أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صيقع سيف الإسلام - الجندي المنتحر















المزيد.....

الجندي المنتحر


صيقع سيف الإسلام

الحوار المتمدن-العدد: 5743 - 2017 / 12 / 31 - 10:32
المحور: الادب والفن
    



كانت النهاية وشيكة ، الألمان يحاصروننا ، ولم يبقى منا إلا شرذمة تنافح من غير طائل . لا شك أن المحاصرة الضيقة تفرض شجاعة في القتال أكثر و اندفاعا حماسيا نحو الرصاص و البنادق ، لكن لم يصدر هذا الحماس و الاندفاع إلا من جندي واحد كان يقف محاذيا لي و يستعرض بطولة عظمى ، أطلقت في نفسي ثورة من الغضب فأشحن وأعيد شحن سلاحي ، اصطاد النازيين اصطياد الفئران ، ألتفت لبقية جنود الوحدة أن افعلوا مثل فعل هذا الجندي ، ولكنهم راحوا يتساءلون مشككين في وجوده من أصله ، يبدو أن أحدا لم يره سواي ، هل الحرب و اقتراب زحف الألمان أذهب نفوسهم ، ربما اقتراب الموت له أمارات تشبه هذه الأمارات . . . كانت ذراعي تنزف من مدة و خوذة رأسي قد تهشمت ، و صارت أنفاسي تتثاقل مع رؤية يحجبها ضباب وهمي من كثرة الإصابات التي تلقيتها ، أنا لا أحلم ، أعلم ذلك ، لكن هل أنا مستيقظ ؟ . تلك قضية لست واثقا منها ، غير أنني واصلت التحفيز و بعث الأمل في صدور أصدقائي الحقيقيين أو المزيفين ، ، أمل يعزف على أوتار من رصاص و يلحن مع قصائد البارود المهيمن فوق رؤوسنا . فجأة أسقط ذاك الجندي البطل سلاحه و التفت إلي . كان وجهه يشبه وجه صبي صغير في العاشرة من عمره ، و لكنه لم يكن أ ي وجه ، كان وجهي أنا بالذات لما بلغت العاشرة مني عمري ، و قد دهشت مرعوبا ، حتى أنني لوهلة اعتبرته جاسوسا ألمانيا تسلل بين صفوفنا ، جاسوس يحمل وجهي وأنا في سن العاشرة ، حاولت أن أتقدم نحوه ، إلا أن قواي خائرة منهكة من نزيف ذراعي المستمر ، من إصابة رأسي التي أفقدتني تركيزي ، ولم يدم الأمر طويلا حتى تكلم ذاك الجندي الذي يحمل وجهي الصغير .

قال : « هاه يا كيريلوف أيها الحقير ، أيها الأناني . . . هل تظن أنك هنا تصنع البطولة لنفسك ضد الألمان ، حتى يقال غدا أنظروا جنديا باسلا شهيدا مات عام 1945 ، إنني هنا لأطلعك على سبب تواجدك الحقيقي في بقعة المعركة هذه ، أيها الحقير الدنيء ، أنت هنا لتنتحر برصاصة غيرك لا أكثر ، فاسمع يا كيريلوف :

إنك إنسان كنت تصاب بالصرع كثيرا ، إنسان تأتيك نوبات عسيرة على رأسك حتى يسيل ريقك و تتشنج عضلاتك لتكون مشلولة ، ثم تصاحب هذه الأعراض منك صرخة قاسية يمكن أن تقتل شخصا يسمعها لأول مرة . إن أعراضك هذه وبقدر ما تبدو أنها وراثية عادية لكنها ليست كذلك أبدا ، في عمقها تأتي من سبب نفسي تراكم نتيجة ضمير يعذبك و يخزك بشدة على جريمة فكرت فيها ، على ذنب ارتكبته و لم ترتكبه ، أقول على تفكيرك في قتل أبيك و التخلص منه بشكل عنيف قاس تتلذذ به ، تنتقم منه ، على أن أباك ليس بذاك السوء ، وإنما قدرتك على متابعة أصغر التفاصيل وأهون التافهات يخلق داخلك رغبة عارمة في تسطير أباك على مسطرتك أنت ، و لأنك لم تجرؤ على قتل أبيك بيديك ، قتلته ألف مرة في ذهنك و دماغك ، عذبته بما تشتهي داخل نفسك و هذا كان كفيلا في إيقاظ ضميرك حتى يسلخ أفكارك الشائهة و يخزك وخزا عنيفا ينبئك ببشاعة الموضوع ، بقبح سريرتك . و صحيح ، من لم يفكر في قتل أبيه ، لكنه ليس كتفكيرك و لا كتأملاتك و حنقك البغيض كلون القطران ينزل نزولا عفنا فيشوه المكان . . . بعد موت أبيك ، استعاد ضميرك قوته وصار يوبخك ساعة إثر ساعة ، فيهزك لتبكي كلما شاهدت ابنا يمسك راحة يد أبيه ، وكلما سرد لك أب جمال طفله الوحيد ، و في وعيك كنت تظن أنك بريء من موت والدك ، فقد رحل كما يرحل الناس ، إلا أن عقلك الباطن و أناك العليا و لاشعورك الدفين كان يتهم نفسه بتهمة القتل ، و يستذكر في كل مشهد أفكارك في إعدام والدك من الوجود ، و أناك العليا لا تفرق بين فكرة و حقيقة ، الأمر عندها كله حقيقة كائن له وجود ، فإذا جاءت أناك العليا توبخك على جريمتك اتجاه والدك ، هناك تصاب بنوبة الصرع و تأتيك الصرخة من شدة الوجع في رأسك و يبلل ريقك رداءك و تتشنج عضلاتك ، لقد كنت يا كيريلوف تعاقب نفسك بنفسك على جريمتك التي ارتكبتها و لم ترتكبها ، كان عليك لترتاح من وطأة ذكرى جريمتك أن تعذب نفسك بشدة حتى تهنأ روحك قليلا ، كأنك في كل مرة تدفع ثمنا لمن استدنت من عنده ، كأنك تجمع كل نوبة ألم وصرع مع أخواتها عبر السنين في معادلة مساوية للموت ، نعم ، هذا ما كنت تصنعه قبل أن تأتي بفكرة الانضمام للحرب يا كريريلوف الحقير، بفكرة الانتحار برصاصة غيرك، أنت لم ترد أن يقتلك العدو ، أنت أردت قتل نفسك بنفسك برصاصة ليست ملكك فقط و في هذا أعظم الجبن . قبل الحرب اعتبرت الموت رقما معينا كعشرة ، وكنت تفكر أن كل نوبة صرع و ألم مهلك هو فرد من تلك العشرة ، حتى إذا اجتمعت لك عشر نوبات ، كنت قد قتلت نفسك قصاصا لذكرى أبيك ، غير أن هذا كذب جميل ، فلن تعادل الموت مليون نوبة صرع منك ، ولن تسترد والدك ، لن تسترد ذكرى تعيد ضميرك للراحة . إن إحاطتك بفكرة لا تساوي الموت ومجموع نوبات صرعك جعلك تفكر بالانتحار ، لكنك أجبن من ذلك حينها ، فكل نوبة صرع تعطيك ألما كفدية صغيرة كان يمدك بأمل أن تموت في إحدى نوبات صرعك و يرتاح ضميرك مرة واحدة ، فإذا انهكك مرضك هذا انطفأت معه فكرة الانتحار داخلك ، فقمت بتأجيلها ليوم آخر ، و تأجيل مع تأجيل أفهمك أنك جبان ، فرحت تعتقد أن الحل هو الدفاع عن بلدك ، رحت تضع في وعيك أهدافا موهومة : أن تنفع أصدقائك ، أن تنقذ عائلات من قبضة أتباع هتلر ، أن تفتك بسرطان النازية الذي سيدمر الكوكب . . . الخ . لكن هل تعلم أن هذا جميعه هراء هراء هراء .

أناك العليا هي ما حركتك ، ضميرك هو ما دفعك للمشاركة في الحرب ، لقد سعيت في مقاتلة الألمان كي يقتلوك و يعذبوك شر تعذيب ، أردت منهم أن يمسكوك فيعملون فيك أضعاف آلام نوبات صرعك ، حتى تقدم فدية أعظم و أكبر لوالدك الراحل ، لم تكن شجاعا كي تقضي على نفسك ، بل أردت الحرب أن تكون يدا ثالثة لك هي التي تحشر سكينا معكوفا يبقرك فتنتهي من الحياة ، يداك الاثنان لم ينفعاك فقد خضعتا لغريزة البقاء الحاكمة على غريزة الضمير و العقل لديك ، و ما كل تحفيزك للجنود و تحميسك للحرب إلا بهرجة زائفة ، داخلك كنت تصرخ بشدة و تريد معانقة الرصاص و تقبيله بشوق .
إنك يا كيريلوف من النوع الإنساني صاحب الاحساس المرهف و الشر الكامن معا ، فبالشر الكامن يرتكب هذا الإنسان أعظم جريمة له ، و بالإحساس المرهف لديه يبقى يتألم من جريمته تلك مدى حياته ، ولأنه إنسان فاشل ليس الإنسان السوبرمان ، فهو لن يتجه للانتحار بل سيتجه لكل الأعمال الخطيرة و التي تحتمل في نهايتها الموت ، هو يريد أن ينتحر لكن بسلاح غيره ، و إذن علينا أن نقول أن قاتله لم يقتله بل هو قتل نفسه ، ومثلما قد يستند إنسان بجسمه على رمح مرشوقة فتعبر بطنه وظهره مبزقة دمه مميتة إياه ، فكذلك العمل الخطير الذي يقتل في الأخير ليس إلا أداة مثل هذا الرمح عند هذا النوع الإنساني الذي يشبهك يا كيريلوف . . . إنك تنتحر برصاصة غيرك لأنك لست خائفا من غريزتك للبقاء فقط بل خائف أيضا من الناس و المجتمع ، خائف من ذويك . إنك تهرب من قتل نفسك لقتل نفسك بغيرك ذلك أنك متوجس من فكرة السبب الكاف ، هذه معضلتك ، فما يقول عنك الناس إذا انتحرت ؟ . هم يقولون : قتل نفسه لأجل تفاهة ... قتل نفسه لأنه بليد صاحب عقل متدني ... كما أن إحساسك المرهف يقوي من جريمتك في تصورك ، فأيضا بهذا الإحساس المرهف تموت رعبا من أن يعتبر عملك الأخير هذا وهو انتحارك ، قلت تخاف بفرائس مرتعدة أن يعتبر عملك سخيفا يشفق عليه لا عملا فنيا عظيما . إن أهم شيء في قضية الإنتحار هو السبب الكاف الذي يوجب هذا الفعل ، السبب الكاف للإقدام على ترك الحياة بإرادة حرة مستقلة هو ما يقض مضجع كل صاحب تفكير انتحاري مثلك يا كيريلوف ، فإذا توفر السبب الكاف لا تجد ترددا في أن يقتل المرء نفسه ، بيد أن عدم توفر السبب الكاف يخلق هاجسا مقلقا ، و هو بضربة واحدة يعني :

أن المنتحر يقدم على نحت لوحة فنية عظيمة منه هو ذاته ، لوحة من لحمه و دمه لا من ورق و حبر . المنتحر صاحب السبب الكاف يعتقد في انتحاره عملا عظيما ، لأنه آخر شيء يصنعه قبل أن يتوارى للعدم ، و من إخلاصه لفكرة إزهاق روحه يجب عليه أن يخلق من عمله الأخير في الحياة عملا جبارا يشبه التوقيع الأخير ، إلا أن أمثالك يا كيريلوف من أصحاب الإحساس المرهف و الشر الكامن يعلمون أن جريمتهم التي تؤذي ضميرهم سبب كاف لهم لا لغيرهم ، ولو سمعك أحد يا كيريلوف تشرح سبب محاولتك للانتحار بمجرد تفكيرك الشيطاني في قتل والدك لضحك طويلا ، غير أنه سبب كاف بالنسبة لك لان درجة ألمه عالية عندك ، و بحيث لا تقوى على الانتحار مخافة الناس ، هناك أنت تنتحر بطريقة غموضية باقتحام أعمال خطيرة قد تودي بحياتك ، كمشاركتك في الحرب ضد النازيين . العجيب في الأمر أن صاحب الإحساس المرهف و الشر الكامن أمثالك يا كيريلوف الحقير أنه يجهل جريمته الداخلية ، هو لا يعرف أنها موجودة و تؤذيه ، هو فقط يشعر بصهيدها و سخونتها الحارقة ، وربما حتى نسبها لأمور ثانية ، وهو عدا جهله بجريمته يجهل أيضا أنه يقتحم الأعمال الخطيرة كاقتحامك الحرب لأجل أن ينتحر فقط ، هو لا يريد العودة سالما حتى يسكت ذاك الصهيد عن حرقه ، هو مستعد في كل لحظة ولو أن يستفز طفلا صغيرا حتى يشتمه الطفل و يلذعه و ينادي على أصحابه الصغار كي يرجموه فيموت بإصابة من ذاك الرجم ، ولو وجد طريقا يسمح لشتيمة ذاك الطفل أن تقتله لفعل دون هوادة كي ينتحر بشتيمة .
أريدك أن تقوم يا كيريلوف الحقير و تنتحر ببطولة ، تنتحر انتحار السوبرمان ، لا انتحارك برصاصة غيرك »

كيريلوف .. كيريلوف . . . كان صديقي يهمس في أذني لكي يوقظني . استيقظت لأجد نفسي في كوخ منعزل بمسافة معتبرة عن موقع المعركة ، ولم أعلم هل أنا حملت الجندي الذي معي إلى ذلك الكوخ ، أم هو حملني ، فقد كانت إصابته خطيرة جدا و لا يستطيع حتى الكلام ، ممدد على أرضية من القش ينزف بشدة ، لا يقوى حتى على تحريك أعضائه ، و كان يرفع إصبعا بمشقة بالغة كأنه يستعطفني لكي أهرب به و لا أتركه لأتباع هتلر السفاحين . نظراته الضئيلة المنطفئة في داخلها لا يزال بريق من الحياة و الأمل ، حينذاك مددت يدي إلى نصلتي و قطعت وريده في خفة سريعة أنهت معاناته . أنهيت معاناته لا لأنه كان يتألم فمنحته قتلا رحيما ، بل قتلته لأنني لم أرده أن يشهدني انتحر . لو بقي حيا لنقص و رآني أزهق روحي إذن لنقص إخلاصي لقضيتي ، لم تعد من أجلي فقط ، و لن يكون عملي فنيا عظيما ما لم يحوي إخلاصا تاما ، إخلاصا تاما مني لا يشهده بشر ، بل و لن أمسك حتى قطعة الفحم تلك وأكتب رسالتي الأخيرة على خشب هذا الكوخ ، فإن في تركي للرسالة انتقاص من إخلاصي لقضيتي ، انتقاص لإيماني بقضيتي ، أنا فقط من سيشهد هذه الملحمة و أنا فقط من سيحكم عليها ، أنا الجلاد و الضحية ، أنا الرسام و الناقد ، أنا المؤلف و المصحح ، كل في ذات واحدة هي ذاتي ، لا أفضل من إخلاصي لنفسي سيحكم على عظمة عملي هذا الذي سأقدم عليه ، غير أنني سأتكلم و أحاور . . . أتكلم وأحاور ذاك الطفل داخلي ، ذاك الطفل الذي ظهر وجهه على الجندي المحاذي لي ، سأعلل قضيتي أمام نفسي ، فلا أحد يستحق غير نفسي ، و ما النفع من الناس إذا انعدمت أنا ، فأولى من يستحق التعليل و التبرير ذاتي نفسها ، ذات ذاك الطفل ، فاسمع يا أنا ، فاسمع يا كيريلوف الصغير :

صحيح و جائز أنني قدمت للحرب كي أقتل نفسي برصاصة غيري كوني امتلكت تلك الأفكار الشيطانية حول قتل أبي ، لكن الآن تلاشى كل ذلك ، بل و حل محل الإحساس المرهف يقين بقدسية فكرتي ، و من ثم استطعت أن أحصل على أعظم سبب كاف في هذا ، وهو تفوق غريزة عقلي على غريزة جسدي للبقاء ، على أن حصول هذا يستدعي أنني بلغت مرحلة الجنون ، لكن لا فما زالت لي مسكة من عقل و ذرة من وعي بها أجعل قراري محكوما بحرية اختياري ، ومعلوم أن الجنون لا حرية فيه ، ولذلك أنا المجنون اللامجنون . بدءا أريد بانتحاري أن أثبت حريتي و استقلاليتي ، إنني لم آت لهذا العالم عن طواعية ، بل أتيت قهرا و قسرا ، فأنا لم أختر أن أوجد في هذا الكون وان أكون ابن فلان و فلانة ، هم أجبروني كما يجبر السيد العبد ، فإذا جئت لهذا العالم من غير ما اختيار لي ، فأنا لا أملك حرية إرادة ، وأعيش هنا بين كل هذا بسبب لاحرية الإرادة ، وعليه أريد أن أثبت وجودي و استقلاليتي ، أريد أن أثبت أنني المتحكم ، أنني إله نفسي و لا إله علي ، و عليه مجددا لا يبرز قدر عظمة استقلاليتي و ألوهيتي لنفسي إلا حينما اسلب روحي جسدها ، حينما أقضي على ذاتي ، هكذا فقط أثبت سيادتي و إرادتي الحرة المطلقة ، لأنني أنا من يتحكم في الدقيقة و الثانية و الأسلوب ، في الثانية رقم خمسة أو خمسون ، بأسلوب ساطور أو رصاصة أو قفز أو نصلة أو قطع نفس ... الخ . تحكمي في طريقة مغادرتي للحياة هو اثبات لحريتي و ألوهيتي ، و تحكمي من جهة في نية ترك الحياة هو إثبات لتمردي على عدم قبول هذا العالم و عدم قبول العيش في هذه الزنزانة الواسعة المليئة بالأحزان و الآلام ، اعلان تمردي هو أيضا اعلان لشيء اسمه « أنا »

لكن كيف أصل لمستوى تفوق العقل على الغريزة ، لمستوى الإنسان السوبرمان ، ثم لمستوى الانتحار لاثبات الذات . . . و الجواب : الوصول يتم بالألم ، يتم بمرض الوعي . أن يكون لك إدراك من جهة وأن تعيش في قفص معنوي من جهة ثانية هي تلك المقادير الأساسية في صحن الانتحار ، هو ذاك الإنسان الواعي بشكل كبير و المتقوقع في بلدة حقيرة مملوءة بالأمراض النفسية و الجسدية ، مملوءة بأولئكم الذين لا حيلة لك في انقاذهم ، و لا حيلة في الانقاذ إلا حيلة الانتحار و التي إن لم يقدمها المرء لنفسه فلن يقدمها له أحد ، أعود فأقول : البلدة الحقيرة التي تنهار فيها طموحاتك ، و تبتعد أهدافك عنك ، فلا تجتمع هويتك بطموحك لكي تتجسد ذاتك الحقيقية النهائية ، لكن فقط أنت تعيش مقهورا بالظروف و الحوادث المتتابعة ، فتنكسر توقعاتك و تصاب بالعطب النفسي المرضي ، أو تذهب تبحث عن ذاتك بجريمة تجترمها ، تريد أن تملأ فراغا أنت تجهل ما يمكن وضعه فيه ، تريد أن تسد فجوة وفجوة و فجوات ، لكن من غير طائل ، ما أشبهك بالدمية التي تمسكها صبية صغيرة ، ما أشبهك بكاترينا كوزيت تلاعبها و تحركها كيفما شاءت ، تلبسها ما أرادت و تزوجها بمن تهوى . الدمية لا محل لها في الاختيار ، أنت مثل دمية و أنت الدمية . أن تكون مشروعا فاشلا ، فلا تنجح في استثمار حياتك استثمارا يليق بكونك خليقة لرب مطلق ، و لهذا أنت خسران لا يريده الله ، هو بانتحارك يفرح بك ، لأنك أخيرا جعلت من حياتك مغزى و لوحة فنية عظيمة ، أما الجحيم فالحق أقول : جحيمنا الأعظم نحن المنتحرين أننا فشلنا فلم نعرف كيف نحيا ، و هو جحيم قبل القيامة ، هو جحيم هربنا منه بقتلنا لأنفسنا فلم نحتمل عذابه ، حتى إذا استوى هذا و هزل الجسد ووهنت غريزته و تضعضعت قوته للبقاء ، استحال العقل لسيد و رئيس عليه ليخبره بمذهب اللاجدوى في حياته كلها ، اللاجدوى في الاستمرار ، أن تحارب الكوليرا فتأتي الحصبة ، وأن تسقط الشيوعية فتنبجس الفاشية ، أن تحب أمك وغدا تنساها ، وان تقتل عدوك وغدا تقف على قبره تبكي ، كله هبل من الحلقات المفرغة التي لا صفة لها حقيقية إلا صفة التكرار و الاستمرارية دونما معنى . . . أن انتحر معناه أنني أقف ضد اللاجدوى ، أنني أتمرد فأضع حدا لهذه السلسلة المتصلة الفارغة من المعاني ، الوليدة التكرار و التكرار . تمردي بالانتحار هو إثبات لوجودي أنني خارج كل هذه القوالب و الأقفاص ، لست أسيرا لها ، بل سيدا عليها حينما انتحرت و تركتها . أنا أنهي أنفاسي في هذه الثانية التي أختارها . أنا أنهي أنفاسي بالطريقة التي أختارها . أنا أنهي أنفاسي لأنني لم أختر أن أوجد ضمن هذا العالم . أنا أنهي أنفاسي لأنني لا أريد استمرارية فارغة . . . المسألة كلها مسألة اختيار و إرادة فالمنتحر هو صاحب الاختيار المطلق لانه لا اختيار فيما عدا أن تترك الحياة كونك أتيت مجبورا مقهورا ، فأنا كيريلوف أعتلي قائمة الإنسان ، أنا كيريلوف السوبرمان لأنني استطعت تحقيق الفكرة الوحيدة التي يمكن من ورائها أن يقول الإنسان لفظة « أنا » .

أنا كيريلوف السوبرمان لأنني سأتلذذ باختياري الوحيد ، اختيار الانتحار ، لن أتأوه أو أتألم ، لن أطلق صيحة بل زغاريد ، هاهي نصلتي أمسكها ، ها أنا أنتحر بأشبع طريقة للدمى ، لكنها أدل طريقة على اثبات الاختيار ، أنتحر مخلصا لقضيتي و ذاتي ، سأنتحر بما يمكن أن يقال فيه أصعب وسيلة مؤلمة و مرهقة ، ولن تكون لي مؤلمة بل كالحلوى و لن تكون مرهقة بل هي رشيقة كالوردة ، لأنني أحب نصلتي ، ها قد جرحت معصمي ، ها قد بقرت بطني ، لذة أن أرى دمائي ، لن يشركني بشر في ملامسة دمائي الحمراء ، لن يشركني أحد في ازدياد نبض عروقي ، كله لي ، كله لذتي ، هي ليست دمائي أو عروقي النابضة من النزيف ، هي اختياري و إثباتي لذاتي ، هي الأنا التي فقدتها دوما و أنا على قيد الحياة ، أتذوقها الآن ، أتلذذها . . . ما أطعم هذا الدم في فمي ، ما أملحه ، ها قد طعنت رقبتي ، ها أنا أسقط ، السقطة من اختياري ، السقطة من ذاتي ، كله لي ، هي سمفونيتي التي عزفتها باختياري حقا ، بإرادتي الحرة ، و هاهي الظلمة تكبر و تتسع ، تتجه نحوي ، الظلمة من إرادتي ، كله لي . . . و الآن انتهى كل شيء .



#صيقع_سيف_الإسلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرض الوعي
- العبقري الأبله
- البطل الفكرة
- كيف قتلت أبي ؟
- الطموح و الهوية
- المثالية
- الملحمة
- حقيقة الخديعة
- الحلم
- الشطرنج
- المومس و القديس
- الحب في الوجودية
- معطف أوربان
- ميلينكوليا
- من أخطأ ؟
- الاحتواء
- حفيد شوبنهاور
- كيف أصبحت ملحدا ؟
- المحاكمة
- الزنزانة


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صيقع سيف الإسلام - الجندي المنتحر