|
أنثى الكتابة لا ترث الفردوس
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 5869 - 2018 / 5 / 11 - 23:01
المحور:
الادب والفن
هذه ملاحظات في ميكانيزمات السرد عند الكاتبة العراقية " لطفية الدليمي" التي تعمل في صمت وعزلة – هي عزلة المدن في ذلك الشرق- وتحت ظلّ إهمال شديد من قبل النقد المتخلف والقارئ المستلب الذي ستفوت عليه فرصة مداهمة كاتبة من طرازها. هي تحية لها، من بعيد، وبتذكير من جديد، لروايتها "من يرث الفردوس؟" والتي كانت صدرت في القاهرة ضمن سلسلة "الرواية العربية" منذ سنوات، لكنني أجد من المناسب اليوم أعادة الكتابة اليها ولفت النظر. هنا، لا نقد لأدبها، ولا عرض لروايتها، ولا مقدمة لقصصها. هنا فقط: قول في الطرائق والآليات. لنراقب أولا إيقاع التنفيذ لدى لطفية الدليمي. إنّه هكذا: عنف مغالى في تصويره من خلال تقنيات اللغة، وكأنّ هذه المغالاة في التصوير ضرورية جدّا لتمنحنا القدرة على تبرير ذاتها، وانفجار مباغت عند البدء بالتبرير يجرّ الكتابة إلى حقل آخر بعيدا عن الدلالة نحو الخارج وبعيدا أيضا عن "فكروية" أو آيديولوجيا هي غالبا ما تشي بنفسها على أنّها مركز المباغتة، ثمّ يعود المشهد ليتوضّح أكثر: هنالك فكرة، ولكن كانت هنالك أيضا لغة، إذن: ما الذي يحصل؟ إنّنا سنبتعد عن النصّ لنتركه- كما ستتركه الكاتبة- يتعفّن كالجسد، وما يساعد على هذا التحريم في الموقف الأدبي عندها هو ذلك النزوع المحموم إلى مشاريع من النوع "المطلق" تقف وراءها نوايا مبيتة. وعلى هذا فإنّ اللغة التي ستعمل عليها وبها تمثّل تمظهرا متقطعا ومتعثرا في الوقت نفسه لمشكلة العلاقة ما بين اللغة التوصيلية واللغة الإيحائية، هذه المشكلة التي هي ليست أكثر من غطاء لمشكلة العلاقة ربّما نقول المربكة للكاتبة ما بين العامية والفصحى، أو بشكل أدقّ أسلوبيا، لما بين الحوار والسرد. فالسرد كان عليه أن ينبني على لغة إيحائية تتوسّل الفصحى ولا تقدّم شيئا بشأن التوصيل، والحوار كان عليه أن يتجسّد في العامية لكي "يصل"، لكنّه التكرار الدائم للفشل الدائم فوق ركام من اللامبالاة القائمة على الغياب، مثلا: لو لم تقم الكاتبة بعمليات فصل وتقطيع في مسافات الكتابة وذلك بتقسيمها إلى قصص، رواية، فصول في رواية، مقاطع داخل قصّة واحدة، عناوين ... الخ، لكان من بالغ السهولة قراءتها على أنّها تشكّل بنية نصّ واحد طويل غير منتهٍ، لأنّه في مستوى لغوي ثابت. لكن تلك المشاريع التي وسمناها بأنّها "مطلقة" والتي لا تستطيع تحقيقها، إنّما هي التي تراها نصب عينيها دائما، وتغويها بلا انقطاع، وتلحّ عليها وتجرّدها من دفاعاتها الفنية المكتسبة ذلك لأنّها مشروعات "شعرية" في المقام الأول. وإذا ما كانت قد حذفت من نفسها كل "حَدْسِيّةٍ" للحظة تأمّل في مفهوم "الشعرية" في النثر، فإنّها قد عرفت بذلك طبيعة عملها معرفة أفضل. إنّها تعلم أنّ هذا "الحدس" سيرمي بها خارجا عن ذاتها، وإنّه تجاوز مستمرّ لنفسه نحو غائية ستتعين، لهذا ربّما كان بالإمكان انطلاقا من هذه النقطة أن نسلّم بأنّنا أمام "نثر" ليس إلاّ. إنّ المطلق والتاريخاني بالنسبة لها ليس "معطى" أو "واقعة" بغير حدود كما أنّه ليس تجريدا فحسب وإنّما هو على وجه الخصوص ما لا ينتهي أبدا عبر الزمان. هنا لنتذكّر نيتشه" وقوله بــ "بالعود الأبدي". فكلّ حدث يتجلّى بحدث آخر، وكلّ لغة يمكن أن تنطق في زمن آخر. إنّ سلسلة الشخوص والأحداث ستكون لا نهائية وأيضا، سلسلة اللغة. إذ انه بواسطة الإمكانات الدائمة للإضافة والتكرار يوجد عدد كبير جدّا من الأشياء اللامتناهية، لكن سلسلة "الكلامات"، "الديالوغات"، و"النطقيات" لا يمكن أن تكون كذلك، فهي متناهية، وبالتالي، هي منعدمة لحظة النطق بها. وبهذا لن يكون للحوار في قصص لطفية الدليمي أية أهمية تذكر (حتى في رواية "من يرث الفردوس" وليس هناك حوار، إنّه افتراض لحوار) وسيختفي التقابل الدرامي بين فم- مرآة وبين فم- فم. سيموت المحكي (العامية) ويضمحل الكلام لتتكشف اللغة، وهذه المرّة بالنثر لتعطي ميتافيزيقياها وهي تتأهّب لعملية لم تتقرّر بعد هي: القصُّ أو الحكي. هذا هو شأن نثرها، إنّه ما هو كائن دائما عبر الزمان دون أن يكون "معطى" أو "واقعة" أو حتّى "معلومة" وسنرى في نصوص أخرى أنّها حريصة على هذه الطرائقية في التنفيذ إذ هي ما تبقّى لديها لتقارب الكتابة بالشعر، والشاهد بالغائب في آن واحد أكثر من حرصها على أي شيء آخر، التاريخ مثلها، البيوغرافيا أو الدعاوية. هذا قدر الوعي منذ نصوص مبكّرة: رغبة عارمة في الإيغال في لحظة من الزمان، وسلسلة لا متناهية من الانطباعات اللغوية عن ذات اللحظة. وهذا التحديد للماضي من قبل عوامل الحاضر، وللمعدوم من قبل صفات ما هو موجود يتجلّى عبر إجراء (قانونٌ- نصّي) هو ما سنصطلح عليه بـ "قابلية الشهوة" فما من كاتبة عرفت مثلها أنّ النصّ الذي يتحدّد بمرجعيات "مخدعية" فقط ليس أصدق من النص الذي يتحدد بمرجعيات لغوية. قابلية الشهوة هي عنوان على ما يفترض في الألم الأنثوي أن يعبّر عنه. إنّ المرأة لا تتألّم بسبب من هذا المحرّض أو ذاك، بل لأنّه ما من شيء على هذه الحياة يمكن بشكل عام أن يشبع عندها صورة الرغبة والاحتياج. لقد أردنا أن نقارب نصوصا بحثا عن نداءات موجّهة إلى العالم لكن الكاتبة لم تكن تستعمل الحوار [هل تؤمن به؟] وبما أنّ السخط ينتج عن الوعي المشعور به إزاء عدم تحقّق الرغبة، فإنّها بصنعة لغوية متقنة قد حوّلت كلّ معطيات السخط هذا إلى تحقيق في اللغة، فمهما كانت اللحظة الزمانية ومهما كانت اللذّة المحرّمة فإنّ العالم أبعد منها باستمرار، وإنّ الرجل يتجاوزها نحو أهداف أخرى ونحو ذاته في النهاية، بيد أنّها في غمرة سباقها المحموم من أجل مشروعها "الـمُطلقي" طويل الأمد لا تكاد تنتبه – وهي ساخطة- إلى التاريخ الذي تمّ تجاوزه ثمّ تحريره. إنّها لا تحتقره، إنّها فقط غير راضية عنه، وقابلية سخطها هذه ستستخدمها فيما بعد كوسيلة منهجية لقصدية محدّدة هي تدمير الأنوثة عبر تشييد لغة ذكورية لها نظامها "الشفري" الخاص بها. هكذا هو نظام الحركة في نثر لطفية الدليمي: من الجسد إلى الطبيعة، ومن الطبيعة إلى اللغة، لنقابل مفهوما إلتباسياً لديها وله أكثر من تمظهر عبر قانون الكتابة. فهي حين تدافع عن لغتها- على الأقل بمزيد من العمل- وترغب في إثارة التعاطف عند قارئها- متوجّهة صوب نواياه المدفونة لتساعده على إبرازها- إنّما تصوّر مشاعرها الأنثوية على أنّها أكثر المشاعر طبيعية وحقانية. ومن هنا ستبدأ خيانة اللغة، الخيانة الأولى، فهل حقّا أنّها تضع على نفس المحك الطبيعة والخطيئة؟ وهل الجسد هو فيض اللغة؟ أم أنّ قمع الجسد هو المرجع والقاموس؟ كان "سارتر" يقول بأنّ الطبيعة هي امتثالية قبل كلّ شيء. إنّها الحركة الأولى، وهي تبعا لملاحظاتنا نفسها حركة الأنثى خارج الكتابة، لذا فإنّ لطفية الدليمي تكره الطبيعة وتسعى إلى تغييبها أو محقها أو تجاهلها وعدم الإشارة إليها لأنّها امتثالية ولأنّها ليست حرّة ولأنّها لا تصدر عن قابلية للشهوة. بل وتسعى الكاتبة عن طريق قابليتها على السخط إلى احتلال مكان فريد في العالم هو بالضبط مكان عزلة الملعون ووحدة المناهض للطبيعة. كل ذاك بالمزيد من التصنّع في الأداء والكذب على الأخلاق، بإقامة أبنية شكلانية من اللغة الإيحائية وذلك بمقدار ما تسمح به مسافة ضائعة من اللغة التوصيلية. إنّ هذه المقدّمات تمنحنا مبرّرات معقولة لكي نفهم طريقة الشغل الكتابية الخاصة بـالكاتبة العراقية لطفية الدليمي: فاللغة أولا والكلام غائبا والتاريخ في عَوْدٍ أبَدِيّ، حدثا وشخصا، أمّا المنطوق والمصوّت، فلا يرتجع.
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خالد النجار مولع بلوران غاسبار
-
المصطلح، معجم للعلوم الكمبيوترية
-
الدراما التونسية دراما المستقبل
-
ردُّ اعتبارٍ للغنائية الموزونة
-
نِصْفَا الدماغِ: أيهما نحن؟
-
حول مفهوم وجهة النظر: ثلاث مساهمات في نقد الرواية
-
رواية ما بعد الحداثة.. قراءة أمام المرآة وخلفها
-
قضايا الرواية الحديثة بين البلاغة والإرهاب
-
مفهوم الحرية في التراث العربسلامي
-
قصيدة النثر العربية مآلاتها وطرائقها رؤية تأويلية وبيان
-
برتراند راسل: دفاعاً عن الحرية الفردية
-
في الشعر الفلسطيني المعاصر: هشام عودة أنموذجاً
-
الحداثة والسلطة والتراث عند العرب
-
من الذي ينام في -سهرة فينيغان-؟
-
طلاق
-
التغريب البريشتي وضرورة المسرح الملحمي
-
بدر شاكر السَّيَّاب: اللحظة والمنعطف
-
التحليل النفسي كحركة وتنظيم
-
مهرجان الشعر العربي في القيروان: حضر الشباب فحضر الابداع
-
فضيحة: قصة مطاردة بين قط وفأر
المزيد.....
-
لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص
...
-
صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت
...
-
أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
-
الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
-
تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
-
رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و
...
-
الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة-
...
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|