أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صيقع سيف الإسلام - الإنسان المتناقض















المزيد.....

الإنسان المتناقض


صيقع سيف الإسلام

الحوار المتمدن-العدد: 5775 - 2018 / 2 / 2 - 01:03
المحور: الادب والفن
    


أنا الآن في معرض الدفاع عن نفسي ، يلقبونني بالمحامي الفاشل ، ولم أعقد مع موكل منذ فترة . حسنا ، أنا أعكس التهمة و أقول : هم الفاشلون . خسرت قضايا كثيرة بحجة هي من نسق واحد ، يأتي على ذكرها خصمي في قاعة المحكمة ، أعني أنني أتناقض في حججي و استرسالي في التفاصيل ، وبناءا على هذا التناقض أخسر القضية ، على أنني أعترف كوني أبذل ما في وسعي حتى أجعل ما يصدر عني واضحا شفافا ، لكنه واضح دقيق دقة الشعرة ، و شفاف شفافية قطرة الماء الواحدة التي إن لم تملك عينا ثاقبة ستراها فقط وهي ضمن التراب تبلله أو تسيل فوق ورقة خضراء ، أما القطرة ذاتها بنقاءها التام فصعب جدا ، إذن لست فاشلا حتى في طريقة عرضي لما أضعه فوق الطاولة ، بل للزومية احتياجه ذهنا حادا و ذكاءا خلاقا و نفسية تشبه الماء و الزجاج الصافي . . . هذه الأفكار تطرق ذهني الآن و أنا أستعد كي أبرر تناقضي الذي يتهمني به القاضي و خصمي المحامي ، و حتى يفوز موكلي و يثق بي ، و يفهم عني جمهور المحكمة كلهم . قلت :
يا سيدي القاضي ، أيها السادة الأفاضل ، السيدات الفاضلات ، المحامون و هيئة المحلفين ، أود أن أتقدم باعتذار مسبق عن كوني سأخرج من نطاق محاكمتنا قليلا ، أحتاج فرصة ضئيلة و نافذة ضيقة لأثبت وجهة نظري عن الإنسان المتناقض ، و من خلالها أعود أشرح بناءا على فكرة الإنسان المتناقض أن أدلتي التي وضعتها على الطاولة متعاضدة متكاملة لا متنابذة متناقضة ، يا سيدي القاضي ، إن ما يجول في خاطرك و السادة الحضور هو أن كل كلامي و تحليلاتي و حججي تدين موكلي أكثر مما تقود نحو براءته . حسنا ، ليس الأمر بسيطا كما يبدو ، ذلك أن هناك قسمين للتناقض عند الإنسان ، التناقض الأول وهو المشهور بانتفاء اجتماع الاحتمالين ، أن يكون الأمر على هذه الشاكلة لا عن ضدها و نقيضها في الطرف الثاني ، و هذا خلاف ما أنا عليه حقيقة ، بل هو ما جال في بالكم و لازال . التناقض الثاني ليس في ذاته تناقضا حقيقيا بل هو فقط شيء على مستوى عال من الدقة و الشفافية ، و لقوة خفاء دقته و بعد غورها تبرز عند المتلقي تناقضا و لا تكاملا بل تضادا ، هذه حالتي معكم أيها السادة الأفاضل ، و لا تفهموا عني تذليلا لقوة أفكاركم ، بل افهموا عني مستوى على دقة أكبر ، و هذا ليس تناقضا من جديد ، على كل حال ، هذا ما أريد بيانه . لقد حضرت في إحدى الأمسيات معرضا فنيا هائلا ، ضم أعيانا و قامات كبرى في عالم الفن ، عالم اللوحات المرسومة أقصد ، هناك أمام هؤلاء القامات و عباقرة الفنون تم وضع لوحتين من شاكلة اللوحات التي تشبه اللطخ و البقع فقط ، هي لطخ و بقع بالنسبة لمن لا يحيط بكنهها أيها الأفاضل ، و إلا في رمزيتها و دلالتها بقايا إلهية صدقوني . آسف على استطرادي المخل مجددا . أعود فأكمل :
لقد كانت اللوحتان متشابهتان إلى حد بعيد ، الجمهور الحاضر كلهم اعتقد أنها نسخة مطابقة ، أنا أيضا ظننت ذلك ، بيد أن النقاد انطلقو في عملية تحليل و فحص شديد لكلا اللوحتين المتشابهتين ، فأما النتيجة التي خلص إليها النقاد فكانت كالآتي : كلهم إلا واحدا اعتبر أن اللوحتين لا يجمعهما رابط مشترك ، البقية من النقاد حكموا بأن اللوحتين من صنع فنان واحد ، وعند تبرير الناقد الشاذ عن حكمه باختلاف اللوحتين قال بأن هناك نقطة سوداء واحدة في الجهة اليمنى من اللوحة هي الفارق بين الللوحتين و أن اللوحة صاحبة النقطة السوداء من صنع فنان كان يرمز إلى إظهار التناقض في الدراما الإنسانية بمسحة تعبيرية داخلية ، أما اللوحة الثانية فهي من صنع هاوي لا يمت الفن بصلة ، والتشابه كان اتفاقيا فقط ، لكن تركيبة اللوحتين بالمعنى تبتعد بمسافة السماء عن الأرض . . . أيها السادة ، لقد تم التعرف لاحقا عن هوية من رسم اللوحة بغير النقطة السوداء ، لقد كان قردا يلعب بالألوان . أيها السادة إن اللوحتين متشابهتين أعظم التشابه ، تفصلهما نقطة سوداء واحدة غير بارزة ، لوحة رسمها قرد ، ولوحة رسمها فنان عظيم نسيت اسمه ، أيا ما يكن ، إنه برغم التشابه الفريد فلوحة تمثل سخافة و لعبا بالألوان ، وأخرى تمثل عملا إنسانيا دراميا عظيما يبخع له قامات الفن و الأدب ، فهل تدركون أيها الحضور الكريم أن يكون الفرق بين العملين على كل هذا المستوى من الدقة ، برغم أن غير ناقد واحد حكم بكون اللوحتين من صنع يد واحدة ، و لأن الأقدار تكون كريمة أحيانا فقد كان ضمن المحفل الفني أحد عباقرة الرياضيات ، ولم أستطع التعرف إليه بدءا ، كنت قد حكمت بأنه أبله من بلهاء القرى ، و هاهي القصة باختصار :
كنت واقفا بجانبه ، وكانت تصدر منه تصرفات غريبة تعرفت عليها لشبه هذه التصرفات بمجنون من بلدتي ، كان العبقري يلعب بأنفه كثيرا ، و ينظر للوحة و رأسه مقلوب ، يهترف ببعض الكلمات دونما سياق يجمعها أو مشترك يربطها ، حتى أن لعابه سال علي قليلا ، هذا إضافة إلى أشياء كثيرة أخرى لاحظتها عنه ، كان نسخة طبق الأصل من المجنون الذي يسكن بلدتي . في أول الأمر و لغرابة تصرفاته لم أملك الجرأة للنظر في وجهه ، لكن وحين اقترابي شدهت حتى خسرت توازني ، لقد كان العبقري هو نفسه المجنون من بلدتي ، يشبهه تماما ، بل لو وقف العبقري بجانب المجنون لما قدرت على التمييز بينهما ، و بقدر ما يتسم هذا بالغرابة فهو واقعي ، واقعي جدا صدقوني، أيها الجمهور المحترم . . . لاحقا علمت أن أن المجنون و العبقري كانو إخوة توأم ، فانظرو لدقة الفرق بين الجنون و العبقرية ، إن بينهما شعرة واحدة أيها السادة ، و لو أن أفرادا كثيرين شاهدوا العبقري لوصفوه بالجنون دونما ارتياب ، لقوة الشبهة فيه ، مثلما حدث لي ، كم كانت في تلك الساعة كلمات فيلسوف العبثية ألبير كامو صادقة : كل عبقرية هي في الوقت نفسها قريبة و تافهة ، وهي ليست شيئا إذا كانت إحداهما فقط ..
خلاصة ما أحب بلوغه هو : أن الإنسان العبقري الفنان البالغ من مستوى الوعي و الفهم الشيء الكثير و العميق ، عميق الأبعاد ، قلت هذا الإنسان يبدو في كثير من الحالات أنه متناقض ، و الواقع أن من يشاهده يرى التناقض وهو غير موجود أصالة ، فقط يحتاج براعة و رشاقة عالية لكي يمر المتلقي بين تلك الشقوق الرقيقة جدا ، و الحفر الغير واسعة . إن الإنسان المتناقض هو أحوج الناس إلى مزيد من قدرة التعبير عن النفس بوضوح ، فتفاقم العمق و البعد يجعل تعبير الإنسان يبدوا متناقضا و سطحيا ، ولو أن هذا الإنسان عينه امتنع عن الحديث و بلغ من القوة أن يكشف صدره و عقله دونما احتياج إلى لغة ، فالمتلقي سيفهم الصورة بوضوح وهو يشاهدها تسير في عقل و صدر هذا الإنسان العميق ، إن هناك بقية باقية دوما داخل الدماغ الإنساني لا تخرج و هي التي تحتوي على الجوهر الأساسي لما يريد الإنسان تفهميه لمن حوله ، و أقصى من يعاني من هذه البقية الباقية هو الإنسان العميق ، ولذلك هو بلا ريب صاحب طبع انطوائي ، ينعزل من حوله ، و يتحد بما حوله ، فمن حوله من الناس أشخاص ذوي بعد واحد مستقيم خطي ، يتهمونه دوما ، و ينعتونه بأنه أبله و غير مفهوم و متناقض و ساذج العقل ، لهذه الاتهامات يذهب الإنسان العميق كي يتحد بما حوله ، ما حوله من الأشياء العميقة ، الفنون ، الكتب المقدسة ذات الدلالات الرمزية القوية ، و العلوم التجريدية التي تختزل الطبيعة في قانون واحد ، و لنقل الكون كله بما هو ضمن آخر بلايين السنين . . . درجة عمق غائرة هي أمر يتجاوز حدود اللغة البشرية الساذجة التي لا تعرف كيف تصوغ تلك الأعماق كي تبرزها على صورتها الحقيقية المثالية ، و ليس الفن و الرمزية و التشفير و الإشارة و كل الأساليب البشرية إلا إثبات لعجز وقصور هذا القاموس من الكلمات الذي يتواصل به بنو الإنسان . العميق ذاك الإنسان ليس متاحا للفهم و التمتع بمدى عمقه إلا بنظير له يقاربه في العمق و بعد الغور ، أقول : إنسان عميق متاح له فقط عميق آخر يشبهه ، عدا هذا سينجم اتجاه و مقاربة للجنون أو التصوف العظيم ، سينجم راهب عظيم أو عدمي مجنون ، حيث الحاجة إلى الآخر الإنساني لازم بوعينا أو بغير وعينا ، بواسطة أو بدون واسطة ، و الإنسان العميق إما أن يجد غناه في الله المطلق فيصبح راهبا عظيما ، أو أن لا يجد غناه في ذلك فيكون عدميا مجنونا ، و على درجة العمق تكمن درجة هذا وذاك .
اعتذر أيها القاضي على هذا الاستطراد البعيد عن موضوع محاكمتنا اليوم ، أردت فقط بيان أن ما أتيت به ضمن الدفاع عن موكلي هو شيء يمتاز بتناسق شديد ، ولفرط دقته غاب التناسق في الأذهان و استحال إلى تضارب و تصادم غير مقبول ، هكذا عدلت كي أثبت أنني الإنسان المتناقض بمعناه الإنسان العميق جدا ، حتى إذا اتضح هذا يا سيدي الفاضل ، صار بإمكاني توضيح ما جاء في معارضتي و طرحي ، و لأني تكلمت بصيغة عامة ، فالربط بين ما شرحته الآن وبين قضيتي لازال لم يحدث ، فأنا أقدم استقالتي الآن و أعتزل القضية ، كوني أعلم ما أنا بصدده سينتج تناقضا آخر ليس إلا ، فأطلب التوفيق لموكلي وللجميع ، و أعطي الساحة لمحامي يجيد التعبير عما يجول داخل عقله و صدره ، يجيد بعث الصدى الذي يحوم بين تلافيف خلاياه . . . هكذا أنا أعتزل المحاماة مرة و للأبد ، شكرا لاستماعكم أيها السادة.
خرجت من المحكمة و أنا أعلم أني فوت فرصة انقاذ موكلي من تهمته ، ذلك أني لا أدافع إلا عن بريء ، لكنها كانت لتكون مضيعة للوقت ، أن أبين لهم أني ذلك الإنسان العميق هو تماما أن أبقى أشرح لوحة النقطة السوداء أنها ليست لوحة القرد ، سأبقى أشرح لعشرين سنة دون فائدة .



#صيقع_سيف_الإسلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجندي المنتحر
- مرض الوعي
- العبقري الأبله
- البطل الفكرة
- كيف قتلت أبي ؟
- الطموح و الهوية
- المثالية
- الملحمة
- حقيقة الخديعة
- الحلم
- الشطرنج
- المومس و القديس
- الحب في الوجودية
- معطف أوربان
- ميلينكوليا
- من أخطأ ؟
- الاحتواء
- حفيد شوبنهاور
- كيف أصبحت ملحدا ؟
- المحاكمة


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صيقع سيف الإسلام - الإنسان المتناقض