أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم اللامي - قصة قصيرة / جحيم البسطرمة















المزيد.....



قصة قصيرة / جحيم البسطرمة


كاظم اللامي

الحوار المتمدن-العدد: 5819 - 2018 / 3 / 18 - 10:39
المحور: الادب والفن
    


كانوا يسمونه سعيداً، لكنه لم يذق من هذه السعادة المفترضة شيئاً ولو للحظةٍ واحدة، حيث كُتب عليه العويل منذ ليلة العثور عليه ملفوفاً بخرقة بالية على ضفاف دجلة ذات شتاءٍ في الساعات المبكرة من عمره بهيئة كومة لحم حمراء استقرت بين الماء والطين. منذ تلك الليلة وسعيد مقطب الجبين، لم يُرَ ضاحكاً البتة، حتى أن أسنانه بدت للناس مصدر سخرية ورهان فيما بينهم، هاجسهم التنافس في مَنْ له القدرة على كشفها ومعرفة الطالح والصالح منها في ضحكة اعجازية تقفز من فمه سهوا. مر الجميع بتجارب عديدة باءت جميعها بالفشل، فخسروا رهانهم على أعتاب حزنه، فبقيت ابتسامته طلسما مجهولا للجميع، لا يستطيع أحد فك شفرتها وإخراجها من سجنها السرمدي. كان أول وجوده بين الماء والطين، وجود يحكي حكاية مخلوق خلقته الصدفة، متشكلا من حفنة طين حري وماء دهلة، عجنتهما جنية الرحمة تحت نار مكنستها، فكان طفلا يرتدي خرقة بالية يمتهن الصراخ لغة.
بدد صراخُ سعيدٍ حواجزَ الظلمة فاستدرج مسامع هنية المتخمة بالأفكار الشيوعية أثناء إحدى ممارساتها الليلية المعتادة في مطارحة الغرام مع أحدهم لقاء مبلغ مالي زهيد يكفيها يوما أو بعض يوم، وهي ممارسة أذلتها كثيراً من أجل "قوت لا تموت" كما يقول المثل الشعبي، فضلا عن حَنَثِ الكثير من زبائنها السوقيين بمنحها رذاذ جيوبهم وتنصلهم عن اتفاقاتهم الهزيلة!!. في هذه الليلة الغريبة، علا صراخ سعيد مشكلاً موجات صادمة أقلقت هنية وهي تضطجع تحت زبونها رويضي الحداد.. وما إن سمعت صراخ الطفل انتفضت كلبوة خامرها شعور الأمومة بخطر يحدق بأشبالها، دفعت الرجل بعنف بعيداً عنها وهي تمسح بقلق حبات عرق لؤلؤية ندت عن جبينها رغم درجات الحرارة المنخفضة عند جرف النهر وفوق مشحوف سلمان السماك مقر عملها الليلي الذي لازم المياه الضحلة طيلة عقود بعد موت سلمان سكرانا غارقاً في النهر.
"أسمعُ صُراخَ طفل"
قالت هنية.. رد عليها رويضي بشيء من السخرية وهو يجر أنفاسه المتثاقلة نتيجة لتموج حركته فوقها.
"وما شأنكِ أنتِ"؟
لم تأبه برده البارد كبرودة انفاس هذه الليلة الفريدة.. لفت عباءتها بيدها بحركة لولبية نشطة وهي تتملص من بين ساقي رويضي الطويلتين. ترجلت من المشحوف مسرعة لبلوغ مصدر صراخ الطفل وقد نسيت أن ترفع لباسها الداخلي حتى خصرها، كما نسيت أن تنتعل شحاطتها المتهرئة، حتى إن أحد ثدييها قد رفض الاختفاء مثل توأمه داخل ثوبها الرث فراح يطل مراقباً ما يحدث أمامه وكأنه كاميرا معلقة بصدر ممثل تصور محيطه بلقطة بانورامية.
وجدت هنيةُ صنيعةَ الله، شبيه يوسف في جماله، ونظير موسى في دراماتيكية وجوده في أحضان زوجة فرعون. عدة خطوات متعثرة خطتها خارج المشحوف، أسقطها شغفها على وجهها لمرتين، مما أجبرها أن تقبل الأرض بكامل شفتيها وتكحل عينيها بمداد الطين، وكأنها تمارس طقوس شكر الرب لبلوغ أسماعها ذلك الصراخ السحري لسعيد الشبيه بمزامير داوود، وهو يصدح لأهل الجنة تكريماً. ومن خلل بقايا ضوء المصباح اليدوي الذي علاه البرغش برفقة حشرات أخرى راح رويضي يتابعها لمعرفة أصل هياجها بهذا الشكل المفاجئ وهو يلعن كل صدفة شَكّلت حياته.
غرقت هنية حتى مفرق رأسها في نهر تأمل وجه الملاك المُقَمَط بالخرقة البالية .. طفلٌ مكتملُ الهيئة، جميل المحيا، وثمة نور بألوان شتى يطل من بين ثنايا وجهه يخبر بنقاء سريرته.. توقف صراخه، تكلم في المهد صبيا "أمي.. لا حاجة بك لضياء مصباح رويضي، فأنا هنا بعشرة مصابيح". لم تألو هنية جهداً في التفكير: مَنْ هذا؟ مَنْ هم اهله؟ وكيف أتى إلى هنا؟ ومَنْ قَدِم به عند متاهاتٍ خيباتها؟ وأيّ قلب يحمل؟.
أهملت كل هذه الاسئلة وحزمت أمرها سريعاً بانتشاله من هذا المكان الموحش، لفت جسده الغض بعباءتها وأحكمتها حوله، عباءتها الملوثة بآثار طينٍ معجونٍ ببصاق رويضي المطعم بتتن محلي. هرولت بكومة اللحم المسماة سعيد باتجاه بيتها، دون أن تلتفت لأخذ أجرتها من رويضي، أو تستعيد شحاطتها, أو حتى توديعه على أمل اللقاء به في موعد آخر كما هي العادة. سلوك هنية أثار حفيظة رويضي ليصرخ بها وهو يتابعها بضوء مصباحه الخافت المرتجف كعجوزٍ على أعتاب قبر "هنية .. أجرتك؟" عانق نداءه دوائرَ موجاتِ النهرٍ المتراقصةٍ بفعل حركة الأسماك الدائبة ليختفي بعيداً في قاع النهر.. تماسُّ قلبِها مع قلب ملاكها أعطى أمراً لجميع حواسها أن تغيب عن العالم، ليعلن هاتفها الروحي إشارة للجميع بأن الخط مشغول ولإشعار آخر.
واصلت نهبها للأرض بأقدام من عجلات خرافية عجّلت بوصولها لبيتها سريعاً، مما أحبط تطلعات رويضي في تكملة متعته الكاذبة في أحضان هنية، فما كان منه إلا الاضطجاع على ظهره في المشحوف وممارسة هوايته المفضلة في مضاجعة يده المتضررة من ضربة مطرقة حديدية في لحظة سهو وغفلة مستذكراً جسد هنية الذاوي كسعفةِ نخيلٍ مصيرها تنورٌ مسجر وهي تتلوى بين فخذيه على أنغام موال لياس خضر "حِنْ وانا احِنْ".
وفي قرار صادم لجميع سوقة المدينة اعتزلت هنية مهنة الدعارة دون معنى للتوبة الدينية التي طالما تبجح بها ملا عشم على مسامعها وأمام مرأى وأسماع الناس، بل وجدت نفسها أمام مسؤولية اعتبارية كبيرة لتربية هذا الطفل الجميل، كما أنها اعتبرت الشرف أمانة وهي ترتبط به فتصورت مدى الإحراج الذي سيرافقه عندما يكبر وأمه، أو مربيته مشاعة لنزوات الجميع..
كانت هنية كثيرة التطلع بإسهاب بوجه سعيد، تطمح أن ينتشلها برقة عن عالمها الموحش كشعرة من طنجرة عجين، تتأمله، ترى فيه شيئاً فقدته منذ زمن: الأهل، الزوج، الأخوة، الأخوات، اللحظات الجميلة، لذلك سمته سعيداَ لرغبتها بأن تكون حياتها سعيدة على يديه في قابل الأيام ولو بعد خسارات متعددة. لكنه كان يقرأ على الدوام في آبار عينيها حزنا كبيراً يكاد يحرقها، لذلك مكث معها وهو يعتاش في حزنه على خراب الماضي كمواساة لها، لا نقمة عليها أو رفض لسلوكها، لأنه وعى تفاصيل حياتها دون أن تذكرها أمامه, فشعر بمظلوميتها وجفاء الزمن معها. أصبح سعيد كل حياتها، كانت قسمات وجهه تحرك فيها إحساساً قديماً، تبتهج لأجله، يذكرها بزوجها الذي قتله القومجية بعد أن علقته إحدى عصاباتهم على أحد الأعمدة الكهربائية بعد أن ثبت لديهم تعاطيه للأفكار الشيوعية مع جملة من إدمان للعبارات المؤيدة للزعيم، ليأخذ وجود سعيد نوعا من العلاج النفسي لها لتنسى بعض ماضيها، وكأنها تأخذ استراحة فتعود للبكاء الذي انتشر سريعاً كالفطر في فيافي روحها, كما إنها خلقت معاني وملامح في سعيد شبيهة بما توفرَ لدى زوجها, لتقتنع قناعة تامة أن سعيد نتاج زوجها الراحل مليون بالمائة.
كانت مسكونة بالخوف والهواجس في أن يعود شريط حياتها الماضية وخاصة في جزئية رخصها أمام شهوات سوقة المدينة الناتجة عن سخافة الوطن بصور جلاديه وهو يلوي عنق روحها استجابة لنزواته، تخاف كل ذلك لو حصل شيء لسعيد، سعيد الذي تخفق روحها عليه حتى من قطرة مطر رطبت خده, أو نسمة هواء داعبت عنقه, أو كحة خفيفة لازمت صدره, أو حرارة طفيفة صافحت جبينه.. ما زالت مقولة زوجها تعزف ألحانا أسطورية في روحها "أطفالنا لا يعيشون وفقا لإرادتنا الأبوية" وكلما وردت هذه المقولة على بالها احتضنته طويلاً في عناق طويلٍ أشبه زمنا بزمن مفتوح على مصراعيه لا بداية له ولا نهاية تعرف حدوده.
كانت هنية معلمة محترمة، قدمت الكثير لزوجها في نضاله الشيوعي، وعانت الأمَرّين لتكون بجانبه بعد أن خذله جميع أهله وأصدقاءه، لكنها دفعت الثمن غالياً على أعتاب السلطة، التي امتصت رحيق شرفها في عملية اغتصاب انتقامية طالتها هي والكثير من نساء رجالات الفكر الشيوعي، لتُرمى الى الشارع جسداً بلا روح، جسداً أدمن النواح، جسداً أكلته قرصات الأصابع الملوثة، ليتلقفها المجتمع كفريسة سهلة، فراح ينهش بجموعه المتوحشة كل جميل فيها، ملوثاً بقاياها بقبحه السادي، فسارت اضطرارياً دون وعي منها في طريق زُرِعَ بالمفخخات التي وخزت أقدامها حتى نزفت آخر قطرة كرامة في وطن لا يعترف بالمخلصين. لكن اقتحام سعيد لحياتها أسدل الستار والى غير رجعة على مسرح ماض رهيب يرمز الى سيل من الأخطار والأخطاء، مما ولد لديها القوة لمقارعة المثل الروسي في مصداقيته "إن حياتنا ما هي إلا تكرار لأخطائنا" فخيمت بروحها المعذبة على ربيبها سعيد وأفنت زمنها من أجل زمن هذا الطفل المجهول الهوية والعنوان، فما عادت الأخطاء ترسم طريقا لوجودها.
كبُر سعيد وكبرت همومه واستفحلت لديه عقد الدنيا كلها نتيجة لوراثة علائقية ورثها بطواعية وحتمية إلهية من أمه هنية المعذبة، وكان أشدها عليه التحاقه بالخدمة العسكرية وسوقه الى جبهة القتال لشعور بالاستلاب والدونية كان قد طغى عليه بقوة، مما ولّد قطيعة لديه أطرافها ذاته والواقع المعاش. شعور باللاإنتماء فجر فيه الكراهية لكل صور الموت من لحظة التحاقه بسيارات الريم في كراج النهضة وحتى وصوله الى الجبهة مروراً بكل صور الضباط والقادة العسكريين وجميع معدات الحرب التي اعتادت على التهام رفاقه واحداً تلو الآخر، لذا لم يألف هذا الجنون بالمرّة، فواجهه بجنونٍ آخر. كان دائم الحساب لعدد القذائف التي يطلقها العدو وهي تحز رقاب رفاقه، كان يعد ذلك بطريقة رياضية فريدة "القذيفة * عدد الشهداء من رفاقه =عدد الثكالى + عدد الارامل+ عدد الايتام.. فكانت الأعداد تؤرقه وتجعله يعيش في عالم غير عالمه وكأنه يُزَف مع جثامين الشهداء الى مقابرهم، يعيش قصصهم وهم يروونها على بعضهم البعض من أجل قتل الوقت قبل وصول منكر ونكير لذا كان يموت باليوم الف مرة حسب نتائج نظريته الرياضية.
أحد الجنود من رفقة سعيد في الجبهة كان اسمه "جمال الاعور" والذي كان نسخة منه لأنه صديق طفولته كما شاركه بالعيش على الهامش في مراحل عديدة من وجودهم. تشاركوا في كل صور البؤس حتى الاسم هو الآخر لا يعكس حقيقته الداخلية، فعينه التي سقطت أمام بقية رفاقه نتيجة لرصاصة قناص معادي، ولَّدَتْ مناهضة بين شكله المشوه واسمه الجميل، ليكون حاله حال رفيقه سعيد "جميل بس بالاسم".
هذه العين القافزة من موضعها بشكل ضفدع أمام عيني سعيد حركت في داخله رفضاً لواقع زائف يتحلى بالكذب بادعاءات وطنية ودفاع عن الشرف والمقدسات، فتولد لديه شعور من رحم الواقع، اذا لم يعد لديه أدنى رابط بهذه الحرب وهو يقول مرددا وبجنون وسط ساحة العرضات ليلا أمام رفيقه في نوبة الخفارة في حراسة وحدتهم العسكرية: "مشعلوها يتنعمون بالجنة والبائسين يتحملون لظى سعيرها، اي خراب حل بساحتنا".
ومن هنا انطلقت المسببات في إعلان الثورة الكبرى بالرفض لكل شيء له صلة بهذا الوجود المتخندق عسكرياً .. لذا لم يدخر وقتاً للتفكير في مغادرة هذا الجحيم ليعلن فراره من الجيش مطلقا ومن يومها أطلق عليه لقب "سعيد الفرار" رغم فرار نصف الجيش العراقي يومها، لكنهم لم ينعتوا بهذا الوصف الملازم له حتى الممات.
وفي ليلة مكفهرة من ليالي الصيف كان سعيد وأمه هنيه ينامان على السطح البارد كما هي العادة لدى الجميع وخاصة في المحافظات الجنوبية ذات المناطق الشعبية والبيوت القديمة المميزة بطابعها العمراني السوري والتركي المزود بباحة واسعة وسطح كبير، اذ تسورت السطح في هذه الليلة مجموعة من رجال الانضباط العسكري وهي تنط كذئاب غزت حضيرة نعاج. فما كان من سعيد إلا القفز على سطح جيرانهم هارباً من جمهور الذئاب برشاقة، مما حفزهم لإطلاق النار عليه وبرصاصات عدة أتت إحداها في صدر هنية التي وقفت أمامهم كالسد المنيع مدافعة عن ابنها، ونزفت آخر نبضات روحها وهي تعزف ألحان الموت برجاء نجاة سعيد.
_يمه وليدي!!!
مر زمان طويل على تلك الحادثة المأساوية ولكنها مازالت تعيش باجترار نصب مخيلة سعيد الذي حث السير باتجاه محطة إسالة الماء لتبديل صديق طفولته جمال الاعور في خفارة العمل الذي تم تعيينهم فيه بعد سقوط بغداد بيد الامريكان. لكنه وصل متأخراً عن موعد استلام نوبته في حراسة محطة الإسالة مما أجبر جمال على ترك مكانه لشعوره بالملل والضجر من الانتظار الذي خرج عن حده، لكنهما تلاقيا وجها لوجه في مكان قريب من المحطة، تبادلا التحية بفتور معتاد..
_ليش تأخرت؟
_أصعب سؤال بس روتيني
_ عندك جواب؟
_لا
هز جمال يده صافعا الهواء دليل عدم رضاه
_ كلمة ضعها ترجية بأذنك، كن على حذر، فليلة البارحة لم تعرف عيناي طريقا للنوم.
أدار جمال ظهره تاركا المكان وهو يتمتم بكلمات مبهمة دون ان ينتظر من سعيد ردة فعل لقنبلته المشفرة والتي رماها وذهب بطريقة "الدغ واهرب". ودّعه سعيد حتى اختفاء هيكله منحدراً أسفل الجسر المجاور لمحطة الإسالة.. راودته ضحكة او ابتسامة على أقل تقدير لكنه آثر ان لا يحقق طموح السماء برؤيته مبتسما ولو لمرة واحدة فهو في حداد روحي منذ الأزل, انتبه ليده وهي ما زالت ممسكة بكيس متاعه، حك قفاه مستغربا فقد مضى وقت ليس بالقصير على قدومه للمحطة وهو بهذه الهيئة. نفض رأسه يمينا يسارا بحركة ارتجاجية لاستعادة تركيزه ثم عمد الى متاعه ليركنه جانبا في إحدى زوايا غرفته الصغيرة والتي هي عبارة عن كرفان صغير مجهز بحمام ومطبخ وغرفة نوم صغيرة .. اتجه بعدها الى خزان المياه فوجده شبه فارغ فلعن الاعور في سره وضغط بسبابته المصبوغة باللون البنفسجي زرَ التشغيلِ لمحركاتِ سحبِ المياه من النهر، ثم رمى في الخزان كيسا من مادة الكلور وراح يفتح ويغلق صمامات بمختلف الاماكن. تأمل إصبعه البنفسجي، قضمه بقوة آسفا ولعن جميع الحكومات منذ الدولتين الاموية والعباسية .. كان يشعر بالجوع فعمل لنفسه بيضا مقليا وشرب شايً مراً، لأصابته بمرض السكر مبكرا بعد مقتل هنية، فتعايش مع السكر ليقينه ان ملازمته للعراقي بهذا الشكل المضطرد دليل همٍّ أصبح هوية وعنواناً للإنسان العراقي المستلب.
أنهى أعماله التشغيلية في المحطة مبكراً وبسرعة غير مألوفة، وكأن وراءه عمل أكبر وأهم، شعرَ بالتعب لأنه هو الآخر لم ينم ليلته الماضية كما يجب، فراودته سنة من نوم أجبرته ان يضطجع لها، فنام حتى جن الليل عليه. استيقظ وغسل وجهه ووقف فوق منصة الإسالة المؤدية الى أنبوب الماء الذي يسحب المياه من النهر لتصفيتها ونقلها الى الأهالي عن طريق أنابيب أخرى تم تجديدها في الأيام الأخيرة. تأمل أضواء المدينة التي انعكست بجمالية خاصة على صفحة النهر "للجمال وقت معين يظهر ويختفي بلا مواصلة فانتهزوا الفرصة لاستشعاره" رنت عبارة هنية في مخيلته والتي تعلمتها من زوجهاِ، وهي عبارة لازمته منذ صباه.. " كم هي جميلة مدينتي لأنها تحمل جمال أمي" قال سعيد عبارته فداهمه قطعٌ للعرض البصري بعرض آخر لسينما عينيه وذاكرته بشريط مصور يظهره بعد هروبه من الانضباط العسكري وسماعه لعيارات نارية تابعتها اذناه بجنون. ليلتها مكث في تنور جارٍ لهم ليس ببعيد، ولما كفت جلبة الانضباط ورصاصاتهم عن العبث في جَرْحٍ صمتِ الليل انسحب راجعاً لسطح دارهم كقط خائف من جيش سنوريات مفترسة.
طفى فوق تخوم رؤاه ظل امرأة لا يستدلها .. هل هي الجنية، أم الحبيبة ايمان، أم الفنانة سعاد حسني، أم ظل أمه، نعم انها أمه .. وجدها جسدا داخل لوحة، الموناليزا بابتسامتها الحزينة، وجدها غارقة في بركة دم اصطبغت بلون غير معتاد، لون أزهر يضج بالعطر الجميل، لكنه يفور كإبريق شاي نسيه صاحبه لحظة غفلة. وما ان وصل عند أعتاب قلبها حتى تحركت وأنَّتْ، وسمعها تقول وهي تحتضنه بقوة "افيش يا بعد روحي" رَطّب جسدها بدموعه وعمد الى عباءتها التي غطته بها حين عثرت عليه على شاطئ دجلة فعاد الآن ليأتي دوره فيغطيها بها وكأنه دين وجب سداده.. ضياء مصباح مرتبك انهى تسلسل شريطه السينمائي الثاني، فقد لاح له من بعيد مشحوف للأهالي يقترب رويدا رويدا من المحطة حيث كان سعيد دائم الحذر من اقتراب المشاحيف من المحطة لأنها تسببت في إحدى المرات بكارثة يوم ارتطمت مقدمة المشحوف بالأنبوب الساحب للماء فانكسر مما أدى إلى انقطاع الماء عن الأهالي ليومين، لذا كان يتلقى توصيات كثيرة من مسؤوليه بالاهتمام بهذا الامر ومراقبة النهر والا كانت نهايته.. راح سعيد يصرخ بحنجرة ممتلئةٍ بالدم محذرا القادم من الوصول قرب الاسالة الا ان الآخر لم يبالي بصرخاته فواصل اقترابه منزلقا بهدوء على صفحة الماء حتى وصل ملتصقا بقواعد ارتكاز الانبوب.
_السلام عليكم سعيد
_شعندك هنا؟ ما تدري ممنوع؟
_جيت اسلم عليك
سلط سعيد ضوء المصباح اليدوي على وجه صاحب المشحوف فتبين أنه عليوي ابن سلمان صاحب المشحوف القديم الذي كانت هنية تمارس فيه جنونها المهزوم.
_ توكل قبل لا أسويلي جاينة
_محتاج مساعدة؟
_لا!!
انسحب عليوي بهدوء حتى اختفى عن أنظار سعيد عند ظلال النخيل المتهدل فوق مياه النهر كشعر أنثى في عامها الرابع عشر. جن الليل وبدأت هواجس سعيد تُقْلِقُ راحته متفجرة بأسئلة عديدة وهو يتذكر كلمات جمال كطرقات حداد على صفيحة حديد.. "كلمة خليها ترجية بأذنك، كن على حذر، فليلة البارحة لم تعرف عيناي طريقا للنوم".
انطلق مونولوج داخلي في ذات سعيد يحاور هسيس الحشرات، وتكسر أمواج النهر على منصة الإسالة، وهمسات الريح الخفيفة التي رفعت من وتيرة قلقه، حينها تذكر صديق له كان يعمل حارسا لإحدى المدارس الابتدائية والذي كان دائم الحديث عن وجود جنيه في المدرسة تأتي ليلاً وتعمل فتقاً في ملابس الحراس من مكان عضوه التناسلي وتضاجعه وتخرج مترنحة بعد ان تبصق بوجهه لثلاث مرات.. كان هذا الحارس يردد قصة الجنية أينما جلس.. في المقهى، في بيتهم، وهو يمشي في الشارع، وهو يواجه مدير المدرسة عند خروجه وانتهاء عمله في الحراسة، أينما وجدته فحكاية الجنيه حديثه الوحيد.. حتى جُنّ بشكل رسمي وانتهى به المطاف في مقبرة جماعية بعد تمشيط المدن الجنوبية من قبل النظام عقب أحداث الانتفاضة الشعبانية، وبما ان لقوات النظام العسكرية القادمة من بغداد اعتقاد كبير بأن جميع سكان المدن الجنوبية يتواجدون عند موضع الزائد في الاتهام بمناهضة الحكومة، لذا تعاملت معه على أنه أحد الغوغاء الكبار، وتمثيله المتقن لدور المجنون هو لاستغفال العسكر، فكانت نهايته مع المئات نزيلا ً دائما لمقبرة جماعية لا يمثل اجتماعها إلا هوية جماعية للمسحوقين، البسطاء، للأبرياء.
رن هاتف سعيد الخلوي الذي اشتراه قبل ايام بعد محاولات كبيرة من الجميع لإقناعه بأهميته في تمشية امور حياته. الرقم غريب لم يُحفظ في خزانة الاسماء.. " من يا ترى؟"
_سعيد، اني ايمان
طَرَدَتْ صورةُ حبيبته إيمان بعض تخرصات هواجسه حينما سمع صوتها الذي كان يسحره منذ صباه .. كان يروي لأمه تفاصيل حبه لإيمان فكانت تخبره بعبارة هادئة "يمه امَّيْنَه مو الك"
_ هلو حبيبتي
_ يا حبيبتك ولك أهلي راح يكتلوني
_شلون؟ وليش؟
_ولك صار عدهم علم انت تحبني.. وهسه اني مسجونة
_ومنين تخابرين
_من تلفون اخوي محمد بس هو الوياي منهم .. ضربوني وشكو راسي
تجهش إيمان ببكاء حار مما حفز سعيد ان يصرخ بها تاركا موجات صراخه تسبح في فضاء محطة الاسالة..
_باجر انهزم بيج لأبعد مكان بالعراق
علا صوت صراخ إيمان مصحوبا بضربات أحد أخوتها وهي ترجوه أن يكف عن ذلك لينقطع بعدها الاتصال.. يعاود سعيد الاتصال بالرقم الغريب، يأتي الرد بأن الجهاز مقفل. راوده شعور بأنهم اكتشفوا حديثها معه وسينالون منها، لأنه يعرفهم أصحاب سوابق في القتل والاجرام، وكثيرا ما سببوا عاهات للآخرين. كرر كلمة أمه هنية في دماغه عدة مرات ليربطها بجهار لتضخيم الصوت " يمه امّيْنة مو الك". تصاعدُ الموقف بهذا الشكل الدرامي جعلَ سعيد يفكر بمن ينقذه مما هو فيه.. وهنا لاحت صورة جمال الأعور أمام عينيه لعل لديه حل لما هو فيه ..التقط الجهاز الخلوي واتصل به .. تأخرَ الرد حتى يأس سعيد وحاول غلق المكالمة لكن جمال استجاب أخيراً وهو يتثاءب..
_شكو؟
_لك جمال ايمان راح يكتلوها
_ليش؟
_أهلها عرفوا بقصة حبنا
_وشراح اتسوي؟
_أعوف المحطة وانهزم بيها
_لك شبيك..تريد تهجم بيتنا؟ .. إيمان تنكتل إي مو مشكلة بس المحطة ما تعوفها
_طوط طوط طوط
انقطع الاتصال, يبدو ان جمال غير مصدق بما قاله سعيد واتصاله كان فقط لقتل الوقت لذلك اقفل جهازه للتخلص من الحاح سعيد فهو يحفظ كل طباعه حينما يريد حلا لمشكلة ما بطريقة لا تعالج المشكلة نفسها بل بخلق مشاكل اخرى وخاصة في مثل تلك الحالة.. كيف لا وهو صديقه منذ الصغر وقد حفظه عن ظهر قلب. سعيد يتلوى كسمكة مسمومة وقد عجز عن إيجاد منفذٍ تطل روحُه منه للخلاص مما هو فيه، وراح يرسم في خياله تفاصيل عملية قتل إيمان من قبل اخوتها.. وفي محاولة منه للخلاص من هذه الصور المرعبة اختفى داخل غرفته الصغيرة منسحبا كوحش أسطوري في أعماق بحر. ذكى سيجارة وراح يتأمل الماضي بعيون شبقة من خلال موجات دخانها.. ما زال طعم القبلة التي طبعها على خد إيمان في صغرهم تتأجج في قلبه، لكن اتصالها الهاتفي جعله ينام على كومة مسامير، كيف السبيل لإنقاذ إيمان؟؟.. اسئلة عديدة أكلت منسأته حتى سقط على أم آلامه.. ولما أعياه التفكير السلبي بالنتائج تهشمت روحه المعذبة فجعلته يعيش دوامة أطبقت على جفنيه أخيرا وكأنه استنشق غازا مخدرا ليغيب في نومة تمثلت بإعجاز قاهر.
استيقظ سعيد فزعا إثر صوت ارتطام قوي بالمنصة المائية للمحطة معتقداً ان القيامة قد حانت. خرج مستطلعاً الأمر، اقترب بحذر من أسفل المنصة وأمعن النظر ليصرخ فزعا مولولا "يا مصيبة المصيبة جثة مرة غركانة مجلبة بالمحطة.. يابويه".
تعثرت قدماه وهو ينسحب قلقاً الى غرفته، نهض متوجعاً، فتح باب الغرفة واقفله بظهره واتكأ عليه وأغمض عينيه.. غاب خَياله في دهاليز ايحاءات غريبة.. "جثةُ امرأة بعباءة سوداء".. "أغلقت منفذ الانبوب الساحب".. "مسؤول المحطة سيطردني لا محالة" سعيد يقترب من الجنون رويدا رويدا وهو يحلل ما وجده ملتصقاً بالمنصة.. "منْ تراها تكون؟.. ممكن ان تكون حمدية التي تعشق غسل أواني الطبخ والملابس على الشاطئ رغم توفر المياه الواصلة لبيتها؟.. ربما سليمة التي اعتقد الناس انها هربت من اهلها قبل سنين بصحبة عشيقها الضابط البغدادي؟.. أو ربما فتاة صغيرة بصحبة زميلاتها في المدرسة القريبة من النهر، كانت عطشى فنزلت للنهر لكي تشرب وزلت قدمها فغرقت وتركتها زميلاتها تواجه مصيرها لوحدها؟.. منْ تراها تكون؟" أكد تواجد كل نساء مدينته غرقى عند منصة سحب الماء إلا إيمان نفى عنها التواجد ميتة ملفوفة بعباءتها. قطع تردده وعاد وكرر مطالعة الجثة من جديد، سلط عليها ضوء مصباحه مرتجفا وهو ينظر بإغماضه عين وفتح أخرى, ليصرخ من جديد وهو يقتلع خصلات من شعره قائلا " هي .. هي .. إيمان .. خنكوها وشمروها بالشط .. اااااخ ولج إيمان تموتين وتخليني لوحدي .. أمَّيْنَة.. أمونة"
بعد اللطم والعويل وسيل من الدموع اتزن قليلا وعاوده التفكير بوعي في حل مناسب لمصيبته.. ماذا يفعل ؟ هل يتصل بالمسؤول ويبلغه؟ لكنه سيكتشف خوفه وتراجع قدراته التي من أجلها تم إيجاد وظيفة له في هذه المحطة وسيتم فصله لا محالة.. هل يتصل بجمال؟ سيسخر منه كالعادة؟ وربما لا زال جهازه مقفلا للآن. لكنه حزم أمره أخيرا واتصل بالشرطة، وبعد بعض الاتصالات بين المسؤولين والشرطة أتت قوة للمكان لمعاينة الحادث .. استقبلهم سعيد خائفاً يرتجف، لاحظ أحد عرفاء الشرطة مبالغة سعيد بخوفه فأراد المزاح معه ..
_طبعا راح تكون أنت المتهم الأول واحتمال الإعدام مصيرك
تقدمت القوة بصحبة ضابط برتبة عقيد شرطة باتجاه المنصة وكأنهم فصيل أسوُدٍ يروم افتراس غزال بري. وكلما اقتربوا من موضع الجثة يزداد ارتباك سعيد. وما إن شاهد أحد العرفاء يمسك عصا لتحريك الجثة لمعاينتها ورفعها قابل سعيد ذلك بإطلاق ساقيه للريح هارباً من الجميع لا يلوي على شيء المهم الهروب والهروب فقط. وقبل ان يصل الى بيته، إرث أمه المتواضع الغافي على شاطئ دجلة، صادف رجلين كبيرين يجلسان أمام أحد البيوت وهما يشربان الشاي ويتحدثان بطريقة بوليسية..
_ما العمل أمام هكذا جرائم
_للتخلص من كل تبعات الجرائم، يجب أن تتخلص من هاتفك النقال أولا وترميه في النهر، وأن لا تنسى أوراقك الرسمية خذها معك...
انطلقا بضحكة هستيرية أرعبت سعيد، مما دعاه أن يتحسس هاتفه الخلوي في جيب بنطاله وهو يتمتم في سره "ما حكاية الأنهار معي" يذهب باتجاه النهر للتخلص من هاتفه وهو يودع أنهار المدينة جميعا وداعاً موحداً.
يعود لبيته ويأخذ حفنة من نقود من طيات فراشه احتفظ بها للنفقة على زواجه من إيمان، ثم التقط اوراقه الرسمية بما فيها جواز سفره الذي استخرجه قبل فترة وجيزة تزامنا مع جمال الأعور الذي استخرج هو الآخر جوازا وذلك لنيتهما السفر الى ايران لزيارة الامام الرضا بعد أن أصبحت تلك الممارسة موديلا لجميع العراقيين والتنافس فيمن يكون له السبق في الزيارة والتفاخر بذلك في تجمعاتهم الشعبية والرسمية.
انطلقت سيارة الأوباما باتجاه بغداد تنهب الأرض بسرعة صاروخ، وهي تقل سعيد بصحبة مجموعة من الشباب الذين يبدو عليهم ومن خلال حديثهم أنهم ذاهبون للهجرة الى تركيا لإيجاد منفذ للحياة في هذه الدولة العصرية, وهرباً من جحيم وطنهم الآخذ شكل البسطرمة وطريقة تحضيرها وتفسخ مكوناتها.. وبعد حديث طويل بين السائق والشباب انطلقت عبارة من سعيد غيرت أجواء السيارة ليكون الحديث أكثرَ جدية " اكدر أجي وياكم؟".
في الجانب الآخر من المدينة واصل جمال الأعور اتصاله المهووس بسعيد دون جدوى, لا صوت يجيبه غير قصيدة طويلة للنهر وهو يتغزل بأسماكه.. كان يريد إخباره بأن الجثة المزعومة كانت لجاموسة سوداء نافقة اشتبكت بها عباءة امرأة تخلصت منها لانعدام لونها إلى أخضر باهت فزهدت بها، فجرفتها المياه عند محطة الإسالة فعلقت بأنبوب السحب. كما أراد جمال أن يخبره بأن إيمان كانت تمثل عليه دور الضحية لدفعه بتعجيل طلب يدها من أخوتها.. كُتِبَ على سعيد أن يكون هارباً, فاراً ما دامت رئتاه يستنشقان هواء العراق, لذلك حتى لو علم بحقيقة ما جرى فسيكون على الموعد مع تفاصيل هروب آخر.
حَشَرَ سعيدٌ جسده متكورا في زورق صغير بين كتل أجسام المهاجرين من سوريا والعراق وهم يحملون بطاقات سفر لعبور خط العتمة نحو مرابع الحياة الماكثة عند الجانب الآخر في اليونان.. رجال، ونساء, وأطفال بمختلف الأعمار جمعتهم الصدفة والرغبة في الخلاص من وحش أسطوري التهم أرواحهم بعنف، وحشٌ أسمه الواقع العربي.. زورق نزق يمخر عباب البحر بسائق متهور مخمور يضحك ساخراً من جموع الفئران المتكدسة فوق بعضها وهي ترتجف من شدة البرد وهول الفجيعة.. الجميع مغيب روحيا مشتت ما بين الياس والرجاء, ينظرون في اللاشيء، إلا سعيدٌ فقد انفصل عنهم محدقاً في امتداد البحر وهو يذوب في عتمة الليل، حينها ولأول مرة شُوهد سعيد مبتسماً وقد تيقن الآن من عبثية هذه الحياة التي لم تغازل أحلامه مرة واحدة. وفي غمرة غياب سعيد في تلافيف عتمة البحر التي لم يسعفها ضياء مصباح الزورق الخافت خوفا من متابعة خفر السواحل ومكافحة التهريب، تحدث سعيد بصوت مخنوق أثار فزع الجميع "ما حكاية الأنهار معي؟ أجيبوني .. هل أنا سمكة من غير ذيل؟ فَحَتّم القدر تواجدي بين الماء والطين؟ اجيبوني.. بربكم؟ عليكم العباس جاوبوني؟ شبيكم ساكتين؟ "والآن... أتساءل ما حكاية البحار معي؟".
هاج البحر مكشراً عن أنيابه وهو يصرخ بالمهاجرين "ما الذي أتى بكم الى مملكتي؟ ألم يخبركم هذا المخمور عقوبة الجرأة على أن تطأ أرواحكم رقص أمواجي". هياج البحر دفع بالسائق للغناء باستهتار أرعب الجميع جعلهم يعيشون أشد أفلام الجريمة رعباً, لكنها بدت عادية جدا لسعيد الذي استسلم كالمُخدّر. الزورق يرقص مرحا وهو ينزلق على أمواج البحر معتقداً أن صراخ المهاجرين نابع من مظاهر الفرح بليلة زفافه التي شاركت بإحياء حفلها أصوات غنائية لأسماك اختلفت طريقة غنائها ما بين الصخب والرومانسية، حتى ان سمك القرش شوهد يتابع الحفل من بعيد متلمظ بابتسامة متلذذة. أحدُ الأطفال كان يخفي رأسه في حجر أمه، أطلَّ متطلعا لهول ما سمع من استغاثاتِ ركاب الزورق الباحثين عن أمل فصفعهم ألم اختزل كل سنين آلامهم.
"يمه وين احنا رايحين"
اهتز القارب محلقا فوق موجة رعناء فردت الأم على وليدها بصرخة استغاثة تصدع لها قلب السماء "يا علي".. الزورقُ عَرِيسٌ راقص, السائق قواد مجنون, الدنيا عاهر رخيصة, المهاجرون نقاط شبحية مسكنها الجحيم أتت تبحث عن موطئ قدم في جنة وهمية, البحرُ خائن عميل, سمك القرش امبريالي نذل، سعيدٌ اغنية سبعينية من كلمات كتاب مقدس، وألحان موجوع، وغناء متعب، وجدت هذه الاغنية في مياه البحر مسرحا كبيرا لإداء ختام مسرحية عبثية، بطلها ذاته المعذبة ليسدل الستار عنها بافتراشه ساحل بحر ايجه وقد اجتمع حوله سرب من طيور السنونو في حلقات مستديرة كناعور يغرف ويبدي. منها ما خمشت وجوهاً, ومنها ما لطمت خدوداً, معلنة أمام كائنات البحر صراحة مصير الإنسان في عالم داعر لا يفقه حديث الأنين. ومن بعيد كان لسرب آخر من طيور السنونو دوراً في هذه المسرحية العبثية وهن يحملن عباءة سوداء قد غادرت لونها الى الاخضر الباهت، ثم أطلقنها في الفضاء المشبع برائحة الحناء والمسك لتطير بحرية حيث استقرت على جسد النبيل سعيد الذي كف عن الهروب ففقد لقبه "سعيد الفرار"، لكنه راح يتطلع فرحاً من خلل شفافية العباءة، ودون جميع جمهور المسرحية، كان لوحده يشاهد فوق رأسه شبحا يحوم لامرأة طاعنة في الوجع وهي تنعى بردح جنوبي كل موسىً غريب قد صافح الموج جسده.



#كاظم_اللامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حفلة حرائق تنكرية / قصة قصيرة
- دراسة نقدية للعرض المسرحي اخر نسخة منا
- فارس التمثيل العراقي مكي حداد
- مدفع الافطار/قصة
- سيرة حمد انين الثكالى وبوح المقهورين
- وفتحنا النار عليك
- قصة قصيرة/ ما عدت طفلا يخاف
- النص المسرحي/فزاعة الميناتور
- تجوال نقدي في روضة شعرية
- الخريف يمكث طويلا
- قراءة في ومضات قصصية للقاصة ايمان قاسم اللامي
- قراءة في كتاب (ميثم السعدي وثنائية العرض المسرحي)
- تصورات متواصعة / مقالة نقدية
- عود على بدء وثنائية المونودراما المزدوجة
- قراءة نقدية للعرض المسرحي (الناجي)
- عراة وحفاة
- قراءة نقدية للنص المسرحي (دوران)
- قراءة نقدية للنص المسرحي (فلا انا بلقيس ولا فيكم نبي
- جرأة حالمة وتجوال خيالي في نقد النص المسرحي المتوهج (سنة حلو ...
- من صدام حسين الى نوري المالكي الكواسج تبعث من جديد


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم اللامي - قصة قصيرة / جحيم البسطرمة