أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - دبانة















المزيد.....

دبانة


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5750 - 2018 / 1 / 7 - 14:47
المحور: الادب والفن
    


كانت قرية دبانة مثل قنديل مطفئ وسط البراري الواسعة. ويمكننا القول أنها كفناء متعالي مرمي على الضفاف كورق الخريف الأصفر.
صامتة، كأنها مسكونة في ظل خائب. كراية ابتلعها التراب أو الأسى الأحمق. عينها مملوءة بالحسرة والفقد. وتحن إلى غواية اللوعة، لتبدد النعاس عنها.
قرية نائية في وسط أراضي مترامية الأطراف، بيد أن الغموض يكتنفها، والصمت والتكرار. لا عنفوان في صوتها أو مناجأة ليقظة.
وتمر الأيام عبرها وحولها كسطوة الزمن الأبله.
هناك كان جدي مقيمًا برفقة جدتي وعمتي. جاء قادماً من قرية سعرت في الاناضول" محافظة باتمان حاليًا في تركيا". جاء هاربًا من الخوف والذل والهزيمة والانكسار والقهر والموت. من الإبادة التي قام بها الاتراك بأبناء موطنهم من القومية الأرمنية.
عندما كان والدي يمر بالقرب من القرية كان يأخذني معه، يتركني عند هذا الرجل العجوز الذي تجاوز المئة عام أو أكثر لمدة يوم أو أسبوع أو أقل.
كان المكان ضيقًا علي. الفراغ في كل مكان. أطفال الضيعة لا يماثلوني بشيء. لا يعرفون لعبة كرة القدم. لا يذهبون إلى السينما، ولا يلعبون مثلما ألعب.
ودبانة قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة عشرة بيتًا. والأراضي المحيطة بها تابعة للشيخ الحاج منصور من قبيلة طي. وأصبحت انتفاعًا لسكان الضيعة بعد الاصلاح الزراعي.
حاز جدي على قطعة أرض صغيرة كانتفاع أو حيازة يزرعها بالجبس والبطيخ والخيار في فصل الصيف والقمح في فصل الشتاء.
كان مجبّرًا، طبيبًا شعبيًا، مرمم الكسور أو مجبر في اللغة الشعبية. وعالج الناس بالطب العربي.
يخرج بهذا العمر إلى البراري باحثًا عن الأعشاب التي يريدها من أجل مداواة الجروح أو الحروق أو الأمراض أو الكسور. يخلطها أو يمزجها ليخرج عينة متكاملة تكون دواء لمرضاه القادمون إليه من المحافظة وخارج المحافظة حتى أن صيته وصل إلى لبنان كما كان شائعًا. لقد قصده الكثير من الناس من أماكن مختلف. وكنت شاهدًا على ذلك. نجلس ونراه كيف يمد يده إلى الكسر، يعاينه بدقة ثم يضغط عليه بيده لينزل العظم في مكانه.
إحدى المرات كان الكسر في أعلى الساق، رأيته يثبت المريض ووضع في فمه قطعة قماش وطلب من مرافقينه أن يمسكوا المريض، رفع جدي رجله في الهواء وهوى بها على ساق الرجل وسط صراخ ودموع الرمريض وبكاءه. قال له:
ـ الحمد لله على السلامة. سخنوا له الماء لألفه باللحاف.
حتى منطقة الحوض والقفص الصدري جبرهما.
وعندما كان يشفي المرضى كانوا يقولون له:
ـ يا عم ماذا تأمرنا؟ كم من المال تريد؟
ـ دخان؟ أريد دخان.
كانوا ينظروا إليه باستغراب
ـ دخان؟
ـ كروز حمراء، شرق، بترا. دخان فلت. دخان لف. لا أريد شيء آخر. أنني أعمل لله ومساعدة الناس. أريد المكافأة من الله.
ـ هذا لا يجوز يا عم.
ـ أنا لا اتعامل بالمال السائل. دخان فلت لا غير. الحمد لله لدينا عدة رؤوس من الأغنام وبقرتين. وهي تفي الحاجة وتزيد، وبعدين الرزق من الله. وهذه الحيوانات تمدنا بالسمن واللبن والجبن والزبدة والصوف. ولدينا الكثير من الدجاج والبيض البلدي والمواد الاساسية لحياتنا، نبيع ونشتري خيطان وسكر وشاي.
سأله احدهم
ـ كيف وصلت إلىسوريا ولم يقتلك الاتراك؟
قالوا لي:
ـ قتلك لا يكلفنا سوى رصاصة أو ضربة خنجر أو طعنة سيف. لكننا بحاجة لك. أنت بناء بيوت عربية، نجار، مصلح المحراث الروماني اليدوي تبع الفلاحة، ومصلح حوافر الخيل، ومجبر الكسور وطبيب عربي.
أبقوا على حياتي لحاجتهم. وكانت إرادة الله ساهرة على بقاءي.
ـ إرادة الله أم حاجتهم لك؟
ـ لقد وهبني الله موهبة العمل والعقل. هذا كان كافيًا لي. هذه الموهبة انقذت حياتي.
أحيانًا كثيرة كان يسألني:
ـ والدك يقبض مئة وثمانون ليرة في الشهر، أنه مبلغ كبير بل هائل. أين يذهب بهذا المال كله؟ ماذا تفعلون بهذه الكمية الكبيرة من النقود؟
لم أكن أعرف الجواب. كنت صغيرًا ولم يكن لدي القدرة على معرفة ما يدور في عقل جدي.
كنا ندفع إجار البيت، اقساط المدرسة الخاصة وأقلام ودفاتر وثياب وطعام. لم يكن يعرف حياة المدنية ومستلزماتها. بيد أنه كان يكره المراحيض الخاصة والأماكن المكتظة بالناس.
كنت أقف إلى جانبه مرات كثيرة. لم أره يربت على رأسي أو يحضنني أو يقبلني. ولم تفعل جدتي الشيء ذاته. ولا أبي أو أمي. ولم يفعلوا هذا مع أخواتي واخي، بيد أنهم كانوا يحبون أولاد عماتي أكثر. لم يكن هذا الأمر يضايقني ابدًا. كنت أراه شيئًا مألوفًا.
قال لي مرة:
ـ أريدك أن تبقى عندي، تعيش معي. هذه الأرض ستبقى لك من بعدي. وسيكون هذا البيت والأغنام والبقر والدجاج لك.
الأرض تعطي الخير والبركة للإنسان وتهبه محبة الله وبركته. والدك رجل لا يعرف الله. إنه كافر.
كافر؟ في الحقيقة لم أكن أعرف ماذا يعني جدي بكلمة كافر.
ـ إنه كافر لأنه يقود سيارة من حديد. الحديد يا ولدي خطر على الإنسان والحيوان. تعال وخذ الأرض وأفلحها وأزرعها بدلاً من أن تعمل في المستقبل مثل والدك في الحديد.
ـ يا جدي أريد الذهاب إلى المدرسة. الحياة هنا قاسية. لا تأكلون بميعاد. ونهاركم كله فوضى وركض دون هدف. في المدينة استيقظ كل صباح في موعد محدد وأذهب برفقة أخواتي إلى المدرسة صباحًا. نفطر قبل أن نذهب، وعندما نعود يكون الغذاء جاهزًا. ونرجع بعد الظهر إلى المدرسة لأكمال الحصص المتبقة. ألتقي بالكثير من الأصدقاء في باحة المدرسة في مدينة الحسكة ونلعب كرة القدم والغميضة. المدرسة جميلة والمعلمات يلبسن أجمل الثياب العصرية. أنكم تعيشون حياة مختلفة عن حياتنا. أذهب للسينما. في سيارة والدي أزور وأرى
مدنًا كثيرة, أرياف، أنهار وينابيع.
ـ هل تعرف السينما، هل حضرت فيلمًا؟ هل تسمع أغاني من المذياع؟
ـ أعرف أن العمل في الحديد حرام يا أبني. إنها ضد إرادة الله. والدك رجل عاق. تركنا والتحق بالعمل عند الآخرين. ثم ما هي السينما؟ والمذياع كفر وحرام. رأيته بيد والدك، يتحدث. كيف لمذياع صغير أن يكون يحوي في داخله رجل كبير ويتحدث منه. يا ولدي هذا المذياع فيه الجن وساكن داخله.
وقلت لوالدك مرات كثيرة:
ـ تعال, أعمل معنا، ساعدنا. لكنه فضل أنانيته علينا. أنه يحب المدينة ونساء المدينة. أنه ليس منّا.
في البيت كنت اسأل والدي:
ـ أحب أن أعمل لدى جدي في الأرض. إنه يريد مني أن أبقى معه. أن أترك المدرسة واتحول إلى راعي غنم.
ـ دعك منه. أنه لا يعرف ماذا يقول. ان علاقته بالحياة لا تتعدى الضيعة البائسة التي يقطهنا. إنه منفصل عن زمانه
دبانة تبعد عن مدينة القامشلي أربعة كيلومترات أو خمسة، نقطعها مرات كثيرة مشيًا على الأقدام، ومرات كثيرة تقف لنا السيارات العابرة وتحملنا بين دفتيها.
في الستينيات ذهبنا، أنا ووالدي ووالدتي وأخي وثلاثة من أخواتي البنات في زيارة إلى الضيعة. مرض أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام. وكان الفصل شتاءًا ولم يكن هناك مواصلات. والوحل يملأ الطريق الترابي الذي شقته السيارات العابرة عبر الزمن. واشتد عليه السعال ولم نعد نعرف ماذا نفعل. بكى أبي وبكت أمي وعمتي. وبكيت أنا أيضًا. وكانت مدفأة الجلة تشتعل وتبث شجونها. والفوضى يعم المكان. جهز بعض الجيران عربة يجرها بغلان، وركب والدي ووالدتي بثياب الغسيل الشفافة في ذلك الشتاء القاسي عليها وساروا في حضن الزمن الغافي.
استمر أخي يشهق، وينفث بقايا أنفاسه على وقع حوافر البغال وعجلات العربة التي ما أن تخرج من الوحل حتى تغوص فيه مرة ثانية. ما أن مضوا بضعة مئات من الأمتار حتى غرست في الوحل، في العمق تمامًا. ولم تعد تتحرك. نزل والدي والحوذي ودفشوا العربة بينما الأخيرة تخرج من فج لتقع في آخر، والحزن لفافة تغلف قلب قلبي أمي من القهر والحزن والخوف من فقدان أخي
والقرية تقع في منطقة ما يسمى بخط العشرة.
في نهاية الستينيات صدر قرار بأخذ الأرض من أهل الضيعة واعطاءها للناس القادمين من الرقة أو ما يسمى بعرب الغمر الذين فقدوا أراضيهم أثناء بناء سد الفرات. قالت الدولة لأهل الضيعة:
ـ سنأخذ منكم هذه الأراضي ونعطيكم غيرها في القرية أو القرى القريبة منكم. قرية صافية مناسبة لكم تمامًا. ستنتقلون من هنا وتمكثون هناك. لم يقبل أهل القرية هذا العرض ولم تتراجع الدولة عن قراراها. ونفذ القرار في العام 1972 في زمن حافظ الاسد. وخسر جميع أهل دبانة أراضيهم ولم يذهبوا إلى صافية. ولم تعوض لهم الدولة أي شيء.
ومات جدي في العام ذاته وقطعنا جذورنا مع تلك الضيعة ولم أعد أعرف أي شيء عنها.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العودة للجذور
- في ظلال الليل
- سراب بري
- الدولة الظاهرية والدولة الباطنية
- الديمقراطية ومخالب السلطة
- انهيار الدولة السورية
- الحداثة والغربة في رواية (الأشجار واغتيال مرزوق)
- عن علاقة الدين والدولة
- عبد السلام العجيلي الأديب والإنسان
- عن المجتمع المدني
- الغربة والسجن في رواية دروز بلغراد
- قهوة الجنرال
- المرأة في رواية “بجعات برية”
- الملك السويدي كوستاف الثاني ادولف
- أرض ورماد
- الانقلاب الثاني في سوريا
- إيلين
- السمكة الذهبية
- شيء من الحقيقة والسوريالية.
- العودة إلى الانقلاب الأول


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - دبانة