|
ثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر وانهيار الاتّحاد السوفييتيّ
سعود قبيلات
الحوار المتمدن-العدد: 5813 - 2018 / 3 / 12 - 23:31
المحور:
ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
تقوم المقاربة الأكثر رواجاً لانهيار الاتّحاد السوفييتيّ على النظر إليه كإعلانِ فشلٍ مدوٍّ ومطلق لثورة تشرين الأوّل/أكتوبر السوفييتيّة. وبعد ذلك، لا يبقى للباحث أو الدارس إلا استعادة المفاصل الأساسيّة لتاريخ الاتّحاد السوفييتيّ (وثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر) وترجمتها إلى لغةٍ ملائمة لهذا السياق.
المقاربة التي أتقدَّم بها هنا تقوم على النظر إلى ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر بوصفها جزءاً مِنْ سياقٍ تاريخيٍّ طويل وتدشيناً له، وليس بوصفها حدثاً طارئاً ومقحماً على التاريخ ومعزولاً عن سياقه.
وإذا تجاوزنا بنظرنا حدود اللحظة التاريخيّة التي نعيشها الآن. ونظرنا إلى التاريخ نظرة بانوراميّة شاملة وليس كمَشاهِد متناثرة لا صلة بينها. فإنَّنا سنرى أنَّ المسار الذي دشّنته ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر لا يزال يتفاعل وأنَّ جدول الأعمال المطروح على البشريّة لا يزال في خطوطه الرئيسة هو نفسه.
لحظة موت أم لحظة ولادة؟
في مسرحيّة "ماركس في سوهو"، للكاتب والمؤرِّخ الأميركيّ هوارد زِن، التي نُشِرَتْ وعُرِضَت في أواسط تسعينيّات القرن الماضي.. أي بعد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، يقول ماركس المستعاد في المسرحيّة: "كنتُ أقرأ صحفكم (...). تدَّعي كلُّها أنَّ أفكاري قد ماتت! لا جديد في هذا. ما فتئ أولئك المهرِّجون يردِّدون هذا منذ أكثر مِنْ مائة سنة. ألا تتساءلون: ما الذي يجعل مِنْ إعلان موتي مراراً وتكراراً شيئاً ضروريّاً بالنسبة لهم" ؟.
وهذا ينطبق أيضاً على الموقف من الاتّحاد السوفييتيّ وثورة تشرين الأوّل/أكتوبر الاشتراكيّة.. إذ لا يزال كمّ هائل من الكلام يُكتَب أو يٌقال أو يُعرَض مصحوباً بالصور الثابتة والمتحرّكة، في سياق المسعى المثابر والدؤوب لتأكيد موت كلّ القيم والمبادئ والأفكار التي ارتبطت بهما. وفي النهاية، تصل ترجمة تلك الجهود الحثيثة إلى الجهلاء والسُّذج، مِنْ أتباع هذا الفريق، على النحو التالي: الشيوعيّة ماتت في بلادها؛ فلماذا تواصلون التمسّك بها؟
حسناً! إذا كانت الشيوعيّة قد ماتت، فلماذا تشغلون بالكم بها إذاً؟ ولماذا يصيبكم الانفعال والتوتّر كلّما ذُكِرَ اسمها؟
وبعد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، لم يعد إعلان دفن الشيوعيّة حكراً على أعدائها التقليديين، بل أُضيف إليهم جيشٌ من "الشيوعيين" التائبين الذين يرطنون بمفردات ماركسيّة ويلوون أعناق المفاهيم الماركسيّة، لكي يقولوا إنَّ الشيوعيّة ماتت (بل والماركسيّة أيضاً).
ينطبق على هؤلاء قول تروتسكي: ".. وعندما يتبدَّل الرجال، فإنَّهم كثيراً ما يتخلّون عن المفاهيم بسهولة أكبر ممَّا يتخلّون عن الكلمات التي اعتادوا عليها".
وهؤلاء التائبون لا يتركون ذريعةً سانحة، مهما كانت تافهة، إلا واستخدموها ضدّ الشيوعيّة. أُنظروا، على سبيل المثال، كيف تعامل عددٌ ممّن كانوا يُعتبَرون شيوعيين بارزين (وأحدهم كان قائداً بارزاً في الحركة الشيوعيّة العربيّة)، مع وصيّة بليخانوف المزعومة. لقد قفزوا عن كلّ ثرثراتهم السابقة بشأن التفكير العلميّ، وتعاملوا مع تلك "الوصيّة" المزعومة كوثيقة صحيحة لا يرقى إليها الشكّ، واستخدموها – مِنْ دون أنْ يرفّ لهم جفن – لإعلان بطلان أفكار لينين والطعن في شرعيّة ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر.
آراء بشأن انهيار الاتّحاد السوفييتيّ
كُتِبَ الكثير عن الانهيار الكبير والمدوِّي للاتِّحاد السوفييتي، ولكن معظم تلك الكتابات صيغ بلغة أيديولوجيَّة تتوخَّى تعزيز تصوّرات مسبقة. وسنضعها هنا في قسمين:
أ- رأي منظّري الغرب الرأسماليّ
وجد منظِّرو الغرب الرأسمالي، في انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، فرصتهم السانحة لتصفية حسابهم الطويل مع ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر والشيوعيّة، فشنّوا حملة أيديولوجيَّة مكثَّفة هدفها ليس فقط الشماتة بعدوٍّ انهزم، ولكن أيضاً تعزيز الموقف المعنوي والسياسي للنظام الرأسمالي العالميّ، وإحباط أيّ تفكير، أو أمل، لدى شعوب العالم الثالث أو فقراء المراكز الرأسماليَّة، بإمكانيَّة التغيير والخلاص من الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تمثِّله الرأسماليَّة.
وهكذا سارع منظِّرو البنتاغون إلى الإعلان بصيغة دراماتيكيّة أنَّ الرأسماليّة المتوحِّشة هي نهاية التاريخ. ولكي تكتمل هذه الأطروحة، بحثوا عن نمطٍ آخر من الصراع ليحلّ محلّ الصراع الطبقيّ ويلغيه؛ فتوصَّلوا إلى ما أسموه صراع الحضارات. وفي طريقهم إلى ذلك، اضطرّوا للوقوع في مغالطة كبرى؛ بتسميتهم الثقافات حضارات!
والواقع أنَّ العالم الآن (وحتَّى عندما كان الاتِّحاد السوفييتيّ، بمنظومته الاشتراكيّة، قائماً) يخضع لهيمنة حضارة واحدة هي الحضارة الرأسماليَّة.
أمَّا النظر إلى التفاوت في التطوُّر بين المجتمعات على أنَّه تعبير عن حضارات مختلفة، فهو ينمّ إمَّا على جهل أو على سوء نيَّة. فالتفاوت قانون أساسي من قوانين الرأسماليَّة، سواء أكان ذلك على مستوى البنية الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة للمراكز الرأسماليَّة نفسها، حيث يتمّ تهميش (وإقصاء) فئات اجتماعيَّة معيَّنة، أو على مستوى النظام الرأسماليّ الدوليّ ككلّ؛ حيث يتمّ إقصاء شعوب بكاملها وتهميشها.
ومثلما أنَّ التفاوت الاجتماعي في الدولة الواحدة لا يصنع نظامين اجتماعيّين مختلفين، بل نظاماً واحداً يقوم على الانقسام والتفاوت الطبقي، فكذلك الأمر في ما يتعلَّق بانقسام النظام الدولي إلى مراكز وأطراف.
وفي واقع الأمر، فإنَّه حتَّى الاتِّحاد السوفييتي نفسه، على ما كان بينه وبين الغرب من تناقض وصراع محتدم، لم يكن يمثِّل سوى حالة تمرُّد كبرى في إطار النظام، وليس نظاماً آخر. فالعالم بمجمله كان – آنذاك – مثلما هو الآن، محكوماً بقوانين الرأسماليَّة وليس بأيّ قوانين أخرى.
ب- رأي التائبين
الشيوعيّون الذين قفزوا إلى خندق الليبراليّة وأداروا ظهورهم لمبادئهم السابقة ولرفاق الأمس، بنوا موقفهم على أساس الاستنتاج بأنَّ التجربة كلّها، والفكرة بمجملها، إنَّما هي خطأ تاريخيّ. إذ لو لم تكن كذلك لكسبت الصراع.
وهذا تفكير انتهازي نفعي؛ يعتقد أصحابه أنَّ الحقّ دائماً مع الفريق الكاسب، ويعتبرون أن المعيار الحقيقي لصحَّة الأفكار هو كسبها للصراع، أمَّا إذا لم تكسبه، فهي على خطأ ولا تستحقّ أن يتبنَّاها أحد ويدافع عنها. والموقف الصحيح، في هذه الحالة، هو القفز إلى الخندق الآخر والشروع بالقتال منه، ضدَّ رفاق الأمس.
ولو كان هذا التفكير صحيحاً، لكان التاريخ قد انتهى منذ زمنٍ طويل.. وبالتحديد، منذ حَسْمِ أوَّل حالة صراع شهدها المجتمع البشري. ولَمَا حدث بعد ذلك أيّ تطوُّر ولما حدث أيّ تغيير.
ويكفي أن نستعيد وقائع تاريخ الرأسماليَّة نفسها، لنتأكَّد من خطأ مثل هذا التفكير؛ إذ أنَّها احتاجت إلى حوالي خمسة قرون لتصل إلى الوضع الذي وصلت إليه الآن. وفي أثناء ذلك، تعرَّضت للكثير من الانتكاسات والتراجعات التي بدا معها أنَّ التاريخ قد رجع إلى الوراء.
ولنتذكَّر أنَّ الثورة البورجوازيَّة في فرنسا، قد جرى الانقضاض عليها من الإقطاعيَّات الأوروبيَّة الحاكمة، آنذاك، وأعيد آلبوربون إلى عروشهم في أوروبّا، بالقوَّة، لفترة من الزمن. بل، أكثر من ذلك، فإنَّ نابليون بونابرت نفسه، الذي حمل راية الثورة إلى أصقاع أوروبا المختلفة، سرعان ما انقلب على مبادئ الثورة وأعلن نفسه إمبراطوراً. كما أنَّ انتفاضات 1848 انتهت بصعود أشخاصٍ هزيلين مِنْ مثل نابليون الصغير إلى سدّة السلطة.
ومِنْ ناحية أخرى، نسي الشيوعيون التائبون (وأرادوا لسواهم أن ينسى) أنَّ هذا النوع من الرأسماليَّة الذي أصبحوا متحمِّسين له الآن، كان موجوداً من قبل، وأنَّ وجوده قاد إلى الكثير من الحروب والمجاعات والثورات والأفكار والنظرات المضادَّة، وأنَّ الماركسيَّة وثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر 1917، كانت مِنْ أهمّ المحاولات وأبرزها للردّ على مظالم النظام الرأسمالي.
إنَّ أهمّ ما يتجاهله هؤلاء وأولئك، هو أنَّ انهيار الاتِّحاد السوفييتي أعاد المشكلة إلى أصلها، ووضع البشريَّة، من جديد، أمام جدول أعمالٍ قديم لم يتمّ إنجاز أهمّ بنوده بعد.
أطروحة الخلل البنيويّ
يرى كثيرون مِنْ ناقدي ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر والاتّحاد السوفييتيّ أنَّ الثورة كانت منذ البداية تعاني مِنْ خلل بنيويّ؛ بعضهم ينسبه إلى اللينينيّة حصراً، والبعض الآخر يتجاوز لينين ليحمّل المسؤوليّة إلى الماركسيّة. إنَّ مَنْ يقولون ذلك يتجاهلون الحقائق الأساسيّة المعروفة التالية:
أوَّلاً، الضغوط الهائلة التي واجهتها ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر والدولة السوفييتيَّة، منذ البداية، وكانت ذروتها التدخُّل العسكريّ الذي قامت به 14 دولة إمبرياليّة ضدّ الثورة ودولتها الوليدة. وحين فشل هذا التدخُّل، تمَّ فرض العزلة شبه التامَّة على الاتّحاد السوفييتيّ؛
ثانياً، العدوان النازي الغاشم والواسع على الاتّحاد السوفييتيّ في الحرب العالميّة الثانية. وفي بداية الحرب، راهن كثيرون في الغرب على أنَّ هتلر سيتمكَّن من القضاء على الدولة السوفييتيَّة المتمرِّدة، غير أنَّها صمدت، كما أنَّ هتلر وسَّع من نطاق هجومه ليشمل دول غرب أوروبا، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا؛
ثالثاً، بعدما وضعتْ الحربُ أوزارها، وجد الاتِّحاد السوفييتي نفسه مستنـزَفاً، ومدنه مدمَّرة، وقد خسر عدداً ضخماً مِنْ أبنائه في الحرب. وبالإضافة إلى هذا، جابهته حقيقة أخرى غير سارَّة؛ فالولايات المتَّحدة كشفت في أواخر الحرب عن امتلاكها للقنبلة النوويَّة من خلال تجريبها على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيَّتين. الأمر الذي فرض عليه، رغم الإنهاك الشديد الذي أصابه بسبب الحرب، بذل أقصى جهوده، ومسابقة الزمن، من أجل امتلاك تكنولوجيا القنبلة النوويَّة وتصنيعها.
رابعاً، بأسرع ممَّا كان متوقَّعاً، عاد الغرب إلى استخدام نبرة العداء لحليفه السابق في الحرب. وقد دشَّن هذه المرحلة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرتشل في العام 1946 بخطابه العدائي الشهير الذي اعتبره المؤرِّخون شارة البدء لانطلاق شرارة "الحرب الباردة".
خامساً، خرج الاستعمار من الكثير مِنْ بلدان العالم الثالث بعدما استنزفها وتركها قاعاً صفصفاً، وقد تولّى الاتّحاد السوفييتيّ مساندة تلك البلدان لتجاوز وضعها الصعب على حساب إمكاناته المحدودة وعلى حساب رفاهيّة شعبه. وما إنْ رفع كثير مِنْ تلك البلدان رأسه قليلاً، حتَّى أدار ظهره للسوفييت وارتمى في أحضان الاستعمار الجديد ليواصل نهب ثرواته.
رأي الشيوعيين في مسألة انهيار الاتّحاد السوفييتيّ:
بعضهم ألقى المسؤوليَّة على الغرب، واعتبر أنَّ كلّ ما حدث إنَّما هو نتيجة لمؤامرة كبرى حاكتها الدوائر الرأسماليَّة. وهذا التحليل، إضافة إلى كونه غير دقيق، فهو، قبل ذلك وبعده، غير ماركسي. فالماركسيَّة، مع أنَّها لم تغفل دور المؤامرة في التاريخ، إلا أنَّها لا تفسِّر التحوُّلات الكبرى بكونها نتيجة لسلسلة من المؤامرات. المؤامرة قد تكون عاملاً مساعداً، ولكن الشرط الأوَّل والحاسم لنجاحها هو وجود ظرف موضوعي يدفع بهذا الاتِّجاه.
البعض الآخر رأى أنَّ ما حدث كان سببه وجود أخطاء وانحرافات عن النظريَّة الصحيحة؛ وهذا مع أنَّ ماركس لم يضع تصوُّراً متكاملاً لكيفيَّة بناء الاشتراكيَّة، وركَّز جلّ عمله على نقد الرأسماليَّة. وبالتالي، فإنَّ تكوين المعرفة الحقيقيّة ببناء الاشتراكيّة إنَّما يُكتَسَب من العمل في بنائها.
وهناك مَنْ حاول ويحاول أن يفهم بصورة موضوعيَّة طبيعة التجربة وحدودها التاريخيّة؛ ما الذي أنجزته من الأهداف التي تبنَّتها وما الذي لم تسعفها حدودها التاريخيّة لإنجازه، وما هي المهامّ المطروحة على جدول أعمال التاريخ الآن.. الخ.
جدول أعمال التاريخ وجدول أعمال الثورة
التاريخ مليء بالمفارقات التي تحدث عادة بخلاف وعي القوى الفاعلة فيه وإرادتِها. فكثيراً ما كانت الخطط والتصوُّرات والأهداف شيء وما يتحقَّق في النهاية من مجمل النشاط المبذول في إطار ظرف تاريخي محدَّد شيءٌ آخر.
وذلك لأنَّ الناس، حين ينخرطون في العمل مِنْ أجل صناعة تاريخهم، لا يصنعونه مِنْ لا شيء، بل مِنْ مكوِّنات الواقع الاقتصاديّ الاجتماعيّ السياسيّ الثقافيّ الذي يعيشونه وضمن آفاقه ومحدِّداته. كما أنَّهم لا يصنعونه في سياق منفصل عن زمانه، أو منبتّاً عمَّا سبقه؛ بل إنَّهم، في أثناء صناعتهم له، يكونون هم أنفسهم مادَّته ووقوده. وبناء على ذلك، فإنَّهم لا يستطيعون النظر إليه ومراقبة خط سيره مِنْ خارجه، وإنَّما فقط مِنْ خلال نافذة العربة التي يستقلّونها فيه والزاوية الخاصَّة في تلك النافذة التي يطلّون منها، واعتماداً على اتِّجاه نظرهم، ومستويات إدراكهم، وأنماط تفكيرهم، وتباين مصالحهم، واختلاف أهوائهم.
يقول ماركس: "إنَّ الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنَّهم لا يصنعونه على هواهم. إنَّهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم بل في ظروف يواجَهون بها وهي معطاة لهم من الماضي". ويضرب مثلاً، على ذلك، بقوله: "إنَّ شعباً بأكمله (يقصد الشعب الفرنسيّ في زمن نابليون الصغير) كان يتصوَّر أنَّه قد سرَّع عن طريق الثورة تطوّره يجد نفسه فجأة يرجع إلى عصرٍ انقرض" ويوضّح قائلاً: "بدا أنَّ الدولة قد عادت إلى أقدم أشكالها حسب – إلى السيطرة البدائيَّة عديمة الحياء، سيطرة السيف والقلنسوة الكهنوتيَّة".
وقال سان جوست: "إنَّ قوَّة الأشياء تقودنا، على ما يبدو، إلى نتائج لم تخطر لنا في البال".
وبرأي سمير أمين فإنَّه "لا توجد قوانين تحدد مسار التاريخ قبل حدوثه بالفعل".
وفي حالة ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر، التي نحن بصددها، فقد كانت الخطَّة الأولى، أو المعلنة على الأقلّ، هي المباشرة بتدشين مرحلة الانتقال إلى الاشتراكيَّة، ولكن ما تمَّ الحصول عليه في النهاية هو رأسماليّة الدولة الوطنيّة (بذاتها).
ويبدو أنَّ لينين قد أدرك، مبكِّراً، أنَّ التجربة السوفييتيّة الوليدة تسير في طريق التحوّل إلى رأسماليَّة دولة وطنيَّة بذاتها (أي رأسماليّة دولة وطنيّة خاضعة بالكامل للضرورة التاريخيّة)؛ فوضع الخطّة الاقتصاديّة الجديدة "نيب" مِنْ أجل التحوّل إلى مسارٍ يقود إلى رأسماليَّة دولة وطنيَّة لذاتها؛ أي رأسماليّة دولة وطنيّة مسلّحة بوعي الضرورة التاريخيّة، فتتطوّر وفق برنامجٍ واعٍ ومدروس، يهدف في المدى البعيد (في الحالة السوفييتيّة) إلى وضع الأسس والقواعد اللازمة للانتقال إلى الاشتراكيّة.
ولكن، غياب لينين المبكِّر أحبط هذه العمليَّة المهمَّة. وبالنتيجة، وقع الاتِّحاد السوفييتيّ، بعد سنين طويلة، في براثن قوىً اقتصاديَّة وسياسيَّة رثَّة وجدت نفسها في تناقض تناحريّ مع علاقات الإنتاج الخاصّة برأسماليّة الدولة الوطنيّة. وهذه القوى هي التي دفعتْ الاتّحاد السوفييتيّ في النهاية إلى الانهيار؛ لكي تتطابق البنية الفوقيّة للدولة مع بنيتها التحتيّة ولتصبح علاقات الإنتاج معبِّرة بلا قيود عن مصالح تلك الفئات الرثَّة التي كانت مسيطرة.
وبرأيي، ربّما كان هذا يفسِّر التحوّل الانفجاريّ والمدمّر والمنفلت الذي حدث للدولة السوفييتيّة، كما شهدناه في أوائل تسعينيّات القرن الماضي.
بخلاف ذلك، سار التطوّر التاريخيّ للصين؛ لأنَّ القيادة السياسيَّة الصينيَّة حقَّقت سيطرة واعية ومبكِّرة على التحوُّلات الضروريَّة وأدارتها بصورة مأمونة.. فتمّ التحوّل، في الوقت المناسب، إلى نمط رأسماليّة الدولة الوطنيّة لذاتها، الأمر الذي أدَّى إلى تجنُّبُ الوقوعِ في قبضة القوى الاقتصاديَّة والسياسيَّة الرثَّة والوصول إلى الحالة الانفجاريّة التي انتهى بها الاتّحاد السوفييتيّ.
هل كان فشلاً مطلقاً؟
ينظر خصوم ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر إلى حصيلتها باعتبارها فشلاً مطلقاً. فهل هذه نظره منصفة ودقيقة؟
في الإجابة على هذا السؤال، فلنلتفت إلى الحقائق المهمّة التالية:
كان التمتّع بحقّ الاقتراع، في العديد من البلدان الأوروبيَّة، قبل ثوة تشرين الأوّل/أكتوبر، مقصوراً على الأثرياء، في حين كان سواهم محرومين منه؛ كما كانت المرأة محرومة منه أيضاً في مختلف أنحاء أوروبّا والغرب؛ والأمر نفسه كان ينطبق على الأقليَّات العرقيَّة في بعض تلك البلدان (الزنوج، في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال).
وفقط، بعد قيام الاتِّحاد السوفييتيّ، اُضطرّت الدول الغربيّة لجعل حقّ الاقتراع حقّاً عامّاً غير مشروط بامتلاك الثروة أو العقار، ومنحته للمرأة أيضاً؛ تمَّ ذلك في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال، في العام 1918، وفي فرنسا في العام 1945، وفي سويسرا في العام 1971. وبعد ذلك، انتشر هذا الحقّ في مختلف أنحاء العالم.
وتجدر، هنا، ملاحظة أنَّ المرأة السوفيتيَّة كانت قد حصلتْ على الاعتراف بحقوقها السياسيَّة والاجتماعيَّة المختلفة منذ العام 1917؛ بل إنَّها، آنذاك، تبوَّأت منصب الوزارة لأوَّل مرَّة في التاريخ؛ حيث تسلَّمت الثوريَّة الشهيرة ألكسندرا كولنتاي أهمّ وزارة في حكومة الثورة الأولى التي ترأسها لينين؛ وهي الوزارة التي أُسندتْ إليها مهمَّة إدارة التحوّلات الاشتراكيَّة في جميع أنحاء البلاد السوفيتيَّة. ومِنْ هنا، يمكن فهم مبادرة الولايات المتَّحدة لمنح حقّ التصويت للنساء في السنة التالية (1918).
1- هذه العدوى تكرَّرتْ، لاحقاً، لدى المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة، في مختلف المجالات، بما فيها المجال الاقتصاديّ الاجتماعيّ؛ حيث جاءت السياسة الاقتصاديَّة "الكنزيَّة"، في الولايات المتَّحدة، وسياسة ما أسماه سمير أمين "التحالف الاشتراكيّ الديمقراطيّ"، في أوروبّا الغربيَّة، كردّ فعل على تحدّي المنافسة السياسيَّة والاقتصاديّة مع الاتِّحاد السوفييتيّ؛
2- في المجال الثقافيّ، أطلقتْ ثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر ثورةً هائلة في الآداب والفنون والفكر ومختلف الجوانب الثقافيّة، على مستوى العالم كلّه. وآثار هذه الثورة لا تزال ممتدّة؛
3- كرَّست الثورة، على المستوى العالميّ، العديد من الحقوق الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والقيم والأفكار التقدميَّة؛
4- بالتوسّل بالخطاب الاشتراكيّ، تحرَّر العديد مِنْ بلدان العالم الثالث، ومِنْ ضمنها بلدان عربيَّة، مِنْ ربقة الاستعمار والتخلّف والتبعيَّة، وسار على طريق الاستقلال والتنمية الوطنيَّة.. حتَّى إنْ كان بعض تلك البلدان قد عاد لاحقاً فوقع في وهدة التبعيَّة.
لذلك كلّه، ما إن انهار الاتِّحاد السوفييتيّ، حتَّى استعادت المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة بيدها اليمين ما كانت قد قدَّمته مِنْ تنازلاتٍ ثانويَّة، بيدها اليسار، وعادت إلى صيغتها السابقة الأكثر تعبيراً عن جوهرها الحقيقيّ (أعني الليبراليَّة المتوحِّشة).
وبالمجمل، مثَّلت ثورة تشرين الأوّل/أكتوبر السوفييتيّة وارتداداتها، اختراقاً مهمّاً للنظام الرأسماليّ الدوليّ يؤشِّر إلى المستقبل، كما أنَّها صنعتْ دولتين عظميين؛ إحداهما كانت قبل ذلك متخلِّفة ونصف مهمَّشة (روسيا) والأخرى كانت مستعمَرة ومفكَّكة (الصين).
· الرئيس السابق لاتحاد الشيوعيين الأردنيين
#سعود_قبيلات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلمة موجّهة إلى الحِراك الأردنيّ وإلى الشعب الأردنيّ
-
نصفا الساعة الفارغ والملآن.. في «الشرق» و«الغرب»
-
وِشْ عرَّفك بالمراجل يا رِدِيّ الحَيل؟!
-
«إسرائيل» دولة ديمقراطيّة جدّاً
-
خطاب التحرّر الوطنيّ ونقائضه
-
بعض الذين فاهوا بآياتهم ومضوا
-
لماذا يكرهوننا؟
-
فجوة حضاريَّة هائلة
-
ليس رغماً عن التاريخ
-
عندما «اختفت» الطبقة العاملة!
-
أيَة دولة إسلاميَّة تلك التي تريدون؟
-
تسقط غرفة «الموك».. والعار للمتورّطين فيها
-
«سيريزا» اليونانيّ والعودة إلى الجذور
-
قرار مشين!
-
منذ المتوكِّل وحتَّى يومنا هذا
-
المسلمون أيَّام الرشيد كانوا يحتفلون بالأعياد المسيحيَّة
-
«حيثما مرَّ يعقوب زيَّادين»*
-
الذين يتلعثمون لدى تعريفهم للإرهاب
-
خطاب سياسيّ متعدِّد الوجوه
-
لنكن واضحين.. ولنضع النقاط على الحروف
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي
/ أنطونيو جرامشي
-
هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات
...
/ عبد الرحمان النوضة
-
بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا
/ مرتضى العبيدي
-
الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر
/ عبد السلام أديب
-
سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية
/ سفيان البالي
-
اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية
/ سامح سعيد عبود
-
أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول)
/ علاء سند بريك هنيدي
-
شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز
...
/ ابراهيم العثماني
-
نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال
...
/ وسام سعادة
-
النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب
/ سنثيا كريشاتي
المزيد.....
|