نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1482 - 2006 / 3 / 7 - 11:28
المحور:
الصحافة والاعلام
لم يكن من قبيل المصادفة البتة، أنه في اليوم الذي فرغت فيه إحدى الدول العربية من سن قانون جديد للصحافة يمنع بموجبه اعتقال وحبس الصحفيين، فقد أبت الأخبار القادمة من عاصمة الأمويين، هذه المرة، إلا أن تؤكد على استمرار حالات التضييق والحصار على حرية التعبير والكلام، ومحاربة الصحفيين والكتاب، وذلك عبر اعتقال الزميل والصحفي شعبان عبود مراسل صحيفة النهار في دمشق، وإحالته إلى محكمة عسكرية، بسبب نفس تلك التهم الجاهزة، ومنها نشر أخبار "كاذبة توهن عزيمة الأمة وتفتّ في عضدها". ويتوقف المرء ملياً هنا، هارشاً رأسه، متمعناً بماهية هذه الأمة التي تفتّ عضدها، وتفنيها عن بكرة أبيها، مجرد أحرف صماء تشكل خبراً مقتضباً يمكن أن يكون كاذباً أو صادقاً. ويستمر في الهرش الدامي هذه المرة متسائلا إلام سيستمر هذا الحال، وإلامَ ستعيش أمة يرعبها حرف، وتقتلها كلمة في عالم صارت الحروف، والكلمات، و"الثرثرات" تشكل خبزه اليومي؟
وفي الوقت الذي تشهد به بعض سجون المنطقة، أيضا، عمليات تنظيف وهجرة إلى خارج مدارات السجن والاعتقال، فإن هناك أصرارا واضحا من قبل النظام، وهجرة معاكسة باتجاه إنعاش بزنس السجون والحفاظ على هذا التراث بعكس ما تشهده المنطقة من عمليات تفريغ للسجون وإقفال لكل هذه الملفات الشائكة. إذا لا يكاد يمر يوم دون أن تحمل "المراسيل"، والمكاتيب أخبار حجز هنا أو هناك، أو توقيف واعتقال في هذه المدينة أو تلك الأرياف، حتى ليكاد المرء يجزم أنه النشاط الوحيد المسموح به والمزدهر في تلك الأصقاع المقفرة، وأن الناس لم تعد تتقن، وتتعايش إلا مع هذا "الكار"، وأن الله لم يخلق هذه العباد إلا لتبتلعها الزنازين، وتحتضنها الأسوار. هذا ولم يفلت من تلك المكرمة الثورية والاشتراكية "الفحشاء" حتى أبناء أولئك "المشاغبين" وفلذات أكبادهم الصغار.
والواقع، إن حال التوتر، والرهاب العام، التي تسيطر على الجميع، تجعل إطلاق النار حتى على العصافير، والزهور والفراشات، أمراً لا بد منه، ومشروعاً، وفي حالة الدفاع عن النفس. ويؤكد، في الآن نفسه، أن لا مجال لحسن النية، أو تجاوز، أو تسامح على الإطلاق. فلقد كان رداً سريعاً، ومفحماً، على أية أحلام يمكن أن تراود أصحاب الخيالات الواسعة، بأن هناك شبه انعطاف عن ممارسات أصبحت راسخة لمغامرين يمارسون هواية صيد الناس وتكبيلهم، وحبسهم في أقفاص والتفرج عليهم وهم يئنون برداً، وألماً، واعتصار. وهو دليل آخر على إثبات الذات، وأن لا تقهقر ولا تراجع للوراء ولا مصالحة على الإطلاق، وسط دعاوي "مغرضة" ومشكوك بصدقيتها، عن ضعف وترهل في الأداء. وهو تذكير لأصحاب الآذان الصمّاء أن صدى القبضة الأمنية المدوي يجب أن يذهب إلى أبعد مكان، وفي غير اتجاه، ليسمعه المسترسلون الذاهبون في الأحلام والسبات. والسؤال المنطقي بماذا سيتسلى ذاك الجيش العرمرم من "الحراس" حين تنتفي، ولا سمح الله، تلك الممارسات، أو ليست محاربة البطالة، وتشغيل العاطلين عن العمل، أيضا، مهمة وطنية عظمى يقوم بها هؤلاء المناضلون الأبرار؟
لم يكن شعبان عبود من السذاجة بحيث يقوم بنشر أخبار "ملفقة" وكاذبة، تؤدي به إلى الهلاك، ولكنه ربما كان يعتقد أن مسيرة الإصلاح قد وصلت إلى طور معقول يحترم مهنته، وتمنع التعامل معه بتلك الفجاجة الأمنية التي لم تأبه يوما للأخبار. وبما أنه ليس مؤكداً حتى الآن الأثر القومي والوطني المدمر الذي تركه ذاك الخبر "الهام"، إلاّ أنّ الشيء المؤكد في كل الأحوال، أن النمطية والسلفية السياسية التوتاليتارية المتزمتة، كانت حاضرة بقوة في هذا الواقعة السوداء.
وفي الحقيقة لن نكون مجحفين ونقول أن حرية الصحافة والإعلام مطلقة في أكثر الدول رقياً، وتقدماً، وهناك ضوابط وقيود، ربما أشد من تلك الموجودة في ظل قوانين الطوارئ، إنما هي تحت سقف القانون، وعند حصول أي خطأ مهني ما فإن الاحتكام لنفس القانون المدني هو الغالب، وليس بتلك الطريقة التي تضفي على المشهد المؤلم كثيراً من الحيرة، والخطر، وعلامات الاستفهام.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه الأمم والشعوب على تذليل العقبات، وهدم الجدران، والتواصل، وبالرغم من كل تلك الوسائل العصرية التي ابتدعها عقل الإنسان البشري، وكل تلك المدارس الفكرية والتيارات السياسية التي تتفاعل من حولنا في العالم، ووجود مئات اللغات التي تعترف بها الأمم المتحدة ومواثيقها الدولية، والتي تعتبر كلها وسائل، وأدوات عصرية، ومشروعة للحوار، والتفاهم بين الناس، فإن هناك من لازال يصر على ألا يمحو أميته السياسية، ويمعن في البقاء في مواقع قد لا تفلح في تعليم أي شيء على الإطلاق أو اكتساب أية خبرات ومهارات.
لقد شكل الاعتقال السياسي تياراً نمطياً يصبغ وجه النظام منذ ما يقارب النصف قرن من الزمان، وكان على الدوام عامل توتر، وتبديد للثقة، وإضعافا عاما، ويا ليته أدى يوماً لأية حلول أو انفراجات، بل كان عبارة عن عوامل تأزيم وتشويه، وخروج من نفق، للدخول في نفق وورطة أخرى أشد ظلاماً وإيلاماً. كما لم يستطع هذا الحل برغم تغوله الفظيع من استمرار "استقطاب" القادمين إليه من ل حدب وصوب كل أطياف المشهد السوري العريض، حيث لم يستثن أحدا على الإطلاق، وأصبح الحل الوحيد والجاهز والسريع، والوصفة الوطنية والسحرية الشاملة لمجمل الأزمات العالقة والتي تتراكم يومياً، بفعل الإهمال، والتركيز على استعراض القوة الأمنية التي لا ترحم ولا تساوم مواطنيها أبداً. وبينما ضاقت السجون بساكنيها من أصحاب الرأي، والشرفاء، والكلمة الحرة، فإن المنابر والمنتديات، ومجالس الحوارات يخيم عليها الصمت التام.
هل هو عجز بيّن، وفاضح عن فهم المتغيرات والتعامل معها بغير تلك النمطية والإطار، وإصرار على مواجهة عبثية لا طائل منها، لن تجلب الأمن، والأمان، والحل لأحد على الإطلاق. أم أنه دليل على عدم امتلاك أية آلية، أو رؤية بديلة أخرى لحل، ومعالجة كل الملفات العالقة سوى خيار الاعتقال؟ وكلما لاح أمل للخروج من عنق الزجاجة، تعيد هذه الممارسات الجميع إلى قعر الزجاجات المتناثرة، والتي أصبحت فارغة من كل شيء، سوى من قهر وأصوات أولئك المحبوسين بداخلها، وعامل إحباط وخذلان لأولئك الذين يحاولون كل مرة، عبثاً، الصعود إلى عنقها لتنسم قليل من الهواء، أو حتى مجرد حلم برؤية أي قبس من ضياء في هذا الظلام الذي يطبق على الجو العام.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟