أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مريم القحطاني - حظ ناقص















المزيد.....

حظ ناقص


مريم القحطاني

الحوار المتمدن-العدد: 5348 - 2016 / 11 / 21 - 21:33
المحور: الادب والفن
    


مريم القحطاني


تسارع صوت الرصاص حاملاً معه أجساد النساء المتشحات بالسواد إلى النوافذ، ليطلقن أصواتهن بالزغاريد والأهازيج. صوت القتل وصوت الرعب يتوحد في ثنائية عجيبة ليعبر عن الفرح. أفراحنا تأتِ بلون الفاجعة دائماً. ولا وقت لمراجعة ماضينا لنعرف كيف يمتزج هذا التناقض، لأن الأهم من ذلك هو على ماذا يطلقون كل هذا الرصاص وكيف تتوه هذه الرصاصات عن حياة أحدٍ من الشاردين فوق هذي الجبال أو تحتها؟
عندما أدركت نفسي وحدي لا يجالسني أحد، تسللت إلى النافذة فانشق الحاجز البشري الذي صنعته النساء عند النافذة، لأجد الرجال يصنعون حاجزاً أخر منعني من رؤية من يطلق الرصاص. فسألت فتنة التي شعرت أنها ترى مالا نرى:
"من جالس يرامي؟"
"زوجش!"
فعرضت علي أن أشاهده من مكانها..
عندما رأيته أول ما أصابني هو غيرة حارقة. التفتُ إلى فتنة وهي تبتسم ملء أشداقها في سذاجة ونشوة. فقد غرفت عيناها من هذا المنظر قبلي حتى ارتوت، وأزاحت لي كي أرى بعد أن اكتفت.
كان يقف كسيف مغروس في خاصرة الأرض تتقلب الشمس عليه لتعكس وميضه الذي بدا واضحاً ومثيراً كقطعة ذهب وسط ركام الرجال الذي لم يكن إلا فضة نال منها الصدأ. هم خامات بشرية مستهلكة، وهو نرسيس المشبع بالسحر والخرافة، يحمل بندقية ويقنص قلب السماء.
لا أعرف ماذا كنا تحديداً، لكننا كنا شخصاً واحداً في أحزان كثيرة. هو عبء على ألم، وأنا عالة على أمل. كان أسمراً ومعتوهاً، وكنت حينها لم أكتشف بعد ولعي بالرجل المصبوغ بالسُمرة والجنون. واقعة في كومة من أسئلة وجودية . منشغلة بفكرة الخلاص حين يضطر البقاء. كان غائباً ينقب عن تعريف مخالف للحب وأن نكون أو لا نكون. وأنا في قالب من الدهشة، أكتشف أن الأسئلة توسع الوجود، وأن فكرة الخلاص ليست عاراً. وكان يبتسم في وجهي دون حب مسبق أو رغبة في علاقة، وكنت أنظره باطمئنان من بعيد.
لم نفكر على طريقة ممن في عمرنا، في أهمية وجود قواسم مشتركة، وبراعة الغرام، وكيفية التحام الجسد بالجسد. لم نكن نعرف أي شيء عن بعضنا. لا نعرف اهتمامات بعضنا، ولا ما يسعد بعضنا. لم يكن بيننا أي شيء من حديث الروايات والأغاني، أو الأساطير أو حتى الأكاذيب. لم يكن بيننا أي شيء مما قد يجمع اثنين. لكننا كنا نعرف تماماً مالذي يبكي بعضنا، وكنا نريد، دون أن نجد لذلك سبباً حقيقياً، أن نكون معاً مهما كلف ذلك.
دخلتُ بكمية من الضجر، ودخل هو بكمية من التعب. سلم علي وسلمتُ عليه. جلسَ فجلست. نظر في وجهي ونظرتُ في وجهه. كان وسيماً وأسمراً ولم أكن أعرف بعد أنه معتوه وسيبقى كذلك. يقلب عينيه ولا يفهم بالضبط مالذي يفعله، أو لم هو هنا وأنا معه لوحدنا. ينظر في وجهي مرة ويسير نحو النافذة كمن ينتظر شيئاً مرة. وأنظر في وجهه ولا أعرف هل أقول شيئاً أم لا أقول.
نظراته نحوي كانت ضبابية وحيادية التعبير. كان يريد لتلك المهمة أن تنتهي، وكنت أريد لتلك النظرة أن تنجلي.
فعلنا ما قيل لنا أن نفعل، ما يفترض أن نفعل. فحصنا وجوه بعضنا ولم نفضّ شيئاً من الأفئدة أو حتى الأفواه. خرجنا بعجل، نزاحم بعضنا وكأن لدينا ماهو أهم من هذه "النظرة"، فوجدناهم في ترصد وانتظار ولهفة كتلك التي تسبق الوليد. قال لهم على انفراد أني جميلة وقلتُ لهم أنه وسيم... فزوجونا، دون أن يسألونا إن كنا نريد بعضنا.
دخل المأذون ليأخذ مني شرعية صك الملكية، فأعطيته إياها: "نعم أريده"
بينما صوت أخر يحمل كثيراً من السخط والتأنيب لا أتذكر لمن كان، يبصق في ظهري عبارة " يا فضيحتنا، وين حيا و خجل العذارى والسكوت؟!"
كثيرة "فضائحهم" هذه وفي كل شيء، خصوصاً عندما يكون عفوياً.
وأصبحت من أملاكه الخاصة، ولستُ مجرد فتاة تغريه أمه بها كي يعود إلى هذه العزلة المحصورة بين جبال منسية شاهقة، يلتبس على الناس نطق اسمها. تعبر قلبي ريح بسيطة لتحافظ على تلك الجمرة التي تشتعل ببطء بداخلي كلما رأيت طيفه من بعيد يغيب بين ظلال أجساد الرجال الذين اجتمعوا على عرس هذا الذي أتى أخيراً بعد أن عرضوا عليه كل بناتهم دون أن يحقق أي من تلك العروض عودته، يتزاحمون على حزم القات التي صارت توزع بسخاء لا يجيده أحد أكثر منه.
دخل بين سيل النساء، يراقبنه في تأوه وتنهيد وكثير من التمني، دون أن تنجح أنوثة أي واحدة منهن في أن تحرك ناظره نحوها. واقف وسط جالست، مبتسم وسط عابسات، تنزلق من على قامته الممشوقة بصلابة آلهة إغريقية مشبعة بالشباب والبأس، نظراتهن المطفأة بالحرمان واليأس. بيده حزمة قات يداري بها خجلاً بدا غريباً على وجهه، ولا أتخيل أنه قد أصابه من قبل أو انتبه له أحد. قدمها إلي فيما يشبه العرض، فرفضتها بهزة من رأسي فهِمَ منها أني لا أتعاطاه، فأخفى بكبرياء شبح ابتسامة توشي بالرضا ودنا بوجهه إلي وانطوت قامته ليسلم علي..
قبّلته قبلة على خده الأيمن، وقبلني قبلة على خدي الأيسر دون أن تلتقي أعيننا، أمام جمع غفير من الأعين المغمورة بالعاطفة ورعشة الإرتباك التي ترافق مشاهد الحب التي لا تحدث لأحد.
كانوا يشعرون بالحب أكثر منا، رغم أن لا شيء يشير إلى أي شيء من ذلك، لكننا بدينا كثنائي مؤهل للفكرة. فقد كنا نطبّق المفروض بعناية مرة أخرى. لأننا أضعف من أن نبتكر مصيراً ارتجالياً لنا، فقد عاشوا حياتهم بأكملها يرسمون الأقدار ويخططون المصير، كأن الله قد تقاعد.
ابتسمنا في وجهي بعضنا دون أن يحرك أحد منا شيئاً جوهرياً في الآخر، فنحن أقل جرأة من أن نكتشف مواطن الضعف فينا، وأكثر جهلاً من أن ندرك أن الحب مصيرنا على أية حال. لكنَ الظرف لم يكن مواتياً للحب واستفهاماته وللحزن وحكاياته.
رقصت الموسيقى كثيراً و تفرقت في بيوت العزلة المتناثرة. ورقصت أمي سعدية وحدها نيابة عن الحضور بعد أن فوضها وأفسح لها بالتصفيق، و الذي كان أغلبه فتيات تهوي قلوبهن من علو أمنيات شاهقة مرادفة لواقعي ذاك، أن يرزقن بواحد مثل خالد، غربي النشأة وقوي النظرة، لا يجيء إلا بعد طول دعاء وصلاة. لم يكن من الصعب أن تلمح في سهب أعينهن صدق الأمنية، أن يتفجر من تحتهن أو ينزل من فوقهن رجالاً لا يشبهون رجال العزلة، يذهبون بهن إلى البعيد ويمنحوهن حباً من نوع جديد.
أمي سعدية ترقص وترقص ببراءة طفل فرحٍ بموعد عيد لن يأت لكنه يحسبه قريب. ترقص بفرح، فقد أحبتني أكثر من بناتها مع أني لم أملك لها أي نوع من العاطفة غير الشفقة والأسف. رقصت ورقصت وفقدت قامتها الصغيرة العجوز توازنها مرات كثيرة ولم يزدها ذاك إلا بهجة.
ترقص وترقص أمي سعدية لتنبش في ذهني هاجساً: كيف يكون الإرتباط المفاجيء حظاً جيداً؟
"يا بو زيد، وا مسلي على خاطري..وا بو زيييييد وا بو زيد"
أحمد فتحي له صوت باهت، لا روح فيه، لا يشجع على الميلان، إلا جسد أمي سعدية الذي يتلاشى بصرها كل يوم، ليتصاعد حسها ويتضخم قلبها. تتسع ابتسامتها كلما وضعتها الحياة في مأزق أكبر. كلما تقلصت فرصتها في أن تكون، كلما كانت..
وترقص وترقص...
"يا بو زيد، وا مسلي على خاطري..وا بو زيييييد وا بو زيد"
فتحي ماضٍ في مناجاة أبو زيد لُيسلي خاطره، وأمي سعدية ترقص بحرارة على توسلاته و صوته الخامد..
"والله إني ظامية يا اختي.."
تقول فتنة ”المنقشة“ وقد اخضر فمها وامتلأ بالقات المرّ. قد اتضح أنها قد هامت من جديد وراء أحلامها. تعرف هذا تماماً عندما تراها في لحظة كهذه، عيناها في الكف أو الساعد الذي تنقشه، والحمرة وهي تجري في عروق وجهها القطني الشفاف، وبالذات عندما تبدع في رسم خضابها و تبتكر أشكالاً لم ترها على نساء العزلة من قبل، وتنفطر من شفتيها خاطرة لا تحترم حدود العيب:
"إشتي زوج مثل حقش! هيا وش شا يقع بالدنيا لو الله ادا لي زوج مثل زوجش؟" وتبتسم في طفولية عجيبة.
"إن شاء الله يا فتنة"
كيف لي أن أقول لها دون أن أكون متعجرفة ومتعالية أن حظ النساء من عيناتها ناقص؟
لو كان لكِ من اسمك شيء يا فتنة، ولو نزر يسير لقلت لكِ أن الأمور هذه بإمكانها أن تحدث، وعليك فقط الإنتظار والصبر والصلاة. لكن القدر لا يروح بأمنية ويجيء بأمنية فقط.
"زوجني أبوي وعمري 8 سنوات.."
وأكمل في خاطري، وهربتِ إلى الحاكم واشتكيتِ والديك وزوجك، إذ كان يرغمك على معاشرته بالضرب والنار، وحكم لكِ القاضي بالطلاق وبضع مئات خضراء لصالح الزوج جزاء فعلته ..
فتنة تحكي الحكاية للمرة المليون. لم يكن ذلك تباكياً، بل تباهياً. نوع من تعزيز الثقة بالنفس. تحاول أن تقنع نفسها أنها كانت رائعة منذ صغرها ومرغوب بها. أن قدرها كان كبيراً وأن هناك ما يدفعها على الإعتزاز بنفسها. زواجها في ذاك السن يشعرها بأن نصيبها من الأنوثة كان كبيراً في عمر مبكر، ما قد يعني أنه مازال في رصيدها الكثير. وهي على قناعة بأن ما حققته في ذاك العمر وهي مرغمة، بإمكانها أن تحققه مرة أخرى وبشكل أكثر براعة وهي راضية، كما تحب.... حتى و إن كانت الآن أرضاً بوراً لا يرغب فيها أحد.





#مريم_القحطاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مريم القحطاني - حظ ناقص