|
في المناجير
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 5761 - 2018 / 1 / 18 - 18:37
المحور:
الادب والفن
المناجير، ضيعة أو قرية صغيرة منفصلة عن بقية الضيع جذريًا بكل شيء. سكانها من الحضر في محيط ريفي كبير. سكانها، جاؤوا من مدن صغيرة كرأس العين والقامشلي والحسكة وعاموا وديريك والدرباسية بحثًا عن عمل لدى الدولة التي كانت توفر للعمال الأمان والراتب الثابت والعمل الثابت. أغلبهم صاحب حرفة أو مهن حديثة: ميكانيك، كهرباء سيارة، صواج، لحام. تدخل السيارة إلى الكراج مهترئة وتخرج كالعروس في يوم زفافها. جميع سكانها جدد. عدد قليل من بيوتها يلتف حول الكراج أو المصلحة كما كانوا يطلقون عليها. ويمتد فراغ طويل يصل إلى ثلاثين مترًا. هناك كان يقع بيتنا وبيت أرسين، وبيدروس ويوسف. وإلى مسافة عشرة أمتار بنيت المدرسة الابتدائية من اللبن أي الطين والقش، وفيها معلم واحد اسمه حسن جاء من الساحل السوري ليدرس أبناء المناجير والقرى البعيدة والقريبة. في تلك الفترة دخلت المدرسة ومكثت هناك مع أهلي بضعة شهور وانتقلنا إلى الحسكة. كان لدينا كتاب للفصل الأول اسمه دادا دادا مقرر من الدولة. وفي الفصل الثاني كتاب آخر اسمه طارا طارا. قلت لأمي: ـ لدينا درس اسمه / ز/، / زير/، / وز، زر/، / أزيز/. أريد أن تقرأين لي. قالت: ـ لا أعرف القراءة والكتابة. بكيت كثيرًا ذلك اليوم. قلت لها: ـ لدي واجب غدًا. المعلم سيسمعنا الدرس. قالت: ـ والله العظيم لا أعرف يا ابني. ثم التفت إلى أختي أنجيل التي كانت تحمل أخي الرضيع. والتي درست معي في الروضة والحضانة في مدرسة الأرمن قبل أن ننتقل إلى المناجير. وكانت تتمتع بالذكاء الحاد والفطنة. وكانت تكبرني سنة. ـ علمي أخيك الدرس. وضعت أخي الصغير في حضنها وأشارت إلى صورة لطفل صغير يحمل خيطًا في رأسه زنبور: ـ تعال لأعلمك. اقرأ معي. / ز/ زر/. بمجرد أن نطقت هذين الحرفين. قلت لها: ـ توقفي عن القراءة. إنك تعلميني غلط. المعلم شرح لنا الدرس بطريقة مختلفة. قالت: ـ إنني أعلمك ما هو مكتوب في الكتاب. غضبت ذلك اليوم كثيرًا. ولم يكن في الجوار من يعرف القراءة والكتابة. كانت الأرض قاحلة. جميع العمال كانوا أميين لا يحسنون القراءة والكتابة. بقيت حائرًا لا أعرف ماذا أفعل. في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة التي تبعد عشرة أمتار عن البيت. وبعد أن أصغى المعلم حسن للواجبات الدراسية، وعلم أنني لا أحسن القراءة قال لي: ـ عليك أنت وأنت، وأنتم. أربعة أطفال. وكنت أحدهم. عليكم أن ترفعوا أيديكم عاليًا في الهواء. قفوا على رجل واحدة. أنتم سجناء خلال فترة الاستراحة. أي مدة ربع ساعة. كنت في منتهى الحزن والألم. وسمعت بالسجن. ورأيت والدي خلف القضبان في السابق. وبقيت تلك الصورة النمطية في ذهني مؤلمة وقاسية. وقتها بكيت كثيرًا. منع الشرطة أن احضنه. بقي بضعة أيام وخرج. ضحكته الصفراء الحزينة كانت مرسومة أمام عيني لا تخفيها العين العادية، فما البال بالإنسان الثاقب النظر كالطفل. بمجرد ان اغلق المعلم الباب وراءه صعدت على المقاعد إلى أصبحت إلى جوار من النافذة. التفت إلى الوراء فرأيت بقية التلاميذ ينفذون تعليمات المعلم بدقة واحترام. الأيدي مرفرفة في الهواء بكل أمانة وصدق وتفاني، كعيدان القصب الجاف والأرجل النحيفة بالكاد تستطيع حملهم. صادقين، وديعين. وجوههم الجميلة باتجاه السبورة والظهر يعانق بقية الضوء القادم من الشمس. لم يخطر في بالهم أنني سأهرب أو أنني لن أقف معهم. كانوا خائفين. يرجفون كسنابل الربيع الخضراء. والمسافة بين الحرية والسجن مجرد باب صغيرونافذة. لم يتجرأ أي طفل فتحه أو الخروج منه. بقوا وقوفًا خاضعين كطيور الاقفاص وقفت أنظر إلى الشمس الساطعة سعيدًا. رأيت بيتنا واقفًا كعادته. وأمي مشغولة بالبيت والأطفال وأخواتي. التفت حولي ثم قفزت من النافذة وهربت. ذهبت إلى البيت باكيًا. سألتني والدتي: ـ لماذا تبكي؟ لماذا خرجت من المدرسة؟ لماذا عدت إلى البيت؟ ـ لقد سجنني المعلم حسن وطلب مني أن أرفع رجلي في الهواء، وأبقى على رجل واحدة. سأترك المدرسة. لا أحبها. وأكره المعلم والحيطان والجدران والأسوار. إنه إنسان كريه. لا أحبه ولا أحب المدرسة. ـ لا تبك. هل سجن غيرك؟ ـ نعم. إنهم في السجن على قدم وساق. ينفذون العقوبة بكل أمانة وإخلاص وتقدير. ـ إنهم أطفال صغار يا أبني. لا تلمهم. الخطأ يتحمله المعلم. أنهم كالعصافير ولدوا احرارًا ولا يعرفون القيد. لقد بدأها هذا المعلم دون تقدير لابعاد تصرفه وسلوكه. عليك أن لا تخاف أو تستسلم. عليك أن لا تكره المدرسة. مسكتني من يدي وأخذتني إلى المعلم وقالت له: ـ العاقل لا يفعل مع الطفل هكذا. العاقل لا يسجن. إنك تكرهه بالمدرسة والعلم. أنت تعلم أن الأطفال مثل العود الاخضر يحتاج إلى رعاية واهتمام وليس إلى زرع جراح في عقولهم لا تندمل مع الأيام. عليك أن تصالحه وتأخذ بيده وخاطره. والا سيكرهك ويكره كل شيء جميل في الحياة. لم اتصالح معه. وبقي المعلم بالنسبة لي بمثابة سجان. وبقيت المدرسة في ذاكرتي عبارة عن سجن يحطم إنسانيتي ويقزم روحي. أذهب إلى المدرسة مثلما يذهب المحكوم إلى تنفيذ حكمه. اتمارض مرات كثيرة. لم أطق الجلوس بين أربعة حيطان. لم أحب المعلم مهما كان لطيفًا. وبالرغم من أن معلمات مدرسة اللواء الخاصة للارمن الارتذوكس كنّ جميلات جدًا. ويلبسن ثيابًا من أحدث الموديلات الباريسية، ويصففن شعرهن على الموضة الدارجة في تلك الأيام. أو ما كانوا يسمونه السد العالي. تنانيرهن القصيرة فوق الركبة، الحلق المدلى، البلوزات الحفر يبرزن اللحم الناضج تحت الأبط، وتفوح منهن روائح العطر النسائي الفواح. مرات كثيرة كنت أنظر إلى أناقتهن بمودة وفرح: احمر الشفاه والكعب العالي. وكنت استغرب كيف كن يستطعن الوقوف على مسمار صغير في أخر الحذاء. وكيف يستطيع حملهن. كل يوم يلبسن لون مختلف عن اليوم السابق. ويتمايلن أثناء المشي. أحد التلاميذ اسمه أفرام، أمه معلمة اللغة الأرمنية، وأبوه بارليف سلاطيان، لديه وكالة ساعات جوفيال. كنت أحسده على هذه النعمة وأقول لنفسي: ـ إنه محظوظ هذا الأفرام لديه من يعلمه الدرس. أمه معلمة. هناك من يهتم به ويحميه من الضرب. بيد ان أمه كانت أقسى عليه من بقية المعلمين. أكثر أوقات الفرح السعادة بالنسبة لي كانت عندما يدق المدير على باب الصف، ويستأذن: ـ أنسة، ممكن. هل تسمحي بأخذ آرام. ـ تفضل. أرى والدي في الإدارة ينتظرني. يمسك يدي ونمشي في فناء المدرسة. نعبر دورة المياه. ندور قليلًا ونكمل طريقنا فوق البلاط المخطط. نودع المدرسة والكنيسة ونصل إلى السيارة. اصعد غلى صندوقها. ونسافر معًا في جوالات ضمن محافظة الحسكة. في تلك الفترة، أي بعد مجيء البعث إلى السلطة منعت الدولة الكثير من المواد التي كانت تدرس باللغة الارمنية كالحساب والجغرافيا والتاريخ وغيره. وابقت على الديانة والقراءة والنحو. وتعلمنا مثل بقية الطلاب في مدارس الحكومة التاريخ العربي والإسلامي. وفي العام 1969 أرادت الدولة إلغاء جميع المدارس الخاصة للقوميات الأخرى كالأرمن والسريان وغيرهم. بيد أن الارمن في مدينة القامشلي اضربوا واعتصموا ضد هذا القرار. قالوا: ـ نحن جئنا ضيوف إلى بلادكم. ونريد الرحيل إلى بلادنا. لقد أغلقتم الطريق علينا للسفر إلى ارمينيا. نشكر هذا البلد على حسن الضيافة، بيد أننا نريد المحافظة على لغتنا. لا نريد أن نذوب في لغة شعب آخر. أبقوا على القراءة والديانة والنحو بلغتنا. وتبقى بقية المواد باللغة العربية. ماذا يضيركم تعلم هذه المواد؟ اللغة إغناء للبلد والوطن. وجميع الدول الراقية تشجع مضيفيها على تعلم لغتهم الأم. لماذا لا تشجعون بقية القوميات على تعلم لغتهم الأم؟ وإن تعلم الإنسان للغتين يقوي مداركه، ويفتح ذهنه ويقلل من الانغلاق والتعصب، ويفتح الأفاق للعيش في وطن رحب يتسع الجميع تراجعت الدولة عن قرارها وابقت المدارس الخاصة. فوق ذلك المرتفع العالي كنت كنسر جارح امتشق سهام نظري وأحلق في البعيد. أرى الخابور ينبسط تحتي ويرمي مجاديفه فوق السماء. وأكمل الطريق.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في رأس العين
-
في ضيعة تل كيفجي
-
دبانة
-
العودة للجذور
-
في ظلال الليل
-
سراب بري
-
الدولة الظاهرية والدولة الباطنية
-
الديمقراطية ومخالب السلطة
-
انهيار الدولة السورية
-
الحداثة والغربة في رواية (الأشجار واغتيال مرزوق)
-
عن علاقة الدين والدولة
-
عبد السلام العجيلي الأديب والإنسان
-
عن المجتمع المدني
-
الغربة والسجن في رواية دروز بلغراد
-
قهوة الجنرال
-
المرأة في رواية “بجعات برية”
-
الملك السويدي كوستاف الثاني ادولف
-
أرض ورماد
-
الانقلاب الثاني في سوريا
-
إيلين
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|