أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال المظفر - أجنحة الخفافيش















المزيد.....

أجنحة الخفافيش


جمال المظفر

الحوار المتمدن-العدد: 1464 - 2006 / 2 / 17 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


كأنهما في مدينتين منفصلتين لم تدخلهما التكنولوجيا الحديثة واسلاك الهاتف، يرتفع الصوت تارةً وينخفض تارةً اخرى رغم انهما تسكنان في غرفتين متقابلتين بعمارة من طابقين لا يفصل بينهما غير ممر من الاجر المربع المتآكل بعرض مترين تظهر بين ثناياه مجاميع من الأرضة والنمل والصراصر بينما تتسامى رائحة العفن في ارجاء البناية من اثار الرطوبة، الجدران اشبه ما تكون بمزرعة للخفافيش، عارية من الاسمنت تزين واجهتها بعض الشرفات الآيلة للسقوط من الخشب المتآكل، بينما يتهدل الباب الخشبي القديم وكأنه بوابة قلعة آثرية قديمة رسمت عليه السنين أخاديد عميقة وكأنها غابة من الاغصان المتشابكة.
كانت البناية تستخدم كخانٍ لخزن البضائع والحبوب، واحياناً يربط بعض الحمالين حميرهم في داخلها لايوائها لليوم التالي، اجريت على البناية بعض التحسينات بعدما بيعت بالمزاد العلني لان صاحبها قد تراكمت عليه الديون بسبب موائد القمار، فعمل المالك الجديد الطابق الأرضي حماماً للرجال تخرج منه سحب البخار كما لو تخرج من فوهة إبريق، وبجواره دكان لبيع الصابون والمناشف ومساحيق الغسيل واشياء اخرى تخص الرجال، والطابقين الاخرين لسكن العازبات القادمات من خارج المدينة، كأن يكونن طالبات او موظفات في دوائر الدولة الحكومية.
قالت الاولى بصوتٍ عالٍ ومخنوق كأنها في قعر بئر خاوية: هل رأيت القرد اليوم؟
فترد الاخرى بصوتٍ يشبه خوار الماشية: لم أره، تصوري كلما اراه يصاب يومي بالنكد.. فأنا اعرف بأن البوم والغراب يجلبان الشؤم الى الناس، أما القرد فهذا حظي!!
ترد الاولى: لو كان متحضراً لما عمل الطابق الارضي لسكننا نحن العازبات حماماً للرجال
قالت الاخرى: انا لا اطيق رؤيته، ولو رأيته لرجوت منه ان يغيره الى حمام للنساء.
ردت الاولى: انه قرد، كرشه يبعد عن جسمه نصف متر، واذناه كبيرتان، وانفه كمنقار ببغاء، وقدماه طويلتان، هل رأيت حذاءه الطنبوري انه كبير جداً لماذا لا يغطي جسمه عندما يمشي فأني اراه بكل هيئته عورة!!
ترد الاخرى: يا لك من جريئة، قولي القرد وكفى.
تصمتان للحظة، يسمح صوت بائع النفط في الشارع، وصوت الرجل الطاعن في السن الذي يشتري الاحذية القديمة والقناني الفارغة والاسرة المستعملة وتتعالى اصوات الباعة وقهقهات المستحمين الخارجين من الحمام ينسلُ احد الاصوات الى اذني الفتاتين في الغرف: انه فندق للعوانس والارامل، وتتبع هذا الصوت ضحكة قوية وقرقعة ايدي.
ترد الاولى بعصبية: حقراء، انظري اليهم بكروشهم المترهلة، انهم اشبه بمجموعة من الحيوانات يجمعهم اسطبل واحد، يدخلون فيه ليلفظون اوساخهم، يا للعنة عليهم-
فصاحت الاخرى: هل تعرفين بأن صاحب الحمام، اقصد القرد، غير متزوج.
ردت الاولى: ومن هي المجنونة التي ترضى بقرد افعص الانف، يجب ان يبحث عن قرينة له في غابات افريقيا أوالهند، يقولون ان القردة هناك كثيرة، عله يجد واحدة تلائمه.
قالت الاخرى: لماذا لا تتزوجينه يا كركم، صحيح انه لا يملك مواصفات الرشاقة، ولكنه غني جداً
ترد الاولى: تباً لك أيتها البقرة، لماذا لا تتزوجينه أنت، انه يليق بك.
قهقهت الاخرى على كلام صديقتها (يبدو فمها أشبه بفم ضفدعة عندما تضحك) وراحت تردد "القرد مالو، مالو القرد.. المال في جيبوزي الورد"
ردت الاولى: اراك تتكلمين عنه كل يوم، لانك تريدين ان تعرفي وجهة نظري فيه، قلت لك انه يليق بك.
ردت الاخرى: ستبقين عانسة طوال حياتك، لازوج، ولا مال، ولا مستقبل، سوى ذكريات بائسة، وحياة شاقة، وكلمات جارحة، ستصبحين مثل (ام الهوى) خائبة، ضالة، وحيدة، منهارة.. اجل ،و سيرميكِ الزمن الى الحض..ي..ض خرجت هذه الكلمة بنبرات مؤلمة وبحشرجة في صوتها، أشبه ببكاءٍ اصم. يسمع صوت المزلاج تنزل كريمة رجلها من عتبة الغرفة، وتخاطب صديقتها: سأذهب اليوم لزيارة مرقد عبد الله بن علي، عليَّ نذر وسأشتريه من سوق العطارين
ردت الاخرى: يقولون ان الناس يزدحمون في المرقد، والنذور كثيرة، وبالاخص من اللواتي لا ينجبن.
ترد الاولى: تصوري المرقد مزدحماً دائماً رغم صغر مساحته فهناك من توزع (حلال المشاكل) على الجالسين واخرى تنثر الحلوى، وواحدة تربط كنتها في شباك المرقد من اجل ان تحل عقدتها، وبعض النسوة يطبعن ايديهن بالحناء على جدران المرقد، الجو هناك مختلف، رائحة البخور الهندي واغصان الاس، وشموع الميلاد، والحناء المعجونة مع ماء الورد في الكؤوس، والأساطير الغريبة، كل واحدة ولها حكاية.
ترد الاخرى: رافقتك السلامة ايتها ألـ… وتفتح نافذة الغرفة التي تحجز نصفها الاسفل مجموعة من القضبان الحديدية المتعامدة، تلقي بنصف جسدها خارج النافذة المطلة على الشارع المحاذي لنهر الخندق، حيث تتداخل رائحة الحيوانات النافقة في النهر مع رائحة العفن المنبعثة من داخل الغرفة، تنفث زفيرها بقوة كحوتٍ جريح فقد فرصة الحياة على ايدي صياديه، تتابع مرور الناس على الارصفة الملتهبة من حرارة شمس الصيف، تطاردها بعض النظرات والتلميحات من المارة، توصد النافذة وتجلس على السرير الكسيح الذي فقد أحد أرجله ويستند على اربع طابوقات هشة، تنظر بضجر الى الغرفة شبه المنهارة، والسقف الذي ينفث التراب والايل للسقوط في اية لحظة يتمناها، والجدران الرطبة المتشققة، وخيوط العناكب التي تملأ الزوايا، والباب المخلوع، والسجادة المتآكلة التي استهوت نسيجها الجرذان الموبوءة التي تمرح في الغرف، كل شيء بحاجة الى ترميم.. وبينما هي تطالع غرفتها الحقيرة، يفزعها صوت صديقتها وهي تصرخ مذعورة من مرور جرذ كبير من بين رجليها:- يا للعنة على هذه الحياة البائسة، جرذان، وصراصر، وارضة، وقمل، واكوام اوساخ، ومياه قذرة، وخفافيش لا تفارق جدران الفندق.
فترد الاخرى: حاولي ان تعتادي على هذه الحياة.. يا صديقتي.
يسمع صوت قبقاب (كريمه) وهي تنزل السلم الخشبي، حيث يختفي الصوت الى اذن صديقتها مع اختفائها في عتمة السلم المؤدي الى الشارع حيث تمتد العتمة الى ما لا نهاية المعاناة اليومية، تلف جسدها بعباءة من التترون الاسود، تتخطى عتبة الباب حيث يفاجئها رجل في الستين من عمره يجلس عند باب الحمام بمغازلة طريفة: كيف حال العصفورة اليوم.. تتجاهل غزله وتندفع في زحمة الناس والشاحنات الكبيرة المكتظة التي تحمل البضائع من مختلف المدن والباعة الذين يفترشون الرصيف، باعة عطور وبخور وملابس نسائية ولعب اطفال واقفاص طيور وحمام، تنحدر نحو سوق العطارين، حيث تشتد رائحة التوابل والبخور الهندي، يشتد بها العطاس، تطلب من الرجل العجوز بخور الصندل بقيمة ألف دينار، يشعر الرجل بضيقها من رائحة التوابل، فيسرع في تنفيذ طلبها، تأخذ البخور وتراوغ هاربة ما بين شاب وامرأة ومجاميع من الصبية والعربات، حتى تصل الجسر المؤدي الى المرقد، تنتظر للحظة عبور السيارات المسرعة وهي تطلق زعيقها بلا مبرر، تفلت من بين الزحمة نحو الجهة الاخرى، فالمرقد على بضعة امتار.. تدخل الباب الخارجي، وتنزع قبقابها احتراماً لقدسيته ليس هنالك من مكان لكي تجلس، فالمرقد مزدحم، ودخان السجائر والبخور يملأ أجواءهُ، ثرثرة نساء وكركرات اطفال ودعوات امهات لابنائهن الذين ما زالوا في بدلات الحرب، أمنيات ضالة لنساءٍ لا ينجبن، الحائط يمتلئ بالحناء، والزوايا تعج بالهدايا من الزوار وقد كتب عليها "وقف فلان بين فلان" تلمح اشارة من عجوز هرمة في التسعين من عمرها تلوك قطعة حلوى صلدة، إنها توفر مكاناً للزائرة، تحمل قبقابها في يدها وتجلس قرب العجوز، متقرفصة، ليس هنالك من مسافة كافية لكي تجلس بصورة طبيعية، تسألها العجوز: هل لديك نذر؟ فترد: نعم، لدي
فترد العجوز: عسى ان لا يكون مثل قطعة الحلوى القديمة هذه منذ ساعة ألوك بها ولم تذب، كأنها من الاسمنت
فترد كريمة: مزيداً من اللعاب يكفي لاذابتها
ترد العجوز: هل أنت متزوجة؟
ترد كريمة: للاسف.. كلا
ترد العجوز: ياه.. أنتِ يائسة، اذن حاولي أن تتجرعي كأس العنوسة، لا تنهاري.
تضيق ذرعاً بكلام العجوز الشمطاء هذه، تخرج منديلها من حقيبة اليد تمسح العرق المتصبب من كلام هذه المجنونة، تدفع بيدها كتلة جسدها المتقرفص وتغادر المرقد، فالحرارة تزداد في الداخل رغم وجود المراوح السقفية والعمودية، ولكن كثافة الزائرين وزفير الأفواه يجعل المكان مليئاً بالوخمة والرطوبة..
"أنت يائسة.. حاولي ان تتجرعي كأس العنوسة" انها كلمات مقززة، تباً لكِ ايتها الملعونة، كان عليّ أن لا استجيب لا شارتها، هن هكذا كلما تقدم بهن السن زاد بهن الخرف، امرأة لا تستطيع مضغ قطعة حلوى لا تستحق الحياة، يفزعها صوت مزمار سيارة حمل كبيرة تريد الاستدارة تنتبه الى نفسها، فهي في منتصف الشارع تقريباً، تعبر الى الضفة الاخرى، تجفف العرق المتصبب من على وجهها وصدرها فيرن الى مسمعها كلام ذلك الشاب الطويل القامة: هل ترافقيني يا حلوة.
فتصرخ به منهارة: تباً لك يا ابن العاهرة.. وتنصرف في سيرها غير آبهة بالزحمة في السوق، سوى صدى تلك الكلمات: أنت يائسة.. حاولي ان تتجرعي كأس العنوسة.
تحاول جاهدة ايقاف تصبب العرق بغزارة من جسدها يتبلل ثوب البرلون الخفيف يلتصق على جسدها وتبدو شبه عارية، يشعرها بلزوجة مقززة على مساحة نهديها المتكورين، تحاول ازاحته منهما لكنه يلتصق تماماً تراوغ في زحمة السوق مثل سمكة هاربة تطاردها كلمات العجوز التي ما زالت ترن في اذنيها: حاولي ان تتجرعي كأس العنوسة.. تباً لك أيتها العجوز الهرمة لا اعرف كيف تتلقفين أنفاسكِ وانت تحثين خطاك الى القبر الذي سيطبق جوانبه على أضلاعكِ الشائكة، تترك زحمة الرصيف وتنزل الى الشارع ينهال العرق مثل شلال خمر يبلل ثوب البرلون ويلتصق تماماً مثل اجنحة الخفافيش على صدرها.. تهرب الى الآمام مسرعة وتذوب مع اسفلت الشارع شيئاً فشيئاً.



#جمال_المظفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة لشعرها الغجري
- ليلة تحت الصفر
- هل قامت القيامة يا بغداد؟!!
- هل ستفعلها الحكومة
- لاتذلوا المواطن في سيطراتكم
- ازمات الحكومة
- كل عام.. وانتم بلا كهرباء
- مدن تفض بكارة الجدران


المزيد.....




- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال المظفر - أجنحة الخفافيش