|
حَقيقةُ حُلُمٍ
راني صيداوي
الحوار المتمدن-العدد: 5897 - 2018 / 6 / 8 - 22:26
المحور:
الادب والفن
نَزَلَ عَن صَهوَةِ حُلُمِهِ وتَرَجّلَ نَحوَ ضِياءِ الأفُقِ، حيثُ تَتشابَكُ يَدُ السّماءِ بِيَدِ الأرضِ حَنوًا ومَحبّةً. سارَ بِبُطءٍ كَمَن يَمشي على نَهرِ دَمعٍ، حُفِرَ على خَدٍّ يافِعَ الألَمْ. دَخَل تلكَ الغُرفَةَ فَوَجَدَها هناك، كانَت مُنسَكِبَةً على كنَبَةٍ مِن نورٍ، وإلى جانِبِها تَتَدَلّى جُعبَةٌ شفّافَةٌ تَحوي في داخِلِها الموسيقى، يَنسَدِلُ مِنها أنبوبٌ يَلتَقي ليَتّصِلَ بإبرَةٍ شَقّت طَريقَها في وَريدِها. وفي يَدِها الأخرى كانَت تَحمِلُ كأسًا شاحِبَ اللّونِ ازدَحَمَتِ الحُروفُ على شَفَتِهِ وتَساقَطَ بَعضُها أرضًا، وبَعضُها الآخَرُ كانَ مايزالُ يَسيلُ على يَدِها التي تَحمِله... لَم يَكُن يَعلَمُ إن كانَت قَد رأتهُ أم لا. كما لَم يَكُن متأكّدًا إن كانَ حقًّا يراها. قَرّرَ الاقتِرابَ أكثَرَ عَلّهُ يَجِدُ الأسئلَةَ التّائهَةَ لآلافِ الإجاباتِ التي تَجتاحُ عَقلَهْ. عَلّهُ يَجِدُ الشّكوكَ لكُلّ يَقينٍ حَفِظَهْ... أحَسَّ بأنفاسِهِ تَطرِقُ بابَ حَلقِهِ عُنوَةً وبِشِدّة. وبدأ يَتصَبّبُ ذنوبًا من كلّ مسامَةٍ في جَسَدِهِ كلّما اقتَرَبَ أكثَر. وبدأت خُطواتُهُ تَتَلَعثَمُ وتَغُصُّ، فَمَسَحَ خطيئَةً عَن جَبينِهِ، وأكمَلَ بِخُطَىً ثَقيلَةَ القَوامِ، ودَقّاتُ قَلبِهِ تَتَرَنّحُ ما بينَ وَهمٍ وحَقيقة... أمعَنَ النّظَرَ قَليلًا فرآها تُشيحُ بِوَجهِها عَنهُ، نَحوَ النّافِذَةِ الوَحيدَة التي كانَت في الغُرفَة. شَعَرَ برائحَةِ الذّنوبِ تَفوحُ منهُ، فَخَلَعَ عنهُ مِعطَفَ الضّحِيّةِ، ورماهُ جانِبًا. خَفّت أثقالُهُ وبَدَت خُطُواتُهُ وكأنّها تؤدّي دَورَها على مَسرَحٍ بِرَقصَةٍ مُعاصِرة... أرادَ فَقَط أن يلمَحَ وَجهَها. وكانَت ألفُ تَرنيمة حِيرَةٍ تأخُذُ مَكانَها في عَقلِهِ، حينَ وَجَدَ نَفسَهُ فَجأةً أمامَ تلكَ النّافذَةِ، يَنظُرُ إليها وَجهًا لِوَجه. أطالَ النّظَر آمِلًا أن يجِدَ شيئًا. وإذْ بِها خَرساءَ، لَمْ تَكُن تَملِكُ ما تُريهِ لَهُ، أو حتى تَراهُ، سوى قِطعَةَ حِبرٍ جافّةٍ، كانَت قَد رُمِيَت بِها منذُ زَمَنٍ، واستقرّت في عَينِها. أدارَ وَجهَهُ فَزَعًا من هَولِ ما رأى في عَينِ النّافِذة تلكَ، وصَمّمَ أن يُكمِلَ سيرَهُ، رَغمَ أنّهُ لَم يَكُن يَستَطيعُ حَلّ لُغزِ أبعادِ تلكَ الغُرفَة؛ فمنذُ قليلٍ كانَت النّافِذَةُ تبدو بعيدةً جدّاً، وفجأةً رآها أمامَهُ، وكأنّها هيَ من سارَ نحوَه عن قَصدٍ، أمّا هيَ، فبَدَت كما كانت بعيدةَ المنالِ، رَغمَ رَقصِ خُطُواتِهِ السَّريعِ نَحوَها... نَزَعَ قَميصَ الحُزنِ عَن بَدَنِهِ وأكمَل سَيرَهُ بخُطىً ثابتةٍ هذي المَرّة. لَمَح ألوانًا وريَشًا كثيرَةً بجانِبِها، لكنّهُ لَم يرَ أيّ لَوحة. أرادَ أن يسألَها حتى ولو بصَوتٍ خافِتٍ، لكنّها كانت لازالَت تحتَسي الحُروفَ من كأسِها. قَرّرَ أن يَفعَلَ، لكنّهُ كانَ كلّما حاوَلَ الكَلامَ، ماتَ الكلامُ على لِسانِهِ، وجَفَّت أوصالُه. فاستَسلَمَ في النّهايَةِ للَذّةِ الصّمتِ، وَعَمِلَ على التّنسيقِ ما بينَ إيقاعِ قَلبِهِ، ورَقصِ خُطُواتِه. وبَعدَ طولِ مَجهودٍ، وعلى حينِ غَرّةٍ، حينَ كادَ أن يحلِفَ أنّ المَسافَة التي كانَت بينَهُما تتخطّى آلافَ الأميالِ، رآها أمامَهُ، بِشَعرِها الصّاخِبِ اللّونِ، غيرِ المَربوطِ، مُتناثِرِ الأشلاءِ على كَتِفَيها. كانَت مازالَت تتمايَلُ بِرِقّةٍ ما بينَ وَتَرٍ وَحَرفْ. وقَد حَلَفَ أنّها كانت تَبتَسِمُ، حينَ اكتَشَفَ أنّ ملامِحَها كانت ممحوّةً، مَبْحوحَةَ الكَيانِ على وَجهِها الجميلْ. فأدرَكَ أنّ تلكَ الألوانَ والرّيَشَ ما كانَت سوى كَي يرسِمَ فِيها الملامِحْ. وما أن احتَضَنَ بأنامِلِهِ أوّلِ ريشَةٍ، وغَمَسَها بأوّلِ لَونٍ، حتّى أشارَت لهُ كَي يَنظُرَ قبالَتَهُ. وما أن فَعَلَ،حتى صُدِمَ بِملامِحِهِ هوَ قَد بَهِتَتْ، وهو يَنظُرُ في مِرآةٍ كانَت أمامَهْ. وإنّي لأحلِفُ أنّهُ قَد حَلَفَ أنّ تلكَ المرآةَ لَم تَكُن موجودَةً مِن قَبلُ، وأنّهُ لَم يترَدّدْ حينَ انهَمَكَ يَرسِمُ ملامِحَهُ مِن جديدٍ، ورأى نَفسَهُ مُستَمتِعًا بكُلّ قَطرَةِ لَونٍ سالَتْ ومُزِجَتْ، وبكُلّ أداةٍ رَسَمتْ وخَطّتْ. وشَعَر بعَدّادِ الوَقتِ يَجري لكنّهُ لَم يَهتَمَّ لأمرِهِ، وواصَلَ الرّسمَ باستمتاعٍ شديدٍ، إلى أن نامَتِ الألوانُ تَعَبًا على تلكَ الرّيَشْ. فأخَذَ يُفَكّرُ بأنانيّتِهِ، وكيفَ أنّهُ لَم يُبْقِ ولو حتى لونًا واحِدًا كي يرسمَ لها ملامِحَها. لكنّهُ وَحينَ رَفَعَ يَدَهُ كَي يبدَأَ بخَطِّ آخِرِ رَمَقٍ من آخرِ لَونٍ على مُحيّاها، فوجِئَ بملامِحِها الجميلةِ مَرسومَةً بإتقانٍ مُحكَمٍ، وقَد عادَت إليها الحَياةُ والألوانْ. واستطاعَ أن يرى ابتسامَتَها السّاحِرَةَ، وهي ترمُقهُ رِضَىً ومَحَبّةً، فَوَجَدَ الفَرَحَ يَغمُرُ خَلَجاتِهِ، وهوَ يُدرِكُ أنّ تلكَ النّافِذةَ كاَنتِ الكذبَةَ الوحيدَةَ في ذلكَ المكانْ، وأنّ الغُرفَةَ أصلًا لَم تَكُن غُرفةْ... ...كانَ صَوتُ إنذارِ الحَريقِ مُدوّيًا، وكلُّ مَن حَولِهِ يَهرَعونَ بِشَتاتٍ شَديدٍ، وهُوَ مازالَ يحافِظُ على هدوءِهِ ورَباطَةِ جأشِهِ، وهوَ جالِسٌ، وَعيناهُ متسمّرَتانِ على الكِتابِ المَفتوحِ الذي بَينَ يَديهِ، وفنجانُ القَهوَةِ كانَ يَقشَعِرُّ بَردًا أمامَهُ، رَغمَ ما يُحيطُهُ مِن دُخانٍ دافئ....
#راني_صيداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحُبُّ في غِمدِ الحَياة
-
إرثٌ
-
جدالٌ بيزنطي
-
غلّبني
-
خيّاطٌ و أعظم
المزيد.....
-
العرض الأول لفيلم -Rust- بعد 3 سنوات من مقتل مديرة تصويره ها
...
-
معرض -الرياض تقرأ- بكل لغات العالم
-
فنانة روسية مقيمة في الإمارات تحقق إنجازات عالمية في الأوبرا
...
-
جنيف.. قطع أثرية من غزة في معرض فني
-
مسرحية -عن بعد..- وسؤال التجريب في المسرح المغربي
-
كاتبة هندية تشدد على أهمية جائزة -ليف تولستوي- الدولية للسلا
...
-
الملك الفرنسي يستنجد بالسلطان العثماني سليمان القانوني فما ا
...
-
بين الذاكرة والإرث.. إبداعات عربية في مهرجان الإسكندرية السي
...
-
شاهد: معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
-
السفير الإيراني في دمشق: ثقافة سيد نصرالله هي ثقافة الجهاد و
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|