نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1505 - 2006 / 3 / 30 - 09:43
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا أخفيكم، بأنني، كنت أتعاطف، أحياناً، مع الأستاذ الدكتور يحيى العريضي، وأحس، أحيانا، بالصعوبة والعجز بل، وباستحالة المهمة التي ندب من أجلها الأستاذ والمدرس السابق في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة دمشق، ومدير القناة الثانية في التلفزيون السوري، قبل أن يحط به رحاله الإعلامي أخيراً، كمدير للمركز الإعلامي السوري في لندن. ومن نافلة القول إن إحدى الأهداف المعلنة لهذا الخندق الإعلامي السوري المتقدم في مدن الأحلام، هو "تحسين"، صورة سوريا في عيون الغرب، وإيجاد أفضل السبل، لبناء الجسور والتواصل مع حكوماته. وحين كنت أقرأ بعضا من مقالاته كنت أشعر بأنه ينحت في صخر، ويحلب من ثور. وكنت أحس مرة وراء أخرى، وهو يجادل، ويتساجل، بعبث مضنٍ، لمسح تلك الصورة المؤلمة التي ارتسمت في الأذهان، جراء ممارسات طويلة من التعسف، والاستئثار والطغيان، ومحاولاته السيزيفية المستميتة لرسم صورة جديدة بعيدة عما علق في الأذهان وشرّش في الوجدان، بان جميع جهوده ستذهب، كما سيتبين لاحقا، أدراج الرياح. وفي كل لقاء معه، كان يأخذ صفة وطابع الموظف الرسمي النمطي، أو حتى الناطق الرسمي، الذي لًقن مجموعة من الجمل، والكليشيهات، والمفردات، يسكبها بجد، واستظهار باهر، أمام جمهور فاتر زائغ العينين، وبما لا يدع أي مجال للمغامرة، والإبداع، وتحاشياً للوقوع بأي قدر من الأخطاء، محافظا على خط سيره، بتوازن عجيب، رغم كل محاولات الاستفزاز. حيث أنه، وفي ظل الأنظمة ذات الطبيعة الشمولية، وكما هو عمل مهندس الألغام، فإن غلطتك الأولى هي الأخيرة، حيث لا يعرف المرء عندها، كيف ستؤول إليه الحال، ولن يكون بأمان ابداً، بعد أن تنفجر بوجهه الألغام، وهذا بالضبط ما حصل مع الأستاذ الدكتور يحيى العريضي.
وتبدأ قصة بطلنا التراجيدي الإعلامي، في ذروة هذا السجال االمحتدم فيما يتعلق بالوضع السوري، والذي يستأثر بالاهتمام العام عربيا وإقليميا ودولياً، بكل ما يدور حوله من تساؤلات، وجدال، إن لجهة التحقيقات باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري، أو فيما يتعلق بالانشقاق الدراماتيكي، والمثير للنائب السابق للرئيس السوري السيد عبد الحليم خدام. ومن هنا بدأ نجم السيد الدكتور العريضي يلمع في سماء الإعلام والفضائيات، كمتحدث، ومدافع رسمي عن سوريا، وناطق أحيانا، باسم صناع القرار فيها، ومنافح عنيد، وناقل أمين، وبصدق، لرسائلهم المبهمة إلى أرجاء المعمورة. لكنه، وبالمآل، وفي كل هذه الأحوال، لم يكن يخرج عن صورة الرفيق الستاليني العتيد المعتاد، الذي لا يقبل المهادنة، والمساومة، والجدال، فيما تكون لديه من معارف، وأوامر، وأفكار. وربما كانت النهاية المحزنة للرواية التراجيدية، حين خرج بإطلالته الأخيرة، كمتحدث رسمي، يوم السبت الفائت، في برنامج الحوار المفتوح، الذي تقدمه قناة الجزيرة، وشارك فيه نخبة من المهتمين، والعاملين باشان السوري، وكان أكثرهم إثارة للاهتمام، والجدل ربما، هو السيد علي صدر الدين البيانوني المرشد العام لجماعة الإخوان السورية، الذي كان أحد المحاورين الرئيسين في البرنامج المذكور. وكانت اللحظة القاتلة التي فجرت الألغام في وجه المهندس الإعلامي البارز، ربما وصفه للسيد البيانوني بـ"الشيخ الجليل"، وتلميحه لجماعة الإخوان السورية كفصيل هام على الساحة السياسية السورية، ما اعتبر، ربما، خروجا خطيرا عن الخطوط الحمر الكثيرة المرسومة على ارض الملعب السياسي السوري، والتي جعلت أداء معظم اللاعبين عليه، معارضة، وموالاة يتسم بالحذر، والترقب، والوجل. ولقد حاول السيد العريضي، في هذه الحلقة، كسر طوق تلك النمطية المعهودة، من على هذا المنبر الهام، وبادر، لإظهار نوعا من المرونة، وربما لـ"تحسين" الصورة المرسومة، ولو خطابيا، وهي مهمته الرئيسية، على اية حال.
ولذا، فقد كان قرار "إنهاء الندب"- العزل بالانتظار، وبالمرصاد للسيد العريضي الذي جاوز الخطوط الحمر تلك، وذهب بأبعد مما هو مرسوم له، ونسي في أوج اندفاعه العاطفي، وتألقه الوظيفي، حدود الإبداع السياسي المسموح بها، والتي ترسم كل خطوط الممنوعات، والمحظورات التي بقيت حكرا على أصحاب القرار. ونسي، رغم النباهة، وربما غاب عن ذاكرته السبب الذي من أجله ذهب لتحسين صورة البلد. ولوهلة مباغتة من الحماس، ارتحلت من مخيلته صورة سلطة الغت جميع أشكال التفكير والمبادرات الفردية، والمجتمعية، لا تتسامح ولا تذعن أبدا للرعايا التابعين الأرقاء، وعطلت كل أدوات التعبير السياسي، إن بالعنف تارة، أو بقرارات تجعل مجرد اختراقها، تارة أخرى، كاختراق حقل مليء بالألغام السياسية الذي جربه لمرة واحدة، وأخيرة السيد العريضي.
لم يعد بالإمكان بعد الآن، وحتى بالنسبة لأي سوبر فنان آخر يرسم صورا وردية لأنظمة متردية، ويتجاوز مطبات السيد العريضي، تقديم صورة مغايرة أبداً لواقع ضاغط يكرس نفسه يوميا عبر عشرات الممارسات السلبية التي تحصل هنا وهناك، وأصبح من الضروري، والمنطقي جداً، ليس رسم صور جديدة ومحسنة عن واقع بائس وصل أردأ مراحله على الإطلاق، بل تكريس تلك الصورة بشكل نهائي وأخير، واعتمادها رسمياً، كمؤشر وحيد عن واقع الحال المرير. فتحسين الصورة، في هذه الحال، هو ضرب من الخيال والمحال وحرث بالماء. وبذا ذهبت أدراج الرياح كل محاولات، وسجالات السيد العريضي الشاقة في لحظة فلتان لاشعوري، ودعم، ومن حيث لا يدري، هذا تلك الصورة التي حاول أن يمحيها من ذاكرة الناس.
وسنغض الطرف والانتباه، عمداً، عما أشيع، ويشاع، من عوامل مساعدة، لـ"إقصاء" السيد العريضي، والتي تتعلق كالمعتاد بالمحسوبيات،والوسائط والاستزلام، وتتداخل بها الولاءات، والتوازنات، و"الحركات" المعروفة، واحيانا، الوشايات من وراء الستار، والتي خبرناها جيدا، وطويلاً، في دهاليز التعيينات والتنقلات، وكف اليد والإقصاءات، وسننحيها جانبا الآن، ومن دون إهمالها، ولكن ستبقى إطلالته"المرنة"، وتصريحاته" الديمقراطية" التي خرجت عن الإطار، ومن على شاشة الجزيرة واسعة الانتشار، هي، ربما بيضة القبان، والقشة التي قصمت ظهر البعير، واستخدمها الواشون والمتربصون، للإطاحة بعرش السيد العريضي الإعلامي، بدون اي استمهال.
فأية صورة وردية كنت ترسم، وأية واحدة أخرى ستحسن، يا سيدي الفاضل، بعد الآن؟
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟