أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مريم القحطاني - أنا عيدك















المزيد.....

أنا عيدك


مريم القحطاني

الحوار المتمدن-العدد: 5662 - 2017 / 10 / 7 - 05:39
المحور: الادب والفن
    


المروحة المشروخة تناضل في لهيب الظهيرة دونما فائدة فالجميع تحتها يحترق بشيء ما. الجدران صفراء لا يسر صفارها أحد. إنتبه القاعدون، متعبو الأرواح الحاضرون بفرض الواجب أو سوء الحظ، إلى الصوت الهائج المتعالي المنبعث من الغرفة، "أستغفر الله" وأطرقت إحدى الجالسات في حزن أمومي شديد.
"الحمد لله الذي عافانا .." قالها آخر ولا تعرف إن كان متشفياً أو عطوفاً، سرعان ما قاطعه صوت الممرض ذو هيئة جزار، والذي امتدت كرشه أمامه بشكل جريء مستدير:
"أيش في؟ احنا في جامع والا ايش؟ اللي مش عاجبه يروح عند *العوبلي" ..
قالها بنبرة تعرف منها أنّه اعتاد على إلقاء هذا الاستفهام وذلك العرض الأقرب إلى التهديد. فرأى القاعدون في دعوته إلى رؤية *العوبلي كثيراً من إهانة، فسكتوا واستقاموا.
ومن جوار عبارة كتب عليها "الدكتور خالد عبد المجيد للأمراض النفسية والعصبية" عبرت سيدة عجوز قصيرة القامة ملتحفة بالسواد وتراب المدينة وسألت الممرض ذاته:
"هذه عيادة ام دكتور مجيد يا ولدي، أو لا؟"

هي تعرف الجواب خير المعرفة، بل وقد أكد لها الشاب عند الباب بعد أن قرأ اللوحة لها أمامها متهجياً الحروف لها بعناية، لكنها أصبحت تشكُّ في ذاكرتها وفي الناس بعد الحادثةِ الأخيرة، فيوم الأربعاء أو كما تسميه "الربوع" نسيتْ جواز السفر وصورها هي والمرحوم، والتي تثبتُ أنّها زوجة المرحوم، في التاكسي وهي في طريقها إلى السفارة التي تحمل جنسيتها الثانية، طامعة في معاش أو معونة أو لفتة كريمة من السفارة الأوروبية المتقدمة. وكانت تأمل أن يعود صاحب التاكسي، فقد كان شهماً خدوماً كما هي طبيعة اللقاءات الأولية، لكنه غاب في ظلمات الأيام المتعاقبة رغم أنها دعت الله كثيراً. "الله المستعان" تقولها لنفسها كلما غالبتها صورة التاكسي وهو يرحل أمامها. ثم تفكر، ربما هو خطأ "الربوع" وربما يخبيء لها الله شيئاً عنده عوضاً.
أجابها "الدكتور خالد عبد المجيد، أيوة أي خدمة؟" قالها مصححاً دون أن يطالعها فعيناه مغروستان في أوراق كثيرة بصور باهتة لأرواح كثيرة، تنزع عنه هيئة الجزار وتمنحه حلة مشعوذ ساحر.

أجابته بأرهاق وتنهيدة لا تخلو من حنان طبيعي بالغ:"هيا وين بتّي وانا عيدك؟ رعني طرحتها هانا قبل ساعتين. قالوا لي ارجع غدوة لكن ما استرت. سرت اشتريت لها غدا ورجعت ما أكلت لقمة من ام صبح." .
رفع حاجبه بملل وقال كمن يستنكر صلة الدم والقرابة: " بتّك البيضا أم شعر جعد أحمر الي أجَت مافيش فوقِه حجاب؟" سارعت العجور في الاجابة كأنها لا تصدق أنه اعطاها اهتماما أخيراً: "أيوة ايوة قد *مصّرناها لعن أبو ام شيطان ذي يجننها، وين هيه؟".
فقال بلا أدنى أسف:"عادي في غرفة الكهربة يكهرِبُونّه" أي مازالت تُصعق في الداخل.

وقد كان وَقعْ "يكهرِبُونَّه" على العجوز فقط مأساوياً كالعادة، لا صادم. فتحسرت وقالت وقد ضاقت ذرعاً: "وا جناه! وليش يا ولدي تسووا لها كهرَبْ دول ثاني؟ قدي ذي ام سادسة وانتو على تيّاه! وين ما جينا ندّي لها رَشدَه من ام دكتور يدخلوها ام كهرَبْ!".
وكانت تقصد بالـ رَشدَه "الرُشتّة" لكن حفيدتها ذات العشرةِ أعوام ليست معها اليوم لتفسر كلامها للممرض الذي يعتمد على الحدس في فهمها. استغفرت الله في همهمة ففهم الممرض أنها شتيمة مُشفرة.
استدرك بذات قلة الأسف: "والله يا حجة بتّك علاجها عند الدكتور. هو أخبر. الله يعينك على هذي المصيبة."

اِنصرفت العجوز عن طاولته، وقد كان اسمها "ظبية" في شبابها وأصبح الآن "أمي ظبية" .. وتقدمت أمي ظبية نحو غرفة الانتظار المعتمة بعناء شديد تجر اليوم جراً كالأغلال في أقدامها، وجلست بعد أن رأت طفلاً هزيلاً عيناه شاخصتان أمام جثتها التي لم تكن إلا شبحاً أسود، سرعان ما أبعدته بل وكادت تقرصُه وكأنها تستنكر قلة أدبه في عدم عرض الكرسي عليها، فصرخ مستنجداً في وجه أمّه التي زجرته بذات الاستنكار "صه! خلّي المرة تجلس!"
جلست أمي ظبية وألقت التحية على الأم التي لم تبلغ العشرين بعد، وقالت لها:
“هذا ولدش؟” تسأل فالحسبة العمرية بينهما لا تؤهلها لأن تصبح أماً لطفل بهذا الحجم.
أجابت الشابة المنتقبة: أيوه، ولد زوجي.

تأملت ملامح الولد، وقد كان جميلاً حقاً. شعره كثيفٌ متموج يميلُ إلى الذهبي لولا التراب العالق به، عيناه واسعتان ممتلئتان بالعسل، وقامته أطول من الصبية في عمره، ولو أنه يمشي في أوروبا لما شكَّ في كونه أوروبياً أحد. يرتدي "صندل" مهترئاً هو غالباً لأبيه، وقميصاً متسخاً تتوسطه رسمة كرتونية كبيرة باهتة. أمّا يداه فنظيفتان تماماً. عرفت أمي ظبية أنه نسخة من والده، وبدأ بينها وبين الفتاة تخاطر العيون:
- تحبي زوجش؟
- أكيد..
- شا تحبيه اليوم كثير و*غدوه قليل..

أمي ظبية أيضاً كان لها أولاد زوج كُثر فقد كان المرحوم شيخاً له نساء كما أحلّ له الله، لكنها كانت حُبه الوحيد لأنها كانت أكثرهن بياضاً وحناناً وقلة حيلة، إلا أنها لم تجد لحبه دليلاً قاطعاً، وكان دليلها الوحيد ظلمه الدائم لها وندمه لذلك، فقد كان عادلاً مع الجميع إلا هي، ولا يقصر مع أي واحدة من زوجاته إلا هي، ورغم ذلك لم تترد أو تشترط في حبه ولم تتأخر في الغفران والتضحية لاسعاده فقد كان "نظرها" و "نجمها السامر" كما كانت تسميه، وكانت حين تقولها له يشعر بالألم والتقصير، فترى هي ضميره يعذبه ويؤرقه وكان هذا يكفي لتشعر بالانتصار وليغمرها شغفاً وعشقاً حتى صباح اليوم التالي.

أنجبت له بنتاً واحدة فقط، هذه التي بالداخل، وفرح بها الشيخ المرحوم كثيراً فقد كان نصيبه من الذكور كبيراً حد الشعور بخطر العدو. لكنها لا تعرف من ظلمت وفي من أخطأت حتى تصاب بنتها بهذه العلة أو اللعنة التي لا تعرف لها حلاً. فكم طرقت من الأبواب وكم خاب ظنها. لم تترك شيخاً إلا وقرأ على بنتها القرآن ورتله ترتيلاً، ولا مشعوذاً إلا وكتب لها الحروز والتعاويذ دونما فائدة. وهاهي الآن هنا بعد أن قال لها صاحب تاكسي- ليس الذي هرب بجوازِ المرحوم - وهي في طريقها إلى العوبلي أن الطب الحديث قد ينفع بنتها وربما هي تعاني من مرضٍ، وهذا كل مافي الأمر. تتذكر أمي ظبية أن ذاك كان من أهم الأيام في حياتها، فقد كان إكتشافاً وياله من إكتشاف. ومن يومها وهي تأتي بهذه البنت إلى هنا كل بضعة أشهر.
تلتفت إلى حاضرها وترى عيني الفتاة المنبعثة من خلف النقاب تحدق فيها:
"سمعتش تكلمي الممرض. بنتش داخل؟"
لا تجيب أمي ظبية. تسكت طويلاً ثم تقول بعد أن نسيت الفتاة أنها سألت:
"وانتي يا بتي ليش تزوجتي على رجال معوِل؟ ايش كلفش الله؟"
فقالت الفتاة بنظرة رقيقة وصوت ناعم: أيش عاد مع المرة غير زوجها يا خالة..
فعادت أمي ظبية إلي سكوتها وتنهدت فهي تعرف تماماً عمى القلوب ثم أردفت: "وانتي من معش عند ام دكتور؟"
- زوجي.
تجيب أو تندب حظ الفتاة الشابة: زوجش أبو هاذا؟ أبووووي ... فيه ام زار؟!
- لا مش زار بس مُكتئب.
تشدد أمي ظبية: إيه إيه ام زار
- أيوه بس مشو اسمه زار. - تلتفت وتضحك هي وابن زوجها الصغير.

في هذه اللحظة تهب على أمي ظبية ريح بهجة وسعادة، وتضيء الغرفة المظلمة من حيث لا تحتسب حين يخرج شابٌ طويل وسيم الملامح، أسمر داكن العينين مستقيم الأنف يشبه لوحة فنية دقيقة التفاصيل، تعطيه النظارة ووقفته الهادئة هيبة متعلم، إنّه الدكتور المساعد واسمه طارق. يقترب طارق من أمي ظبية:
ـ السلام عليكم كيف حالك يا خالة
ترتعش أمي ظبية في غير تصديق: وعليكم السلام أنا فدوك وفدو ثيابك.

كم تكره رؤية الدكتور وكم تحب رؤية طارق الذي لا تفرّق بين معزته وبين معزة واحدٍ من أولاد زوجها. ليس هناك من يقدّر نضالها كما يقدّره هو، ولا من حاملٍ لخبر يطفيء نارها إلا هو، ولو أنها تعرف أصله وفصله لعرضت عليه الزواج من صغيرتها هذه، فعندما تأتيها النوبة وتخرج الشارع لا يستطيع اللحاق بها أو إمساكها والسيطرة عليها أحد غيره..
"طيب بنتك الآن الحمد لله تمام داخل با نخرجها بعد يومين ايش رايك؟" .
يطلب رأيها لكنها تعرف أن تلك ماهي إلا دعوته المعتادة لها لتعود إلى المنزل وترتاح في منزلها فلن تراها اليوم، وعندما يحين الوقت لخروجها ستعود لطبيعتها من جديد. فتقوم أمي ظبية وتهم بتقبيل يده فيسحبها مستغفراً قبل أن تفعل.. يتحشرج صوتها وهي تمضي قائلة:

"أنا عيدك، أنا فدوك وفدو ثيابك.."

هامش
*العوبلي: محمد العوبلي. شخصية مثيرة للجدل، يقال إنه طبيب روحاني.
بعض اللهجات اليمنية، ألف لام التعريف الـ = ام.
غُدوه: غداً.


* مريم القحطاني كاتبة يمنية أميركية



#مريم_القحطاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف تعود بعد الحب إلى نفسك
- عُزلة
- اليمن: رقصة الشرح البيضانية
- في الطريق الى صنعاء / قصة قصيرة
- صلاح وفرويد والمرأة الشبح!
- -جَعلُّه الساحق والماحق! / قصة قصيرة
- لماذا لم يربح عمار العزكي في أراب أيدول؟
- حظ ناقص


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مريم القحطاني - أنا عيدك