عبدالامير الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5483 - 2017 / 4 / 6 - 00:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اكتسبت نظرية ماركس في الشيوعية دلالة شمولية، رفعتها لمصاف الشيوعية الوحيدة في العالم، وهي ترافقت مع صعود الغرب وثورته البرجوازية، وبدت وكانها النقيض لاحدث النظم الاجتماعية الحضارية في التاريخ، مع ماتتضمنه من ايحاء بالتغيير الانقلابي الاكبر، قدمته على انه حتمية. نظرية ماركس تنتمي الى مجمل فكر وفلسفة عصر الانوار، والى العقلانية الغربية الحديثة، وهي نشأت ضمنها وفي السجال مع تجلياتها العملية والفلسفية، ولان الغرب وعقلانيته كانا مهيمنين كنموذج ومنهجية ورؤية للعالم، فلقد تحولت نظرية ماركس هي الأخرى، الى قوة عالمية مضادة للراسمالية، ومبشربالخلاص من شرورها، فاكتسبت حضورا قل ان حدث في التاريخ، رفعها لمستوى العقائد الكبرى بما في ذلك الدينية منها.
بالنسبة لي شخصيا لم (اقتنع/ أؤمن) يوما بصوابية نظرية ماركس، ومن ثم لنين المطلقة، مع انني قاربتها، وانغمست فيها من دون ان يغادرني الانفصال عنها لمصلحة إحساس، كان يبدو لي لفترات غير قصيرة، مبهما، وإذ اتحدث عن عقود من الزمن اتسمت بالهيمنة المطلقة للغرب وافكاره ونموذجه، فمن البديهي ان اعترف بقوة فعل تلك الأفكار الغامر، وسطوتهاعلي شخصيا، مثلي مثل الملايين غيري، لكنني مهتم مع ذلك بان لااغفل، بان مساري التصوري والسلوكي والنفسي، ظل على مدى اكثر من أربعين عاما، يعتوره انفصال خفي بين إيقاع ونبض مستشعر ومبهم، لايمكن التصريح، به ناهيك عن بلورة أسس معقولة تبرر الإعلان عن كنهه، وبين بناء راسخ طاغ ومحكم، لم ابدا باستشعار احتمال تراجعه، الا مع الستينات، ولأقل هنا بانني كنت وقتها احمّل بعض الظواهر الانقسامية داخل الحركة الشيوعية، اوالمنفلتة من اسر الهيمنة الانضباطبة الحزبية اللينينية، التي يراها الاخرون عادية ضمن سياق موحد، معنى بدء انقلاب قادم، حتى لو استغرق حضوره وقتا غير قصير.
لكم كان طويلا وصعبا الوقت الذي امضيته، كما قال صديقي الشاعر وانا "انحت في الصخر" واحرر عشرات الوف الصفحات، انني اتحدث عن اكثر من أربعين سنة، امضيتها في وضع مسودة كتابي "ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ" الصادر عن /دار الانتشار العربي/ بيروت 460 ص من القطع الكبير/ عام 2008، يوم اصبح ممكنا لي من دون تردد، ان اضع اشتراكية، او تشاركية العراق التكوينية، بمقابل اشتراكية ماركس ولنين. فالكتاب جهد اثبات كون بنية العراق التاريخية، هي بنية مرتكزها مجتمع "لادولة"، ينشا تكرارا وفي كل دورة من دورات تاريخ العراق الحضارية، في جنوب العراق. وان الشروط الطبيعية التي اوجدت مثل هذا النمط من المجتمعات، ظلت تعيد انتاجه، أي انه مجتمع موجود بحكم الشرط الموضوعي البيئي الإنتاجي، وهذا مالا تقوله نظرية ماركس بخصوص عينتها المجتمعية الاوربية، التي تركز على الصراع الطبقي، والمادية التاريخية والديالكتيك، لتنتهي الى حتمية تحقق الاشتراكية والشيوعية كممكن تاريخي.
هذا في حين ان الاشتراكية موجودة مجتمعيا، وجدت في المنعزلات المساواتية الديموقراطية المنتجة المستقلة ذاتيا في سومرجنوب العراق مع اول اشكال المجتمعات، وتجلت عبر "شريعة وثورة كوراجينا 2355 ق ـ م" حين ورد للمرة الأولى في التاريخ الإنساني تعبير( حرية/ امارجي) في وثيقة مكتوبة، وجاءت فيها كل بنود حقوق الانسان، كما ذكرت "العدالة"، وحقوق المظلومين والمضطهدين. ويمكن للتدقيق في اللقى والالواح، وفي ارض سومر، بعد تغيير زاوية النظر والفرضيات المسبقة السائدةعن الحياة الأولى، ان يغني تاريخ مجتمع "اللادولة" القديم، ويزيد في اكتمال ملامحه في مرحلتي تجليه الأولى القديمة المرافقة للدورة الحضارية العراقية الأولى السومرية البابلية، والثانية العربية الإسلامية العراقية، مع الانتباه الى شدة وقسوة حضور وفعل الاطار الأعلى المعادي والمضاد، ضد هذا المجال المجتمعي، وسعيه المحموم لسحق اثاره ومايدل عليه، مع كل مايمكن تخيله من سبل تشوية صورته واغراضه، كما حصل مع التجلي الثاني ابان الدورة الحضارية العربية الإسلامية، مع الدولة القرمطية المستمرة في ارضها / ارض السواد/ زهاء 105 أعوام، قبل ان يجهز عليها وتمحق كليا، هي ومايدل عليها، وبالذات نتاجها الفكري والفلسفي، وجهد منظريها الكبار ممن اعدمت اثارهم، وكفروا لتشيطن تجربتهم، فضلا عن دلالاتها في حينه.
ليست صحيحة بالمطلق فرضية الاشتراكية الماركسية حول "المشاعة البدائية" وزوالها لصالح المجتمع الطبقي، ففي العراق، استمر قائما "مجتمع تشاركي" مقابل "مجتمع دولة قهري" يركب فوقه، ويعجز عن الغائه كواقع بنيوي مناقض، مع انه لايسمح ابدا بتحوله الى تجل متحقق في رؤية ونظام، فيعمد لسحق وجهه السياسي القيمي، مبقيا على حقيقته التكوينية الانتاجية، ويكتفي بالبقاء محصنا ومسلحا خارجة وفوقه، داخل مدن شديدة التسليح والتحصين، يمارس حلب الريع الزراعي منه بالغزوات، من دون ان يحاول الاستيطان داخله، او إيجاد ركائز مجتمعية ضمنه، لتعذر نجاح مثل هذه المحاولة في مجتمع يرفض اي سلطة منفصلة عنه، ولاينتجها أصلا من داخله.
هذه اللوحة "الامبراكونية" لمستويين احدهما يتجلى امبراطوريا، هو الأعلى القهري، والثاني رؤية كونية تستعيض عن تجسيد ذاتها ماديا وواقعيا، ببناء مملكة المطلق، وان خارجها، رتبت نوعا حيويا شديد الدينامية والفرادة من العملية التاريخية، مع انها قد تكون على الأرجح الاكثر تعبيرا عن حقيقة شكل المجتمعات البشرية الفعلي، كما هي موزعة على امتداد المعمورة بين "مجتمعات الدولة" و "مجتمعات اللادولة"، وهنا تنشأ أيضا نقطة خلاف جوهري، بين التشاركية العراقية ونمطها التكويني المجتمعي، بمقابل النمط الطبقي الأوربي الماركسي، الذي اعتمده ماركس كعينه تطبيقة معاشه من قبله، هي المجتمع البرجوازي الطبقي، اعتبرها الأعلى، والأكثر كمالا ونضجا.
واذا اخذنا معظم قارات الكرة الأرضية، فلن نجد مايؤيد العينة الماركسية الا في اوربا، فامريكا وأستراليا وافريقيا، وأجزاء عديدة من اسيا، وحتى اوربا الشرقية وأجزاء من روسيا، تدور في غالبيتها حول تشكيلات اللادولة بدرجات من الكمال، او ضعف الدينامية، او افتقاد او توفر أسباب الاستمرار والتكيف، ذلك على الرغم من ان الإنتاج اليدوي والالي، لايدعم وجود مثل هذا النمط من التكوين المجتمعي، اما في الموضع النموذجي، نموذج "الدولتين في كيان واحد موحد" في العراق فان الطبيعة وفعلها وانعكاسات اثرها، تبدو نموذجية، مكرسة صراع النمطين، فالنهران دجلة والفرات هنا، ينعكسان بقوتهما التدميرية العاتية، وفيضانهما عكس الدورة الزراعية على المنتجين وعملهم، شروطا صارمه، تتداخل فيها محفزات اليقظة العالية والجماعية، إضافة لتعقيد واحكام عملية الارواء في ارض رخوة، ونهرين متغيري المسار،ماجعل بناء القاعدة الإنتاجية الحضارية هنا، عملية ضخمة بنائية معقدة وحساسة ومترابطة، تشعلها حتمية بناء ومراقبة شبكة من النواظم والسواقي والسدود شديدة الاحكام، محاطة برقابة ويقظة عالية لاتهدأ، بحيث يتحول عمل الانسان هنا الى فعل شامل وملحمي لاسكوني، لايتوقف عند مجرد ممارسة الزراعة، فيتعداها لتنظيم دقيق محكم للارواء، وحماية شبكته من خطر التدمير العاتي، وصولا الى تدبر شؤون العلاقة مع الدول القاهرة القابعة في الأعلى من حيث اختلالها او استقرارها، حيث الدولة القاهرة عنصر من عناصر العملية الإنتاجية، نوع العلاقة بها يتصل مباشرة وفورا، بعموم مقومات العملية الإنتاجية المترابطة والمحكومة لايقاع سيرورة صراعية متداخلة مستمرة.
في مثل هذه اللوحة لايبقى من مكان للتمايز الداخلي لان ينمو، او يتشكل أصلا، فهو عبء ثقيل معرقل للعملية المجتمعية الإنتاجية اللازم اقترانها حتما باكبرقدر من حرية المنتجين المحاربين، قصد ضمان ارفع اشكال الأداء المتعدد الاشكال والمتلازم، مايجعل موضوع (الحرية/ امارجي) عاملا وعنصرا إضافيا، لاتستقيم العملية التاريخية المجتمعية الإنتاجية من دونه، هذا اذا تحرينا تفاصيل تلك العملية من داخلها، فماذا اذا تصورنا تدخلا محتملا من خارجها، علما بان هذا الموضع من العالم، هو اكثر المواضع تاريخيا عرضة للغزو، بحيث ينضاف عامل اخر لاجمالي اللوحة يمكن وصفه بعامل "جنون الحدود"، فالبقعة الشديدة الخصوبه التي نتحدث عنها، محاطة من جميع جهاتها شرقا وغربا وشمالا، بالصحارى والجبال الجرداء، ماجعلها تتحول عبر التاريخ الى مصب دائم للغزوات والهجرات.
بهذا تكتمل دائرة التحديات الثلاثة : دائرة الطبيعة وشروط الإنتاج بمواجهة النهرين المدمرين المعاكسيين والبيئة الطبيعية وفصولها القاسية المتقلبة، والأرض الغرينية، ثم دائرة الدولة القاهرة المتربصة في الأعلى خارج "مجتمع اللادولة" داخل مدن وقلاع معسكرة، شديدة التحصين، والثالثة دائرة الحدود المنذرة دوما من الشرق والغرب والشمال بالغزوات المسلحة الاستيطانية.
#عبدالامير_الركابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟