طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5559 - 2017 / 6 / 22 - 01:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ناقشت في الحلقة السابقة هجوم الفلسفة الوضعية (حلقة فينا, ويتكنشتاين الاول الخ.) وبوير واتباعه على كلا الماركسية والتحليل الفسي واعتبارهما, بعرفهم, علمين زائفين لكونهما لا يمكن اخضاع فرضياتهما للاثبات حسب المنهج الوضعي او للتكذيب حسب فلسفة بوبر في العلم. كما تناولت لاعلمية الحجج التي يتذرع بها هؤلاء من اتباع الفلسفة الوضعية او نهج التكذيب لبوبر. وفي هذه الحلقة وبعدها ساواصل معالجة علمية الماركسية والتحليل النفسي والضرورة الفائقة للمزاوجة بين الاثنين.
فاذا تمكن البعض منا ان يتخلى عن تحيزاته وافكاره المسبقة وان يتفق مع الرأي القائل ان كل من النظريتين, الماركسية والتحليل النفسي, ذات فائدة, وإذا أريد لهما التزاوج, كيف سيتم هذا العمل؟ واذا كان هناك ما يستوجب تزاوجهما, فكيف يمكن تحقيق هذا الهدف وبأية طريقة؟
على سبيل التبسيط يمكن تعريف الماركسية هنا كنظرية المصالح التي تستمد الجذور من العمل والإنتاج الاقتصادي, والتحليل النفسي كنظرية للرغبة متجذرة في الحياة العاطفية واعادة انتاج الجنس البشري (العلاقات بين الجنسين وعبر العصور). اذن سيكون هناك سبب واضح لدمج كلا النظريتين. الواقع الاجتماعي لا يمكن اختزاله فقط الى مصالح/ العمل/ النتاج الاقتصادي, أو الى رغبات/ الحياة العاطفية/ التناسل البشري. كلا النظريتان أحادية المنحى, لذلك تتميز كل منهما باعطاء صورة غير متكاملة عن العالم. ودمج النظريتين ببعضهما البعض يسمح لنا ان نرى الواقع الاجتماعي بشكل افضل واوضح. ومن هنا تتأتى الرغبة في التزاوج بين الماركسية التحليل النفسي.
ويمكن القول ان كلا النظريتين تعملان وفق نفس القواعد المنهجية. وبالتالي يمكن المزاوجة بين الماركسية التحليل النفسي. وعلى الرغم من ان كلا من الماركسية والتحليل النفسي، كما اسلفت اعلاه ومن قبل, قد تعرضتا الى هجوم من قبل النقاد الوضعيين، الا ان مؤسسيي الماركسية والتحليل النفسي قد اعتقدا بحزم ان مشاريعهما منسجمة مع النظرة السائدة وقتها لمفهوم العلوم. ومفهوم كل واحد منهما للعلم كان ولا يزال موضع خلاف. ولكن كلاهما, ماركس وفرويد, كانا معاديين للميتافيزيقيا. في حالة العلم، يقول فرويد: "لا توجد مصادر لمعرفة الواقع سوى التدقيق بعناية في الملاحظات, او بعبارة أخرى، ما نسميه البحوث, وجنبا الى جنب من ذلك, ليس هنالك من معرفة مستمدة من الحدس أو الرجم بالغيب "(1). وبنفس الشاكلة يؤكد ماركس وإنجلز انه على النقيض من من الفلسفة الالمانية (هيغل, هيغل الشاب) التي تدعو الى الهبوط من السماء إلى الأرض، "فان نظريتهما تدعو الى "الصعود من الأرض إلى السماء" (2). ومكوناتها هي "الأفراد الحقيقيين، أنشطتهم والشروط المادية لمعيشتهم". وان شروط معيشتهم يمكن "التحقق منها بطريقة امبريقيىة بحتة".
الماركسية والتحليل النفسي كلاهما هما نظريتان دنيويتان. ومع ذلك، فهنالك فرق بينهما بخصوص نظرتهما للعالم كما يبدو والعالم كما هو حقا. المظاهر، وعلاوة على ذلك، تخفي الحقائق. في كل حالة, تكون مهمة التحليل هي اختراق الحجاب او المظهر وإبراز الواقع المخفي خلف المظاهر الى العيان في عملية تركيبية تهدف الى تفسير, شرح، أو تحديد المظاهر من وجهة النظر الهادفة الى كشف, او اكتشاف, الواقع.اذن، لذلك، فإننا يمكننا, وبدون الاذعان لكثيرمن القيود الفلسفية، ان نقول أن النظريتين كلاهما تتميزان بظاهرياتهما (الظاهراتية بمعنى الوجودية حسب الفلسفة التي تحمل نفس الاسم).
ولأن المظاهر لا تعلن عادة عن نفسها كمظاهر, بل تدعي أنها الواقع في حد ذاته، فالظاهراتية هي كشف ما يختفي خلف حجاب المظاهر, وبالتاي فهي ولا بد فلسفة نقدية ايضا. فعندما تُفسر الميتافيزيقا، على سبيل المثال، من وجهة نظر العلم، فإن مزاعمها بخصوص الحقيقة يٌشكك فيها. وهي تُعتبر كاذبة، وليست مجرد سطحية. وبصورة أعم، فإن الماركسية والتحليل النفسي يتساءلان عن ادعاءات الحقيقة المتعلقة بالوعي العادي. فكل منهما هي نظرية الوعي الزائف. وليس فقط الوعي, اي كحالات العقل. فكل نظرية تتطلب وتسهل التحقيق في الفعاليات التي تزور وتٌغرب أنماط النشاط البشري- التناقضات الموروثة في عالم الحياة وكذلك في وجهات النظر الحياتية.
ويمكن أن يضاف هنا أن الظاهراتية والنقد هما طريقتا تحليل وكذلك فهما موقفان تجاه الواقع. الماركسية تعمل من خلال النقد التحويلي، أي التحليل النقدي لعلاقات الذات-الموضوع. التحليل النفسي يعمل من خلال تحليل الدفاعات النفسية، وفي المجال السريري في تحليل المقاومة (المقاومة التي تعيق استفادة الشخص من العلاج). قد يكون مثالا مفيدا ان نذكر انه بالنسبة للماركسية والتحليل النفسي, أو على الأقل لكل من ماركس وفرويد، تلتقي الميتافيزيقيا مع اللاهوت. وبالتالي فإن كل نظرية كل منهما تحتوي على نقد للمعتقد الديني. الدين لدى ماركس هو "وعي عالم مقلوب" الذي يعكس بدقة معينة "عالم مقلوب" (3). في الدين، تٌعامل فكرة الله/الرب/الخالق، الذي هو في الواقع مٌنتج من قبل العقل البشري، كموضوع مستقل. في الوقت نفسه يتم التعامل مع الذات او الانسان الفعلي كمنتج أو كموضوع-شيئ. الخالق هو من خلقنا نحن, الذات. ونحن نرى عن طريق الخطأ أنفسنا وكأننا خٌلقنا من قبل الخالق. وهكذا تنعكس العلاقة بين الذات والموضوع, وهذا ليس، على أية حال، مجرد خطأ أو هفوة عقلية. فهو ينجم عن علاقات عملية من الهيمنة، حيث يعمل الناس في الواقع ككيانات خاضعة لسلطات خارجية او ماورائية بدلا من كونهم اشخاص قادرين على تقرير مصيرهم (وهذ يذكرنا بالعبارة الشهيرة التي تلخص الميتافيزيقيا, التي يرددها, عند الاقدام على فعل شيئ, المؤمنون المسلمون بدافع الايمان, اوغيرهم بدافع سطوة العادة او التماهي مع ما هو مألوف: "ان شاء الله"!). وبالتالي فإن نقد الدين يجب أن يكون عمليا. ويتطلب القضاء على العلاقات الاجتماعية المسببة لاغتراب الذات وتموضعها (احالتها الى موضوع) او تشيوئها (احالتها الى شيئ).
(يقول الكاتب المفكر والأديب اللبناني (الفرنسي) أمين معلوف أنه حين قال ماركس إن الدين " أفيون الشعوب " لم يقله بدافع الاستهزاء أو التعالي كما فعل (البعض من) تلاميذه، إذ لابد - كما يقول - من قراءة نص ماركس نفسه وكما ذكره، وهو: " إن القنوط الديني هو التعبير عن قنوط حقيقي وعن احتجاج على القنوط في آن. فالدين هو تنهيدة المخلوق المظلوم، قلب عالم بلا قلب، روح عالم بلا روح. إنه أفيون الشعوب ". تأويل معلوف لهذه الفقرة: أنه يجب إلغاء هذه " السعادة الوهمية " وإذا تبين أن السعادة البديلة الموعودة أكثر وهمية أيضاً، فإن الشعوب ستعود إلى " أفيونها " المعزي. مشيرا إلى أن غلبة الإسلام السياسي جاءت على حساب القومية والماركسية اللتان لم تهزما فقط من الإسلام السياسي بل تم استملاكهما من قبله) (4)
والدين لدى فرويد هو وهم، هو "العصاب الوسواسي للبشرية." (5). الدين هو نتاج ضعف البشرية وهو بمثابة الدفاع ضد القلق الناجم عن ضعفنا. ويتحول التوق الطفولي لأب قوي يحمينا ضد كل الشرور إلى الاعتقاد في الله الكلي القدرة ، الخيْر, الله, الآب. الرب لدى فرويد هو الاب. وبالتالي فالسلطة الدينية هي بمثابة السلطة الابوية. فعن طريق الإسقاط والازاحة يصبح الأب الدنيوي الاب السماوي (في الاسلام, بخلاف المسيحية, لا يٌٌعتبر الرب بمثابة الاب, ولكن الجوهر هو نفسه ويشير فقط الى ان الآليات النفسية من اسقاط وازاحة هي اكثر فعالية في الاسلام منها في المسيحية. وهكذا يمكن القول ان الوهم الديني في الاسلام اكبر منه في المسيحية, وبذلك يتعذر وجود لاهوت ديني للتحرير في الاسلام او حتى يسار اسلامي). ولكن الأب الدنيوي في الواقع لا يتمتع بمقدار الطيبة التي تنسب اليه. فحمايته هي في نفس الوقت هيمنة أوديبية. والتحول الذي يسمى التجسد المتسامي Transubstantiation (يستخدم هذا المصطلح في اللاهوت الكاثوليكي للدلالة على فكرة أنه خلال حفل القداس يتم تغيير الخبز والنبيذ في مادته الى لحم ودم المسيح، على الرغم من أن العناصر تبدو أنها تبقى هي نفسها) هو ليس لاب فقط, بل للاب الاوديبي. والعلاقة السماوية للهيمنة تعكس الهيمنة الدنيوية. وكما يعكس الوعي المقلوب عالم مقلوب، فإن الوهم الديني يعكس الواقع النفسي. التحليل النفسي، من خلال الكشف عن الأساس النفسي لهذا الوهم، يهدف إلى تبديده.
يتبع
--------------
المصادر
1. New Introductory Lectures on Psycho-analysis
By Sigmund Freud. SE, Vol. 22. P. 159
2. Marx and Engels: The Holy Family
https://www.marxists.org/archive/marx/works/1845/holy-family/
3. Marx’s Critique of Hegel’s Philosophy of Right
https://www.marxists.org/archive/marx/works/download/Marx_Critique_of_Hegels_Philosophy_of_Right.pdf
4. نعم.. الدين أفيون الشعوب
د عصام عبدالله
http://elaph.com/Web/opinion/2010/6/572383.html
5. The Future of an Illusion By Sigmund Freud, SE, Vol. 21, P. 43
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟