيدة ريتا تبث حالة حبّ، ومشاعر إنسانية، وفيها ملامح للحبّ، والمستحيل كما يصفه:
بين ريتا وعيونى ... بندقية
والذى يعرف ريتا، ينحني
ويصلي
لإله فى العيون العسلية

... وأنا قبَّلت ريتا
عندما كانت صغيرة
وأنا أذكر كيف التصقت
بى، وغطت ساعدى أحلى ضفيرة
وأنا أذكر ريتا
إلى آخر الأبيات
أحبّ قارئة الفنجان لنزار
ومن الكلمات التي أحببتها للماغوط
فأنا نبي لا ينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء
وما من قوة في العالم
ترغمني على محبة ما لا أحب
وكراهية ما لا اكره
ما دام هناك
تبغ وثقاب وشوارع
وهذا لا يعني أنّ هؤلاء فقط من أعجبني
وقد استمعت إلى أغاني من شعر نينوس آحو ، وهو يتبنى القضيّة الآشورية، والمعاناة للشعب الآشوري ، وله قصيدة :

من قلب النار
من عمق الأعماق
من تحت الصخر ومن جـَــلّ الجبل
من كلمات غيومك أيتها السماء
الآشوري الجديد قد وُلد
من ثقل آلاف السنين
من الجوع والعطش والعَوَز
من أكاذيب التاريخ
من تجـّـار القضية والأمة
قد تخلـّـص اليوم
لناكري الحقوق
لظالمي كل الأمم
الذين سلامهم رصاص وقنابل
لديه المزيد
وإن سألته من أين أنت ومن أية طائفة
سيجيبك بصدق
لا تياري ولا تخومي
لا من السهل ولا من الجبل
لا يعقوبي ولا كلداني ولا نسطوري ولا معمداني
أما شعر جكر خوين الذي كان مرشحاً عن الحزب الشيوعي للانتخابات النيابية في منتصف الخمسينيات ، فقد أجاد في شعر الحبّ أيضاً اخترت من قصيدته:
الليلُ أسودُ
أمسكتْ بيدي ،
وقادتني إلى حريةٍ
بستانها ظلّ شفيفٌ أزرقُ ،
وخريرُ مـاءٍ ،
.. سكّرٌ من صوتها يتدفّـقُ ،
خصلاتُ شَعر حبيبتي
حـبقٌ يُنسِّـم وجهَها .
نمشي .. ونركضُ
ثم نحلم .. ثمّ نضحك
كي نصيرَ كـ " مَـمْ وزيـــــنْ "
هي حلوةٌ ولذيذة هذي الحياة
إذا قضينا ليلةً ..
أو ليلتيــــــنْ.
ومن الشعراء المخضرمين الشاعر اسحق قومي ، ويقول في قصيدته : رسالة إلى الحلاج لم تقرأ بعد.
ممالكُ صمتكِ أقفرتْ نواديها .... وأزهرَ غيثُكِ سرَّاً بما فيها
نفوسٌ تتلو في الليلِ معاصيها ....وترتاحُ إذا فُرجتْ مآسيها
يحنُّ في رُباكِ العِشقُ من زمنٍ .... وأبقى للهوى عهداً أُناجيها
لأنتِ من جمالِ الكونِ أَنجمُهُ ....وقدْ فاحَ الشذا بالكأسِ صافيها
رحلتُ في مساماتِ الهوى عَمِداً ....وعِشقاً كانَ في التكوينِ يُعطيها
جبلتُ الروحَ من وجدٍ ومن سهرٍ .... وصرَّعتُ بيوتَ الشعرِ أُقفيها
أميسُ الأرضُ في الأوطانِ قدْ زَهُدتْ ....وبالعُشاقِ قدْ جُبِلتْ أمانيها
تُهيىءُ في مداراتِ الهوى وطناً ....وتسكُنني إذا جئتُ منافيها

اما جميل داري فأعتبره شاعر المرحلة بامتياز. هو لا يكتب شعراً ثورياً ، بل يكتب أنيناً وحزناً واكتئاباً ،هو كالنّاي من قصب ينوح ويبكي نوائب السّوري ، وحزنه عميق بقدر عمق المرحلة ، اخترت له هذا النّص:
ذبابةٌ
ذبابةٌ تسلَّقَتْ قصيدتي
ثانيةٌ تهيمُ في الفنجانْ
ثالثةٌ في أذني
كأنَّها ربيبةُ الشيطانْ
رابعةٌ تطنُّ
في الزمانِ والمكانْ
خامسةٌ لجوجةٌ
تأتي تروحُ
دونما استئذانْ
سادسةٌ عمياءُ
في وجهي تطوفُ حرَّةً
موطنُها العينانْ
سابعةٌ تنهضُ في الفجرِ
معي وتسمعْ الأذانْ
ثامنةٌ ليليَّةٌ
تسهرُ معْ هواجسي
وحلميَ الظمآنْ
تاسعةٌ مسكينةٌ
فتستحي الخروجَ من قصيدتي
تعدُّها من خيرةِ الأوطانْ
عاشرةٌ نائمةٌ
إذا صحتْ تجرُّ خلفها
ذبابَ الكونِ في ثوانْ
أما الكاتب والشاعر محمد بشير العاني، الذي قضى على يد ما يدعى داعش هو وابنه بتهمة الرّدة

فقد قال أحدى قصائده التي كتبها في وفاة زوجته بمرض السرطان قبل حوالي من رحيله ، حملت اسم “تغريبة الخاسر”
قال في مطلعها: “يا عكازَ وقتي الكفيف..
ويا مقاعدي على أرصفةِ التعبِ الطويل..
هـاأنـا..أنا العاثرُ بجماجم اتزاني..الشاغرُ إلاّ منكِ..
أبحث عن صرّةٍ لملمتِ فيها أوجهي التي أنسربت.. لملمتِ فيها براءتي.. خسائري.. أنا الذي قايض الطمأنينة بالهزائم.. ويا وجعي الفسيح..”.


هناك أمران مترابطان على مرّ العصور، وهما السّلطة، والمال، فإن كنت تملك أحدهما استطعت الحصول على الأخرى، وإذا كانت الاستثمارات الغربيّة هي التي تنشر عملك ليكون ذا قيمة فيما بعد، وهذه الاستثمارات متنافسة تحفزّك على العمل المبدع، ومع أنّ الهدف في النهاية هو الرّبح، لكنّها تعترف بك كشخص، وموهبة، وتقدم لك أدوات العيش الكريم، ومع هذا فإنّه حتى في الغرب هناك صعوبات كبيرة، وأهمّها هو كيفيّة تسويق عملك الأوّل.
في الوطن العربي عامة، وفي سوريّة على وجه الخصوص، وقبل ثورات الرّبيع العربي فإنّك لن تستطيع تحقيق أيّ تقدم إن لم تكن تابعاً لجهة سياسيّة، أو عشائرية، فاتحاد الكتاب العرب، واتحاد المحامين، والفنّانين ، وغيرها هي عبارة عن هيئات تناصر حكوماتها، وتناصر بشكل عام الاستبداد.
في سوريّة، ومنذ السّبعينات أصبح على من يرغب في العيش، وإظهار الموهبة أن يكون صديقاً للبيئة، والبيئة هنا ليست الطبيعة بل الأجهزة الأمنيّة ، ولو عدت إلى الوقوف على شهرة أي كاتب أو فنان، أو مفكر ، لرأيت أنه مرتبط بأجهزة الدولة، هو ليس ارتباطاً عميقاً بل ارتباط مصلحة شخصيّة لا يمكن تمريرها دون صداقة البيئة.
نحن نعيش في هذه البيئة المشحونة بالفساد والمحسوبيّة، ونتلقى الفكر، والفن والأدب منها، ونشاهد التلفاز، وقد أصبحت جزءاً من ثقافتنا، فرغم ثورتنا على الظلم فإننا نستعمل أدواته في التعبير عن ذواتنا، وإن أرجعنا كل نجاح إلى سببه الأول هو صداقة البيئة ثم الموهبة لألغينا الأغنيات التي نسمعها، والأدب الذي نقرأه، لكننا لا نفعل ذلك كي نتمتّع بما نقرأ، وبما نكتب، فحتى هؤلاء الذين دخلوا من خلال صداقة البيئة بين سطورهم ما يثير الدهشة، ولديهم حالات جمالية، وعندما أركز على موقف ما أعني أن أقول أنّ هناك أشياء غير مرئية علينا البحث عنها تتناول الإبداع الذي بقي صامتاً، وبعيداً عن البيئة الصديقة. انتهت مرحلة ما قبل الثورة، ونحن الآن في مرحلة أخرى. الثورات لا تنتهي بل تأخذ زمناً يلزمها للتّغيير الفكري، ويكون الثمن أرواحاً، وفي هذه المرحلة ، ورغم وجود أعمال قيّمة لكنّها لا تظهر إلى السّطح. مواقع الكترونيّة للدراسات، منابر أدبية، مقابلات مدفوعة الأجر، مقالات مكتوبة، فيها الغث، والسّمين ،لكن ربما أغلب تلك الأماكن الحريصة على نشر الفكر تعمل تحت إمرة مموّل ، وتنشر فكره، وتعتمد على إعادة الخطاب الحماسي القومي، أو الديني، الذي أصبح خلفنا، وتضيف إلى البحث نثرات من فكر الممول كحبّات التوابل تنزع طعم الدراسة، أو الكتاب، أو تفقده جماله، وهم يستغلون السجناء الكتّاب، وقد قال لي أحد أصدقائي الكتّاب والذين سجنوا لفترة طويلة، والذي بكت من قدمت له الكتاب في فرنسا حول رحلته إلى المجهول. قال لي بالحرف الواحد: " شعرت أنّني أسأت إلى سمعتي عندما كتبت مقالاً للصحيفة" الفلانية" فأرسلوا لي عشرين دولاراً ثمن المقال. طبعاً كان المقال جيداً، لكن كلّ ما كان يهم الصحيفة أن يقال عنها ثوريّة وتستقطب أصحاب المعاناة، مع أنّها تدفع الكثير لذوي المقالات الصّاروخية.
الفكر الحقيقي والأصيل اليوم يعيش في حالة سبات، أو كشبح يراقب معدّي الدساتير، والقوانين، وحاصدي الجوائز، يهزّ برأسه مبتسماً، ومستغرباً، ويعود إلى قبره أو قوقعته، فللأشباح أمكنة تأوي إليها. هؤلاء الأشباح لو عادوا إلى الحياة من الممكن أن يكون لهم تأثير في مرحلة مقبلة من المراحل في السّورية. ابحثوا عن المفكّر، والكاتب الشّبح، وسوف تجدونه.
أعتقد أنّه إن لم يكن باستطاعتك الانتماء إلى مجموعة سياسيّة، أو دينيّة، أو ولاءك لحاكم ما حتى لو كان على فراش الموت. عليك أن لا تفكّر في الإبداع. ببساطة لن تبدع. يتحقّق الإبداع عندما ينتشر عملك، وتجني من وراءه بعض الربح الذي يمكنك من خلاله الانتقال إلى المرحلة الثانية. ليس لديك دار نشر تتبناك. ولي أمر تدافع عنه ويدفع عنك، سلطة تلمّع صورتها، رموز ثقافية تكتب عنها. لا تفكر في الإبداع.
ليست الأسماء اللامعة هي التي تعرف كيف تؤكل الكتف. بل هناك أسماء لم تلمع كثيراً، وهي غزيرة الإنتاج. في كل شهر تنشر كتاباً، وتجني أرباحه، وهذه الفئة عريضة، وهي التي تسدّ الطريق أمام المبدعين. هؤلاء أصحاب الخطاب المباشر ثورتهم عابرة للحدود، وقوميتهم أكبر من ثوريتهم، يجيدون مديح الشخص " المتّهم من الجميع- بغربلة تهمه، ووضع صورة معه على وسائل التواصل. يمتدحون الشّيوخ، ويصادقون صبيان الحكام والزعماء، وما أدراكم ما تأثير الصّبيان!
الكلام كثير، ويحتاج لنقاش مطوّل محايد، ونحن قيد الانتظار.



#نادية_خلوف (هاشتاغ)       Nadia_Khaloof#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوم واحد على نهاية الانتخابات السّويديّة
- تطردهم أحزابهم عندما يحرضون ضد العرب والمسلمين. إنّها السّوي ...
- الأحزاب البديلة في الغرب تعادل الإسلام المتشدّد في الشّرق
- السّوري هو الأفضل. شعار عنصري
- مقصّات -4-
- حول مقتل غجري في مدينة سويدية
- مقصّات-3-
- مقصّات -2-
- مقصّات
- ماكين من وجهة نظر باحثة غربية
- ابتسم: أنت في حضن الحبيب!
- إقالة ترامب، أم إنهاء التّرامبيّة.
- التنمّر السّوري
- حول وجود الله
- - أهرف بما لا أعرف-
- واقع أم خيال
- Pyrrhusseger
- لا أمل
- -كل شيء مؤامرة-
- أزمة الليرة التّركيّة


المزيد.....




- علماء يستخدمون الذكاء الاصطناعي لحل مشكلة اختفاء -غابات بحري ...
- خبيرة توضح لـCNN إن كانت إسرائيل قادرة على دخول حرب واسعة ال ...
- فيضانات دبي الجمعة.. كيف يبدو الأمر بعد 3 أيام على الأمطار ا ...
- السعودية ومصر والأردن تعلق على فشل مجلس الأمن و-الفيتو- الأم ...
- قبل بدء موسم الحج.. تحذير للمصريين المتجهين إلى السعودية
- قائد الجيش الإيراني: الكيان الصهيوني اختبر سابقا ردة فعلنا ع ...
- الولايات المتحدة لا تزال غير مقتنعة بالخطط الإسرائيلية بشأن ...
- مسؤول أوروبي: الاتحاد الأوروبي يحضر الحزمة الرابعة عشرة من ا ...
- إصابة 3 أشخاص في هجوم انتحاري استهدف حافلة تقل عمالًا ياباني ...
- إعلام ونشطاء: هجوم صاروخي إسرائيلي جنوبي سوريا


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نادية خلوف - دراسة اجتماعية